تقديم:
الثابت في التاريخ أنّ المشروع الحضاري لدى الفرد والجماعة يقترن أساساً بموقف حضاري ويتضمنه، فالمشروع الحضاري يقوم في التاريخ ويُنجز في أحقابه، والموقف الحضاري هو الوعي التاريخي داخل المشروع الحضاري، والمشروع الحضاري رسالة تؤدى، ومسؤولية تُنهض، وأمانة تُبلّغ مادتها وصورتها، وإستراتيجية محكمة في أسسها ومساراتها وغاياتها. والموقف الحضاري الذي يتخذه الفرد وتتخذه الجماعة دستوراً لها يعالج الحاضر ويبني الحضارة ويحرك التاريخ ويصنعه، فلا حضارة ولا تاريخ ولا تغيير في غياب الموقف الحضاري الذي يقتضيه المشروع الحضاري القومي.
الموقف الحضاري الراهن في المجتمع العربي والإسلامي مرتبط بظروف هذا المجتمع وبثقافته في الحاضر وفي الماضي وبمستقبله ومصيره، وهي ظروف وثقافة كلّها أزمات ومشكلات تقوّي التخلّف والتشرذم وتمنع الإبداع الحضاري والتوحّد وسائر القيّم النبيلة التي عرفها آباؤنا وأجدادنا فكانوا بذلك مصدر فكر وعلم وازدهار في جميع جوانب الحياة استنارت بذلك ثقافات وحضارات أخرى.
الموقف الحضاري في مشروع 'التراث والتجديد' عند 'حسن حنفي' "ذو أبعاد ثلاثة تُعبر عن ضرورته ولا حيلة لأحد فيه. ولا يمكن تغييرُها، ولا يمكن تغافلها وإلاّ كانت الفلسفة بغير موضوع وبغير وطن."1 البعد الأول هو بعد الماضي وهو الموقف من التراث القديم لأنّ المجتمع العربي الإسلامي مجتمع تاريخي تراثي، يعيش على الماضي، سلوكه مستمد من القديم ولا يوجد انفصال بينه وبين ماضيه. والبعد الثاني هو الموقف من المستقبل أي الموقف من الغرب الذي أصبح بفكره وثقافته وحضارته يكوّن مصدراً ورافدا من مصادر وروافد وعينا القومي ومشاريعنا الحضارية وبالتالي لموقفنا الحضاري، وهذا ليس بجديد فقد كان الآخر حاضراً دوما في الموقف الحضاري بالنسبة للأنا، "لم تحدث بيننا وبينه قطيعة، إلا في الحركة السلفية، ولم تقم حركة نقد له إلا في أقل الحدود وبمنهج الخطابة أو الجدل دون منهج النقد ومنطق البرهان."2 أما البعد الثالث فهو الموقف من الحاضر وهو موقفنا من الواقع الذي يحتوينا ونحتويه بقصد أو بغير قصد، بشعور أو بلا شعور، فهو باعث على المعرفة ومحدد للاختيارات. و"الموقف الثالث وحده هو الذي يتعامل مع مادة المعرفة الخام دون إدراك مسبق أو تنظير جاهز سواء من القدماء أو من المحدثين."3
في الغالب يكون الموقف الحضاري ذو الأبعاد الثلاثة يفتقد التوازن، فقد يتغلب البعد الأول، بُعد الماضي والتراث، فتسيطر الثقافة الدينية والحركات السلفية والتعليم التقليدي والدعوة إلى المحافظة على التراث فكراً وسلوكاً في حياة الفرد والجماعة. وقد يتغلب البعد الثاني، بُعد الآخر وثقافته وحضارته، فتسيطر الثقافة العلمية العلمانية والحركات التحديثية، والدعوة إلى التغريب. وقد يتغلب البعد الثالث، بُعد الحاضر أي بعد الواقع ذاته، فتنشأ الثقافات الشعبية وحركات التغيّر الاجتماعي، وفقدان التكافؤ في الحضور لدى الأبعاد الثلاثة للموقف الحضاري هو "الذي يسبب فقدان وحدة الشخصية ويجعلنا نعيش في 'فصام نكد' فتتضارب الثقافات ومناهج التعليم والمذاهب السياسية، ويُقضى على الوحدة الوطنية في الممارسة وعلى الشخصية القومية في النظر."4 وقد تندمج الأبعاد الثلاثة بعيداً عن اللاّتوازن وعن الانفصال لأن الموقف الإيجابي من التراث القديم ومن التراث الغربي قد يقوم بسبب موقف آخر سلبي، وفي الغالب يكون الموقفان المتعارضان سلبيين بالنسبة للواقع والموقف الذي يكون إيجابياً من الواقع يكون إيجابياً بالنسبة للموقفين الآخرين من التراث ومن الآخر فالأولى المصلحة والإنسان والحضارة.
التثوير في الموقف الحضاري في مشروع "التراث والتجديد" هو أحد أشكال الثورة في الميدان الفكري والثقافي، ميدان فكر النخبة، بدأ مع انطلاق مشروع "التراث والتجديد" في التخلّق والتكوين، وظهر بعد وضوح ملامح وغايات المشروع، وتضمنته ثلاثية الموقف الحضاري في المشروع، الموقف الحضاري من التراث والماضي، ومن المستقبل والآخر والوافد، ومن الحاضر والواقع. للإحاطة بطبيعة التثوير كشكل من أشكال الثورة في مشروع "التراث والتجديد أطرح ثلاثة أسئلة رئيسية وأناقشها:
السؤال الأول: بما يتحدد كل بعد في ثلاثية الموقف الحضاري؟ ولماذا؟
السؤال الثاني: ما طبيعة التثوير في كل طرف من أطراف ثلاثية الموقف الحضاري في مشروع "التراث والتجديد"؟
السؤال الثالث: ما علاقة التثوير في مشروع التراث والتجديد بالثورات العربية الراهنة؟
1- مفهوم التثوير
ترتبط لفظة "تثوير" بلفظة "ثورة"، وكلمة الثورة لها عدة مفاهيم وتفسيرات, الثورة في اللّغة العربية أتت من الثأر واستخدام العنف والرغبة في الانتقام لقلب الأوضاع وتغييرها، إما نحو الأحسن أو نحو الأسوأ, وتتجلى الثورة في عدّة أشكال تكون فكرية وثقافية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو علمية، وقد تجتمع هذه الأشكال في ثورة واحدة تكون عامة وشاملة مثل الثورات الأوربية التي أنجبت النهضة الحديثة وحضارتها. الثورة في معناها السياسي التاريخي قيام الشعب باعتباره مصدر السلطة وأساس شرعية الحكم والحاكم بقيادة النخب المثقفة لتغيير نظام الحكم بالقوّة. وربط الماركسيون هذا المفهوم بتعريفهم للنخب المثقفة بالطبقة العمالية وقياداتها، الطبقة المعروفة "بالبروليتاريا" التي تضطلع بالثورة لقلب الأوضاع في المجتمعات الرأسمالية فتقضي على الطبقة البرجوازية وعلى ظاهرة فائض القيمة والاستلاب والاغتراب وتحقق العدالة الاجتماعية. أما في عصرنا فالثورة تعني التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال ما يملك من وسائل كالقوّة المسلحة أو بواسطة شخصيات تاريخية للحصول على آماله وتطلعاته لتغيير نظام الحكم العاجز عن تلبية هذه الآمال والتطلعات.
والمفهوم الشائع للثورة لدى الشعوب المعاصرة هو الانتفاضة في وجه أنظمة الحكم الشمولية والمستبدة والتحرك للإطاحة بأي حاكم طاغي يمارس الظلم والاستبداد والقمع تحت أي مظلة كانت كالدين أو النظام والأمن أو غيره، وتكون الثورة شعبية مثل الثورة الفرنسية عام 1789 وثورات أوروبا الشرقية عام 1989 وثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقالية في نوفمبر 2004 وقد لا تكون الثورة شعبية بل عسكرية مثل الانقلابات التي سادت أمريكا اللاتينية في حقبتي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، وتكون الثورة عبارة حركة مقاومة ضد المستعمر مثل الثورة الجزائرية (1954-1962) وسائر الحركات التحررية من الاستعمار حديثا ومعاصرا.
وللثورة معان أخرى لا ترتبط بالمجال السياسي أو والاجتماعي مباشرة بال بالتطورات الكبيرة التي تشهدها العلوم بنوعيها النظرية والتطبيقية وبالازدهار الهائل الذي يعرفه ميدان تكنولوجيا العمل في الطبيعة والسيطرة عليها و تسخيرها لخدمة حاجا الإنسان وتحويلها من صورة غير نافعة إلى صورة نافعة، وكذلك في مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال والإشهار أي ما يُعرف بصفة عامة بالثورة المعلوماتية والتكنولوجية.
والثورة سواء كانت شاملة أو محدودة وخاصة بمجال بعينه فإنّها فعل إنساني اجتماعي له أسس ومنطلقات ومسار وأهداف، مسعى يقوم على عدم الرضا والرفض والغضب لقلب الأوضاع القائمة وتغييرها من حال الضعف والتخلف والقمع إلى حال يُفترض أن تشهد القوّة والتقدم والعدل والمساواة وسائر قيّم الخير في حياة الفرد والجماعة، ويستخدم مسعى الثورة وسائل شتى وأساليب متعددة تبعا للظروف التاريخية الاجتماعية والثقافية والجغرافية التي تجري فيها الثورة، وتبعا لمستوى الوعي التاريخي ودرجة الموقف الحضاري في المشروع الاجتماعي الثوري، وكل مشروع اجتماعي ثوري بما يتضمنه من موقف حضاري له ما يُضاده ويسعى إلى كسره وإفشاله، قوته تكمن في قدرته على المقاومة والاستمرار والدوام، ومصادر هذه القوة نابعة أساسا من نجاح فعل التثوير الذي هو روح الثورة، تثوير القوى المتاحة لدى المجتمع لتتحقق الثورة وتحقق أهدافها.
التثوير باعتباره جوهر الثورة وروحها، يرتبط بسياقها التاريخي الاجتماعي والثقافي والجغرافي الذي تجري فيه، وبالمشروع الحضاري الثوري، وبالموقف الحضاري في أبعاده المختلفة، التاريخية الزمنية متمثلة في الماضي والحاضر والمستقبل، والتاريخية الاجتماعية متمثلة في جميع جوانب الحياة على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع.
