الموت والحياة سرّان، لطالما حاول الإنسان كشفهما وما زال يسعى جاهداً لحلّ هاتين المعضلتين، إلّا أنّه يفكّر بالموت أقلّ بكثير ممّا يتأمّل الحياة. "إن الفيلسوف يفكر في أي شيء أقلّ من الموت وفلسفته هي التأمّل في الحياة وليس الموت"، كذلك كان يقول سبينوزا، والإنسان عموماً قلّما يفكّر بالموت أو قلّما يقبل أنّه سيموت. والموت فكرة تخيفه إلى حدّ بعيد، إمّا لأنّه يجهل مصيره، وإمّا لأنّه متمسّك بالحياة، ولا يتخيّل هذا العالم بدونه. وحتى لو استبعد بطريقة غير واعية فكرة الموت، يظل المرء فريسة الشّعور بكونه عرضة للزوال. ويشعر برهبته عندما يفقد عزيزاً فيفقد معه اللّقاء الدّائم الّذي يصبح مستحيلاً. ولكن الحياة تستمرّ ولا أعتقد أنّ فقدان عزيزٍ يثير في داخل الإنسان نوعاً من التّامّل في فكرة الموت.
عدّ الفلاسفة الموت أمراً لا يستطيعه الفكر ولا يدخل في نطاق إمكانيّة المعرفة. إذ يمكن اختبار الموت بأي شكل من الأشكال ليس بالفكر ولا بالتخيّل ولا بالحسّ. على حد تعبير أبيقور: "عندما يحلّ موتي أكون قد أصبحت غير موجود. وطالما أنا موجود يكون موتي لمّا يأتِ بعد". ولعلّ هذه المقولة لا تعبّر حقيقة عن الوجود الإنسانيّ. فالموت لا يمكن أن يكون نهاية للإنسان كما لا يمكن أن يلغي وجوده الإنسانيّ، دون الأخذ بعين الاعتبار قيمته الإنسانيّة.
إذا كان الموت نهاية حتميّة للإنسان وإذا كان لا بدّ من أن يضمحلّ جسده فهذا لا يعني أنّه اندثر وامّحى. لا بدّ لقيمته الإنسانيّة أن تستمرّ، ولا يمكن أن تكون مرتبطة فقط بالزّمان والمكان. ذلك لأنّ الإنسان في حالة صيرورة، هو يولد، ثمّ يصبح طفلاً، ثمّ مراهقاً، ثمّ شابّاً، ثمّ عجوزاً، ثمّ.. يموت. وهنا لا بدّ أن نقف أمام هذه الكلمة: يموت. هل هذا يعني أنّه يؤدّي مهامّه الأرضيّة ويمّحي، أم يزول بشكل نهائيّ؟ إذا كان هذا هو الحال، فما معنى الحياة، وما معنى النّضال وخلق الأهداف والمثابرة في سبيل تحقيقها؟ وإذا كان الموت نهاية، فما هي قيمة الحياة الإنسانيّة؟
ولمّا كان الإنسان في حالة صيرورة، فلا بدّ أنّه يصير إلى مكان آخر، وهو اللّامكان، كما أنّه مرتبط بزمان آخر وهو اللّازمان. ولا نتكلّم هنا عن جنّة ونار، ولا ندخل في هذا الإطار، بل نتكلّم عن حياة مستمرّة للإنسان يكمل فيها ما بدأه على هذه الأرض. ولا بدّ أن يكون هذا المكان خارج الزّمان فما هو مرتبط بالزمان والمكان بقي على الأرض. وإن قيل إنّ هناك من يموت في سنّ الطّفولة، أو الشّباب أو حتّى يولد ميتاً، فهذا لا يلغي صيرورة الإنسان. إذ إنّ الموت لا يلغي أنّ هذا الإنسان وُجدَ ولا يعني أنّه لن يبقى. فوجود الإنسان هو أوّلاً وجود بالقوّة ثمّ بالفعل. وأسباب الموت عديدة ولا تنتهي حياة الإنسان من دون سبب معيّن، سواء أكان سبباً مرضيّاً أم اجتماعيّاً أم بيئيّاً... والموت يعود للإنسان بشكل أو بآخر، بمعنى أنّه معرّض للموت في أيّ لحظة. فكلّ لحظة من حياته هي نوع من المخاطرة ولا يلتفت لموضوع الموت وإلّا لعاش الإنسان حياته مكبّلاً بشكل مرضيّ. لا يعلم الإنسان ساعة موته ولكنّه يسعى إليه بشكل أو بآخر دون وعيٍ منه. وبمعنى أوضح يخضع الإنسان لأسباب تؤدّي إلى موته.
