يستغرب بعض أصدقائي حين أقول لهم إنني لا أعطي الأولوية في اهتماماتي إلى علوم مثل القراءات السبع للقرآن أو النحو والصرف أو الشعر وأوزانه، ولا أتفق مع من يصرف ساعات طويلة في مناقشة أسانيد الأحاديث دون أن يخصص نصف هذا الوقت ولا ربعه للتأمل في متونها وتدبر المعاني العميقة التي تحتويها.
يقولون لي: كيف لا تهتم بالقرآن وهو أشرف العلوم على الإطلاق؟
أقول لهم: ينبغي أن تكون لدينا القدرة على اكتشاف الفروق الدقيقة لأن الخلط يحدث بسهولة في مثل هذه المواطن..نعم أهتم بالقرآن وهو تاج رءوسنا، ولا قيمة لنا إلا بالقرآن، ولكن القرآن شيء، والمبالغة في التركيز على القراءات الأخرى للقرآن، أو المبالغة في دراسة أحكام التجويد، وإتباع الدورة بدورة ثانية ورابعة وخامسة بعد أن تعرفت على الحد المقبول منها وصرت أتلو القرآن تلاوةً صحيحةً هو شيء آخر.
غاية نزول القرآن الأساسية هي تدبره وفهم آياته ومعانيه وليس التباهي أمام الناس بقدرتنا على إمالة الألف اللينة في قوله تعالى "والنجم إذا هوى". ووظيفة أحكام التجويد ليس إلا تصحيح تلاواتنا حتى يسهل تفاعلنا مع القرآن وفهمنا لمراده، وليس التوقف عندها وتركيز كل الجهد عليها دون تجاوزها إلى ما بعدها حتى لا نكون مشابهين لحال من تحدث عنهم القرآن الكريم "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني"، والأماني هي التلاوة كما يقول المفسرون.
هب أن الأمة كلها أتقنت القراءات السبع للقرآن ما النتيجة العملية التي ستترتب على ذلك. هل بمجرد أن يتقنها الناس فإنهم سينهضون وسيتغير واقعهم وسيتخلصون من أسباب التخلف إلى الأبد ويستبدلون حياةً عزيزةً بذلتهم وقوةً بضعفهم، وغنىً بفقرهم.
لا أنتقد أن يوجد بيننا من يهتم بهذا اللون من ألوان العلم وأن يبدع فيه، ولا أبرر لمن يلحن في قواعد اللغة ويخطئ في التلاوة الصحيحة للقرآن، فهناك حد أدنى يجب أن يتعلمه الجميع، ولكن ما دفعني إلى الحديث في هذه المسألة هو شعوري بأنها تحولت إلى توجه عام في أوساط ثلة من الشباب المتدين، فتجد أحدهم يقدم هذا الاهتمام على ما عداه حتى يؤدي به إلى إهمال العلوم الأخرى.
أعرف من هؤلاء أحد أصدقائي الذي أجده دائماً مستغرقاً في الاهتمام بقراءات القرآن وقرائه، ومحاولة تقليد أصواتهم، وفي نفس الوقت لا ألمس عنده أي اهتمام بالثقافة العامة والاطلاع على العلوم الأخرى.
أعجب من حال صديقي وأمثاله وقد آتاهم الله حظاً من ذكاء ونشاطاً في طلب العلم فبدل أن يستثمروه في التركيز على العلوم والمعارف التي تقود إلى النهضة ويُرى أثرها في واقع الناس فإنهم يبددون أوقاتهم الثمينة في الاستغراق في هذه العلوم حتى تملك عليهم كل أوقاتهم وجهودهم وكياناتهم.
لي صديق آخر يستفتيني أحياناً في مسائل نحوية فأقول له: جيد أن تقوّم لسانك، ولكن ينبغي أن نقدر الأمور بقدرها، فليس من الحكمة التركيز على النحو كل هذا التركيز بينما أنت تعاني نقصاً حاداً في قراءة التاريخ أو فهم أسباب تفوق المشروع الصهيوني، أو العوامل التي تتحكم في نهوض الأمة أو انتكاسها، أو فهم أسباب المشكلات الاجتماعية مثل البطالة والفقر. أيهما سيفيد الأمة أكثر: أن تتعرف على أسباب نجاح المشروع الصهيوني وتخرج من ذلك بتوصيات لمواجهته مواجهةً شاملةً وإبطاله كما صنع العلامة الراحل عبد الوهاب المسيري، أم أن تقضي وقتاً طويلاً من عمرك في الاستغراق في مسائل النحو الدقيقة (الحمد لله أن علاقتي بالنحو جيدة، وكذلك بأحكام التجويد حتى لا يظن أحد أن انتقادي هو مثل انتقاد الثعلب الذي لم يكن قادراً على الوصول إلى العنب فبرر فشله بأن العنب حامض).
يكفي أن يكون هناك عدد قليل للتخصص في هذه العلوم حتى لا تندثر ولتبقى دالةً على هوية الأمة، ولكن حتى من يتخصص في هذه العلوم فإنها لا تكفيه وحدها فلا ينبغي أن يعد نفسه من العلماء فقط لأنه يحسن الإعراب أو يحسن وزن الأشعار، بل عليه أن يتسلح بجملة من المعارف الاجتماعية والتنموية والحضارية ليكون منتمياً لهذا العصر الذي يعيش فيه وشاهداً عليه "لتكونوا شهداء على الناس".