فالتثوير يمثل أيّ حركة أو فعل أو نشاط لدى الإنسان على مستوى الفرد أو الفئة أو المجتمع، يستثمر مقدّرات الإنسان وطاقات الطبيعة وكل القوى المتاحة جزئيا أو كليا، يبعث فيها الحركة لتتغير وتتبدل وتتحول، فتصبح قادرة على تغيير وتبديل الظروف والأوضاع المختلفة من حال فيها الضعف والنقص والتخلف إلى حال أخرى تكون عامرة بالقوّة والازدهار والتطور والتحضر. واستثمار الإنسان لقوى العقل وتحريكها في اتجاه بناء المعرفة وتطويرها باستمرار حول مختلف الموضوعات والمجالات هو تثوير، ويمثل أساس الثورة في الفكر والثقافة والعلوم والفنون وغيرها. واستثمار الفرد في المجتمع لسائر قواه الذاتية الفكرية والبدنية في سبيل التخلص من الجمود والركود نحو العمل والجد والاجتهاد والمبادرة هو تثوير يستهدف التحلي بروح المبادرة والتفوق على الأنانية في سبيل النهوض الاجتماعي الذي لا يتم في انعدام حضور التثوير وممارسته بإيجابية.
واستثمار سائر طاقات وإمكانات المجتمع من علاقات إنسانية وقيّم أخلاقية ودينية وسياسية واقتصادية وعلمية وعملية ومادية ومعنوية وغيرها، وبعث ما تنطوي عليه هذه القوى من عناصر قوّة ومنعة ودوام، وتحريكها وتفعيلها وترشيدها في اتجاه تنمية المجتمع وتطويره وتخليصه من عوامل الضعف والانحطاط، هذه الصورة التي يأخذها التثوير تمثل أساس البناء التاريخي وشرط الازدهار الحضاري، فعلى مرّ التاريخ لم تقم حضارة حتى الآن بمنأى عن القوامة الحضارية التي ينتجها التثوير بالمعنى الاجتماعي.
فالقوامة الحضارية وما تنطوي عليه من عناصر فعّالة ودينامكية يمثلها التثوير ذاته باعتباره حركة دءوبة مفعمة بقوّة التغيير والتحوّل وبالقدرة على التفجّر متى سمحت الظروف بذلك، الظروف الذي يوفرها الإنسان بعد وجدّ واجتهاد في النظر والعمل، ففي مجال صلة الإنسان بالوسط الطبيعي الذي يعيش فيه أخذ التثوير طريقه في التعاطي مع الظواهر الطبيعية المختلفة تفسيرا واكتشافا لقوانينها، ولم يقف عند هذا الحد بل تجاوز تثوير الطبيعة باستخدام الطبيعة كما هي من دون تغيير وتجديد وبلغ التثوير درجة الاختراع، حيث ثوّر الطبيعة لتتحول إلى منتجات إبداعية صناعية في مختلف ميادين العمل ووسائله وغاياته، وحلّت الآلة الصناعية محل الإنسان لخدمة مصالحه وتحقيق أغراضه فاقتصد في الجهد وسيطر على الزمان والمكان وتحكّم فيهما، وحقق التثوير الثورة الصناعية في مجالات الزراعة والتجارة والنقل والخدمات والبحث العلمي وغيره، وأصبحت التكنولوجيا وسائر التقنيات من نتائج الثورة العلمية عامة، أي الثورة في العلوم التطبيقية والثورة المعلوماتية والتكنولوجية، وكان للثورة المعلوماتية الأثر البارز في تغيير ظروف الحياة وقلبها رأسا على عقب بعدما غيّرها اقتحام التكنولوجيا عالم الإنسان واستحواذها على دنياه قبل ذلك.
فالتثوير كفعل وكحركة لموضوع ما في مجال ما ونحو هدف ما يحدث على مستوى العقل والذات والمجتمع والطبيعة، في اتجاه التغيير والتجديد التاريخيين الاجتماعيين الحضاريين، هو أمر من نصيب الإنسان وحده دون غيره، لما يتميز به من خصوصيات ويتفرد به من تكريم إلهي جعله يتبوأ خلافة الله على الأرض. يقترن التثوير بالثورة في مستواها الإيجابي أو في مستواها السلبي باعتبارها مشروعا تاريخيا اجتماعيا حضاريا يتحقق متى تمّ واكتمل واكتملت شروط تنفيذه، المشروع التاريخي الاجتماعي الحضاري ينطوي لا محالة على موقف حضاري، جوانبه وأبعاده ومعالمه وأسسه ومناهجه وأهدافه محددة مضبوطة، هو الأمر بالنسبة للمشروع الحضاري الإسلامي الثوري بعد مجيء الإسلام، وقبله المشروع الحضاري اليوناني والروماني، وبعد ذلك المشروع النهضوي الأوربي الحديث، وكذلك الأمر بالنسبة لمشاريع النهضة العربية الحديثة والمعاصرة ومشاريع الثورات العربية الراهنة التي هي في طور الإنجاز وقيد التحقق، فكل موقف حضاري ينطوي عليه مشروع حضاري إلا ويقوم هذا الموقف الحضاري في أصوله ومساره ومنتهاه على التثوير الذي ينتهي بالثورة على القائم واستبداله بغيره مما يتجه فيه الموقف الحضاري ضمن المشروع الذي ينتمي إليه، وهذا ما يصدق على مشروع "التراث والتجديد" في أيامنا.
2- التثوير والموقف الحضاري
لكل مشروع حضاري في المجتمع موقف حضاري يمثل الدرجة التي بلغها الوعي التاريخي في الزمان والمكان، من حيث الفهم والتفسير والتنظير والتغيير، في التعاطي مع الواقع والحياة من خلال الماضي والحاضر والمستقبل، ويتجلى ذلك بوضوح في إنجازات ومنتجات حضارية يحفظها التاريخ وتتناقلها الأجيال، يمكن قراءة ذلك من خلال الحراك التاريخي عبر الزمان والمكان.
فالحضارات الشرقية القديمة وما انطوت عليه من تجديد وإبداع في النظر والعمل، وما أنتجته من ثقافات ومعارف وتراث مادي، كل ذلك مازال محفوظا في ذاكرة الإنسان وفي المكان، يعكس بقوّة وبعمق وبكفاية مدى حاجة الإنسانية في أفرادها وجماعاتها إلى التغيير والتجديد، ويدل على أنّ التغيير والتجديد من صنع التثوير ومن إنتاج الثورة، كما يؤكد ارتباط التثوير والثورة بتوجه واعي وبمسار محدد في الأصول والمنهج والأهداف وبمنطق في الفكر والسلوك وفي تدبير شؤون الحياة عامة، يقوم هذا المنطق بالخوض في تحدّيات العصر وحلّ مشكلاته وبالتصدي لهموم الفكر والوقع وضبط العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، كل ذلك يجري في سياق فكري ومنهجي وفلسفي يعكس موقفا حضاريا ينطوي عليه مشروع حضاري لا حيلة من دونه في السعي نحو الحراك الاجتماعي والتجديد الحضاري والبناء التاريخي.
وكان وراء الحراك الحضاري اليوناني القديم العريق الذي تميّز بالأصالة والإبداع - الفلسفي الفيزيقي والميتافيزيقي، المثالي الأفلاطوني والواقعي الحسي الأرسطي، ووراء الصراع السفسطائي السقراطي بين قوى العلم والخير والحق والجمال من جهة وقوى الجهل والشرّ والزور والقبح من جهة ثانية - الفعل التثويري صانع الثورة ومحرك التغيير، المنتهي إلى حضارة عريقة أخذت من سابقتها وأعطت للحضارات اللاحقة، وتمثل الأصول الأولى لكل حراك حضاري لاحق، خاصة في جانب الفكر الفلسفي النظري والميتافيزيقي، ولم يخل الحراك الحضاري اليوناني ومحرك التثوير فيه من الموقف الحضاري في المشروع الحضاري الفلسفي والمنهج المنطقي النظري جزء منه.
بعد الحراك الحضاري الشرقي القديم والإغريقي شهد تاريخ الإنسانية حراكا حضاريا دينيا إسلاميا تفوّق في أمده وفي مداه الفكري والاجتماعي والعسكري، وجمع بين النص والواقع وبين النظر والعمل وبين السياسة والأخلاق وبين الدين والدولة وبين الدنيا والآخرة وبين الفرد والجماعة وبين السماء والأرض من غير تناقض وفي وفاق ووئام، فكانت حقّا وفعلا تجربة نموذجية عملية جسّدت التثوير والثورة من منطلق المشروع الفكري الديني الاجتماعي الحضاري الموقف الحضاري فيه معتدل ومتوازن حقق القوّة مع الرحمة، والإيمان بالله في إطار عقيدة التوحيد، فانتصر موقف التوحيد على مواقف الشرك والكفر والعصيان، وتجسّد ذلك في دولة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وما إن انقلب الموقف الحضاري إلى مشروع تكالب على السلطان والمصالح الخاصة حتى انهارت التجربة الحضارية الإسلامية وبقي المسلمون يعانون الانحطاط والتخلف حتى الآن ولم يتمكّنوا من النهضة والتقدم.
تأثرت التجربة الحضارية الإسلامية بالمنظومات الحضارية التي سبقتها في الشرق القديم وفي الغرب الأوربي اليوناني، كما أثّر المشروع الحضاري الإسلامي وموقفه الحضاري المتميز في صورته ومحتواه في ما شهده الغرب الحديث من إصلاح ديني وسياسي ومن نهضة علمية وثورة صناعية قلبت موازين الحياة في العالم، اكتسحت قيّم الموقف الحضاري الغربي الحديث ثقافات مختلف شعوب العالم، ورافقتها توجّهات متعددة سياسية ودينية وعرقية وعنصرية وغيرها، وأخذت القيّم الحضارية في الغرب الحديث طابعا شموليا أمميا واكتسبت الصبغة العالمية، وصارت عنوانا للتقدم والازدهار والحضارة، وهي قيّم الحداثة والتحديث، متمثلة في العقلانية والديمقراطية والعلمانية والعلمية وما رافقها من تحديث في وسائل العمل وفي الإنتاج ووسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج وقطاعاته المختلفة، من خلال تطور والتقنية والصناعة وازدهار العلوم التطبيقية وتطوّر الاقتصاد وتحسّن مستوى المعيشة في الدول المتقدمة، وعندها صار التقدم الغربي مطلب كافة الشعوب المتخلفة في العالم، وصار مشروع الحداثة والتحديث والموقف الحضاري فيه سبيل كل أمم العالم، مشروع الحداثة والتحديث الذي هو في نهايته بعد قرون، وأصبح الحديث فيه عن ما بعد الحداثة وعن نهاية التاريخ وخاتم البشر، مازالت بعض الأمم ومنها الأمة العربية الراهنة تتوق إلى تبنّي الموقف الحضاري الحداثي التحديثي ولم تنطلق فيه بعد.
