الذين يريدون إسقاط نظام الأسد ليس الثوار وحدهم، أعداؤه كثيرون في بلده وإقليمه ومحيطه الدولي. وعندما انفجرت الثورة الشبابية أخذ هؤلاء الأعداء يتقاطرون تباعاً إلى هوامشها وخلفياتها؛ ومع ترسّخ الانتفاضة في مشروع ثورة شعبية غير قابلة للارتداد على ثوابتها، وأولاها وأوضحها إنهاءُ الحقبة الأسدية جملةً وتفصيلاً، أصبح هؤلاء الأعداء أشبه بحلفاء موضوعيين للثوار. فالحركات الشعبية طامحة بطبيعتها إلى اكتساب أوسع مساحة ممكنة من تأييد الرأي العام حولها، فهي تحدد عدوها المركزي بصورة قاطعة، لكنها قد ترحّب بكل من يتطوع لمساعدتها.
الانتفاضة السورية التي تنهي سنة أولى من استمرارها وتصاعدها، لم يتح لها الوقت الكافي مع ذلك، لاختيار الأصدقاء والحلفاء. والكثير من هؤلاء لم يندفعوا نحوها مجاناً، إن لهم مآربهم الخاصة. حتى أن بعضهم يكاد يتماهى مع انتصاراتها ويعتبرها مكاسب له بطريقة ما.
كل الدول والفئات والتيارات الكارهة لسورية، لأدوارها التقليدية في النهضة العربية الشاملة، لا يفصلون بين سورية الدولة والشعب، ونظامها الحاكم. فانهيار النظام يعني بالنسبة لهم تقويض حوالي قرنين من الريادة الفكرية والسياسية لقافلة النهضة، بدءاً من عصر دعاتها الكبار من أعلام الشام، إلى عصر البُناة الأولين للاستقلالات الوطنية. لعالم عربي صاعد جديد. حماسة الغرب ومعسكره العربي الإقليمي، وأجهزته الدعاوية المستنفرة، وجماعاته من منتفضي الليبراليات الجديدة المسمومة، هذه الحماسة لنصرة الانتفاضة، تتجاوز تقييمهم الفعلي للنظام الأسدي، لتصبّ أحقادها مباشرةً على الشخصية التاريخية لكيان الشام. كأنما تجيء الانتفاضة بالوسيلة الوطنية لإحداث النهاية التي عجزت أدوات هؤلاء عن تحقيقها عبر المسلسل الرهيب المتتابع من "مؤامرات" الاستعمار، قديمه وحديثه، قد لا يكون المعارضون جاهلين أو متجاهلين لحقيقة هذا الحب الطارئ المسموم، يصبّه رموز المعسكر المسمّى قديماً بمعسكر الرجعية والصهيونية والاستعمار، على ضحايا الجرائم الأسدية. فالانتفاضة حتى لو أنها حققت هدفها قريباً، وأطاحت بذروة العصر الديكتاتوري الأوحش، سترى أن عليها أن تثبت لشعبها سريعاً أنها تمسح عن وجه الشام كل شوائب الالتباس والهُجْنة التي كادت أن تذهب بملامحه الأصلية ممارساتُ المركّب الاستبدادي والإفسادي. هذه الممارسات التي كانت تغطي عوراتها شعاراتٌ قومية وتقدمية. أفرغها العهد الأسدي وأمثاله من أية فعالية مؤثرة في تعديل الخارطة الاستعمارية السائدة.
أشكال الصداقات الطفيلية الواردة على الحدث الثوري من جهة أعدائه الحقيقيين، تهدف مرحلياً إلى تشويهٍ خبيث في دوافع الانتفاضة، ومن ثم إزاحةِ معيار الوطنية السلمية عن مسيرتها، وإظهار النظام كأنه ضحية القضية بدل أن يكون جلادها، كما هو واقعه الفعلي. فالثورة الشبابية لن تكون غنيمة مباحة لكل من يدعي حصة له من شعاراتها أو إنجازاتها، مقابلَ مساهمة له في تأييدها أو الانتصار اللفظي لبعض أهدافها. فإسقاط النظام مصلحة عامة في الأساس. وقد تشتمل هذه الصيغة الشمولية على الصالح والطالح وراء إعلامها. لن تكون الثورة مسؤولة عن غايات كل من يفرض عليها صداقته أو حِلفَه من طرف واحد. وإذا كان الغرب "السياسي" هو الأسرع إلى التنطع لحمايتها على الصعيد الدبلوماسي والإعلامي، فذلك لا يعني أن الثورة لم تكن في جوهرها تستهدفه هو بالذات. أليس هو المؤلف والمنتج والمستفيد الأول من ديمومة نظام أنظمة الاستبداد/ الفساد الساجنة لشعوب الأمة العربية منذ فجر نهضتها الفكرية، ومن بعدها نهضتها الاستقلالية المباشرة.