إنّ من يناضل في سبيل قضيّة ما لا يخشى الموت مع أنّه يعلم مدى المخاطرة الّتي يقوم بها. صحيح أنّ إرادة الحياة أقوى من الموت إلّا أنّ هذا لا ينفي حدوثه. ولكنّ القيمة الإنسانيّة تدفع الإنسان لبذل حياته ومواجهة الموت لأنه وفي أعماق ذاته يدرك تماماً أنّه باقٍ. وحتّى لو تبنّى البعض مقولة إنّ الإنسان يطمع بالخلود بدافع الأنانيّة، ولأنّه لا يتصوّر العالم من دونه، إلّا أنّ العكس صحيح. وهو أنّ القيمة الإنسانيّة تستحقّ البقاء والخلود ولا يجوز أن تضمحلّ وتختفي في العدم. الأنانيّة هي التّمسّك بهذا العالم أو بهذه الحياة وعدم القبول بالتّخلّي عن كلّ ما تحتويه. أمّا أن يطمع بالخلود كقيمة إنسانيّة فهذا حقّ، ودافع قويّ للحياة بشكل متّزن. وإلّا فلنقل مع بولس الرّسول: "إِنْ كَانَ الأَمْوَاتُ لاَ يَقُومُونَ، فَلْنَأْكُلْ وَنَشْرَبْ لأَنَّنَا غَدًا نَمُوتُ".
كي نتلمّس سرّ الموت، علينا أن نتأمّل في سرّ الحياة، ونلج بعمق في ما لا نراه بأعيننا ونعاينه بحواسنا بل ببصائرنا. وليس الكلام هنا عن ماورئيّات، وإنّما عن دوافع الإنسان الدّاخليّة الّتي تدفعه للهجوم على الموت واقتحام أبوابه لأسباب إنسانيّة نبيلة. ما هو الدّافع الّذي يحرّك الإنسان للدّفاع عن وطنه وبذل ذاته والاقتراب من خطّ الموت دون أي تراجع؟ وما الّذي يحفّز الإنسان على وهب حياته في سبيل صديق أو حبيب أو ابن... وما هو هدف صاحب فكر يرفض العدول عن قضيّته وهو يعلم أنّها ستؤدّي به إلى الموت. فضّل سقراط الموت على التّمسك بالحياة دفاعاً عن فكره. وواجه غاليلي الموت وهو يصرخ أنّ الأرض كرويّة، وغيرهم من النّاس الّذين نقابلهم كلّ يوم في حياتنا. منهم من يحمل حجارة للدّفاع عن أرضه، ومنهم من يهاجم ببسالة وعزم مخالب الأعداء، ومنهم من اعتقل لسنوات وسنوات ولم يُضْعِف عزيمته أي تهديد بالموت، وها هو بعد خروجه من المعتقل يعاود بإصرار وتحدٍّ كبيرين، السلوك في الحياة نحو الموت.
إنّ الرّابط الأساسيّ بين هؤلاء هو الحرّيّة وقوّة الحقيقة. الحرّيّة كعقيدة وليس الحرّيّة على المستوى الشّخصيّ. إنّ هؤلاء يسيرون بخطىً ثابتة نحو الموت، انطلاقاً من حرّيّة الحياة وحقيقتها. وهي تدفع بهم لمواجهة هذا الموت دون خوف وتردّد. وانطلاقاً من هذا المبدأ نتشارك مع (تاليران) في قوله عن الموت أنّه فعل حرّيّة بامتياز، إذ إنّه يجرّد الإنسان من كلّ شيء ليبقى هو كقيمة إنسانيّة. والإنسان وهو في صلب الحياة يموت، كلّ يوم، ليولد من جديد إلى أن يموت عن العالم نهائيّاً لحياة جديدة. وبعيداً عن المنطق العقائدي والإيمانيّ، وانطلاقاً من المنطق العقلانيّ، إنّ القيمة الإنسانيّة لا بدّ أنّها للخلود. فإن تعرّض أحدهم لحادث ما وبُترت يده أو رجله أو حتّى أصيب بشلل عضويّ، يبقى موجوداً. أو إذا ما دخل في غيبوبة، يبقى حاضراً بدليل ضرورة التّواصل معه. كذلك إن تحلّل الجسد فلا بدّ أنّ الإنسان يبقى موجوداً، وبالتّالي لا يكون الموت نهاية. بالمقابل إن تأمّلنا بعض عناصر الطّبيعة، نجد مثلاً، أنّ أوراق الشّجر المنفصلة عن أمّاتها، تتحلّل في الأرض لتغذّيها فتنبت فيها الحياة من جديد. والسّنبلة ليست سوى حبّة حنطة ماتت في الأرض لتخرج للحياة... فإذا كانت النّبتة لا تنتهي بدفنها في التّراب، فكم بالحريّ الإنسان؟.
