لقد ترك الفن التشكيلي أثره العميق في السينما، وفي كل الأفلام، سواء تعلق الأمر في بناء ديكورات الأفلام، أو في تناول حياة الفنانين، وأن السينمائيين ذوو الرؤية التشكيلية العميقة التذوق نحتوا أفلاماً يمكن اعتبارها محطات في تاريخية العمل السينمائي، وبالتالي فالتشكيل ساعدهم على تعميق التفكير في الصورة دون الاستغاثة بالحوار للتواصل مع المتلقي، ودفعهم الى التفكير فيها سواء كعلامات تواصلية من جهة أو كإمكانية لإشراك المشاهد في النظر الى العمل السينمائي بتنشيط قدراته الذهنية والاستقبالية ليصير شريكاً في عملية إنتاج فهم مفتوح للعمل، ومساعداً له على إثراء مخيلته البصرية بما يملكه من تراكم للصور والأيقونات بذاكرته. ويحرره من البقاء أسير الرؤية الوحيدة للمعنى التي تنتجها بصفة عامة السينما التجارية، حيث تتأسس على افتراض بلاهة المتفرج وعلى تقديم إجابات قد تبدو منطقية غافلة عن غنى كل مكونات بناء المشهد الفيلمي وساخرة من ذكائه في قراءة العمل الفيلمي.
ويبدو التمفصل بين التشكيل والسينما حاضراً بقوة من خلال تأثير الفن التشكيلي في مخيلة السينمائيين، وكما تؤكد خلاصة الناقد الفرنسي جاك .اومون في كتابة "العين الشاسعة"(1989)، بـ"أن اللقطة العامة المصنوعة كما في التشكيل موجهة بصفة خاصة لتكون مشاهدة في السينما"، وأن هذه "اللقطات العامة الحاضرة لمئات السنين في الأعمال التشكيلية المعلقة على الجدران شوهدت وتشاهد في ظروف مادية أكثر ثباتاً منها عن مشاهدتها في السينما، ذلك أن اللوحة شوهدت وتشاهد بحرية أكثر ومن مسافة متوسطة وتحت إضاءة لا قوية جداً ولا ضعيفة.. وبالتالي فالتشكيل والسينما يمتلكان خصائص مشتركة، وهي جعل المشاهد يرى الصورة كمنظر عام. غير أن النص السينمائي يتميز بالضوء: ورغم وجود متاحف أكثر قتامة وقاعات السينما أكثر إظلاماً الا أن الوضعية الطبيعية تسمح بدون أي شك التمييز بين الإضاءة المرسلة والتي هي الفيلم، والمساحة المغطاة بالصباغة والتي هي اللوحة.
واللوحة تتميز بحضور الزمنين بطريقتين، الأولى اللحظة الفضلى لإنتاجها، والثانية لحظة المشاهد، وهي المدة التي نخصصها لمشاهدة العمل والتأمل فيه، وهنا يتعلق بفترة المعاينة، حيث تستكشف العين مساحة المشهد، ويتميز زمن المعاينة بالمشاهدة الخاطفة، الهاربة التي لا تتمثل الألوان المتراكمة، والأنوار الحية والتباينات الجذابة، أو بالمشاهدة التأملية التي تنفلت لكل تسرع، وتصير مشاهدة موجهة، حيث يقترب المشاهد من العمل كأنه نص أو تناص ثقافي. وفي هذه الحالة تتدخل الرموز من كل صوب، وهنا يتلاقى زمن المشاهد مع زمن اللوحة ويصيران متمفصلين يسمحان بالإعلان عن وجود علاقة تفاعل".
ورغم أن مشاهدة اللوحة ومشاهدة الفيلم، تتميزان بالزمنين، فالزمن الخاطف هو زمن متشابه بين الاثنين، بينما الزمن التأملي هو ميزة اللوحة، غير أن المدارس الأسلوبية التي سيشهدها تاريخ الفن، إلا أن التشكيليين غالباً ما سكنتهم الرغبة في إنشاء صورة تعكس الزمان وتمنح لنا الإحساس بالحركة، وإذا كان سؤال الزمن بلحظاته هو سؤال الحركة "الانطباعية" أو "التأثرية" كما يسميها البعض، فإن سؤال الحركة كان هو المؤسس في عملية نشوء السينما، فإنه بالنسبة للتشكيلي بقي سؤال التحدي، وهكذا نجد أعمالاً فنية حاولت رصد جمالية وعنف الحركة داخل اللوحات، سواء أكانت تلك الحركة حركات أطفال أم حيوانات، وبالتالي حول الفنان سؤاله من جعلنا نشعر بالحركة إلى تخليد تلك الحركية فوق العمل، وحيثما تأسس الرسم على السكون، فإن الرغبة في أن يخترق المبدعون هذا الثبات بقي حلمهم.
