الكاتب الليبي يكشف التفاصيل اليومية في أحد معتقلات القذافي، لراو لم يكن جرمه سوى أنه كتب على الجداران عبارات تندد بالقائد، سبع سنوات قضاها بين زمنين: زمن أحلام اليقظة التي يحقق من خلالها رغباته ويعاود معايشة ذكرياته، وزمن المعتقل بسطوته ومحاولات الراوي أن ينجو بنفسه ويخفف وطأته على روحه.

سبع سنين في سبعة أيام (رواية)

تحكى قصة سبع سنين في السجن، مسجلة في سبع أيام من اليوميات

فرج مختار قادير

اليوم الأول
أيقظتني ساعتي المنبه برنينها القوى كالعادة لصلاة الفجر، وبعد أن أقمت الصلاة ارتديت بدلتى العسكرية المكونة من سروال وقميص وطاقية وتمددت على السرير في انتظار أن يفتح الحرس باب الحجرة بعد انبلاج النور وانتشار ضوء الصباح وليس قبل ذلك، هاهو صوت باب الحجرة يوقظني من غفوتي، فالشرطي يستغرق وقتاً ليس بالقصير في فتح الباب كما انه يحدث قرقعة عالية، هاهو يدخل ويبادرنا بتحيّة الصباح فرددت تحيّته ثم بدأ في الصراخ في النائمين: انهضوا هيا (نوضوا) وشرع في إزالة البطاطين عنهم لإجبارهم على القيام ولكنه لم يفعل هذا مع بعض المجرمين المشهورين وتركهم تحت بطاطينهم وهم لثقتهم في أنفسهم لم يتحركوا قيد أنملة ولم يهتمّوا بما يحدث خارج أغطيتهم، وخرجت أنا الى الساحة الكبيرة المستطيلة لهذا العنبر الذى يحمل الرقم 2 بين العنابر ويدعى العنبر العسكري، خرجت لممارسة هوايتى الصباحية المفضلة المشي السريع، ساعتين على الأقل كل يوم، غير أنني وفى نفس الوقت أمارس هواية أحلام اليقظة أثناء المشي. وهى هواية مهمة جداً لتمضيه الوقت بالنسبة لى في هذا السجن وفى الحقيقة خرجت عن نطاق الهواية ودخلت في الاحتراف وتنقسم عندى أحلام اليقظة الى قسمين، قسم اسمّيه نهر الذكريات وهو عبارة عن استرجاع لوقائع حقيقية مما حدث لى في الماضى القريب والبعيد وقسم أطلقت عليه اسم بحر الخيّال وهو يتعلق بالمستقبل والأحلام والطموحات وهاهو بحر الخيال يدعوني لسباحه فيه: إنني أسير الان في شوارع مدينتي بنغازي التي لا تناظرها شوارع مدينة أخرى في العالم كله من حيث مراعاة قواعد النظافة والنظام والأمن حيث جمال مبانيها وتناسقها وروعه حدائقها العامة وأنا أرى واسمع السيّاح الأجانب وهم يتحدثون منبهرين بهذا التفاوت الكبير بين مدنهم وبين مدينتي. إن هؤلاء السياح هم بالتحديد من الدول التي تقود الحضارة في هذا العصر اى إنهم من أوروبا الغربية وأمريكا وكندا واليابان، إنهم يحسدون بنغازي على تفوقها النظامي على مدنهم ويتحسرون على أشياء كثيرة يرونها ويتمنون وجودها عندهم وكان بعضهم يسألنى عن سر هذا النظام البديع والنظافة المذهلة التي تتمتع بها مدينتى وكنت أهم بالإجابة عن هذا السؤال ولكن بحر الخيال لم يمهلنى اذ ما لبث ان رمانى على شاطئه بواسطة موجه عاليه فهو لا يسمح لى بالتمتع بشريط كامل بل مقتطفات فقط ومشاهد سريعه غير ثابته وهى دائماً تشير الى عكس ما هو موجود في الواقع.. هاقد عدت الى المسير في ساحه العنبر تحت شمس الصباح الدافئة. وكان الشرطى المكلف بالحراسة قد فرغ من فتح جميع أبواب الحجرات العشرة المتقابلة خمسه تقابل خمسه، وأيقظ نزلاءها، وخرج من العنبر وأغلق بابه. إنني مازلت موقوفاً ولم يحاكمونني بعد رغم مرور سبع سنوات بالتمام والكمال. وجريمتي كانت كتابة عبارات ضد معمر القذافي على جدران مراحيض المعسكر الذى يقع في مدينه الابيار التي تبعد عن بنغازي 60 كيلومتر، سبع سنوات في السجن، أربع منها هنا في الكويفيه وهى ضاحيه من ضواحى بنغازى، وسنتان ونصف في سجن منطق البركة ونصف السنة في سجن الاستخبارات وهما يقعان في وسط المدينة، وبينما كنت أواصل المسير المُجد غمرتنى فجأة موجة قوية عاتية اعادتنى الى عرض البحر، بحر الخيال .. انا الان لاعب كرة قدم، أرى نفسى أصول وأجول فوق المستطيل الأخضر، أسجل الأهداف ببراعة نادرة وأتحكم في لعب الكرة بشكل غير طبيعى، أمررها إلى زملائى بدقه لا سابق لها وكنت انأ السبب الرئيسى في وصول الفريق الليبى إلى التصفيات النهائية لكأس العالم، ثم بعد ان أوقعتنا القرعة مع الفريق البرازيلى تمكنا من إخراجه من المرحلة الأولى من التصفيات بعد مباراة مثيرة استحوذنا فيها على الملعب استحواذا كاملاً، وتفوقنا لعباً ونتيجة، وكنت أنا صاحب الهدف الذهبي الذى أخرج البرازيل، وهزيمة فريق مثل البرازيل بمثابة الحصول على كأس العالم و.. بينما أنا في غمرة شهرتي وسعادتي أعادني صوت قوى إلى ساحة العنبر.. إلى الواقع، انه صوت احتكاك معدني، أن احدهم يحاول فتح باب العنبر.. هاهو آمر الحرس يدخل ثم يتوقف وينظر يميناً ويساراً قبل أن يهتف: اجمع وردد خلفه أفراد الحراسات من الشرطة ألعسكرية بصوت اقوى.. هيّا اجمع واندفعوا الى داخل الحجرات وكان معظم المساجين قد عادوا غالى النوم ولهذا تعرّضوا للتأنيب العنيف والتهديد بغلق الأبواب بالأقفال بعد إخراجهم غالى الساحة وكنت قد وقفت في هيئه الاستعداد كحجر أساس للطابور المرتقب. وتدفق المساجين من غرفاتهم الى الساحة تباعاً، واخذوا يتلاصقون بمحاذاتى وخلفى حتى اكتمل سكان العنبر كلهم في ثلاث صفوف متوازية، عندئذ طلب منا آمر الحرس تنظيف الساحة، فاندفع احد السجناء خارجاً من الصفوف لتنفيذ الأمر فصرخ فيه آمر الحرس: ارجع مكانك يا خرقه، ثم قال مخاطباً الجميع: لا تتحركوا من أماكنكم ألا عند سماع كلمة تفرق، وبعد سكوت قليل تحرك وسار امامنا مثل الطاووس ثم هتف فجأة: تفرق. فاندفعنا في جميع الاتجاهات وملأنا ساحة العنبر بينما انتحى الآمر جانباً بأحدهم في حديث شخصى. وفى منتهى الجد والإخلاص بدأت أنا في التقاط الأوراق والعلب الفارغة ولملمة بقايا الأطعمة الملتصقة بالعارض وكان هناك برميل للمهملات امام كل حجرة وكنت القى بحمولتى أولا بأول في أقرب برميل ولكن احد الحرّاس رآنى خالى الوفاض وشاهد يدي فارغتين فقال لى: انت لا تفعل شيئا؟ لماذا لا تعمل؟ فاريته يدي المتسختين وقلت له: اننى ألقى بما لدىّ في البراميل. فسكت ولم يقل شيئاً ولكن عينيه كانتا تقولان: لقد تعمّدت توسيخهما لتخدعنى، في الوقت الذى كان فيه معظم المشاركين في حملة النظافة يحتفظون في أيديهم بعلبة او عدة أوراق، كدليل على أنهم يعملون دون أن يقتربوا ولو مرة واحدة من برميل الزبالة حيث يُفترض ان يتخلصوا مما لديهم ولم يبذلوا جهداً على الإطلاق ولم يلاحظ هذا الشرطى نظافة أيديهم وعندما لاحظت علامات الشك على وجهه قررت ان افعل مثلهم، اتحرك هنا وهناك ولكن بدون عمل حقيقى فكان كلما نظر نحوى بعد دلك وشاهد ما في يدي ظهرت عليه علامات الرضى وقرأت في عينيه اننى قد اكتسبت ثقته وانه يعاتب نفسه على سوء ظنه بى. وفيما انا على هذا الحال تراءى امامى فجأة نهر عظيم، انه نهر الذكريات فإذا بى أخوض في أعماقه، اننى الآن مع أربعة أشخاص نبحث في الأرض ونفلى في العشب نرتدى ملابس عسكريه كاملة، ونعمل بجد ونشاط في تنظيف قاطع من الأرض داخل المعسكر في مدينه الابيار حيث طلب آمر السرية منا تنظيف منطقه محددة ويقولون في اللغة العسكريه قاطع، وكان معظم جنود السرية التي يقدّر عددها بثلاثين شخصا قد تهربوا من العمل، وانتشروا في أرجاء المعسكر، بينما ظللت أنا واربعه آخرين نجتهد في تنفيذ الأمر العسكرى وكان بعض هؤلاء المتهربين يمرون علينا فيتعجبون من إخلاصنا واجتهادنا ويطلقون النكات والألقاب مستهزئين بنا، احدهم قال لنا إن هناك جوائز قيّمة تنتظرنا. وبعد فترة من الزمن لاح شبح آمر ألسريه من بعيد متجهاً نحونا فبادر عدة أشخاص كانوا جالسين إلى العمل والنشاط وحتى عندما وصل الينا لم يكف أفراد ألسريه عن العودة السريعة المتسلل والتظاهر بالانخراط في اعمال التنظيف ولكن يبدو ان هذا كله لم ينطل عليه وبناءاً على أمر منه اصطففنا بينما لايزال البعض ينضم الينا تحت سمعه وبصره ثم شرع في النطق ببعض الإيعازات: استعد. استرح. استعد. انبطح. نظرنا إلى بعضنا متسائلين إذن إنها عقوبه عامه. ازحف. هيّا ازحف. فتكاسل الجميع في التنفيذ واحتج البعض وكان أكثرهم احتجاجاً أولئك الذين عادوا بعد عودته هو وتظاهروا بأنهم يعملون ولهذا السبب لم يصدقهم ولهذا السبب أيضا لم استطع الاحتجاج وكنت قد هممت به بعد سبقنى أليه هؤلاء المدّعين المحتالين، وهكدا كان لابد ان تسرى العقوبة على الجميع وكانت بعض الغدران تنتشر هنا وهناك وبينما كنت ازحف في العارض الموحلة تمنيت لو اننى قد استمتعت بوقتى مثل الاغلبيه التي تهربت ولم ارتق نفسى بالعمل لاننى سأكون عندئذ مستحقاً للعقاب. لفظنى نهر الدكريات الى الضفة فازا بى في ساحة العنبر في سجن الكويفيه اكتشفت اننى مازلت مواصلاً حملة التنظيف وحدى في الساحة فقد عاد معظم المساجين الى حجراتهم والى أسرتهم وخرج آمر الحرس وجنوده من العنبر ولاحظتُ أن بعض الجالسين قريباً منى ينظرون الىّ بصخريه واستهزاء لاستمراري في تنظيف الساحة وحدى وقال احدهم لى استخفافاً: ادهب الى المنطقة الأخرى بعد أن تنتهى من هنا، فهناك القليل من الزبالة على الأرض، واشر بإصبعه إلى الناحية الأخرى من العنبر، أما البعض الآخر فكان يبتسم لى بعطف وإشفاق ابوى.