وعلوم مثل التجويد والنحو والشعر مثلها في بناء العلم كمثل الطلاء الخارجي الذي يزين البناء، فإذا أقام الإنسان بناءه على أسس قوية ودعم أركانه، وجاء بعد ذلك ليزين الجدار كان نوراً على نور، أما أن يهتم بالطلاء الخارجي والبناء متهالك فهذا لا يسمى إلا غبناً.
والخطأ هو أن يتحول الاهتمام بمثل هذه العلوم إلى أولوية تأخذ حيزاً كبيراً من طاقات الأذكياء من شبابنا، بل أن يصل الأمر إلى تفضيلها على العلوم ذات الأثر الواضح في حياتنا الاجتماعية عن طريق تقسيم العلوم تقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان إلى شرعية وأخرى غير شرعية، وضمها إلى خانة العلوم الشرعية، فيبذل الشاب زهرة عمره في إتقان القراءات السبع أو الغوص في مسائل فقهية تفصيلية بعيدة عن واقع اليوم كانت تهم الناس في زمن ابن تيمية وابن القيم ولكنها لم تعد تلامس أي حاجة حقيقية في حياة الناس اليوم، أو في حفظ معلقات العرب، وربما يحصل الشاب الذكي على درجة الامتياز مع مرتبة الشرف في هذه التخصصات، فيفرح بهذه الدرجة العالية وتقام الاحتفالات والتشريفات له، ويمنح الألقاب، ثم يخصص دراساته العليا لمناقشة إعراب حتى، أو ألفية ابن مالك، أو الأدب العربي في إحدى العصور و نحو ذلك، وبعد كل السنوات والجهود التي يبذلها تكون المحصلة الاجتماعية صفر، فلم تؤد علومه وشهاداته وألقابه إلى تقديم إجابات عملية للمشكلات الواقعية للناس في هذا الزمان.ولو أنه صرف ذكاءه في بحث أسباب إحدى المشكلات الاجتماعية أو الحضارية وقدم حلولاً إبداعيةً لها لكان ذلك أنفع للناس.
هذا الصنف من المتعلمين يصدق عليهم وصف الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في كتابه (هكذا ظهر جيل صلاح الدين) حين شبه العلم في بلادنا العربية بالذهب الذي تلبسه النساء للزينة، وكذلك العلم صار للزينة دون استيعاب للمضمون والاستفادة منه.
إن الإسلام دين عملي وليس كلاماً نظرياً منفصلاً عن الواقع، ووظيفة العلم هو النهوض بالواقع، لذا فإن مقياس المفاضلة بين علم وآخر هو مدى الأثر الذي يستطيع هذا العلم إحداثه في حياة الناس، والأمة التي تبحث عن النهوض يجب أن تكون أمةً عمليةً لا نظريةً، فنركز من العلوم على ما يستطيع إحداث نهضة حقيقية في واقع الأمة، فأيهما سينفع الأمة أكثر أن يتخصص أبناؤها في بحور الشعر، أم في نظريات التغيير الاجتماعي، وعلوم التنمية البشرية، أن يدرس أبناؤها القراءات السبع التي لم يفرض الله علينا القراءة إلا بواحدة منها، أم أن نوجههم لتدبر معاني القرآن بقلوب واعية فربما أوتي أحدهم فهماً في كتاب الله لم يسبق إليه فيقدم للأمة ما هو أنفع لها.
لقد تفطن العلامة عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الرائع (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) إلى ضرورة مراعاة الأثر الاجتماعي للعلوم ففرق بين نوعين من العلوم: علوم لا يخشاها المستبد مثل علوم اللغة وعلوم الدين المتعلقة بالآخرة، والتي يجعلها عديمة الجدوى لأنها لا تزيل غشاوة الجهل، وتملأ الأدمغة غرورا ويشبه المهووسون بها بالسكارى إذا خمروا! وهو يستثني من ذلك كل الذين تفيدهم هذه العلوم حكمةً وعلماً.والمستبد لا يخاف أيضا من العلوم الصناعية، لأن أصحابها يكونون صغار النفوس مسالمين يسعون لمصلحتهم الشخصية ويسهُل على المستبد شراؤهم!
أما العلوم المرعبة للمستبد فقد فصلها الكواكبي: "هي الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وكم هو مغبون فيها".
وما يهمنا هنا في فكرة الكواكبي هو إجمالها وهو ضرورة مراعاة الفاعلية الاجتماعية والسياسية والحضارية للعلوم التي نوجه أبناءنا باتجاهها.
وما ذكره الكواكبي من موقف المستبدين من أصناف العلوم تظهر صدقيته فيما نراه من تكريم هؤلاء المستبدين لحفظة القرآن وقرائه لأنهم يعلمون أن هذه العلوم وحدها لا تهدد كياناتهم الاستبدادية، بل ربما تزينها وتعطيها الشرعية.
إذاً ينبغي إعادة الوصال بين العلم وبين الواقع، وإعادة الوظيفة الاجتماعية للعلم فهو ليس للزينة والألقاب الفارغة، وليس للجدل في قضايا نظرية أو قضايا تاريخية لم تعد معرفتها تفيد أهل هذا الزمان في شيء، بل إن وظيفة العلم هو الأخذ بيد الأمة لاستئناف مشروعها الحضاري، وتقديم حلول عملية للمشكلات الواقعية التي نعايشها.
ولنتذكر دائماً حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع".
والله أعلم..