وطرح مفكرو النهضة في العالم العربي والإسلامي الحديث السؤال التالي: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ في سياق طرح المشروع الحضاري وبيان الموقف فيه، فانقسم الموقف الحضاري العربي الإسلامي الحديث إلى تراثي وعلماني وانتقائي: سلفي ثوري تثويري للتراث في وجه التغريب والعلمانية وسائر قيّم الحداثة وكل ما هو جديد مصدره الغرب، وانقسم هذا الأخير إلى سلفي جهادي وتكفيري وسلفي غير جهادي وغيره. وبفعل الاستعمار المسلّح والثقافي واحتلال الأرض واستعباد الإنسان وتأثير منتجات الحضارة الحديثة الفكرية والمادية البرّاقة والمغرية قام الموقف العلماني التغريبي، وهو موقف ثوري تثويري لثقافة الحداثة والغرب الحديث في السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها في وجه كل ما هو قديم وتراثي سلفي. وأمام هذه الثنائية في الموقف الحضاري ثنائية السلفي والعلماني، قام موقف ثالث انتقائي توفيقي، يحرص على انتقاء المشرق من التراث والمشرق من الوافد ويجمع بينهما، ولم يكن التعدد في الموقف الحضاري على سبيل الندّية الخيّرة والثراء الإيجابي والتعاون والتكافل والاحترام المتبادل من خلال الأخلاقية الحضارية، بل كان ولا يزال يحكمه الاختلاف المدمّر والصراع المسلّح القاتل والجدل الهدّام والتعصب المُقصي للآخر، لا المشروع السلفي نجح لكون الأمة العربية والإسلامية تراثية تاريخية، ولا المشروع العلماني نجح لكون حضارة الغرب الحديث والمعاصر فرضت نفسها بقوّة منتجاتها المغرية أو بقوّة الحديد والنار والاستعمار الذي اتخذ أشكالا عدّة، ولا المشروع الانتقائي التوفيقي نجح بحكم جمعه بين التراث والوافد.
يعود إخفاق الموقف الحضاري العربي والإسلامي الحديث والمعاصر في بلوغ أهدافه على الرغم من تنوعه وثوريته وتثويره حسب مشروع "التراث والتجديد" إلى الفشل في تثوير التراث وتحريكه نحو الإسهام الإيجابي في النهضة من خلال إعادة بنائه، وإلى عدم التعاطي مع الواقع بإيجابية من خلال إيجاد نظرية محكمة لتفسير الواقع، والقبوع في التفسير السلفي الذي تجاوزه العصر والواقع أو التقوقع في التفسير العلماني البحت الذي يرفضه الواقع التراثي التاريخي أو الاكتفاء بالتفسير الانتقائي التعسفي من دون منظور محكم يفسر الواقع، كما يرتبط الفشل في الموقف بغياب الموقف القويم الرشيد من الآخر والوافد، فلا واحد من المواقف الثلاثة استطاع أن يفلت من عقال الضعف والإخفاق في تصور الأنا وتصور الآخر وإدراك العلاقة بين الاثنين، بعيدا عن التغريب المذيب للأنا أو عن تضخيم الأنا المنهي للآخر والمتجاهل ظلما وتعسفا لدوره وتأثيره أو عن مجرد محاولات التوفيق بين الأنا والآخر بين التراث والوافد من دون وعي حضاري بحجم وكم وكيف العلاقة بين الأنا والآخر، لأنّ المستقبل يكون مشرقا أو مظلما تبعا للموقف الحضاري من العلاقة بين الأنا والآخر ونحو الواقع والحاضر وتجاه التراث والماضي.
أمّا الموقف الحضاري في مشروع "التراث والتجديد" مرتبط بأحوال المجتمع العربي الإسلامي وبالمشكلات والتحدّيات التي تواجهه في عالمنا المعاصر، التي تعكس حالة من التخلف والتشتت والتأزم وغياب الإبداع، ويتأسس على الثلاثية في الأبعاد التي تمثل الجبهات الكبرى التي يشتغل فيها المشروع ككل، بعد الماضي ويمثل جبهة الموقف من التراث القديم، وبعد المستقبل ويمثل جبهة الموقف من المستقبل والعلاقة مع الآخر، أما البعد الثالث فهو الموقف من الحاضر ويمثل موقفنا من الواقع.
في الغالب يكون الموقف الحضاري ذو الأبعاد الثلاثة يفتقد التوازن، فقد يتغلب البعد الأول بُعد الماضي و التراث فتسيطر الثقافة الدينية والحركات السلفية والتعليم التقليدي والدعوة إلى المحافظة على التراث فكراً وسلوكاً في حياة الفرد والجماعة. وقد يتغلب البعد الثاني، بُعد الآخر وثقافته وحضارته فتسيطر الثقافة العلمية العلمانية والحركات التحديثية، والدعوة إلى التغريب. وقد يتغلب البعد الثالث، بُعد الحاضر أي بعد الواقع ذاته، فتنشأ الثقافات الشعبية وحركات التغير الاجتماعي، وفقدان التكافؤ في الحضور لدى الأبعاد الثلاثة للموقف الحضاري، هو "الذي يسبب فقدان وحدة الشخصية ويجعلنا نعيش في 'فصام نكد' فتتضارب الثقافات ومناهج التعليم والمذاهب السياسية، ويُقضى على الوحدة الوطنية في الممارسة وعلى الشخصية القومية في النظر.
الموقف الحضاري بأبعاده الثلاثة عند 'حسن حنفي' يقوم على إعادة بناء التراث القديم في الجبهة الأولى، وعلى نقد التراث الغربي وتحجيمه وردّه إلى حدوده الطبيعية من خلال علم الاستغراب الذي يفرض ظاهرة التناوب الحضاري بين شعوب الغرب التي تمثل المركز في الموقف الحضاري الحالي وشعوب العالم الثالث التي تمثل الأطراف وهذا في الجبهة الثانية جبهة الآخر والتعاطي معه حضارياً. كما يقوم على التنظير المباشر للواقع، هذا التنظير المفقود حالياً وفي حضور التبرير والانعزال والرفض وهو ما يعرف بنظرية التفسير في الجبهة الثالثة، الجبهة التي تتعاطى مع الجبهتين الأُخريين وتحتويهما. وكل جبهة من الجبهات الثلاثة تستخدم طريقة الثورة وأسلوب التثوير لقلب الأوضاع وتغيير الأحوال بما يمكن-حسب حسن حنفي- من موقف حضاري محكم ومشروع حضاري قومي جريء سليم ورائد، به يخرج العالم العربي والإسلامي من التخلف، وتزول أزمة الإبداع، فيصنع التاريخ و يبني النهضة والحضارة وهو مطلب كل أمّة توّاقة إلى التقدم والازدهار في ظلّ قيّمها وتراثها والقيّم العليا المشتركة لدى الإنسانية جمعاء.
السياق الذي تجري فيه الثورة ويجري فيه التثوير داخل "التراث والتجديد" هو سياق التراث أولا وسياق التجديد ثانيا، من خلال إعادة بناء الموروث القديم وتأسيس علم الاستغراب في مقابل علم الاستشراق وإيجاد نظرية محكمة في تفسير الواقع.
في إطار تناول موضوع الثورة والتثوير في مشروع "التراث والتجديد" تمّ التركيز على تعاطي المشروع مع الثورة والتثوير، من حيث الدلالة، وكآلية لإحداث التغيير والتجديد في المجتمع العربي الإسلامي المعاصر، من منطلق أحواله وظروفه، والمشكلات والتحدّيات التي تواجهه، وفي سياقه التاريخي ببعده الزماني والمكاني، ممثلا في الجبهات الثلاث، التراث أو الماضي والواقع أو الحاضر والآخر أو الوافد. فإلى أي مدى تمكّن مشروع "التراث والتجديد" من تقديم تصور واضح ودقيق للثورة والتثوير فيه الأصالة والإبداع، يساهم في تغيير الواقع وفق منظور متوازن؟ وأين يلتقي هذا التصور مع ما يجري في العالم العربي الآن من حراك ثوري شبابي وشعبي متميز؟.
3- أبعاد الموقف الحضاري في "التراث والتجديد"
إذا كان العالم العربي والإسلامي المعاصر متأزماً فالمشروع الحضاري القومي فيه يحيا هذه الأزمة، كما يحياها الموقف الحضاري المتضمن فيه. وترتبط أزمة الموقف الحضاري بأبعاده الثلاثة، بالتراث القديم وبالوافد الغربي وبواقع الناس المعيش.
