رغم النفخ في بوق التآخي لدى زبانية المتاجرين بالسلطة، يرصد الكاتب الذكريات، ليشير إلى أعاصير التحولات التي هبّت على المجتمع المصري، وكيفية التطبيع مع الانحيازات الدينية، مما أدى لتوقد الانتماءات المتعصبة، والانكفاء على الممارسات التكفيرية الإقصائية التي حطمت البنية المجتمعيّة.

مشكلة الأقليات الدينية في مصر

مازن الياسري

هل سيبقى حسن وحيداً؟!!

في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1941 عرضت على مسرح دار الأوبرا بالقاهرة، ولأول مرة المسرحية الكوميدية "حسن ومرقص وكوهين" من تأليف وتمثيل الفنانان بديع خيري ونجيب الريحاني، وقد عرضت المسرحية عدة أشهر بين خشبتي مسرحين وسط نجاح كبير آنذاك. المسرحية تقدم اطاراً كوميدياً لواقع التعايش بين المسلمين والمسيحيين واليهود في مصر بتلك الفترة، وقد نشرت مجلة "ذاكرة مصر المعاصرة" الاسكندرانية وفي عددها السابع وفي بابا "لطائف وطرائف" موضوعاً قدمته المجلة على أنه (مثال للوحدة الوطنية) متمثلاً بعلاقة الصداقة المتينة بين ممثلين مصريين أحداهما مسلم بديع خيري والاخر مسيحي نجيب الريحاني، وكيف أن الصدفة كانت وراء عملهما على مسرحية "حسن ومرقص وكوهين". وتتحدث المجلة عن نشوء فكرة المسرحية كما يرويها بديع خيري حيث يقول "كان زميلي نجيب الريحاني وأنا نعود ذات يوم مريضًا من أصدقائنا بأحد المستشفيات في حي العباسية، وقد استرعى نظرنا في الطريق لافتة فوق أحد المتاجر (مستودع الأمانة لصاحبيه أبخرون وعثمان) ولا يدري كلانا كيف استوقفته هذه التركيبة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن شئون التجارة بمعزل تمامًا عن فوارق الأديان، وهي من هذه الناحية تلعب دورًا كبيرًا في توثيق أواصر الأفراد وبالتالي توثيق أواصر المجتمع"، واستدرك خيري يقول أن نجيب الريحاني اقترح أن يقوما بعمل مسرحي مستوحى من قصة هذه اللافتة، وبدأ العمل على المسرحية وأكملا النص خلال (26) يوم. وبعد المرور بعقبات إدارة المطبوعات وتحفظات الجهات الدينية الروتينية التي اعتادت اقحام نفسها بعالم السينما والمسرح، مرت المسرحية وعرضت.

وعلى الرغم من دعوات التسامح والتعايش الرسمية آنذاك وربما الثقافية أيضاً كما بقصة هذه المسرحية، إلا ان الحقائق التاريخية غير المنمقة تشير لخلافات اجتماعية بين الطوائف الدينية عزز من نموها العيش بأحياء مغلقة. ففي روايته: "أنا حرة" المنشورة عام 1954 والمتناولة لحياة شابة مصرية أواسط الثلاثينيات من القرن العشرين تعيش في منطقة العباسيلة بالقاهرة، يتناول الروائي احسان عبد القدوس العلاقة بين العوائل المسلمة واليهودية واصفاً إياها بالعلاقة الطبيعية والمميزة. إلا أنه يعرج على حدوث حوادث متبادلة من الشجارات بين شباب الاحياء المسلمة واليهودية على خلفيات الاختلاف الديني.

ومر الزمن بمتغيراته على مصر ومجمل الشرق الاوسط. وتغيرت الخارطة السكانية المصرية ولم يعد هنالك ذكر ليهود مصر ولا حتى إحصائية دقيقة لتعداد من تبقى منهم، وفي تموز من العام 2008 عرض فلم سينمائي بعنوان "حسن ومرقص" الفلم الذي كتبه يوسف معاطي، واخرجه رامي إمام وقام ببطولته نجوم كبار هما عادل امام وعمر الشريف، تناول الواقع الاجتماعي للعلاقات بين المسلمين والمسيحيين، وبمحاولة لتعرية الحقائق بعيد عن الشعارات الواهية. يقدم الفيلم حقيقة المشاعر السلبية والضغينة المخفية بين المسلميين والمسيحين بمصر. ويقدم الواقع المصري بتناقض أشبه بالنفاق بين وجهين، كما يعرض لضغط الجماعات الدينية المتطرفة تجاه المسلمين المعتدلين والمسيحيين. وتتعرض لحالة من العزلة المجتمعية للأقليات في مناطق سكناهم ومجتمعهم، واذا كان الفيلم قد قدم بسرديته الدرامية قصة حب بين شاب وشابة من أديان مختلفة. فإنه لم ينهي الفيلم بانتصار الحب كما بكلاسيكيات الماضي السينمائية. بل اختتم الفيلم وهو يقدم تحدي مستمر وغير محلول.