افترشتُ حصيرتى الصغيرة في إحدى زوايا العنبر الظليلة ومعى مخدة ومجله وجهاز إذاعة مسموعة وأمضيت الوقت كله حتى قبيل صلاة الظهر التي غالباً ما استعد لها بالوضوء قبل الآذان في القراءة والاستماع الى برامج إذاعة لندن وأخبارها وكانت الساحة خاليه تقريباً من البشر طوال هذه المدة اذ ان هذه الفترة في السجن هى فترة هجوع واستمرار ومواصله للنوم الدى اُقتطع منهم في الصباح، ولا تبدأ الحركة الحقيقية في العنبر إلا بعد العصر بقليل وتستمر وتشتد حتى الثالثة بعد منتصف الليل، هذا هو الروتين اليومى في الأحوال العادية. ويحدث الاستثناء عند حدوث مشاجرات او ارتفاع الضجيج عن الحد الأقصى عندئذ تلجأ الشرطة إلى إغلاق أبواب الحجرات على سكانها طوال اليوم او تجبرهم على النوم المبكر مساءاً بالقوة وقد واصلت القراءة دون الاستماع بعد ادائى لصلاة الظهر ليس خارج الحجرة بل داخل سريرى مسدلاً ستائره على نفسى بسبب ان معظم النزلاء كانوا يغطّون في النوم وأيضا بسبب زوال الظل وانحساره في الساحة عند الظهيرة.