أ- الموقف من التراث
بالنسبة للتراث القديم والموقف منه فأزمته تكمن في عدم استقراره وتأرجحه بين التواصل والانقطاع والانتقاء، وابتعاده عن أيّة محاولة جادّة لقراءته وإعادة بنائه وفق ما يتطلبه العصر. فالموقف من التراث القديم مواقف وليس موقفاً واحداً، "والموقف الأول الذي يأخذه الجيل الحالي من حركة الإصلاح الديني هو التواصل معه والاستمرار فيه. فلا يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها... وما أسهل أن يولد هذا الموقف الدفاعي عن التراث القديم الذي يقوم على التواصل بين الماضي والحاضر لدرجة ابتلاع الماضي للحاضر كله أن يولد موقفاً مضادا هجومياً على التراث القديم يقوم على الانقطاع بين الماضي والحاضر لدرجة ابتلاع الحاضر للماضي كله. وهو موقف التيار العلمي العلماني في الجيل الحالي".5
وبين موقف التواصل وموقف الانقطاع ارتبط التراث القديم بموقف آخر اختار الانتقاء بدل التواصل أو الانقطاع. فإنه يختار من القديم ما يلبّي حاجات العصر، "ومع ذلك قد يقضي هذا الاختيار على تاريخية التراث القديم ويفصل أجزاءه عن الكل الـذي نشأ فـيه... كما أنّه يبحث عن الحلول في الماضي، ويكون أقصى جهده هو إعادة اختيار بين البدائل التي وجدت عند القدماء دون إبداع بديل جديد من وحي العصر، ينتقي مما هو موجود ولكن لا يضيف إليه شيئاً، وبالتالي يظلّ الفكر محكوماً بالبدائل القديمة. ومع ذلك قد تكون إعادة الاختيار بين البدائل بداية الاجتهاد وليست نهايته."6
أمام المواقف المتباينة في النظر إلى التراث والتعامل معه ولما ينتج عن كل منها من آثار تعزز الأزمة وتمنع الإبداع، "تكون الضرورة ملحّة إلى موقف رابع من التراث القديم يتجاوز المواقف الثلاثة السابقة، التواصل والانقطاع والانتقاء إلى إعادة البناء ويعني ذلك أولا تحليل التراث القديم في تاريخيته الأولى كيف نشأ، وعن أيّة قوى اجتماعية وسياسية كانت تُعبر تياراته واتجاهاته ومذاهبه وفرقة المختلفة... ويتضمن إعادة البناء استعمال لغة العصر الإنسانية العقلية المفتوحة بدلاً من اللغة التقليدية القانونية المغلقة، اللغة التي تسمح بالحوار حول مضمون الكلمات والعبارات وليست تلك التي تتطلب الخضوع والاستسلام."7
ب- الموقف من الآخر والوافد
الجبهة الثانية وهي الموقف من الغرب ليس في مستوى الجبهة الأولى من حيث العمق التاريخي. ومثلما نجد ثلاثة مواقف من التراث القديم، تواصلية وانقطاعية وانتقائية نجد في الموقف من الآخر ثلاثة اتجاهات، اتجاه انقطاعي يرفض الآخر وينادي باستمرار الأنا من الماضي إلى الحاضر. واتجاه تواصلي يعتبر الغرب نمطاً للتحديث وعنده الثقافة التي لا تعيش عصرها تتخلف، وحضارة الإنسانية واحدة، حضارة العقل والعلم والتكنولوجيا. أما الاتجاه الثالث فهو انتقائي، ينتقي من الغرب الحضاري الثقافي ما يفي حاجيات العصر ومطالبه في الإصلاح والنهضة والتقدم.
ولما كان كل اتجاه في الموقف من الآخر مساره أحاديا صوب الانقطاعية المفرطة أو في اتجاه التواصلية من غير تمييز أو جاء انتقائيا لا إبداع فيه ولا جديد، تكون الضرورة ملحّة لوجود موقف رابع يحاول "تطوير موقف الانتقاء من الغرب وإكماله بتصور نقدي له وردّه إلى حدوده الطبيعية والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية وتحجيم ثقافة المركز من أجل إفساح المجال لتمدد ثقافة الأطراف والخروج عن عزلتها وحصارها وتطويرها تطوراً طبيعياً... وفي نفس الوقت الذي يعلن فيه الوعي الأوربي نهايته يبدأ وعي جديد في العالم الثالث يتكون ويتشكل، يحمل مُثلاً جديدة للإنسانية لا تتكسر على حدود الشعوب والأوطان ولا تتحقق بمعايير مزدوجة، بطريقة داخل المركز وبطريقة أخرى خارجه. ومن ثم يكون المستقبل كاشفاً عن نهاية وعي وبداية وعي آخر، نهاية ريادة لحضارة وبداية ريادة لحضارة جديدة."8 وهو ما يعالجه علم الاستغراب في مقابل الاستشراق.
ج- الموقف من الواقع
أما الجبهة الثالثة وهي الموقف من الواقع أو نظرية في التفسير التي لا نص فيها بل الواقع نفسه، الواقع الخارجي الفردي أو الاجتماعي، وكل نص يسعى إلى التعبير عنه وهو وراء الحاجة إلى التواصلية أو الانتقائية أو الإنقطاعية أو إعادة بناء التراثين القديم والغربي. والاتجاهات التي تشكل الموقف الحضاري في جبهته الثالثة ليست كسابقتها في الجبهة الأولى والثانية فهي إما تبرير لهذا الواقع ولكل ما فيه وفي هذا اقتصاد لدور العقل والإبداع ، وإما رفض له وتمرد عليه، فيؤدي العقل وظيفته في الجانب الرافض فقط، وإما انعزال عنه فلا تبرير ولا رفض بل هروب ونفور وفي هذا تعطيل للعقل والإرادة في التعاطي مع الواقع واستئثار الركون إلى السكون لأن الواقع مرير ولا يطاق. هذه المواقف لا تسمح بفهم الواقع ولا بتفسيره ولا بتغييره، الأمر الذي تكون فيه الحاجة ملحّة إلى موقف آخر يقوم على "التنظير المباشر له بعد العيش معه وتجربته وإدراك مكوناته والإحساس به ثم محاولة فهمه والتعبير عنه دون الاعتماد على قال فلان أو علان من التراث القديم أو التراث الغربي، فالأفكار الجاهزة والرؤى المسبقة تُعمي عن إدراك الواقع وتُزيّف مضمونه. أما العيش في الواقع والإحساس به على البراءة الأصلية فإنّه السبيل إلى فهمه وإدراكه ثم التنظير المباشر له دون فرض أيّة مذاهب مسبقة عليه... ويعني التنظير المباشر للواقع عيش الواقع أولاً ومدى التناقضات فيه وإمكانيات تغييره وتثويره وإدراك مراحل تطور ماضيه وحاضره ومستقبله، ثم التفكير في كيفية ذلك تلقائياً بديهياً. فالتجربة الصادقة تعادل البداهة العقلية."9 وهذا ما يعرف بنظرية التفسير، يطرحها 'حسن حنفي' في الجبهة الثالثة في مشروعه 'التراث والتجديد'.
4- التثوير في "التراث والتجديد"
أ-تثوير الفكر
التثوير أو الثورة بمعنى قلب الأوضاع وتغيير الأحوال في حياة الفرد والجماعة في "التراث والتجديد" مرتبط بالحياة الفكرية والثقافية والفلسفية بالدرجة الأولى، وما يتبعها من تغيير في بقية جوانب الحياة عامة، سياسية واقتصادية وتقنية وغيرها. والتثوير على مستوى الفكر والثقافة لا يقل أهمية وإيجابية وضرورة في تغيير الأوضاع وإحالتها من الجهل والنفاق والتعالم والتخلف والتأزم إلى أوضاع فيها التنوير الفعلي الثقافي والعلمي والتكنولوجي، وهو الأمر الذي عرفته أوربا قبيل وبعد نهضتها، حيث تمّت الثورة في وجه كل قديم فلسفي وعلمي واجتماعي وتقني، وتمّ تثوير كل ما هو متاح في الحياة السياسية والفكرية والعلمية والاجتماعية، تثويره على نفسه وعلى القديم لأجل بناء عالم متقدم أفضل من العالم السابق، ومظاهر الثورة والتثوير في التاريخ كثيرة، ثورة الإسلام على الجاهلية، وثورة الإيمان والتوحيد على الشرك والكفر، وثورة العقد الاجتماعي على سلطة الكهنوت، وثورة المنهج العلمي التجريبي على منطق أرسطو وعلى العلم اليوناني، وثورة العقلانية الحديثة على مثالية أفلاطون، وثورة الاتصالات والنقل وتطورهما على استعمال الوسائل البدائية في النقل والاتصال وغيرها في عصر اندلاع الثورة العلمية والتكنولوجية التي أسست للنهضة الأوربية الحديثة، وكانت نتيجتها الحضارة الأوربية الحالية، والشأن نفسه في الحضارة الإسلامية والحضارات التي سبقتها، فلا تغيير ولا تجديد ولا حراك حضاري تاريخي واجتماعي من دون تثوير الأنا وتثوير سائر الطاقات في الأنا وفي خارج الأنا فتحصل الثورة ومن ثم يتشكل البناء الجديد.
التثوير في فلسفة 'حسن حنفي' له ما يبرره، ويتمثل في الظروف والأوضاع المأزومة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي وهو جزء من العالم المتخلف، حيث يغيب الإبداع وتنعدم شروطه وتكثر موانعه، وتسيطر فيه كل أسباب الانحطاط والتخلف، من فقر وجوع وظلم واستبداد، استبداد حكامه واحتلال الأجنبي لأراضيه ونهب خيراته وثرواته، والفكر فيه ضعيف والإرادة منهارة فاشلة وفي تبعية للآخر والثقافة مهزوزة مهزومة خالية من أي موقف حضاري مؤسس ومن كل مشروع حضاري متكامل.
ولعل مشروع "التراث والتجديد" حسب صاحبه كفيل بإعادة وضع القطار في السكة، ووضع الحصان أمام العربة، ويعطي إشارة الانطلاق، وطابعه التثويري الثوري هو الذي يسمح بالخروج من الأزمة الخانقة نحو البديل الحضاري في بناء الفكر والثقافة والوطن والأمة على أسس تجعلنا صنّاع حضارة دون أن نعيش عالة على الغير، خاصة وأنّ الموقف الحضاري الحالي وفي أبعاده الثلاثة في الثقافة الحالية والفكر المعاصر يخلو من التأسيس والإحكام والفعّالية والنجاعة. بالنسبة للتراث والوافد والواقع يتشكل الموقف الحضاري من ثلاثية نحو التراث وهي تواصلية، إنقطاعية وانتقائية. وثلاثية نحو الآخر وهي كذلك تواصلية، انتقائية أو انقطاعية، أما ثلاثية الواقع فهي تبريرية لا نصية أو رفضية أو انعزالية، وكل ثلاثية مما سبق لها نقائصها واختلالاتها هي عاجزة عن حل المشكلة من جذورها، بل تزيدها تعميقا وتعقيدا وتفاقما، وحلّ أزمة الموقف الحضاري التي هي في الأصل أزمة العالم العربي والإسلامي فكرياً وفلسفياً واجتماعياً، "إنّما يكون بإعادة النظر في هذه الأبعاد الثلاثة وإحكامها وإعادة الاتّزان إلى الوعي الحضاري القومي، وفرض الواقع نفسه أي البعد الثالث على البعدين الحضاريين الأولين."10
الثابت في التاريخ أنّ الاستسلام للأمر الواقع في أي مرحلة من المراحل التاريخية وفي حياة أي شعب من الشعوب لا يحلّ الأزمة، وهو الأمر في الأنظمة الاجتماعية العبودية والإقطاعية القديمة، ولولا الفكر والمفكرون والفلسفة والمبدعون لبقيت الأوضاع على ما كانت عليه قديماً، فالتثوير يبدأ أولاً من الفكر وفي الثقافة ثم يشيع في بقية أنحاء جسم الحياة بجميع مجالاتها، ولما كان التثوير شرط التغيير والتجديد في حياة الإنسان انطلاقاً من الفكر والثقافة وهو ما يؤمن به مشروع 'التراث والتجديد'، نجد "حسن حنفي" يعقد أمالاً كبيرة على هذا المشروع ذي الطابع الثوري التثويري، فهو يبني الثورة على الفاسد ويعتمد تثوير الجبهات الثلاث، تثوير جبهة التراث القديم والتراث العربي الإسلامي جزء منه، وتثوير الأنا في وجه الآخر والتصدي له، وتثوير الواقع، كلّ يثور في مستواه، وتلتقي هذه الجبهات التثويرية الثورية في فعل تاريخي وحضاري متكامل الأجزاء، يصنع ثقافة وحضارة ويبني تاريخاً على أنقاض ما هو قائم بواسطة الثورة والتثوير.