"من يعطي معنى للحياة، يعطي معنى للموت" (أنطوان دي سانت إكزوبري). ومن فهم معنى الحياة تصالح مع فكرة الموت، وتخطّى إلى حدّ بعيد الخوف من الغموض الّذي يحيط به، وبالتّالي سيتعامل مع واقع جديد، الّذي هو الموت للحياة. ولا بدّ أنّ الحياة الّتي تلد من الموت مختلفة عن الحياة الّتي نحياها بحكم أنّها تخرج عن نطاق الزّمان والمكان. ونتكلّم هنا عن حياة أبديّة، وهي تختلف عن مفهوم الحياة الطّويلة في هذا العالم. ولا نعني حياة جامدة فالحياة الجامدة، تعني مائتة، إذ إنّ الحياة حيويّة وحركة، هي ديناميكيّة بدون حدود وفرح يتحرّك منذ الأزل وإلى الأبد. هي ما لم تبصره عين، ما لم تسمع به أذن، ما لم يدركه عقل، عالم المجد الّذي يستحيل وصفه.
بالمقابل لا حاجة للتّفكير بكيفيّة الموت بل ويجب التّفكير في كيفيّة السّلوك في الحياة. ويفترض المنطق أنّ البداية السّليمة تؤدّي إلى نتيجة سليمة. فإذا كان السّلوك في الحياة سليماً ومبنيّاً على مبادئ وقواعد سليمة فلا بدّ ان يحمل الإنسان تاريخه في الحياة الجديدة. عندئذٍ يكون الموت خطوةً نحو الحياة المكمّلة لما بدأه. وبعيداً عن منطق الثّواب والعقاب، على الإنسان أن يسلك الخير احتراماً لقيمته الإنسانيّة وليس طمعاً بجنّة أو خوفاً من نار. فلا معنى لخيره إذا ما كان مرتبطاً بمصلحة معيّنة، وبالتّالي ينتفي الخوف من الموت لمجرّد الإحساس بالذّنب وبتأنيب الضّمير.
والموت ليس ملكاً للإنسان كما يقول (جان بول سارتر)، إنّه ملك للآخرين. ولا يعطي الموت قيمة ومعنى للحياة الإنسانيّة إلّا في ضمير الآخر الّذي سيحكم. ويتابع (سارتر) عندما يتكلّم عن حالة الانتحار الّتي ليست أيضاً ملكاً للإنسان لأنّ الآتي غير مدرك بالنّسبة له وإنما هو يبحث عن نهاية لآلامه كما أنّه يسعى لحال أفضل. كلّ إنسان يسعى للسعادة، يقول (باسكال) حتّى من هم محكومون بالإعدام.
من هنا يبقى على الإنسان أن يتصالح مع فكرة الموت الّتي هي ولادة للحياة، والّتي تجعله يعي كم أنّ حياته ثمينة وفي نفس الوقت هشّة. وقبول الموت هو أوّل خطوة لحياة متّزنة وسعيدة. فلو عرفنا لماذا نخرج من المهد إلى اللّحد، لأنشدنا بفرح كأولاد يخرجون من المدرسة (مايترلينك). ولو أدركنا حقيقة أنّ الموت قيامة لحياة جديدة ملؤها الفرح والسّعادة، لعملنا لدنيانا كأنّنا نعيش أبداً، وعملنا لآخرتنا كأنّنا نموت غداً (الإمام علي بن أبي طالب).