يتناول الباحث الموت في القصيدة الدنقليّة، ويرى فيه اليقين، إلا أن الطابع المميّز للتعايش مع الموت شعراً يكمن في استرجاع الشاعر للماضي، بغية السير نحو المستقبل/ الموت، فالشاعر لا يبكي الزوال، بل يجابه اللحظة بلذة الذكريات قبل سقوط آخر ورقة من شجرة الحياة.

رؤيا النهاية واستشراف الموت

في قصيدة »الورقة الأخيرة – الجنوبي» لأمل دنقل

سعيد بكور

تتسم تجربة الموت عند أمل دنقل بالجدة، وتتزيا بزي الفرادة، وتتخذ بعداً درامياً مأساوياً ينبع من أعماق الذات الموقنة باقتراب النهاية لرحلة مريرة مع المرض، وتختلف رؤيا أمل دنقل للموت عن نظرائه من شعراء الحداثة، خاصة، أولئك الذين وسموا بالتموزيين، ويكمن ملمح الاختلاف في طبيعة التجربة، وكيفية المعالجة الفنية والموضوعية، وخصوصية الرؤيا.

إن الموت عند أمل دنقل ليس ذاك الشبح الذي يخيف ويبعث في النفس والكيان الرعب والهلع، بل هو زائر مرحب به وضيف مرغوب فيه، كيف لا وهو الذي سينهي رحلة العذاب الطويلة القاسية، لذا فهو لا يتحرج بين الفينة والأخرى من أن يدعوه للزيارة و يجحضه على التعجيل بها، وهنا يتخذ الموت شكل المنقذ من براثن الحياة.

كتب الشاعر قصيدته "الورقة الأخيرة-الجنوبي" إبان تواجده بمستشفى الأورام السرطانية، ورأت النور في فبراير 1983م، وهي بذلك تشكل رؤيا النهاية والمعزوفة الأخيرة لأمل في دنيا الشعر وعالم الإبداع، ويقدم لنا في هذه القصيدة رؤيا مغايرة للموت ومختلفة عن كل تجارب شعراء الحداثة، ويكمن تفرد رؤيا شاعرنا في أنه لا يصرح بالموت كما هي عادة الشعراء، بل يسترجع أيام الصبا والطفولة في مشاهد تلتحف بلحاف الحزن والحنين لماض لن يعود وذكريات لن تأتي، لذا فهو حريص في آخر ما كتب من قصائد أن يشبع نهمه التذكري، على الأقل حتى يموت ولم يتبق في نفسه شيء من هذه الذكريات.

لذلك فهو يجد في استرجاعها واستدعائها من عمق الماضي السعيد إلى سطح الحاضر التعيس.

من خلال العنوان "الورقة الأخيرة-الجنوبي" ندرك اقتراب النهاية/ الموت، وهو ما تنطق به عبارة "الورقة الأخيرة" التي يمكن أن نعدها كناية عن خريف العمر فيكون المقصود بالورقة تبعاً لذلك ورقة العمر التي ينبئ سقوطها بقدوم الشتاء/ الموت، والورقة بهذا المعنى تحيل على اليوم الأخير من حياة الشاعر ودنو أجل الرحيل، كما قد تحيل على آخر إبداع تخطه أنامله، وارتباطاً بذلك تفضي الورقة الأخيرة إلى الخاتمة والتقطة النهائية التي لا بداية بعدها.

يبرز العنوان إذن إدراك الشاعر الحتمي للنهاية القريبة وتشكل كلمة "الأخيرة" إبرازاً لهذه الحتمية التي لا مفر منها.