واذا كانت السينما قد حققت للإنسان الفنان هذا الحلم، فهو إنما تم عن طريق المونطاج، الذي سمح للسينمائي بتغيير المشهد، وساعده على تحقيق السرد سواء عن طريق التغيير الفجائي أو مكنه من إنشاء زمن جديد هو زمن الفيلم، كما منحه القدرة على تحقيق الاقتصاد في اللغة الفيلمية، فإن هذه القدرة الهائلة للسينما ستحرر الفنان التشكيلي من التحرر من أسر المنظورات الكلاسيكية، وبالتالي أصبح سؤال التشكيلي هو كيفية إعادة بناء خلق اللغة التشكيلية من جديدة، وهذا ما فسح المجال أمام التصورات الإبداعية الجديدة، التي سعت إلى إحداث رجة في الجهاز الاستقبالي لمتلقي اللوحة بشكلها التقليدي. وهنا برزت تقنية "الكولاج" كنوع من التركيب بين المواد المستعملة من جهة في انجاز لوحة، والتركيب بين المشاهد من جهة ثانية، وإذا كانت الثانية قد شهدت ميلادها على يد الفنانين عندما بدؤوا يفتحون النوافذ داخل أعمالهم لتكون تلك النوافذ مشرعة على مشاهد أخرى، تمنح الإضاءة للوحات في حالة الألوان الغامقة، أو تساعد المشاهد على الإحساس بتركيبية المشاهد، وتخبرنا عن وجود عوالم اخرى دون البقاء أسيرين بناء تلك العوالم بخيالاتنا فقط.، فإن هذه شكلت ما يمكن اعتباره اللامقول في المتن البصري، والخفي في الدفع بتقنية الكولاج الى الأمام. والكولاج في اللوحات الجديدة يماثل المونطاج في لعملية الفيلمية. إذ أنه "إدخال عدة تمثلات في نفس الصورة". وسواء أكان البحث بإدخال المواد المختلفة "أو بتركيب عوالم اللوحة يتحكم فيها ما يمكن تسميته بالفكرة القائدة الكامنة وراء انجاز العمل. وستكون حركات التكعيبية والمستقبلية هي الشهادة على تطور الفن التشكيلي بعدما أثبت السينما حضورها، وفرض على التشكيلي التخلي عن الأسئلة التي أشرنا إليها والمتعلقة بمشكلتي الزمن والحركة.
والتمفصل الآخر بين اللوحة والمشهد الفيلمي هو الكادر.
وقد برز هذا التمفصل في تجارب السينمائيين الذين اشتغلوا على انجاز أشرطة تتناول حياة الفنانين، وخاصة عندما آثار السينمائي سؤال السرد أثناء سعيه إلى أن تصير عملية متابعة انجاز اللوحة وكأنها ليس فقط عملية توثيق للحظات إنتاج اللوحة، ولكنها حاملة لخطاب قائم على رصد حركية جسد الفنان من جهة وقدرة إبداع الألوان على منح المشاهد الفيلمي فرصة المساءلة، ماهي مدلولات العلامات التي ترصدها الكاميرا وكيف تحمل قولها وتنقلها له كسارد.
وهكذا فالشريط ينجز ثلاث عمليات 5 السرد (وضع اللوحات بعضها جنب بعض) واستعراضها مثلما تستعرض واجهة عمارة أو فندق، في المشهد الاول، ثم استعراضها لوحة لوحة كما لو أن الكاميرا تقدم لنا واجهة الفندق شرفة، ثم التوقف أمام إحدى الشرفات/ اللوحات لتتحرك العدسة عارضة علينا مكونات تلك اللوحة. فاستعراض التقابل بين اللوحات كما لو أن الكاميرا تقدم لنا سيرة ذاتية للفنان عبر لوحاته، وعملية هذه يمكن اعتبارها فعل "تسنيم" كعملية إفراغ لكل ما هو تشكيلي لتحويله إلى سرد فيلمي.