بعد العصر حملت ادواتى الرياضية وهى عبارة عن حبل وثلاث قطع من الحديد المخصص لرياضه كمال الاجسام ورفع الأثقال وهى صناعه محليه من داخل السجن وكرسى طويل حملتها على دفعات الى راويه من العنبر وبدأت بالتسخين بواسطته القفز بالحبل ثم دخلت في تمارينى الحديدية، وكان هناك شخص مستلق على الأرض قريباً منى مستنداً على ساعده الأيسر وأعلى ظهره ملتصق بالحائط رافعاً رجله اليمنى على هيئه الرقم ثمانية تاركاً رجله اليسرى ممتدة، ولم البث ألا قليلا ً في تمارينى حتى قرعت أذني ضرطة قويه قادمة من جهة هذا المستلقي فتطلعت نحوه فوجدته شاخص البصر ناظراً فيمن حوله بعين قويه لا تطرف كأنه يقول نعم يا سادة أنا صاحب الضرطة، ما شأنكم بى؟ أنا حر.. وكان بعض الذين يجلسون بقربنا قد سمعوا ما سمعت يتضاحكون، استمر بطلنا في إطلاق العنان للريح والغازات ألداخليه بدون قيود ولا رقابة، في البداية نظرتُ إليه باستنكار فرد علىّ بنظره استنكاريه مضادة كما لو انه يستنكر استنكارى ولكنى بعد دلك غلبنى الابتسام ثم الضحك فتغيّرت نظرته لى من الاستنكار إلى الرضا ولكنه لم يبتسم أبدا مع كل هذا بل ظل محافظاً على سحنه جادة وملامح صارم كما انه بدا راضياً عن النتائج التي حققها والمتمثلة في إثارة الضحك والضحك كما هو معروف يطفئ الغضب كما يطفئ الماء النار ويًزيل السخط وانه لمن الصعب على المرء ان يكون غاضباً وضاحكاً في نفس الوقت كما انه أى الضحك يُعطى انطباع بالموافق على هذا السلوك الشائن.

بعد صلاة العشاء اعلقوا الأبواب العشرة بعد أن جمعونا صفوفاً كل حجرة تصطف أمام باب دارها واخذوا التمام اليومى، وهو الكشف عن أسماء جميع نزلاء العنبر الحاضرين وبعد إغلاق باب الحجرة وأقول حجرة وليس زنزانة بسبب ما تحتويه معظم الحجرات من كل أسباب الترفيه من أجهزة اداعات مرئي ضخمة ومسجلات فخمة وستائر ملونه تحيط بالأسرة وسجّاد فاخر وافران كهربائية، وبعد إغلاق باب الحجرة الجأ على الفور إلى كرّاسة اليوميات لتسجيل أحداث اليوم وخواطرى وملاحظاتى متحصناً داخل ستائر سريرى ثم بعد الانتهاء من الكتابة جلست أمام الاداعه المرئية التي تحتل صدر الحجرة أما زملائي فقد قسّموا أنفسهم إلى مجموعات تتنافس في لعب الورق على قاعدة الخاسر يطلع. واجتمعنا كلنا بعد دلك على فقرة السهرة في التلفزيون التي كانت مسلسلاّ عربيّا.

 

اليوم الثانى
أيقظتني ساعتي المنبه لصلاة الفجر، اقصد قبل الفجر بقليل وما كدت انتهى من الوضوء حتى سمعت صوت المؤذن البعيد وبعد الصلاة تلوث شيئاً من الذكر الحكيم ولم استطع الصبر حتى قدوم الحرس فشرعتٌ في المشي في السقيفة من باب الحجرة الى باب الحمّام مثل النمر الحبيس وعلى الفور تراءى لى نهر الذكريات فألقيت بنفسي بين أمواجه، انني الآن أقود سيارتي في إحدى شوارع بنغازي ومن آن لآخر القى بحزمه من المنشورات عبر النافدة وهى عبارة عن أوراق منزوعة من كرّاسه إملاء أو هى الكراسة كلها قد نزعتُ غلافها وشطرتها نصفين والكلام المكتوب في هذه الأوراق عبارة عن شتائم مباشرة موجهة إلى معمر القذافي من مثل: القذافي طاغية .. القذافي حمار كبير .. القذافي آمه يهودية لقد كان هذا الرجل هو السبب في منعى من مواصله دراستي الجامعية وكان هو السبب في توجيهي إلى احدي الكليات العسكرية، وكل ما يتعلق بالجيش والعسكرية من المكروهات عندى، كانت رغبتى في الانتقام قويه جداً وعند رجوعى غالى البيت بعد توزيعى للمنشورات غمرنى شعور بالرضا

والراحة النفسية وعدت لممارسه حياتي العادية ناسياً معمر القذافي ومشاكله ولكن إلى حين، إذ تعود الىّ من جديد هذه الأحاسيس والأفكار التي هي مزيج من الشعور بالغبن والظلم والرغبة في الانتقام ولا تزول عنى الا بعد جولة اخرى بالسيارة ومعى بالطبع كراسه منزوعة الغلاف ومشطورة نصفين وممتلئه بالشتائم، ينتقل بى نهر الكريات الى مشهد آخر، اننى الآن واقف في طابور الصباح ضمن فصيل المخابرة الذى هو جزء صغير من من الكتيبة 39 مشاة والتى هى جزء من اللواء الدى يجتمع هذا الصباح في سافحه معسكر منطقه بوعطنى، هذا المعسكر الدى كنا نتدرب فيه بصفتنا مستجدين وكانت الاوراق الممتلئه بالشتائم تشغل اثنين من الجيوب الاماميه لمعطفى العسكرى وكان الضابط يمر في هذه اللحظة للتفتيش عن القيافه والهندام وتوقف امام الشخص الذى بجوارى وفتش جيوبه كلها واستخرج اغراضاً شخصيه كثيرة ثم اعادها الى مكانها واتجه نحوى فتجمد الدم في عروقي ودق قلبي في صدري بعنف كأنه يطلب الخروج ولكن الضابط مر امامي مرور الكرام دون ان ينظر الىّ وكنت راغباً في القاء ماعندى من اوراق في عتمة مابعد الفجر بمجرد وصولى الى المعسكر قبل انبلاج النور ولكنى لم اتمكن من دلك بسبب خوفى وحرصى الشديدين ولكنى استطعت بعد التمام الصباحى ان ارميها في ركن من الاركان في الساحه التي كنا نصطف فيها بعد انتشار ضوء الصباح وبعد ان تغلبت على خوفى وفى الحقيقه رميتها بطريقه من يتخلص منها وليس بطريقه من يقوم بتوزيعها.