تبدأ القصيدة بمشهد تأمل "صورة" يظهر من خلال سياق الكلام أنها عائلية تؤرخ لمرحلة من طفولة الشاعر قبل أن يحل بدياره المرض، ويغير ملامحه، وينخر جسمه، ويمص عظمه، ويحوله إلى شبح، ويتساءل الشاعر في مرارة مسرفة تبرز حجم معاناته الداخلية منكراً أن يكون هو الذي في الصورة، ويعود سبب الإنكار المغلف بالمرارة والألم الممض إلى ما طرأ على صورته من تغير للملامح والقسمات بحيث صار شخصاً آخر أشبه بالشبح:

هل كنت طفلاً

أم أن الذي كان طفلاً سواي؟

إن توظيف الاستفهام جاء بغاية إبداء الإنكار والمرارة التي تعتصر الشاعر داخلياً، فهو يرى صورته لما كان صغيراً فينكرها؛ فكيف لطفل وسيم ممتلئ الوجه مبستم أن يصبح بين عشية وضحاها شاحباً أصفر اللون رسمت عليه السنون نتواءاتها، وحفرت الليالي خنادقها العميقة، ونخر المرض جسمه فجعله مسماراً وأحاله إلى ما يشبه الشبح، وهو في غمرة تأمل الصورة/ الصور العائلية تعود به الذاكرة إلى ماض بعيد يتذكره بتفاصيله وكأنه حدث لتوه:

أتذكر

سال دمي

أتذكر..

مات أبي نازفاً..

أتذكر

هذا الطريق إلى قبره

أتذكر..

أختي الصغيرة ذات الربيعين

لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها!

المنطمس

إن تكرار الفعل "أتذكر" خمس مرات مثبتاً ليعكس حنيناً إلى ماض أفل، وذكريات لا زالت محفورة بمداد من ذهب، فشل المرض العضال في افتكاكها من الشاعر الذي يرفض أن تمتد وصاية المرض لتمتد إلى فكره وذاكرته، إذ يكفيها ما سطت عليه من الجسم، واللحم، والعظم، والدم، وفي غمرة هذا التذكر الذي يحاول من خلاله الشاعر الهروب من عالمه الآني الذي يسمه البؤس والألم يأبى الموت إلا أن يكون حاضراً بمفرداته، رافضاً أن يتركه ينعم بلحظات التأمل في الحياة الماضية، وكأنه يريد أن يحرمه من أي لذة رغبة في حصره في دائرة انتظار الموت لا يغادرها بأية طريقة من الطرق، ويتضح ذلك في كلمات من قبيل "مات أبي، قبره، قبرها".

إن الملاحظة اللافتة في الأسطر الأولى للقصيدة هو هذا الاسترجاع السريع لشريط الحياة وكأن فيه إشارة إلى قرب زيارة الموت في أي حين، لذا يستعجل الشاعر الالتذاذ بذكرياته الماضية التي تشكل بالنسبة له تعويضاً نفسياً يخفف عليه ما يحسه من اتساع رقعة الداء واحتلاله لسائر جسده. كما تجدر الإشارة إلى الهدوء الذي يطبع هذا الاسترجاع وهو هدوء يعكس يقيناً داخلياً بحقيقة الموت.

ويستمر اختفاء الشاعر بالاستفهام الذي يبين عن استغرابه الملفوف بالدهشة لما ألم به من صروف المرض التي غيرته كلياً في ملامحه وعينيه، لدرجة أنه صار يشك في أن تكون الصورة التي يراها له في الأصل:

أو كان الصبي أنا؟

أم ترى كان غيري؟

أحدق..

لكن تلك الملامح ذات العذوبة

لا تنتمي الآن لي

العيون التي تترقرق بالطيبة

الآن لا تنتمي لي

صرت غريباً

إن إنكار الشاعر لنفسه يظهر حجم التغيرات الجسمية التي ألمت به فجعلته نحيفاً هرماً ولما يشخ بعد؛ فالملامح فقدت عذوبتها والعيون لم تعد تترقرق بالطيبة كما كانت، ويلخص السطر الأخير من هذا الجزء "صرت غريباً" إحساس الشاعر المرّ والمؤلم، كما يؤذن باقتراب بطيء للموت الذي لا يفصل بينه وبين الشاعر سوى تغير في الملامح.