أعداء سورية، الوطن والشعب والدور التاريخي، يتسترون بدعوى رفضهم للنظام. أصنافهم المتعددة الأسماء والعناوين والنوايا، لا تتيح للثورة مهلةً لتمييزهم وتصنيفهم، بحسب مقاصدهم الحقيقية. فليست هي التي تختارهم. كما أن الشارع الثائر مفتوح أمام مختلف الفئات والتيارات، وكذلك فالهوامش غاصّة بالمتعاطفين والمتخاذلين، وحتى بالمتآمرين. ومع كل أصناف هذه الحشود والأدعياء على أبواب الثورة، ومنافذها، يبقى عليها ألا تفقد بوصلة سفينتها الأصلية وسط أعاصير الضباب والغبار. تلك هي المهمة الأصعب حقاً في مرحلة النضال المباشر، وقد تزداد تعقيداً وتشابكاً مع المراحل القادمة. والمسرح العربي الأوسع لنماذج الثورات يقدم عينات عن مشكلات كل مرحلة لكل منها، ما قبل انهيار الطواغيت إلى ما بعدها، وانطلاق ما يسمّى بالعملية السياسية لبناء الديقراطية. ما يؤكد أن نضال الثورة مع مكوناتها الذاتية، الأصلية والدخيلة، لن تكون أقل عَنَتاً من الصراع مع أعدائها الخارجين المتربصين بها.
لكن الثورة السورية تحديداً، قد يطول كفاحها السلبي، مثلما طالت قبلها حقباتُ الانكسارات المجتمعية والفردية تحت وطأة مركّب الاستبداد/ الفساد ومغامراته السياسية والاقتصادية العابثة والمشبوهة دائماً. فالسنة الأولى من عمر الحراك السوري، سوف تُطوى على تاريخه الدموي من دون تحصيله لغايته المركزية الأولى: قلعة الطغيان قائمة، وهي تنفث شرورها في كل ساحة نضالِ، يفاجِئها السكانُ العزل الغاضبون بصدورهم العارية، في معظم أرياف سورية ومُدُنها الصغيرة والمتوسطة. ومع ذلك فقد تجرّد النظامُ من معظم عباءاته المستعارة الزائفة، تراجع وجوده الاجتماعي إلى أصغر دائرة فئوية، محكومة هي عينها بأنفار معدودين من الطغمة المسيطرة. سلطات النظام انحسرت إلى مجرد قوى أمنية قامعة، ومحشورة في الثكنات وأشباهها. تخرج منها لجولات قتل واعتقالات، وتفظيعٍ في أجساد الضحايا، لترتدّ بعدها إلى جحورها بغنائم الجرحى والأسرى والعابرين العُزَّل بالشوارع والأزقة.
يقدّم النظامُ عن نفسه كل يوم متطوعاً، أفضل النسخ الدموية عن كتاب الفاشية القديمة، بأسلوبها المميز كحالةِ احتلالٍ أجنبي، يُمْعِنُ انتقاماً من ضحاياه، من الشعب الآخر الحر، الرافض لشرعية حاكميه، والفاضح لعنصرية القتل المجاني المعمم؛ فمن غطرسة التسلّط الذي لا رادّ له، وعنجهية النهب الذي لا حساب له وعنه، يصل مركّب الاستبداد/ الفساد إلى موقع الدفاع الأخير عن نصر موهوم أقرب إلى هزيمة محققة لا تعرف اسمها بعد. هذه النتيجة يتوقعها أقرب وأبعد الحلفاء لكلا الطرفين، النظام والشعب، لكن بعض أرباب النظام يصرّون على اشتراط سقوطهم بسقوط سورية الوطن نفسها. فهم بذلك يمثلون الصنف الأخطر من بعض "شركاء الضرورة" المحسوبين على الثورة بإرادتها أو بدونها. ذلك إن من طبيعة الديكتاتورية أن طاغوتها الأكبر لم يعد يفصل بين مصيره الشخصي ومصير البلاد التي أمست من ممتلكاته، لكن ما يحدث لطواغيت دمشق أنهم يأخذون البلاد والعباد معاً رهائنَ، مقابلَ هستيريا البقاء، ولو على أسنّة الحراب، وهو ذلك البقاء الأصم، الذي شرَّعه العهد الأسدي منذ تأسيسه باسم الفئة المغبونة ضد الغالبية الطاغية، فالتطئيف لم يتفجر مع الثورة الراهنة إلا رداً على تطئيف السلطة وأعوانها وأدواتها طيلة خمسة عقود عجفاء. ومع ذلك فالثورة لم تأت بتطئيف أكثري رداً على تطئيف أقلي. فقد كان للناس، للأغلبية المجتمعية، اللافئوية، أن يغضبوا أخيراً لكرامة الحقيقة التي زيّفها المتسلطون، لكرامة الثروة الوطنية التي حولت رجال السلطة إلى مجرد لصوص كبار، لكرامة الشعارات الوطنية التي ابتذلتْها سياسة الصفقات المشبوهة من كل نوع، ومع كل عدو ظاهر أو خفي.