مجالات الثورة والتثوير في مشروع 'التراث والتجديد' كثيرة تبدأ بالفكر الذي يكون دوماً وراء كل تثوير، الفكر الثائر والمثوّر، ثائر على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المختلفة المزرية لتصبح ظروفاً وأوضاعاً متحررة من التخلف، ومُثوّر للتراث القديم وللوافد الغربي وللواقع. ورسالة الفكر ذاتها ثورة وتثوير وهي "النفي ونفي الوضع من أجل تغييره وتطويره، فالفكر أساساً رفض وثورة، وبالرفض يتغيّر الواقع، والفكر الذي لا يغيّر لا يكون فكراً بل يكون تبريراً، وما تمّ عمله لا يتحول إلى فكر بل يُصبح جزءا من الواقع، الفكر هو البادئ بالتغيير والعامل على تحقيقه، وليس الذي يتحدث عن ماض سلف وأصبح جزءاً من التاريخ."11 ويتحمل الفكر مسؤولية "إذا كان الوضع السائد يقوم على القهر والغلبة وعلى إطاعة الأوامر طاعة عمياء، وعلى التسليم بكل ما يقال أصبح لدى المفكر المبرر وضعاً يقوم على فلسفة الحرية وعلى تأكيد للذات الحرّة، وعلى ممارسة لما نادى به الفلاسفة القدماء من تحقيق لحرية الفكر والسلوك، وإذا كان الوضع السائد يقوم على سيادة الطبقة التي في السلطة وتغطية نفسها بغطاء نظري محض تعبر فيه عن طبقة المحكومين، حوّله المفكر المبرر إلى وضع يقوم على فلسفة العمل .. فيقلب الواقع، ويجعل من الستار النظري واقعاً متحققاً... رسالة الفكر هي النفي ونفي الوضع من أجل تغييره وتطويره .. وإذا كنا نعاني من ازدواجية الشخصية، وازدواجية الفكر، وازدواجية السلوك، وازدواجية الحديث، فإننا على الأقل يمكننا القضاء على ازدواجية الحديث كجزء من تحقيق وحدتنا الشخصية الوطنية. رسالة الفكر أنّ ما يتهامس به الكل هو الذي يمكن التعبير عنه علناً، فالفكر لا يدخل ضمن نطاق المحرمات!"12
على ضوء ما سبق لا يكون الفكر حسب "حسن حنفي" شهادة ورسالة إلاّ إذا كشف الواقع واطلع عليه ونهض بتغييره وتطويره بعيداً عن التغليف والتلفيق والتبرير، ومعالجته في مضمونه لا في الاقتصار على شكله، لأن الفكر هو مضمون الواقع، وتطابق الفكر مع الواقع مبدأ ومطلب فكري واقعي، ومن ثمة فدور الفكر هو الواقع عينه، ولما كانت رسالة الفكر على هذا النحو فعلى المفكر أن يبحث عن دوره في مجتمعه للنهوض برسالة الفكر كشف للواقع وتطويره لأن "كثيراً من مظاهر الاضطراب الثقافي والفكري فيها لناشئة عن نقص في وعينا بهذا الدور المحدد الذي علينا القيام به.
فالفكر لا يكون شهادة ورسالة إلاّ إذا كشف الواقع واطلع عليه ونهض بتغييره وتطويره بعيداً عن التغليف والتلفيق والتبرير أو الرفض والانعزال، ومعالجته في مضمونه لا في الاقتصار على شكله، لأن الفكر هو مضمون الواقع، وتطابق الفكر مع الواقع مبدأ ومطلب فكري واقعي، ومن ثمة فدور الفكر هو الواقع عينه، ولما كانت رسالة الفكر على هذا النحو فعلى المفكر أن يبحث عن دوره في مجتمعه للنهوض برسالة الفكر كشف للواقع وتطويره لأنّ "كثيراً من مظاهر الاضطراب الثقافي والفكري فيها لناشئة عن نقص في وعينا بهذا الدور المحدد الذي علينا القيام به. إن الفكر ميزة بشرية وجهد إنساني وراء كل ما صنعه الإنسان وخاص به في ميدان النظر أو في مجال العمل، مرتبط بعوامل عديدة خارجة عن الإنسان ومرتبطة بذاته، والفكر له كيانه المستقل المتعدد المتنوع في مجالاته و نتاجاته، وهو أمر طبيعي يقوم على الحرية والإبداع، فالتعدد والتنوع والتطور في الفكر أمور طبيعية لا تسمح لنا بإخضاع الفكر لمنهج واحد ونمط واحد وفي مجال واحد ووفق إيديولوجية واحدة، فالفكر أوسع من أن يكون يسارياً فقط أو يمينياً فحسب أو وسطا فقط.
ب- تثوير التراث
التثوير في الجبهة الأولى وفي الموقف من التراث القديم هو عبارة عن ثورة في وجه المواقف الحالية منه وهي ثلاثية تواصلية وانقطاعية وانتقائية، وتثوير التراث القديم نفسه بتحويله إلى طاقات حيّة مشحونة بالقدرة على التحوّل في الحاضر إلى إبداع وتجديد يستجيب لتحديات الحاضر وإلى تطلعاته وآماله، ذلك من خلال إعادة قراءة التراث وإعادة بنائه من جديد وفق مقتضيات العصر وتحدّياته، فالثورة هنا تعني "رفض التواصل والانقطاع والانتقاء إلى إعادة البناء، ويعني ذلك أولاً تحليل التراث القديم في تاريخيته كيف نشأ وعن أيّة قوّة اجتماعية وسياسية كانت تعبر اتجاهاته وتياراته ومذاهبه وفرقه المختلفة."13 فإعادة بناء التراث القديم تخص العلوم العقلية النقلية الأربعة وهي علم الكلام والفلسفة وعلم أصول الفقه وعلوم التصوف، وتخص العلوم النقلية البحتة وهي علوم القرآن، علوم التفسير، علوم الحديث، وعلم السيرة والفقه، كما يخص العلوم العقلية البحتة وهي العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.
التثوير في بعض نماذج هذه العلوم التي هي في طور إعادة البناء، فعلم الكلام أو علم العقائد علم تثويري في ذاته وعنوان المصنف الذي يتضمن في طيّاته محاولة إعادة بناء أصول الدين "من العقيدة إلى الثورة"، يدل على الطابع الثوري التثويري في المحاولة، كتبه صاحبه "لدحض شبهة أنّ الإسلام سبب تخلّف المسلمين وبأنّه غير قادر إيديولوجياً على الدخول في عصر الحداثة عصر العقلانية والعلم وحقوق الإنسان... وكتب من "النقل إلى الإبداع" لدحض شبهة أن العلماء المسلمين كانوا نقلة عن اليونان، مترجمين لعلومهم، شارحين لمؤلفاتهم وملخصين وعارضين لها وأن الفلسفة يونانية والتصوف مسيحي أو هندي أو يوناني... وكأن المسلمين لم يبدعوا شيئاً وأنهم مجرد حفظة ونقلة يسيئون النقل ويخلطون بين أرسطو وأفلوطين وبين أفلاطون وأرسطو وينتحلون نصوصاً على لسان الفلاسفة... "من النص إلى الواقع" ضد شبهة أن التشريعات الإسلامية حرفية فقهية تضحي بالمصالح العامة قاسية لا تعرف إلا الرجم والقتل والجلد والتعذيب وقطع الأيدي والصلب والتعليق على جذوع النخل وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف وتكليف بما لا يطاق."14 ويُكتب من "الفناء إلى البقاء" لدحض شبهة أن التجارب الصوفية بمقاماتها وأحوالها إما مصدرها التصوف الهندي أو الفارسي أو اليوناني أو هي عدم القدرة على مواجهة الواقع ومشاكله فهي انعزال وهروب أو هي مجرد شعوذة لتغطية عدم مجابهة الواقع بالعمل وبذل الوسع فيه. ولأن التصوف يمثل خطورة كبرى على وجداننا المعاصر وسلوكنا القومي تعادل خطورة الكلام، بما يمثله من قيّم سلبية من ضعف وتوكل ورضا وقناعة وخوف وخشية وبكاء وحزن إلى آخر ما هو معروف من مقامات وأحوال."15
فالتراث تثويري بعد إعادة بنائه وصياغته فبدل الخضوع والانقياد والاستسلام تحلّ الحرية والاجتهاد في طلب الأفضل فكرياً وسياسياً واجتماعياً، وبدل المطلق والمثال والتاريخ في المركز يصبح الإنسان والمجتمع محور الفكر، ويتحول لاهوت الكلام إلى مقاومة لتحرير الأرض والعرض، وتتحول سائر قيّم التراث إلى وسائل لتحقيق الحرية والوحدة والعدل والتنمية وحشد كل الطاقات للإسهام في البناء الحضاري، "فالعصر عصر الإنسان والمجتمع ومآسينا في غياب حقوق الإنسان وتفكك المجتمع. ويتضمن أخيراً تغيير محاور الفكر والحياة، النظر والعمل من المحور الرأسي إلى المحور الأفقي فبدلاً من أن أدرك العلاقة بين طرفين، بين الأعلى والأدنى فينشأ المجتمع البيروقراطي والطبقي أدركها بين الأمام والخلف بحيث يكون الأعلى هو الأمام والأدنى هو الخلف فينشأ المجتمع الحركي، مجتمع الحرية والعدل والمساواة."16
الموقف من الجبهة الثانية في مشروع 'التراث والتجديد' تثويري لأنه يهدف إلى خلق فلسفة إسلامية جديدة إلى جانب الفلسفة الإسلامية القديمة لوجود تشابه كبير بين عصرنا والعصر القديم، وتحليل الواقع المعاصر الذي نعيش فيه والذي يمثل التراث الغربي أحد مكوناته فضرورة تحليل هذا التراث ونقده، و"بيان حدود الثقافة الغربية ومحلّيتها بعد أن ادعت العالمية والشمول، وإخراج أوربا من مركز الثقل الثقافي العالمي ومن محور التاريخ وردّها إلى حجمها الثقافي الطبيعي في الثقافة العالمية الشاملة."17
ج- تثوير الواقع
أما الموقف من الواقع فهو جدّ تثويري، لأنّه يرفض الواقع الحالي ويقوم "على التنظير المباشر له بعد العيش معه وتجربته وإدراك مكوناته والإحساس به ثم محاولة فهمه .. ويعني التنظير المباشر للواقع عيش الواقع أولاً ومدى التناقضات فيه وإمكانية تغييره وتثويره وإدراك مراحل تطوّر ماضيه وحاضره ومستقبله ثم التفكير في كيفية ذلك تلقائياً بديهيا."18 فمتطلبات الواقع يحصيها 'حسن حنفي' في الجبهة الأخيرة ويربطها بتحرير الأرض من الغزو والاحتلال وبإعادة توزيع الثورة في مواجهة التمايز الطبقي، وبتحقيق الحرية والديمقراطية في مواجهة القهر والطغيان. ومن جهة أخرى يحصر تحدّيات الواقع في سبعة هي: تحرير الأرض وفي مقدمتها فلسطين، تحرير المواطن والدفاع عن حقوقه في مقابل قهره وانتهاك أبسط حقوقه الإنسانية، والعدالة الاجتماعية ووحدة الأمة ضد التجزئة والقبلية والطائفية والحروب الأهلية، "والتنمية المستقلة ضد مظاهر التخلف والاعتماد على الخروج في الغذاء والكساء والسلاح والعلم... والدفاع عن الهوية والأصالة ضد التغريب والتبعية... وتجنيد الناس وحشد الجماهير."19 لأن فشل أنشطة وعمليات التغيير الاجتماعي يعود إلى عدم مشاركة الجماهير فيها. فمشروع 'التراث والتجديد' وطابعه الثوري التثويري هو رسالة وأمانة لدى صاحبه لم تتحملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها و أبين أن يحملها وحملها الإنسان، لأنه شغوف بالإبداع وببناء التاريخ وإنتاج الحضارة فيه.