لقد تغير كل شيء: الملامح والعيون، ولم يتبق من الشاعر إلا صدى الاسم يرجع هنا وهناك في الغرفة عندما يردد الزوار اسمه وهو راقد على السرير متأملاً عالمه المنتظر:

صرت عني غريباً

ولم يتبق من السنوات الغريبة

إلا صدى اسمي..

وأسماء من أتذكرهم-فجأة-

بين أعمدة النعي

أولئك الغامضون: رفاق صباي

يقبلون من الصمت وجهاً فوجها..

فيجتمع الشمل كل صباح

لكي نأتنس

لم يعد من شيء له علاقة بالشاعر سوى صدى اسمه الذي لازال يذكره بأنه هو فعلاً من يظهر في الصورة، وكذا أسماء أصدقائه التي ترد في أعمدة النعي في كل صباح فيجتمع الشمل ويقع الأنس تيمناً بقرب اللقاء بهم في عالمهم الجديد عالم الموتى.

إن شبح الموت يخيم بظلاله على المقطع الذي يلخص رحلة طويلة مع المرض والمعاناة؛ رحلة أمحت فيها الملامح وفقدت فيها العيون طيبتها الطفولية البراقة، وصار الشاعر ينكر أن يكون هو نفسه لما بين صورته التي يتأملها وبين ملامحه الآنية من فروق شاسعة، لكن صدى اسمه يجعله يتأكد من أن الذي في الصورة هو نفسه الذي هو راقد على السرير ينتظر الموت/ النهاية.

ويعكس المقطع وأسطره الناطقة بالألم المرحب بالنهاية المحتومة، انتظاراً للموت واستعداداً له في نفس الوقت، ذلك أن التقاءه روحياً بمن يعرفهم كل صباح في صفحة الوفيات يجعله يستعد نفسياً للنزول بأرضهم وعالمهم الذي يعمه الصمت بعيداً عن ضجيج العالم العلوي.

ويستمر العيش مع الذكريات واسترجاع الماضي الذي يؤدي دوراً تنفيسياً لا يستهان به؛ يهون على الشاعر جراحاته وعذاباته في المقطع المعنون بـ"وجه" الذي جاء نكرة وفي ذلك إشارة إلى أن ملامح هذا الوجه أمحت من الذاكرة، وهكذا فقد سمته التعريفية فصار مجرد وجه غير بارز الملامح، وفي هذا المقطع يحكي الشاعر فيما يشبه السيرة الغيرية عن شخص يظهر أن العلاقة بينهما وطيدة:

كان يسكن قلبي

وأسكن غرفته

نتقاسم نصف السرير،

ونصف الرغيف

ونصف اللفافة،

والكتب المستعارة

ويعبر الشاعر هنا عن صديقه بضمير الغائب ما يعني أن صاحبه هذا صار في حضرة الغياب وهو ما يتضح بمجرد الانتهاء من سرد سيرته:

عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب

وفي غرفة العمليات..

لم يصطحب أحداً غير خف..

وأنبوبة لقياس الحرارة

فجأة مات!

لم يحتمل قلبه سريان المخدر،

وانسحبت من على وجهه سنوات العذاب

هنا يصير الموت مخلصاً من الألم ومنهياً لرحلة العذاب كما عند صديقه هذا الذي يتذكره، وكأنه يمني النفس في أن يضع القدر نهاية لمعاناته وتنسحب سنوات العذاب من على وجهه إلى غير رجعة، والملاحظ أن أمل دنقل في غمرة تذكره للماضي واسترجاعه للذكريات وإتيانه على ذكر من رحلوا يأنس أيما أنس بذكر الذين رحلوا، ويلفي في ذكرهم مسكناً شعورياً يخفف عليه وحدته القاتلة، ويهون عليه فتك المرض الذي ينخر جسمه شيئاً فشيئاً، وكيف لا يأنس بذكر الموتى والأحياء مشغولون بعالمهم الذي لم يعد ينتمي إليه روحياً.