نشف نهر الذكريات فجأةً واختفى ماؤه فوجدت نفسى موحلاً في أرض الواقع، لقد فتح الحارس باب الحجرة بعنف والقى تحيّة الصباح وشرع في الصياح لايقاظ النائمين وانطلقت انا الى الساحه الممتلئه باشعه الشمس لمواصله رياضتى بخطوات واسعه سريعه ولكن نهر الدكريات مالبث ان امتلأ بالماء وبدأ يغمرنى شيئاً فشيئاً وها انا الان جالس على الارض مع عدد كبير من المستجدين داخل احد الفصول الدراسيه في مدرسة المشاة بمنطقه بوعطنى حيث نتلقى الدروس العسكريه وكان المعلم في هذا اليوم يشرح لنا طريقه عمل بعض اجهزة التخابر اللاسلكيه فانتبهت الى وجود عبارة مكتوبه بخط كبير وعريض بالطلاء الاخضر على حائط الغرفه الاصفر بالقرب من اللوحة الكبيرة السوداء التي يكتب لنا المعلمون الدروس عليها بالطباشير السبّورة وكانت العبارة هى (لابد من ثورة داخل مدرسة المشاة والسبب الجميع يعرفونه) ورغم ان هذه العبارة كانت في مواجهتنا جميعاً ولكن احداً لم يعلق عليها وكان هناك نوع من التمازح بينى وبين المعلم فناديته باسمه فلما نظر الىّ اشرت الى العبارة بوجهى فشخّص في بعينيه وعضّ على شفته السفلى كنوع من التحدير والتخويف لى من الخوض في هذا الموضوع ومضى اليوم الدراسى كغيره من الايام ولكن في اليوم التالى منعونا من الدخول الى الفصول وتلقينا علومنا في الهواء الطلق سواء منها النظريه او العمليه ورأيت اشخاصاً يرتدون ملابس مدنيه يدخلون ويخرجون من حجرات الدرس ولاحظت ان سيماهم صارمه وابصارهم شاخصه وسمعت ان معمر القذافي قد حضر شخصيّاً في دلك اليوم، عدت الى الواقع.. الى ساحة العنبر، كانت خطواتى قد تباطأت كثيراً وتعرق جسمى، لقد هدّنى التعب من جرّاء المشى فجلست امام حجرتى، كنت كمن خرج لتوه من دار للعرض السينمائى لا تزال صور الشريط تتوارد امام ناظرى، فكّرت انه اذا لم تكن هناك تدريبات عسكريه او اى شى من هذا القبيل فان الوقت مناسب لاخراج حصيرتى ومخدتى من اجل القراءة ولكن بعد تناول طعام الافطار الدى اُعدّه بنفسى لنفسى فقط والتدريب العسكرى في هذا السجن قليل ولكنه امر وارد في اى لحظه، ظللت جالساً في مكانى مترقباً متوقعاً ان ينفتح باب العنبر ثم تعقبه الصيحات المعتادة اجمع اجمع، كان بعض السجناء اللدين استيقظوا الان قد خرجوا من اوكارهم وجلسوا امام حجراتهم يتشمسوا تحيط مناشفهم باعناقهم،بعضهم جلسوا على كراسى جميلة تتوسطهم طاولة اجمل وتظللهم مظله اكثر جمالاً من دلك النوع الدى يستعمل على شاطئى البحر وفتحوا مسجّلاتهم الضخمه لتصدح باصوات مطربيهم المفضلين والبعض الآخر ينشر ملابسه المغسوله على الحبل وآخرين يحملون اكياسهم يقفون بجوار الباب الرئيسى للعنبر على استعداد لجلب الراشل وهو التموين اليومى لكل حجرة الدى يوزعونه كل صباح ويتكون من الخبز كمادة اساسيه ثم تتنوع وتتغيّر باقى المواد كل يوم مرة بيض ومرة جبن او حليب او خضروات كما ان البعض يربّى الحمام والارانب فيقوم بفتح باب الحظيرة واطعامها، انها مشاهد تتكرر كل يوم، كل صباح تتكرر بنفس التفاصيل ونفس الحركات ونفس الكلمات والتعليقات التي يتبادلها السجناء فيما بينهم، تتكرر بالتمام والكمال كأننى اعيش يوماً واحداً لايتغيّر كأن الزمن قد توقف وهذا يزيد من احساسى بوطأة السجن وثقله، انها سبع سنوات مرّت من عمرى لااستطيع تصديق دلك دخلت السجن في مطلع العشرينات من العمر وهاانا مشرف على نهايتها ولكن ماذا في دلك؟ فحتى الانبياء قد سجنوا مثل نبىء الله يوسف، هذه الفكرة اراحتنى نفسيّاً حتى الانبياء سجنوا، وقد يكون السجن في هذه الفترة من العمر وفى هذه الفترة من تاريخ هذا البلد قد يكون افضل ما يمكن ان يحدث لى، قد يكون حمايه لى من اشياء اخرى خطيرة ورديئه ممكنه الحدوث هى ايظاً فازداد شعورى بالراحه والاطمئنان واستولى علىّ ايمان شديد بقضاء الله وقدره وغمرنى احساس رائع عندما فكّرت بحسن العاقبه التي تنتظرنى في المستقبل باعتبار اننى مجاهد في سبيل الله والوطن والحريّه، اذن يجب ان تهون كل المصائب وتُستعدب كل المخاطر، والسجن مصيبة لاشك في ذلك وحاصرتنى هذه المشاعر لدرجه اننى لم اعد راغباً في الخروج من السجن، بعض الناس قال لى اليس كان من الافضل تسجيل افكارك في ورقه وتلاوتها في المؤتمر الشعبى في المنطقه التي تقطنها؟ الم يكن دلك اسلم عاقبه من كتابه الشتائم على جدران مراحيض المعسكرات؟ إن ما ارتكبته كان اهانه لولى الأمر وتحريظاً للناس للخروج على الجماعه التي امرنا الله ورسوله بلزومها، إنّ هذا القول يشككنى فيما فعلت ويصيبنى بالاحباط لانه يخرجنى من زمرة المجاهدين ويضعنى في زمرة العابثين المتهورين، ولكن الله امرنا ايظاً بضرورة ان تقال كلمة الحق دائماً وجعلها رسوله من اشرف انواع الجهاد اذا قيلت في وجه الحاكم الظالم، واننى الان اتسائل هل ما كتبته من شتائم كان في وجه الحاكم الظالم ام في قفاه؟ وهل يمكن ان تكون الشتائم كلمة حق؟ لااملك اجابات واضحه عن هذه الاسئله ولكنى اعرف جيداً ان من حقّى ان اعيش كما اريد واعرف جيداً ان الحريّه هبه من الله وليس من قائد الثورة معمر القذافي ولهذا من حقّى ان اعيش حراً في بلادى، بلادى التي تحوّلت الى سجن كبير والدليل على ذلك هو وجودى في هذا السجن الصغير مدة سبع سنوات توقيف بلا محاكمه، كنت في حاله من الشد والجذب، افكاراً تشعرنى بالراحه والسعادة وتساؤلات تغمّنى وتفقدنى سعادتى الطارئه وتحمّلنى ضيقاً اضافيّاً زيادة على ضيق السجن، وبصعوبه انتشلتُ نفسى من هذا الخضم المتلاطم بعد ان شاهدتُ احد الزملاء يدخل الى الحجرة حاملاً كيس الراشل اذ يتعيّن علىّ الحصول على حصتى من الخبز وما يأتى معه وكان البيض هو رفيق الخبز في هذا اليوم مع الخضروات ويتعيّن علىّ ايظاً اعداد طعام الافطار لنفسى قبل حصة القراءة ومن عادتى الاحتفاظ بتموينى الغدائى الخاص داخل صندوق بلاستيكى تحت سريرى وليس في صندوق التموين العام الدى يتشارك فيه جميع افراد الحجرة واحرص كل الحرص على تناول طعامى وحدى وامتلك كل اللوازم والأدوات المطبخيه ذات الحجم الصغير الخاص بالاستعمال الفردى وهذا الاسلوب الانعزالى في العيش يناسبنى جداً ويُريحنى جداً جداً، لقد جربت من قبل التعايش الاشتراكى في بدايه قدومى لهذا السجن وكنت احتفظ بكل ما يحضره لى الاهل من تموين في زيارتهم الاسبوعيه في صندوق التموين العام ولكنى مع مرور الوقت اكتشفت اننى الخاسر الأكبر في هذه الحياة الاشتراكيه ويخسر معى كل من يزوره أهله أسبوعيا ويحضرون له تمويناً وتشمل هذه الخسارة اللدين يدفعون مالاً بصورة منتظمه من اجل ملء مخزن التموين العام وانا منهم وهؤلاء الخاسرين لم يزد عددهم عن الاربعه او الخمسه في كل فترة من فترات المدة كلها التي قضيتها في سجن الكويفيه حتى الآن وبما ان عدد نزلاء الحجرة لم يقلّ عن العشرين ابداً واحياناً كثيرة يزيد عن الثلاثين فان التموين العام مهما كان كثيراً فهو لايصمد يومين او ثلاثه ولهذه الاسباب تعرّضت لعضّة الجوع عدّة مرات وغالباً ماكان يفوتنى حتى الطعام الرديء الدى يأتى من مطبخ السجن بسسب الصلاة أو بسبب اعتقاد الحارس بعدم حاجتى إليه وأنا لااستحق هذا كله فوضعى المادى يُتيح لى الاكتفاء الداتى وعدم الاحتياج الى الغير ثم ان الاغلبيه التي لاتساهم في التموين العام ولايحضر اهاليهم لزيارتهم لمدة طويله يقومون بالغارة على الحجرات الاخرى في اوقات الغداء والعشاء عندما تسود المجاعه حجرتنا اما بالنسب لى فوحدانى وانفرادى لا ازور ولا أزار ولا استطيع ان اطلب من احد شيئاً للاكل حتى من اللدين اتفضل عليهم بالعطاء من آن لآخر، لا استطيع بسبب طبيعتى وبسبب خوفى من مساوى العلاقات الاجتماعيه وهكذا وجدتُ انه من الافضل لى والانسب اعلان الاستقلال التام وتخطيط الحدود بينى وبين الآخرين ولكنى مع دلك حرصت على المساهمة الماليه في التموين العام كلما طلب منى دلك. وحتى آذان الظهر امضيت الوقت في القراءة مستلقياً فوق الحصير الصغير او متكئاً او جالساً واضعاً المخدة بينى وبين الحائط ولم اكد انتهى من صلاة الظهر التي اقمتها امام الحجرة فوق نفس الحصير حتى فتح باب العنبر بقوة واندلف آمر الحرس الى الداخل بسرعه واتجه نحو احدى الحجرات دون ان ينطق ببنت شفه على غير عادته ثم خرج بعد قليل وهو يحمل تنكه صغيرة ممتلئه بسائل احمر فاتح فوضعها على الارض وصاح: اجمع.. اجمع فلما خرج الجميع واكتمل عددنا في صفوف ثلاثه شرع الآمر في القاء محاضره يدور موضوعها حول مضار الخمر ومخاطره على الصحة والمال وعلى استقرار واستمرار الحياة العائليه واشار الى البرميل الصغير ذي السائل الاحمر وقال: لقد وجدنا هذه الخمره في الحجرة رقم ثلاثه ثم قال كلاماً كثيراً جداً مفاده انه رغم احترامه لنا وتسامحه معنا وتغاضيه عن الكثير من مخالفاتنا للنظام واستهتارنا باللوائح المعمول بها داخل السجن فأننا قد استخفينا به واستغليناه والدليل على دلك هو هذه واشار الى التنكه من جديد وختم محاضرته بالتهديد والوعيد بتغيير اسلوبه معنا والتشديد علينا في كل شى واوضح بعض المساجين ان هذا التهديد يجب ان يتوجه فقط الى سكان الحجرة ثلاثه ولكن المحاضر لم يلتفت الى هذه الملاحظه ولم يعلّق عليها ورغم انه قال حرفيّاً ان مضار الخمر اكثر من منافعه فلم يدكر لنا منفعه واحدة من هذه المنافع ويبدوا ان نزلاء الحجرة المدكورة قد انكروا معرفتهم بهذ الخمرة التي وجدت في حجرتهم او من قام بتصنيعها وبعد نهايه المحاضرة وخروج ملقيها من العنبر انصبّ حديث معظم السجناء حول نقطة واحدة وهى ان دخول آمر الحرس رأساً الى الحجرة رقم ثلاثه دون غيرها دليل على ان هناك وشايه وبعد العصر كانت هناك مباراة في لعبة الشطرنج بينى وبين بطل العنبر غير المتوّج ولم تستمر المباراة طويلاً اذ انه هزمنى بسهوله ويسر ثم اعطانى بعض النصائح وعلمنى بعض الافتتاحيات المشهورة وهو لا يلعب الا مباراة واحدة في اليوم، لقد حدث مرة في هذا السجن ان احدهم علّمنى لعبة الشطرنج فلقت هوىً في نفسى ووقعتُ في حبها من اول لعبة فحرصتُ على اتقانها حتى صرت خصماً عنيداً لمن علّمنى اياها ثم رأيت نفسى وقد هزمتّ معلمى، كنت اتعلم من خلال اللعب نفسه ومن خلال ملاحظتى لطريقه لعب الآخرين وهذا البطل الدى لعبت معه اليوم لم اتمكن من هزيمته ابداً من قبل رغم انه يلعب بسرعه ولايفكّر كثيراً كما هو الحال معى اذ اننى عندما يحتدم وطيس المباراة افكّر وافكّر وافكّر قبل تحريك اى قطعه حتى ينعدم التفكير ويتبقى مجرد النظر ثم مع اطالة النظر والتحديق في قطع الشطرنج يتغشى على عينى فلا اكاد ارى شيئاً رغم ان عيناى مفتوحتان، ورغم علمى بان اللعب مع من هو افضل منى هو الدى يجعلنى اتعلم اكثر فقد صرت اتهرب من مواجهة هذا الشخص، اذ ليس من السهل على المرء ان يتقبّل الهزيمة تلو الهزيمة والخسارة بعد الخسارة ولكن بعد جولات عديدة مع اللاعبين اللدين استطيع هزيمتهم بسهولة اعود للعب معه لاختبار مستواى وتكون النتيجه دائماً هى الخسران المبين وباسرع وقت غير اننى لاحظت ان سرعته في هزيمتى قد صارت تتباطأ وتتناقص اى ان زمن المباراة بينى بينه قد صار يطول عن دى قبل وهذا جعلنى استنتج ان قدرتى على الصمود امامه قد ازدادت وبالتالى لابد ان مستواى قد ارتفع قليلاً وهذا الاستنتاج بدوره قد الهمنى استنتاجاً آخر وهو اننى سوف اهزمه يوماً ما،نعم ان هزيمة هذا البطل الدى لم اهزمه مطلقاً هى امر ممكن، غيران امراً قد حدث خلّف في نفسى حسرة كبيرة وهو خروج البطل فجأة من السجن، وهكذا فقد بات هذا الأمر الممكن الان غير ممكن.