المشكلة هي أن الثقافة العربية المقموعة ممنوعةٌ من كتابة التاريخ المعاصر خاصة. لا بد من "ويكيليكس" عربية تطلق ثقافة الوثائق يوماً ما، لعل جيل الشبيبة الصاعدة يكلّف نفسه عناء البحث عن الأسباب العميقة لثورته، عن الوقائع الملتبسة والمحرفة التي أجهضت عهد الاستقلال الأول للأمة العربية، التي قوضت آمال آبائه وأجداده الأقربين، التي جعلته ينشأ ويصحو على عالم مدمر في كل شأن من شؤون مجتمعاته المهزومة بإنسانيتها، وليس بأنظمتها البائدة والمستمرة وحدها فحسب.
وقد لعب "العهد الأسدي" دور البطولة الأولى في معظم مسرحيات هذا التاريخ المنكوب، فإذا لم يكتب التاريخُ أسرارَ هذه البطولة حتى اليوم، الا ان جبلاً كاملاً معاصراً لأحداثها، لا يزال على قيد الحياة، حاملاً أميناً لذاكرتها، مميزاً بين جلاديها وضحاياها، هو الذي كان شاهداً على أهوالها أكثر منه مشاركاً في فضائحها. إنه جيل النهضة الخائبة، طلائعه الحية، كل فرد فيها بمثابة كتاب حي تنقصه القراءة بأعلى الأصوات. وسوف تصدح القراءات الجماعية قريباً، لتكشف أن أفظع هزائم الحرب والسياسة والاقتصاد الماضية، كانت من صنع البعض من قادة المنهزمين، قبل أن تأتي من أعدائهم.
عصر الثورة ليس عصر المظاهرات الشعبية الراهنة وحدها. إنه جاء حاملاً المطارقَ الصلبة التي ستفتح الأبواب الحديدية الصدئة، الموصدة من زمن سحيق في وجه المعارضين القدامى. فمن حقّ شبيبتنا أن يسألوا المجتمع المنهار: لماذا عجز عن تأمين أبسط شروط الحياة الكريمة لملايين أجياله الصاعدة. لماذا هي أمتهُم من أغنى أمم المعمورة، لكنها تعيش حياة أفقرِها وأتعسها في عالم اليوم. لماذا هي أمتهم العربية، الأربعمئة مليون، والإسلامية المليار ونصف المليار، تُذلها حفنات من البشر، من شُذّاذ الآفاق، تسرق أرضهم، وتدنّس قُدسهم، وتشتّت جحافلهم في صحاريهم السياسية والحضارية.
عندما يتشدق الأسد الصغير بسورية الوطن والعروبة، في ذات الساعة التي يقتل فيها زبانيتُه شبابَ التظاهرات والعابرين في شوارع المدن والقرى المقفرة إلا من ثوارها الأشاوس، فإنه لا ينتظر أن يصيح به أحد أعوانه المحتشدين حوله في ساحة الأمويين: يا سيادة الرئيس لماذا لا تأتينا أنت وأقرباؤك ببعض ملياراتكم الموزعة على بنوك أوروبا، ليشتري بها بعض الناس مازوت مدافئهم المتجلدة. فالصقيع والتجويع والحصار والرصاص والقنابل، هذه الأشياء تكاد تفقد دلالاتها، تحت وطأة المعركة المتواصلة منذ عشرة أشهر، منذ أن أعلنت سلطةُ الأسد حربَها اليتيمة على شعبها، الغاضب لسرقة كرامته الإنسانية بعد سرقة السلطة لكرامته الاجتماعية والوطنية. ما لم تفهمه سلطة الطواغيت العربية هو أن الربيع الثوري وُلِد لكي يصبح سيّدَ الفصول السنوية والسياسية الراهنة والقادمة. وأن كل أسلحة القهر والقمع، معطوفةً على بضائع الإعلام الخشبي، قد باءت بضائعها بأسواق الكساد، حتى قبل أن تنطلق أولُ تظاهرة ربيعية في تونس أو القاهرة أو دمشق. فالديكتاتوريات العربية أصبحت من نفايات الماضي، ما تبقّى منها في بعض رؤوس الإهرامات ليست سوى أشباح فارغة، لا سماكة لأجسادها البلورية الهشة. قد يطول عذاب الثوار، لكن الديكتاتور لن يتعذب بعد الآن، فقد مات منذ زمن سحيق.
مفكر عربي مقيم في باريس