وفيما يشبه السيرة الذاتية الشعرية يواصل أمل دنقل تذكر أمور وسردها بلغته المميزة التي يطغى عليها طابع الألفة والبساطة، ويختم قصيدته بحوار داخلي "مونولوج" يكشف ما بداخله من عذاب، ويعكس واقعه النفسي الجريح المنهار، وقد أخذ هذا الحوار شكل سؤال وجواب، ويعلن في هذا الحوار صراحة أنه يكره البحر والخمر (رمزا الحياة) فيما يشتهي ملاقاة أمرين: الحقيقة والأوجه الغائبة، وهما أمنيتان غريبتان تتحققان بالموت:

-هل تريد قليلاً من الصبر؟

-لا

فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه

يشتهي أن يلاقي اثنتين:

الحقيقة – والأوجه الغائبة

وهو اشتهاء غريب نابع من وصول الصبر إلى حافة الإفلاس وعدم القدرة على التحمل.

تعكس القصيدة بمقاطعها المتعددة حنيناً إلى الماضي البعيد الذي ليس إلا استعداداً نفسياً وتأهباً شعورياً للمغادرة إلى العالم الآخر، حيث يسعى الشاعر إلى إشباع نهمه التذكري مستدعياً كما لا بأس به من ذكريات مضت وأمور لازالت راسخة محفورة في الذاكرة بمداد الحنين، وهو بذلك يرنو إلى أن يمتلك قوة نفسية تساعده على مقاومة المرض الفتاك الذي ينخر جسمه بلا رحمة، رافضاً أن يمكنه من التطاول على مساحة الذكريات التي تبعث فيه الانتعاش وتحسسه بأنه لازال قادراً على المقاومة النفسية على الأقل.

يتخذ تذكر الماضي -بانتقاء لحظات منه ولقطات- تأملاً عميقاً ونظرة أخيرة إلى الحياة هي أقرب أن تكون إلى نظرة وداع، ذلك أن المشهد الذي تقدمه القصيدة هو مشهد وداع يننزف دماً؛ فالحياة من خلال تأملات أمل دنقل ليست سوى "لقطات ولحظات"، فعلى الرغم من امتدادها فإنها تبدو عند اقتراب لحظة النهاية والوداع وكأنها ثانية أو بعض ثانية، ولعل ما يطبع استدعاء الذكريات عند أمل دنقل هو عنصر السرعة، فاللقطات تتناسل في سرعة واللحظات تتسابق وهو أمر يعكس الواقع النفسي الداخلي المستعجل الذي يرغب في التزود بأكبر قدر ممكن من الذكريات ولحظات الماضي حتى ولو استدعى الأمر تناسي أو تجاوز أحداث كثيرة، المهم عند الشاعر في لحظاته الأخيرة أن ينمي حاسته التذكرية وينهل من معين الذكريات لأنه على يقين تام بأنه لن يتذكر بعد اليوم.

إن القصيدة في عمقها تجسد يقيناً راسخاً بدنو الموت واقتراب الأجل، لذا فالطابع المميز لها هو الهدوء الممتزج بالسرعة في استرجاع الماضي تأهباً للانطلاق اليقيني المرحب به إلى المستقبل/ الموت، والشاعر بهدوئه الواضح لا يبكي على انصرام الأيام وانفراط عقد الأعوام، بل يجابه اللحظة بطريقة مغايرة لا تخطر ببال أحد قط، إنها اللياذ بالماضي والاستقرار في حضرته والتحصن به عن طريق التذكر، وكما سبقت الإشارة فالذي يميز شاعرنا هو هدوؤه اللافت للنظر، إذ لا يبدي ضجيجاً وصخباً أو عدم رضا، بل يتلذذ بشريط الذكريات ما سنح له الوقت المتبقي من عمره قبل سقوط الورقة الأخيرة، وكم هو رائع شريط الذكريات عندما تحين لحظة الوداع، خاصة، إذا كان الوداع الأخير الذي لا لقاء بعده.

 

كاتب من المغرب