إنّ سبيل التعاطي الحضاري مع الواقع التنظير المباشر له، هذا التنظير المفقود حالياً وفي حضور التبرير والانعزال والرفض وهو ما يعرف بنظرية التفسير في الجبهة الثالثة، الجبهة التي تتعاطى مع الجبهتين الأُخريين وتحتويهما. وكل جبهة من الجبهات الثلاثة تستخدم طريقة الثورة وأسلوب التثوير لقلب الأوضاع وتغيير الأحوال بما يمكّن من موقف حضاري محكم ومشروع حضاري قومي جريء سليم ورائد، به يخرج العالم العربي والإسلامي من التخلف، وتزول أزمة الإبداع، فيصنع التاريخ و يبني النهضة والحضارة وهو مطلب كل أمّة توّاقة إلى التقدم والازدهار في ظلّ قيّمها وتراثها والقيّم العليا المشتركة لدى الإنسانية جمعاء. تمثل نظرية التفسير في مشروع "التراث والتجديد" سبيلاً رئيسياً إلى إعادة بناء الحضارة و التاريخ من خلال العودة إلى أصلها في الوحي، أو بالعودة إلى الحضارة الإنسانية وتفسير الوحي من خلالها لأجل التخلّص من الجمود الحضاري وركود التاريخي."فالغائية النهائية هو الوحي ذاته وإمكانية تحويله إلى علم إنساني شامل، وهذا لا يتم إلاّ عن طريق نظرية في التفسير تكون منطقاً للوحي... أن الأفكار البشرية كلها تخضع في الحقيقة إلى نظرية في التفسير، تفسير النص أو تفسير الواقع... التفسير إذن هو النظرية التي يمكن بها إعادة بناء العلوم والتي يمكن بها تحويل طاقة الوحي إلى البشر، وصبّها في الواقع وتحديد اتجاهنا الحضاري بالنسبة للثقافات المعاصرة."20
يتساءل "حسن حنفي" كثيراً عمّا إذا كان لدينا نظرية في التفسير وعن إمكانية إيجادها في حالة انعدامها، خاصة ونحن أمة وحي ودين وشريعة، فالوحي عندنا يتصف بالاكتمال وفي صورته النهائية في آخر مرحلة من تطوره في التاريخ من آدم {عليه السلام} إلى محمد {صلى الله عليه وسلم} وهو محفوظ من التزييف والتحريف في القرآن الكريم ليس كالكتب المقدسة التي تعرضت للتحريف فتعددت وتباينت، ويتصف وحينا بالتنجيمية في النزول وهو أمر يدل على أنه ليس مجرد معطى بل هو مطلوب تقتضيه ظروف أحوال الناس واحتياجاتهم في الواقع، "تأتي كل آية كحل لموقف ثم تجمع الآيات على مدى ثلاثة وعشرين عاماً وتصبح القرآن. فأهم ما يميّزنا عن غيرنا من الأمم والحضارات المعاصرة هو هذا القرآن."21
أما المفكر الذي يفرض بقائه هو من يكون مرآة واقعه وروح عصره، لأنّ الروح هي الواقع. "واعتبر الأصوليون القدماء الحقيقة ذات طرفين، النص و الواقع، وإنّ النص بدون واقع فراغ وخواء، وإنّ مهمة المفكر هي تحقيق المناط، أي رؤية النص في الواقـع المعاصر الذي يعيش فيه هذا المفكر أو الفقيه أو المجتهد.وحديثا أصبحت الطبيعة مصدر كل فكر، وهي خير من كل كتاب. وفي كل الحضارات التي عرفها تاريخ الإنسانية سجلت حاجة الإنسان إلى الفكر عموما، والفكر يحتاج إلى فكر آخر يكون ضروري له للبناء إذا سبقه، ويكون للإنتاج والإبداع فيأتي بعده، تكون هذه الحاجة ملحة حينما يستقيم العمل على المبادرة في التعاطي مع التاريخ والواقع والمستقبل بثقافة ذات وعي على درجة عالية من الدقة والتدرج والعمق والوفرة والفحص النقدي في طرح المشكلات وتحديد الاهتمامات في واقع الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية، في الحاضر واستشراف المستقبل، ويحتاج الإنسان كذلك إلى نفس المطالب والحاجات لتحديد مداخل ومناهج وأدوات فحص الواقع انطلاقا من الوعي التاريخي لاستشراف الآتي من خلال الوقوف على المبتغيات الحضارية التي تعكس مآلات البناء الفكري والثقافي ولاجتماعي والحضاري، الأمر الذي يجعل الفكر عنصر بناء الحضارة وصنع التاريخ، ويقيم شهادته الحيّة عليهما إن لم يتحول إلى شهيد الحضارة والتاريخ.
د- التثوير والوافد
الموقف الحضاري بأبعاده الثلاثة عند 'حسن حنفي' يقوم على الثورة والتثوير، ثورة الفكر وتثويره من خلال تحقيق رسالته، وفي جبهة الموقف من التراث القديم أو الماضي يقوم على إعادة بناء التراث من منظور معاصر، ليساهم بما فيه من قوّة في مواجهة تحدّيات العصر وهموم الفكر والواقع، على سبيل المشاركة التاريخية والإسهام الحضاري، لا على سبيل ابتلاع الماضي للحاضر واحتوائه ما دامت الأمة تراثية تاريخية، والعيش في إطار كيان مزدوج ذي انفصام نكد. الثورة في وجه الوافد مطلوبة وتثويره أمر مطلوب وحتمي لا حيلة معه، لكن لا على سبيل إقصائه ورفضه أو تبريره أو ابتلاعه للأنا والواقع والتراث أو محاولة التوفيق بينه وبين خصوصيات الأنا بغير تجديد وإبداع، ولكن على سبيل نقد التراث الوافد الغربي القديم والحديث وتحجيمه وردّه إلى حدوده الطبيعية، من خلال "علم الاستغراب" الذي يفرض ظاهرة التناوب الحضاري بين شعوب الغرب التي تمثل المركز في الموقف الحضاري الإنساني الحالي وشعوب العالم المتخلف التي تمثل الأطراف، وهذا في الجبهة الثانية جبهة الآخر والتعاطي معه حضارياً.
يظهر أنّ صورة كل من الأنا والآخر في فكرنا المعاصر تقوم على السلب والإيجاب، فالأنا سلبي أما الآخر إيجابي، فالوعي التاريخي للأنا مغترب في الآخر، لأن الآخر إيجابي وفعّال ومبدع وعلى حق في قوله وعمله، في فكره وتطبيقاته، في حاضره ومستقبله، الآخر وحضارته مقياس تُقاس عليه بقية الحضارات كل الحضارات القديمة والحديثة وحتى القادمة، لأنّ حضارته هي حضارة الإنسان والطبيعة ناهيك على أنّها حضارة العلم والمدنية والحرية والعدالة. فصورة الأنا صورة المعوق المتفرج المستهلك أما صورة الآخر صورة القويّ المعافى المنتج للعلم والفكر والتقنية، والأنا مطالب بإتباعه والسير وراءه من بعيد ببطء فهو متخلف ويجب أن يبقى متخلفاً في نظر الآخر، والصراع قائم بين الأنا والآخر في الثنائيات عند الجماهير ولدى النخبة وفي وسائل الإعلام بين الطرفين طرف الأنا وطرف الآخر.
فصورة الأنا في الأنا تقوم على تصغير الأنا وتقزيمه وصورة الآخر في الأنا تقوم على تكبير وتفخيم الآخر مثلما هو الحال لدى الآخر فصورته لديه تقوم على التعظيم والإكبار والإجلال والتقديس أما صورة الآخر –الأنا عندنا- لديه تقوم على التضعيف والانتقاص وتصغيره إلى أبعد الحدود، وكل صورة من الصورتين صورة الأنا في الأنا والآخر أو صورة الآخر في الآخر وفي الأنا تقوم في غياب الواقع وحقائق العقل والعلم والتاريخ.