ولقد انتبه إلى ذلك الناقد السينما اندريه بازان، إلى هذه العملية من حيث لاحظ تشابه الكادر واللوحة باعتبارهما إطار للمكون البصري، فإن التمايز أساساً هو أن ما يحده إطار الكادر السينمائي يحمل معه دائماً ما هو الخارج على الإطار، بينما اللوحة كل عالمها إطارها، وأنه على عكس تميز الإطار السينمائي بإقصاء العناصر الأخرى لأن المخرج يريد أن يفرض علينا اختياره وسؤاله "الآن أريدكم أن تشاهدوا هذا، والآن أريدكم أن تشاهدوا هذا... بينما الإطار لدى الفنان التشكيلي يحكمه سؤال آخر راجع لمجاله، يحكم أن الفنان يثير اهتمامنا إلى كونه ينبه شرودنا إلى ضرورة الاهتمام يما يريد حملنا على مشاهدته، ومن هنا ودون الدخول في مقاربة الموضوع من وجهة تأثير التشكيل على الإطار السينمائي، فإن الرغبة تكم في مساءلة وعي التشكيليين بأجوبة الإطار السينمائي واقتراحهم أسئلة جديدة، خاصة وأن ظهور السينما – ومع التطورات الرقمية – وضع حداً لرغبات الفنانين القدامى، وخلق مشاكل جديدة أمام الفنانين الجدد، علماً أن أدوات التشكيلي يتحكم فيها اللون والصباغة بالنسبة للرسام والأزميل والمواد الأخرى بالنسبة للنحات، بينما يبقى أمام الفنانين الذين اختاروا الابداع بواسطة تقنية الفيديو- آرت او "الانسطالاسيون" (التركيب) إمكانية أخرى تقترب بهم من عالم السينما، وبالتالي فما هو تميزهم عن السينمائي، وحفاظهم على خصوصيتهم التعبيرية.
ومن هنا فإن سؤال التمفصل بين المجالين، يهم كل الفنانين وليس فقط أولئك الذين تعاطوا للإبداع في الحقلين فقط، وهكذا ستصبح أمام التشكيلي أسئلة جديدة، تتجاوز عملية الإبهار في إعادة خلق الواقع كما حدث لمجموعة من الفنانين الذين بقوا أسيري تمثل الواقع باعتباره المرجع للوحة المنجزة، ليثار السؤال أي فن أصبح يفرض علينا بعدما قدمت إجابات لقضايا أثيرت على الفنانين في المراحل التي سبقت ظهور الفانوس السحري، خاصة وأن "التمثل السينمائي يتأسس على واقع موجود سلفاً، بينما التمثل "اللوحاتي" ابتعد عن موديله، رغم التقارب الذي يبدو كمرحلة أولى فيما نسمة "بالتمثل المسرحي"، والذي يتميز حسب الناقد جاك اومون بعمليتين، الأولى تحويل نص إلى مجموعة من الأدوات والحواديت المادية، والثانية جعلها مشاهدة من قبل المتفرجين، في علاقتها بالمكان"، وبالتالي إعادة انتاجها كماضي تحقق أثناء تصوير الفيلم، وكما قال ايريك رومر: "كل فيلم هو شريط وثائقي".
وهذا التمثل في الأعمال التشكيلية هو شبيه بعملية إخراج مباشر وحاضر على سطح اللوحة، وبالتالي لا تصير اللوحة سارد لوقائع تحققه، ولكنها متمثلة لنص يثبت وجوده ويعلن عليه أمام العين مباشرة، وبالتالي فهو ليس حكاية عما حصل، ولكنه معلن عما هو متحقق الآن وفي حضورنا، ويدعونا إلى تمثله ومحاورته، وكأنه يحدثنا ولا يكف عن كشف أسراره لنا متى اعتبرنا العمل الفني متحدثاً خاصاً، بأدواته وبلغته بمكوناته وألوانه، بعناصره وإضاءاته طبعاً.
وسؤال اللون والشكل يبقى متميز بحضوره القوى في اللوحة بينما، في التجربة السينمائية لم يعد هاجس سوى السينما التي تسمى سينما الفن والتجربة، وبالتالي فالعمل الفني ينتج هذا السؤال من مواده ومن لغته، وهو لا يستعيرها من مجالات أخرى، وبالتالي فمختلف الوظائف التعبيرية تنتجها كجزء من بنائها، وبالتالي فقضايا الإضاءة، وعنصر الحدث والعمق في اللوحة أصبحت وظائفها جمالية، ومن خلال ثباتها أنشأت حكايتها، وتسردها عليها سواء أكانت اللوحة تشخصية أو تجريدية، فهي تتوقف عن أن تكون عملاً إبداعياً عندما تعجز عن إنشاء كل الوظائف المتعددة التي هي سهلة التحقق في أنماط التعبير الفنية الأخرى، ويبقى اللون وعنصري الضوء والظل هما أساس اللغة البصرية للأعمال الفنية، بحيث تعرضهما كعناصر تقابل وتركيب تغطى سطح العمل، وهي عبر الوعي بأدواتها وموادها تخرج لنا إبداعيتها. ومن هنا تتحقق الإضافة التي فرضها الأثر السينمائي على المجال التشكيلي، وفرضت على التجارب لتكون أصيلة وتساهم في بناء معرفة بصرية جديدة، وأن تثير أسئلة التمفصل، وأن يعيد التشكيلي بناء رؤية جديدة للفن إذ أنه في اللوحة كل شيء منبعث منها، لأنها مصدره.