واذا كانت مسرحية الأربعينيات "حسن ومرقص وكوهين" تكليلاً لآيجابية التسامح الاجتماعية ومحاولة لتوطيد الأواصر، ففيلم العقد الاول من القرن العشرين "حسن ومرقص" لم يكتفي بحذف (كوهين) بل قدم الواقع على مرارته وبإشارات صريحة لتعقيدات الحياة الاجتماعية وواقع الأقليات المزري في مصر. نتيجة لدور الجماعات الدينية المتطرفة في البلاد.

واليوم وبعد تغيير النظام السياسي بمصر، ووصول التيارات الدينية للحكومة والبرلمان، تزداد إشكالية واقع الأقليات في مصر بشكل صريح، ولعله من المهم القول بأن عاطفية المصريين كشعب وهي صفة تلازم شعوب شرق أوسطية عديدة، تؤثر في مواقفهم من قضايا الوطن والمواطنة والأقليات والأديان والعقائد. ولهشاشة الأنظمة السياسية الدور الكبير في التردي القانوني لواقع الأقليات بل واقع الشعب عموماً.

وللاسف لا زال الإعلام العربي يفضل أن يجامل التيارات الكبرى أو الأغلبيات أو يتصرف كالنعامة بدس الرأس بالتراب عند استشعار الخطر، لدرجة أصبح الإعلام العربي يحاكي مشاعر المجتمع ولا يعمل لمحاكاة الحقيقة أو الوقائع، وهذا تضليل غير منظور.

فواقع الأقليات بمصر اليوم وبالشرق الاوسط عموماً يعطي انطباع أ هنالك عمل مبرمج لاستهداف الأقليات وحثهم على الهجرة، وبالمناسبة لست ممن يروجون لنظرية المؤامرة ولكن وقائع ما يحدث للأقليات بالعراق ولبنان والسودان وبالتأكيد مصر ينذر بخطر شديد.

إن تحطيم التنوع السكاني والثقافي في الشرق الاوسط سيسبب تجذير للتعصب والعنف وانغلاق ثقافي كبير، يسعى له العديد من رواد الفكر الإسلامي المتشدد.

ان الجماعات الدينية داخل السلطة أو خارجها لا تؤمن بالتنوع أو المساواة بالحقوق والواجبات والغريب أنها تعلن عن ذلك علناً على السنة بعض شخصوصها أو عبر منشوراتها أو قنواتها الرسمية. وبالتالي من الصعب الحكم على مستقبل التعايش السلمي بين الأقليات في مصر، فالبلدان المصابة بمشكلات الماضي الاجتماعية وبمنقوصية المواطنة وصراعات وخلافات الأغلبيات والأقليات. لن تنجح بعبور أزماتها إلا بظل دولة مدنية تعيش سيادة للقانون ووفق دستور محترم، وهذا متوفر صورياً وليس متجذر واقعياً.

وإن كان الأقباط المسيحيين هم في واجهة الأقليات الدينية التي حدثت خروقات وإشكالات تجاهها، وصلت إلى الصدامات معها في أحداث عديدة لعل أقربها ماسبيرو في 10 من تشرين الأول/ اكتوبر 2011، وأحداث متفرقة عديدة فضلاً عن رفض علني لفكرة أن يرشح قبطي لمنصب رئاسة الجمهورية بمصر، أو أن ترشح سيدة (امرأة) للمنصب!

إلا أن هنالك أقليات أخرى تواجه تهميش وإشكالية كبيرة في مصر كالبهائيين والشيعة، ويواجه هؤلاء الأقليات فضلاً عن الضغط الشعبي اتهامات بعدم الولاء للبلاد، وتقاد ضدهم حملات لتشويه معتقداتهم، مما يعرض حياتهم للخطر مع وجود مدّ ديني عنيف وغير منضبط.

وبين الأزهر والأخوان المسلمين والتيار السلفي الجديد المقرب من السعودية، هنالك تهديد واقعي للعلمانية المصرية وللتنوع المصري، ولواقع الأقليات في مصر، بالتالي لعله سؤال يثير التشاؤم ولكنه واقعي، بعد إسقاط (كوهين) هل سيجري إسقاط (مرقص)، وهل سيبقى حسن وحيداً..؟

 

alyasery_site@yahoo.com