لقد نشأ علم الاستغراب في مقابل الاستشراق وهو من إفرازات الصراع في جدلية الأنا والآخر وظهر لمواجهة التغريب الذي امتد أثره ليس فقط في الحياة الثقافية وتصوراتنا للعالم وهدّد استقلالنا الحضاري بل امتد إلى أساليب الحياة اليومية وإلى اللّغة ومظاهر الحياة العامة. الجبهة الثانية في مشروع التراث والتجديد تسعى إلى مواجهة طغيان الآخر على الأنا ويمثل الاستشراق أحد أساليب هذا الطغيان وهذا الطمس، فالاستغراب هو الوجه الآخر والمقابل بل والنقيض من 'الاستشراق'. فإذا كان الاستشراق هو رؤية الأنا 'الشرق' من خلال الآخر 'الغرب' يهدف 'علم الاستغراب' إذن إلى فك العقدة التاريخية المزدوجة بين الأنا والآخر، والجدل بين مركب النقص عند الأنا ومركب العظمة عند الآخر.
إن استقامة علم الاستغراب بالنهوض به من طرف الباحثين على عديد من الأجيال يؤدي إلى احتواء الثقافة الأوربية بيئة ونشأة وتكويناً، ويتحول الدارس إلى مدروس والذات إلى موضوع وعلى أنّها تاريخ وليس في منأى عن التاريخ وتُرد إلى حدودها الطبيعية وتزول فيها صفة العالمية ويُفسح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوربية، فتنمحي عقدة النقص في الأنا ويُدحض مركب العظمة في الآخر، فيُعاد تدوين التاريخ وتبدأ فلسفة جديدة للتاريخ، فينتهي الاستشراق وتتحول ثقافات الشرق من موضوع إلى ذات.
"علم الاستغراب" في "التراث والتجديد" ليس علماً جديداً بل قديم قدم علاقة الأنا بالآخر، فجذوره تمتد في النموذج في صلة الحضارة الإسلامية بالحضارة اليونانية حيث كانت الحضارة الإسلامية ذاتا ودارسا أما حضارة اليونان وغيرها كانت موضوعاً ومدروسا ومثلما بنت الأنا قديماً الاستغراب فقد أسست الاستشراق عندما استوعبت الثقافات الشرقية القديمة ثقافة فارس والهند والصين وغيرها. ويعرب المشروع عن تقدم "علم الاستغراب" في اكتمال ظهور الإرهاصات الأولى لهذا العلم وخروج هذا الكتاب الموسوم 'بمقدمة في علم الاستغراب'، في هذه اللحظة الراهنة يدل على أن لحظة الإعلان عن النوايا قد تمّ تجاوزها وأن الإرهاصات الأولى قد تمّ تحويلها إلى علم دقيق أوكد. إنّما هي مهمة مجموعة من المثقفين لإعطاء مزيد من الأحكام، مهمة فريق عمل يغرس كل باحث فيها نبتا. وقد تكون مهمة عدة أجيال برؤى مختلفة ولكن يظل التأسيس الأول لهذا الجيل، والمحاولة الكاملة الأولى هي هذه المقدمة في 'علم الاستغراب'.
الموقف الحضاري بأبعاده الثلاثة عند 'حسن حنفي' يقوم على الثورة والتثوير، ثورة الفكر وتثويره من خلال تحقيق رسالته، وفي جبهة الموقف من التراث القديم أو الماضي يقوم على إعادة بناء التراث من منظور معاصر، ليساهم بما فيه من قوّة في مواجهة تحدّيات العصر وهموم الفكر والواقع، على سبيل المشاركة التاريخية والإسهام الحضاري، لا على سبيل ابتلاع الماضي للحاضر واحتوائه ما دامت الأمة تراثية تاريخية والعيش في إطار كيان مزدوج ذي انفصام نكد، وفي الموقف من الآخر تقوم العملية على ضبط العلاقة بين الأنا والآخر على سبيل الندّية والدراسة النقدية للآخر وثقافته وتحجيمه التاريخي وردّه إلى حدوده الطبيعية من خلال "علم الاستغراب" وكما فعل قدماؤنا مع الشرق والغرب الحضاريين فتأثروا وأربوا وأبدعوا وصنعوا حضارة.
5- علاقة مشروع "التراث والتجديد" بالثورات العربية الراهنة
ترتبط الثورة في تكوينها وبنيتها وحراكها بالسياق الاجتماعي والتاريخي العام الذي تتحرك فيه تأثرا وتأثيرا، وبمقتضى الأوضاع القائمة فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وأمنيا وعسكريا وغيره، وبمقتضى إمكاناتها المتاحة وعيا وتنظيما وقوّة في العدد والعدّة تختار الثورة المسلك الذي تسلكه، العمل في السرّ أو في العلن، طريق السلم والمطالبة أو طريق العنف والمغالبة، تركّز على عمل النخبة أم إشراك جميع الناس في العمل الثوري، تستهدف قلب الأوضاع تماما أو تكتفي بالحراك الإصلاحي، كل ذلك ضمن خطة واضحة في مبادئها ووسائلها ونتائجها، وإلاّ تتعثر وتُخمد.
الثورة إرادة جامحة توّاقة إلى الاكتمال والإنجاز والتحقق، لذلك تتحلى بمكارم الأخلاق، ولكونها حراكا كونيا فهي تلبس دوما الفضائل وتجعلها شعارات ومبادئ لها وفي مطالبها ونتائجها المنشودة، ترتبط الثورة بالحق والصدق والعدل والحرية والمساواة والنبل والشرف والإباء والشجاعة والبطولة والمجد والسؤدد وغير ذلك من المحامد لدى الفرد والجماعة معا، ولكونها ضرورة وحتمية تاريخية فهي تتشبّه بكل ثورة ناجحة سابقة أو معاصرة لها صنعت الأمجاد والحريات والبطولات تستلهم منها العبر وقوّة العزم على الدوام والاستمرار حتى الانتصار.
تعكس إستراتيجية الثورة منذ ثار أول إنسان في الوجود حتى الآن إرادة الإنسان في الحياة، وحياة الإنسان ليست في مستوى المخلوقات الأخرى التي تعيش معه، فإرادة الحياة الإنسانية مقرونة بدور الإنسان وبرسالته في الحياة وهي خلافة الله على الأرض، رسالة على أشرف حال وأمانة في أعظم درجة ودور في أرقى مستوى، لذا فكل ثورة تنشد الأفضل وتطلب الأرقى وتسمو وتترفع عن كل ما هو دنيء في مبادئها وقيمها ومطالبها، فتواجه مصاعب وتحدّيات جمّة تعكس هذه المواجهة الصراع الجدلي الكوني بين الخير والشر في الإنسان، وتنتصر في النهاية قيّم الخير العليا على منابع الشرّ السفلى لأنّ الخير حقّ وصدق والحقّ يُعلى ولا يُعلى عليه، فالحق اسم من أسماء الله وصفاته وأفعاله، والحق هو الله فوق كل الموجودات.
سنن الكون والحياة كثيرة، لولاها لاختل نظام الكون ولفسدت الحياة، والثورة فعل إنساني من سنن الكون ومن حتميات التاريخ اهتدى إليه الإنسان بحكمة الله وعدله ورحمته التي وسعت كل شيء لضمان النظام والعدل والتوازن وردّ الأمور إلى نصابها في نفس الفرد ووجوده وفي كيان المجتمع وفي الإنسانية جمعاء وفي الكون ككل، فالثورة بحق هبة من الله تعالى تردّ الإنسان إلى فطرته السليمة التي فطره الله عليها لا على غيرها في العقيدة والشرع والأخلاق والآداب وفي عمارة الأرض عامة.
الثورة والتثوير من أهم وأبرز خصائص "التراث والتجديد"، لذا فهو لا يتعارض البتة مع الحراك الثوري الراهن في العالم العربي، في منطلقه ومساره ومنتهاه، فهو يدعو منذ تكوينه حتى الآن إلى الثورة في وجه كل ما يعيق تحقيق الحرية والعدالة والتنمية والتقدم في العالم العربي المأزوم المتخلف، ويرفض كل موازنة متعسفة بين عالم أوروبي غربي عرف النهوض والازدهار الحضاري والحداثة منذ خمسة قرون وأكثر وعالم عربي لم يدخل عالم الحداثة بعد إلاّ استخداما لمنتجاتها لا إنتاجا لها وإسهاما فيها، والحضارة لا تولد من منتجاتها، بل تولد من رحم الأصالة والإبداع والتغيير والتجديد انطلاقا من الذات ثم المحيط الخارجي فالحياة برمتها. "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".22
يتسم "التراث والتجديد" بأنّه ثوري تثويري في الجبهات الثلاث التي ينفتح عليها، جبهة التراث والموقف الحضاري من الماضي، وجبهة الواقع والموقف الحضاري من الحاضر، وجبهة الأنا والآخر والموقف الحضاري من المستقبل، كما يتصف المشروع بالثورية والتثويرية في التوجه الفكري العام الذي يشتغل فيه وفي الفلسفة التي يقوم عليها.
فالفكر الثائر المثوّر يتجاوز جمع منتجات حضارات أخرى إلى تحريك الواقع وتغييره بالعلم الذي هو دعوة ورسالة وبحث وليس بحثا صرفا، كما يتجاوز تبرير الواقع وتسكينه إلى تفجيره من الداخل والخارج وتحريك الطاقات المخزنة فيه، والواقع مفعم بعوامل الحركة والتقدم والرقي، كما يتجاوز الإعراض والانعزال عن الواقع والتاريخ والمستقبل لأنّ رسالة الفكر والثقافة تقتضي الاشتغال بثلاثية الموقف الحضاري في الزمان والمكان تحرّك قوى وطاقات كل طرف فيها، الأمر الذي يصب عليه "التراث والتجديد" اهتمامه ويسعى إليه، وبالتالي ففلسفة "التراث والتجديد" تقف إلى جانب الثورات العربية وتؤيدها وتدعو إلى حمايتها فكرا وقيّما ومسارا ومكتسبات، وتمثل المرجعية الفكرية والنظرية والفلسفية للحراك الثوري الاجتماعي الراهن في البلاد العربية، ويجيب صاحب "التراث والتجديد" ردا على سؤال حول علاقة مشروعه بثورات الشباب العربي في أيامنا: "الشباب هم بالفعل يواصلون بالعمل ما حاولت أنا تأسيسه في النظر".23
على الرغم من مفاجئة الحراك الثوري العربي الشبابي الراهن للمثقفين والسياسيين والمفكرين، لكن لم يكن مقطوع الصلة بالثقافي والسياسي فالكثير من التحليلات الفكرية والسياسية والثقافية دلّت على بلوغ مستوى الضغط درجة الانفجار في الكثير من البلدان العربية دون التنبؤ بوقت وقوعه. وفي هذا الإطار جمع "التراث والتجديد" في موقفه الحضاري الثوري التثويري بين الفكر والتراث والواقع والآخر وفق منظور فلسفي يتفق والثورات العربية الراهنة، سواء بالنسبة لرسالة الفكر والثقافة في تحريك الماضي والحاضر وحساب المستقبل، أو تثوير التراث من منظور راهن ومنهج معاصر، فمن العقيدة ولاهوت الدين إلى الثورة والرفض والمقاومة ولاهوت تحرير الأرض والتنمية والتقدم، ومن النقل عبر التراث الذاتي أو الوافد القديم والحديث إلى الإبداع والتجديد، ومن النص عبر التصور الرأسي للعلاقات إلى الواقع عبر التصور الأفقي في الحياة، ومن الفناء عبر التصوف الكلاسيكي إلى البقاء عبر تصوف الثورة وتصوف التحرير والحرية وتصوف التنمية والتقدم وغيرها.