لاعب آخر لفت نظرى يُجيد الكر والهجوم ولكنه لايُجيد الفر والفرار، يهاجم بسرعه وبقوة دون اى اعتبار للخسائر التي يتكبدها، تستحود عليه فكرة النصر الكاسح اى انه لايرغب في مجرد النصر ولكنه يريد نصراً مميزاً ولهذا فهواذا لم يحقق بهجومه النصر الفورى يفقد القدرة والرغبة معاً في الاستمرار في اللعب، انه يستكبرعن القيام بالتراجعات فاذا فشل هجومه خسر الحرب، انه يستنكف عن اللعب الدفاعى رغم انه قادر على

الاستمرار ولهذا انا اكتفى عند اللعب معه بإفشال هجومه لكى أحقق النصر ولكننى اذا تهاونت وسمحت له بحشد القطع واعطيته وقتاً لدالك فأن اننصاره سيكون مؤكداً وساحقاً وفى بعض الأحيان يتكبد خسائر فادحه في هجومه فلا يتبقى له إلا القليل من القطع ولكنه مع دلك يحاول الاحتفاظ باستماته بالوضع الهجومى المسيطر، فادا ما شعر انه من المستحيل عليه الاستمرار مهاجماً وايقن ان الموقف على وشك التبدل فانه يستسلم وينهض عن اللعب كأنه لايرغب في ان يسمح للخصم باعلان النتيجه فيعلنها بنفسه لاعب ثالث لفت نظرى يلعب بطريقه اُسمّيها طريقه عدم اللعب فهو يعمد الى تصيّد قطعه من قطع الخصم ليأكلها مقابل قطعه يقدمها كأنه يرغب في تخفيض عدد الجيشين المتحاربين تدريجيّاً ويستمر على هذا المنوال قطعه مقابل قطعه وهدفه من دلك منع خصمه من استعمال قدراته وصولاً الى التعادل، فهذا الشخص يخشى الهزيمه بدرجه اقوى من رغبته في الفوز ولهذا اصبح تحقيق التعادل عنده بمثابة الفوز وهو قد اكتشف ان أسهل طريقه وافضلها واضمنها هى ان يلعب بطريقه عدم اللعب وعندما يتوصل الى تحقيق التعادل ينهض عن اللعب في هيئه المنتصرين الظافرين، انه لايثق بنفسه ولا يلعب ولا يدعك تلعب ولا يعطى اللعبة حقّها وكل هذا بسبب خشيته من الهزيمة مع ان الهزيمه لا تُشين الإنسان اذا ما أعطى اللعبة حقها ولايعيب الإنسان عدم إجادته الشطرنج او اى لعبه اخرى وفى احدى جولاتى الشطرنجي كنت في مواجهه هذا اللاعب الدى لا يلعب فانحصرت خطتى في عدم منحه فرصه لتبادل اكل القطع وكان كلما كسبتُ منه قطعه دون مقابل يُصدر صوتاً من فمه تعبيراً عن الأسف وهذا الصوت هو عبارة عن شفط الهواء بالشفتين كما يفعل البعض عند احتساء الشاهى ثم انه يمد يده نحو القطعة التي يرغب في تحريكها وعندما يكاديلمسها يتوقف ويتردد وتظل يدهُ فوق القطعه متسمّرة، لقد اختار هذه القطعه ليحركها ولكنه يخشى عواقب سوء الاختيار ويستمر على هذا الحال وقتاً طويلاً وقد حرصتُ ان لايظهر منى ادنى تململ او تضايق او تأفف رغبة منى في معرفه الى اى حد يمكن ان يصل اليه تردده واطول مدة ممكنه يستغرقها قبل تحريك القطعه وكنت قد جربت بنفسى عواقب اطالة التفكير والنظر اكثر من اللازم وهو عندما يقرر اخيراً تحريك القطعه المختاره فانه بعد ان ينقلها الى مكانها الجديد يعود بجسمه الى الوراء بسرعه كأنه يتوقع حدوث انفجار، كان من الافضل له ان يكون عدم اللعب قراراً يتخده قبل بدايه اللعب بدلاً من اعتماده كخطة لعب.

بعد المغرب وحتى اغلاق ابواب الحجرات التي قد تظل مفتوحه الى ما بعد صلاة العشاء بقليل تتجاوب اصوات عدد كبير من المطربين والمطربات في ساحة العنبر ويمتلئ الجو بالموجات الصوتيه المتصادمه المنبعثه من المسجلات الضخمه ومن اكثر واهم الاصوات التي تتناهى الى اُذنى معظم الوقت صوت الفنانه ام كلثوم ثم يأتى في المرتبه الثانيه من حيث الانتشار داخل السجن اصوات مطربى المرسكاوى في بنغازي رغم ان معظمهم ليسوا مطربين البته ثم يأتى في المرتبه الثالثه كُلاً من ابوعبعاب وخديجه الفونشه واحمد عدويه والموسيقى الاجنبيه دات الايقاع القوى وبعض المساجين لا يريدون ان يتمتعوا وحدهم باصوات مطربيهم المفضلين بل يرغبون في اشراكنا جميعاً معهم في هذا الاستمتاع ولهذا يرفعون اصوات اجهزتهم الضخمه الى اقصى حد دون ان يسألوا عن رأينا في هذا الموضوع، اما بالنسبه لى فأننى استمتع كثيراً بمتابعه برامج اداعه الشرق الاوسط القاهريه المنوّعه ولااستطيع الاستماع بسبب الضوضاء الا داخل سريرى مسدلاً ستائره على نفسى وواضعاً اذنى على مكبر الصوت بعد إضاءة المصباح الصغير الملوّن المثبت في سقف السرير.