أما الطابع الثوري التثويري للواقع فيتجلى في اهتمامات "التراث والتجديد" في كتابات عديدة منها "حصار الزمن" و"هموم الفكر والوطن" وغيرها، ويتم تثوير الواقع وتتحقق الثورة فيه بمظاهر الفكر والثقافة التراثية والمعاصرة، الدين والعلم والفن والفلسفة والسياسة والتقنية وغيرها، ويحتاج الواقع إلى نظرية تفسره، ونظرية تفسير الواقع تمثل الجبهة الثالثة في مشروع 'التراث والتجديد'، الهدف من النضال في هذه الجبهة تحويل الوحي إلى علوم إنسانية والربط بين الواقع والوحي في وحدة عضوية داخل الإنسان وفي سلوكه الفردي والاجتماعي، وفي البيان النظري للمشروع يظهر مشروع نظرية التفسير بأقسام ثلاثة، المناهج والعهد الجديد والعهد القديم، فالأول محاولة لتجاوز مناهج التفسير التي عرضها تراثنا القديم، والثاني محاولة لتحقيق صحة الوحي في التاريخ أما الثالث ففيه يتم تحليل العهد القديم المقدس عند اليهود وما زال المطلب قائماً لمواجهة أهل الكتاب بمواجهة مخاطر الاستعمار والصهيونية.
وفي الجبهة الثالثة المرتبطة بالمستقبل تتحقق الثورة بالتخلص من تصور جدلية الأنا والآخر ضمن ثنائية الجهل والعلم، الضعف والقوّة، الشر والخير، الظلم والعدل، الباطل والحق، الفلسفة والتصوف، المعقول واللامعقول، العلم والشعر، الثبات والتغيير، الإرادة والعادة، المحسوس العيني والمثال أو الأنموذج، الإبداع والاستهلاك، بين أمة تسير في المقدمة تقود الركب الحضاري وأخرى تسير في المؤخرة تعاني التخلف والانحطاط، إن صراع الموروث مع الوافد أدى إلى عجز الذات على معرفة أناها وعلى مواكبة العصر وتحدياته، والتحدي القائم أمام الجيل القادم في مستقبل الثقافة العربية ليس في الصراع بين نموذجي التراث والوافد الغربي بل في تحويل الغرب إلى موضوع للعلم وتحجيمه ورده إلى حدوده الطبيعية، وهي مهمة علم الاستغراب في مقابل التغريب والاستشراق كأسلوب للطغيان والطمس.
إن استقامة علم الاستغراب بالنهوض به من طرف الباحثين على عديد من الأجيال يؤدي إلى احتواء الثقافة الأوربية بيئة ونشأة وتكويناً، ويتحول الدارس إلى مدروس والذات إلى موضوع وعلى أنها تاريخ وليس في منأى عن التاريخ وتُرد إلى حدودها الطبيعية وتزول فيها صفة العالمية ويُفسح المجال للإبداع الذاتي للشعوب غير الأوربية، فتنمحي عقدة النقص في الأنا ويُدحض مركب العظمة في الآخر، فيُعاد تدوين التاريخ وتبدأ فلسفة جديدة للتاريخ، فينتهي الاستشراق وتتحول ثقافات الشرق من موضوع إلى ذات، ويتحقق التناوب والتعاون على التجديد الحضاري.
يظهر من تحليل صلة "التراث والتجديد" كموقف حضاري ضمن مشروع حضاري ضخم بالثورة على مستوى الفكر والثقافة وطيدة، لأنّ الثورة هي الطابع المميّز لكل جبهة من جبهاته، والثورة فيه على المستوى الفكري والنظري لا تتعارض مع الثورات العربية الراهنة على القمع الفكري والاستبداد السياسي والفساد الاجتماعي، لكن استخدام شبكات التواصل الاجتماعي وسرعتها المذهلة والخلل في صلة الثقافة بالسياسة وفي علاقة الفكر بالحكم وفي علاقة الشباب بالمفكرين والفلاسفة في العالم العربي هو الذي حالبين بين ثورة الشباب والنخبة المثقفة وإن تلقت وتتلقّى الثورات الشبابية كل الدعم والتأييد من قبل المفكرين والعلماء، فما دعا إليه "التراث والتجديد" منذ نصف قرن من الزمن نهض به شباب الحراك الثوري الراهن في أشهر معدودات وفي الجانب السياسي من منه وهو جزء محدود مما يطلبه المشروع ويسعى إليه.
خاتمة:
الموقف الحضاري عند 'حسن حنفي' مرتبط بفلسفته ككل وبمشروع 'التراث والتجديد'، وهذه الفلسفة يغلب عليها الطابع التحليلي النقدي وهذا يظهر في سائر الكتابات من مقالات ومؤلفات وحوارات لدى صاحب المشروع، كما سيطر عليها التكرار والذي يكون في حالات عديدة مشروعا ومطلوبا تقتضيه الحاجة إلى الدقة والعمق والتفصيل، والمشروع كما يتميز بالتثويرية فهو ضخم مفتوح على أكثر من جبهة، من الصعب إتمامه ومن الصعب تطبيقه خاصة إذا كانت عناصره وجبهاته متكاملة من الناحية النظرية، فلا يكفي تحقيقه بجزء أو مجموعة من الأجزاء دون غيرها، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالتخلف والانحطاط وضرورة التخلص من ذلك، فالأمر يحتاج إلى المشروع بأكمله.
وطابع التثوير فيه ارتبط بكل موقف في كل جبهة فالأول التثوير فيه هو الثورة في وجه التراث القديم كما هو في القديم وحسب ما يراه العصر بإعادة بناءه وصياغته وفق مقتضيات العصر. أما التثوير في الموقف من الآخر في الجبهة الثانية يكون بدراسة التراث الغربي ونقده وردّه إلى حدوده الطبيعية من خلال علم الاستغراب. أما التثوير في الموقف من الواقع في الجبهة الثالثة من خلال نظرية التفسير التي تقوم بالتنظير المباشر للواقع.
لسنا ندري إن كانت محاولة إعادة بناء التراث القديم ستنجح خاصة وأن التراث ضخم وغزير والمواقف منه متعددة وهل تجد المحاولة حيّزاً لها في الواقع أم تبقى مجرد إعلان عن نوايا ومبادئ. وعلم الاستغراب كعلم يقوم في مواجهة الاستشراق وفي مواجهة المركز وتحويل الحضارة من المركز إلى الأطراف وهو أمر ممكن نظرياً ومن خلال الكتابات لكن هل هو أمر ممكن في الواقع؟ كما أن الحضارات السابقة أخذت من الحضارات التي سبقتها لأن الحضارة والعلم لا وطن لهما حيثما كان الإنسان وُجدا، هذه الحضارات لم تربط مصيرها تكويناً ونشأة بمصير حضارة ما، فالتفاعل الحضاري كان طبيعياً وبديهياً. وتحليل الواقع في العالم العربي والإسلامي المعاصر بلغة هذا العصر ولغة العصر من روافدها ثقافة الآخر وفكره ومناهجه، فهو معنا باستمرار في حركة الفكر والفلسفة و الفرد والمجتمع، العلم والدين، العقل والنقل، فكيف يصبح الآخر هو الموضوع المدروس وتصبح الأنا الذات الدراسة بسهولة ويسر في واقع متأزم ومريض يسهل فيه الحديث ويكثر ويقل فيه العمل وينعدم الإبداع.
على الرغم من الطابع الثوري التثويري لمشروع "للتراث والتجديد" لم يستطع تحريك الثورة التي صنعها الشباب العربي درء للطغيان والفساد وجلبا للحرية والكرامة، وذلك لفساد العلاقة بين المثقف والسلطة، بين االمفكر وأفراد المجتمع، بين النخبة وشباب الأمة، بين النظر والعمل، وبين القول والفعل، لكن هذا لا يعني غياب "التراث والتجديد" تماما عن الثورات العربية الراهنة، فهو حاضر في مرجعياتها الفكرية والنظرية أسسا ومسارا وغايات.
أستاذ بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة حسيبة بن بوعلي الشلف
الهوامش:
1- حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص11.
2 - المرجع نفسه : ص11.
3 - المرجع نفسه : ص12.
4 - المرجع نفسه : ص12.
5 - حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص455
6- المرجع نفسه : ص456.
7- المرجع نفسه : ص456-457.
8- المرجع نفسه : ص460-461.
9 - المرجع نفسه : ص463.
10- حسن حنفي: دراسات فلسفية، ص19.
11- حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص18.
12- المرجع نفسه : ص18-19.
13- حسن حنفي: هموم الفكر والواقع، الجزء الثاني، ص456.
14- حسن حنفي: من النص إلى الواقع، الجزء الأول، ص8.
15 - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص178.
16 - حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص457.
17- حسن حنفي: التراث والتجديد، ص181.
18 - حسن حنفي: هموم الفكر والوطن، الجزء الثاني، ص464.
19- المرجع نفسه: ص465.
20- حسن حنفي: التراث والتجديد، ص183-184.
21- حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص175.
22- سورة الرعد:الآية11.
23- حوار مع حسن حنفي، برنامج قريب جدا، قناة الحرة TV.