 

اليوم الثالث
استيقظتُ هذا الصباح قبل رنين ساعتى القوى بقليل، هذا الرنين كما يؤكد لى بعض الذين ينامون بقربى اصبح مصدراً للكوابيس بالنسبة لهم فقد باتوا يحلمون كثيراً بسيارات المطافئ والاسعاف ولكن البعض الآخر يحمد الله عليه اذ بفضله يقيمون صلاة الفجر في وقتها وأشخاصا من الحجرات الأخرى يؤكدون لى انهم يسمعون هذا الرنين كلما طال بهم السهر حتى الفجر، ويكون دهنى في غاية الصفاء بعد الاستيقاظ مباشره وعقلى كالصفحة البيضاء على اتم الاستعداد للامتلاء بالحروف والكلمات

ومع دلك فإنى لا اتمكن من الاسترسال في قراءة بضعه سطور من كتاب او مجلّه بصوره مركزه وثابته بسبب هذه الرغبه القويه الجارفه التي تدفعنى نحو احلام اليقظه فلا اكاد اتجاوز هذه السطور القليله حتى اجد مايدعونى للاستغراق في عالم آخر وتظل عيناى تحدقان في الصفحه لا تتجاوزانها طوال مدة هذا الاستغراق او السفر العقلى ولكننى احياناً اتمكن من الانتصارعلى قوة الخيال واواصل القراءة المركزه الواعيه ويتوقف نجاحى في دلك على مدى اهميّه موضوع القراءة، وجميع احلامى في اليقظه تؤكد لى اننى قد صرت شاعراً عظيماً او طبيباً بارعاً او مطرباً مشهوراً او لاعباً كروياً فداً ويميل بى الهوى نحو شخصيه لاعب الكرة لاننى كنت لاعباً بالفعل ضمن اشبال اهلى بنغازي او ربما لأن لاعبى كرة القدم في هذا العصر هم اشهر الناس واكثرهم شعبيه ولهذا ماان فُتح باب الحجرة وانطلقت في ساحه العنبر بالخطى السريعه حتى انطلقت صفارة الحكم معلنه عن بدايه مباراه كبرى في كرة القدم بين فريقين كبيرين احدهما البرازيل وكنت انا احد نجوم الفريق الآخر، لم اكن هذه المرة ضمن افراد الفريق الليبى بل كنت من جنسيه اخرى، جنسيه الفريق الآخر، وفريق البرازيل هو عامل مشترك في جميع المباريات التي اخوضها إذ ان الفوز عليه بمثابة الفوز بكأس العالم او اكثر اهميه ومراوغه احد لاعبيه تستحق كأساً خاصاً، كانت الكرة تسكن وتتوقف عن الحركه تماماً عندما تلامس قدمى مهما كانت سرعتها كبيرة وهى تتجه نحوى كانت قدماى مثل المغناطيس وكان الجمهور يشهق من لمساتى واستقبالاتى للكرة واضطر دفاع البرازيل للامساك بى بايديهم بطريقه فاضحه اكثر من مرة ولكنى استطعت رغم دلك تسجيل هدف اعجازى غير مسبوق رجحتُ به كفه فريقى ثم اضفت هدفاً آخر اكثر اعجازيه بعد ان راوغت جميع لاعبى خط الدفاع البرازيلى والحارس ايظاً ثم توقفت بالكرة قليلاً قبل ادخالها للمرمى ثم دفعت بها نحو الشباك بمؤخرة قدمى وفى هذه اللحظه فطنت الى مجموعه من المساجين كانوا جالسين في زاويه من زوايا العنبر ينظرون الىّ مبتسمين وموشوشين، يبدوا اننى قد حرّكتُ قدمى اثناء مسيرى في الساحه كمن يضرب شيئاً ما وقد اشاحوا بوجوههم عنى عندما فطنتً اليهم متظاهرين بالانشغال بأمر آخر، لقد حدث هذا لى عدة مرات من قبل اقصد التلويح باليدين او الابتسام او تحريك القدمين اثناء المسير حسب القصة التي اعيشها وبعد احساسى بالمراقبه لم استطع العودة للمباراة بل تركّز تفكيرى في الزمن الحاضر فواصلت السير منتبهاً لما يُحيط بى وهاهى الافكار المفرحه التي تجعلنى سعيداً في السجن تعود الىّ من جديد، إنّ هذا السجن هو افضل مكان لى الان، انه حمايه ووقايه من اشياء اخرى كثيرة وخطيرة قد تحدث لى فيتوجب علىّ إذن عدم التلهّف والتشوّق للخروج منه ثم ان هذا المجتمع ماهو الا سجن كبير كما ان بعض الانبياء قد سجنوا ولابد ان الله قد اعدّ لى مكانه كبيرة ولكن بعد مكوث طويل فلو اننى خرجت الان فلربما تضيع منى هذه المكانه التي تنتظرنى، اننى يجب ان اشكرالله كثيراً على وجودى في السجن لاان الومه واُعاتبه فلم اشعر بعد ان استولت علىً هذه الافكار الاّ وانا اسبح من جديد في بحر الخيال، ارى نفسى الان اتحرك عبر شاشه ضخمه وعدد كبير جداً من الناس يشاهدوننى جالسين ليس في دار عرض سينمائى واحده بل في معظم دور العرض السينمائى في العالم انهم يشاهدون قصه حياتى، اننى سجين سياسى خطير ومن كبار المدافعين عن الحريه وحقوق الانسان في بلدى اننى اتمشى في ساحه احدى السجون، لقد انطبقت الصورة الخياليه على الواقع انطباقاً تاماً فانا بالفعل مازلت في ساحه سجن الكويفيه ولهذا وكما هو مطلوب ومفترض من ابطال الافلام حرصتُ على التصرف والتعامل مع المساجين او الحرس بطريقه تدل على ثقه كبيرة بالنفس وان لاتبدر منى اى بادرة شكوى او ضعف او عجز وان اتكلم باسلوب الانسان الشجاع الجرىء المجرب الدى لم يعد يخشى شيئاً وعندما انفتح باب العنبر ودخلت الشرطه العسكريه وجمعونا صفوفاً لم اكن متأكداً هل هذا يحدث في الخيال ام في الواقع؟ هل انتهى الفيلم ام لايزال متواصلاً؟ فلما خرجنا من باب العنبر في هذه الصفوف سمعت احدهم يقول اننا نتجه نحو قاعه الاجتماعات من اجل الاستماع الى موعظه ولكن الناس في دور العرض يتابعون مشهداً آخر كان الفيلم ينتهى نهايه مأساويه وممتعه في نفس الوقت، كنت اخطو نحو المشنقه من اجل تنفيد حكم الاعدام الصادر ضدى يحيط بى الحرس كنت رغم دلك اسير بثقه واطمئنان كمن يتنزه في حديقه جميله وتبدو على وجهى اللامبالاة والاستخفاف والاستهانه بما يجرى، لاشك انهم سيعرفون قيمتى بعد زوال النظام الشمولى الاستبدادى وسوف يصنعون لى تمثالاً ويضعونه في ميدان عام باعتبارى شهيد من شهداء الحريه فغمرتنى سعادة هائله بسبب هذه الفكرة وكان هناك من بين اللدين يشاهدوننى الان على الشاشه حسناوات كثيرات جميلات من جميع الجنسيات ينظرن الىّ باعجاب واحترام شديد وربما بحب ايظاً، لم يسبق لى ان حظيت بمثل هذه النظرات في الواقع ولم يكن ممكناً ان احظى بها لو لم اكن على منصة الاعدام فزاد هذا من سعادتى وزاد من شوقى للمشنقه، كنا قد دخلنا الى قاعة الاجتماعات وافترشنا الارض وقيل لنا ان الواعظ لن يتأخر وهذا ما حدث فعلاً فقد اطل علينا ممسكاً بعكاز يقوده احد رجال الشرطه، كان وجهه يتجه نحو الاعلى قليلاً وما لبث ان بدأ بخطبته وكانت تدور حول اللواطه وانحطاط اخلاق مرتكبيها وعظمة العقوبة التي اعدّها الله لهم في جهنم وفهمت من تعليقات المساجين حولى ان هناك مواقعه قد حدثت بين سجينين في احدى العنابر هذه المواقعه التي يهرب الشيطان عندما يراها خوفاً من غضب الله كما قال الواعظ الاعمى وبينما كان مسترسلاً في خطبته ارتفع صوته فجأة واحتد قائلاً: ما الدى يعجبكم في حفرة البراز هذه ياسخفاء؟ فوجدت نفسى ارد عليه في سرّى: ولماذا تخاطبنا وكأننا جميعاً من عشاق اللواطه ياسخيف؟ ولو اننى دكرت لك ايها الواعظ ما يتفوه به هؤلاء الجالسين امامك همساً وهم يستمعون اليك وما يتندرون به حول اللواطه لادركت انه لاطائل من هذه الموعظه ولافائدة منها ولن تؤدى الى زوال اللواطه كما تأمل بل انها تشجع عليها، اما بالنسبه للشاشه الكبيرة فقد رآيت نفسى متدلياً متأرجحاً وحبل المشنقه يُحيط بعنقى مع موسيقى تصويريه مؤثره جداً، ورآيت عشرات الفتيات الجميلات ضمن المشاهدين في دور العرض حول العالم يبكين ودموعهن تنساب على خدودهن الشهيه بل اننى رأيت أيضا الكثير من العيون الرجالية ترمق جسدى المترنح بحسد ظاهر، انهم يحسدوننى على الشهره رغم اننى كنت ميتاً، أثناء رجوعنا الى العنبر كان الشريط السينمائى قد انتهى على ما اظن، وما ان أغلقوا علينا باب العنبر حتى تأكدت اننى قد عدتُ الى الواقع، عدتُ الى رتابة الحركة وتكرارها وتشابه المشاهد اليومية، عدتُ إلى السجن الحقيقى

وعاد لى هذا الثِقل في صدرى، وفى الوقت الدى كانت فيه الافكار البيضاء تفر بدأت الافكار السوداء تكر فهاجمتنى من جميع الجهات وهاهى الحسرة على ما فات تداهمنى ليتنى ما كتبتُ تلك الكلمات اللعينه على جدران مراحيض المعسكر لو اننى لم اكتبها لكنت الان في الخارج ولكنت متزوجاً وربما عندى اولاد ايظاً، لقد اضعتُ مستقبلى بيدى اريد الخروج من السجن فوراً اين انتِ ياامى؟ واخدت هذه الافكار تدفعنى دفعاً الى تدكر تفاصيل الاحداث التي جاءت بى الى هنا، تدفعنى شيئاً فشيئاً نحو نهر الدكريات حتى اوقعتنى فيه، اننى الان في شهر رمضان الشهر الدى اوقفونى فيه وقد جلست لتوى على مقعد السائق في سيارتى البيضاء الرابضه امام المعسكر في مدينه الابيار بعد ان خلعتُ القميص العسكرى من شدة الحر وظللت في القميص الداخلى الابيض القصير الاكمام، كنت قد قفزت عبر فتحه في الاسلاك الشائكه المقامه فوق سور المعسكر وكثيراً ما هربت من هذه الفتحه بعد نهايه التمام الصباحى وكنت قد كتبت ما كتبت على جدران احد المراحيض مند يومين ولم اكن اعلم ان المعسكر في حاله طوارىء " هاهو " قال مشيراً نحوى وهو يرتدى ملابس مدنيه ثم ظهر شخص آخر مدنى ايظاً اعقبه احد افراد الشرطه العسكريه امسكوا بى واقتادونى الى الحجرة الخاصه بحرس بوابة المعسكر وهناك اعترفت على الفور باننى اغادر المعسكر كل يوم عبر فتحه في السور فقال دو اللباس المدنى: الاتعلم ان المعسكر في حالة طوارىء؟ فانكرت معرفتى بدلك فلما استغرب عدم معرفتى اكدت له اننى قليل الاختلاط بافراد كتيبتى ولااكاد اعرف شيئاً عما يجرى حولى فسألنى: تغادر المعسكر كل يوم.. الى اين تدهب؟ فقلت: الى البيت فقال: ماذا تفعل في البيت؟ قلت: لاشى اقرأ او استمع الى الاشرطه من خلال جهاز التسجيل فقال: تهرب من المعسكر كل يوم من اجل الاستماع الى الاغانى فقط !! فقلت: او القراءة فقال: الاتدهب الى مكان آخر؟ فقلت: كلا ثم اضفت:المكوث في البيت افضل من البقاء في المعسكر بلا عمل سوى التسكع هنا وهناك فقال: الاتتسكع هنا وهناك في المدينه؟ فقلت: كلا ثم فاجأنى بقوله: ومن هرب معك ايظاً عبر السور؟ قلت: لم يهرب معى احد. قال: كيف عرفت بوجود فتحه في الاسلاك الشائكه؟ فقلت وياليتنى ماقلت: كنت

ارى الجنود يخرجون عبر الفتحه فاقتديت بهم فقال مبتهجاً: هاقد اعترفت بأن هناك اشخاصاً آخرين معك فقل لنا من هم وسوف نطلق سراحك فقلت باصرار: انا لااعرفهم وهم ليسوا معى انما كنت ارى ظهورهم وهم يقفزون، كنت اراهم منذ اليوم الاول لى في هذا المعسكر، ولكن يبدو ان المحقق لم يصدقنى واخد يكرر في السؤال: من معك؟ كم عددهم؟ وماهى اسماؤهم؟ وشعرت بخوف شديد بعد ان هددنى بأن لديهم وسائل قادرة على تحريك لسانى وتنشيط ذاكرتى، وكان يصمت قليلاً ثم يُعيد السؤال نفسه وكنت بدورى اعيد له التأكيد لم يكن معى احد حتى طفرت الدمعه من عينى واستعبرت ويبدو ان وصولى الى هذه الحالة قد اقنعهم بصدقى فاخدونى معهم الى مكتب الامن المجاور للمعسكر وكتبتُ لهم تعهّداً بعد انتظار قليل بعدم الهرب مجدداً ثم حملونى الى قلم الكتيبة وهناك حكمنى الضابط بعشرة ايام سجن بسبب محاوله الهروب من المعسكر وكان صدور هذا الحكم بمثابة حكم علىّ بالعودة الى الزمن الحاضر الى سجن الكويفيه حيث وجدت نفسى مجداً في السير محملقاً الى الامام كأننى اقصد مكاناً معيّناً، كان بعض رفاق الحجرة يُخرجون اغراضهم وافرشتهم ويطرحونها على الارض تحت اشعه الشمس امام الحجرة فتدكرت ان اليوم هو يوم النظافه العامه فاسرعت الى الداخل وحملت فراشى وبطاطينى وطرحتها فوق حصيرى الصغير في الشمس وهذا اليوم يُفترض فيه حسب الاتفاق ان يشترك الجميع في تنظيف الارض وغسلها بالماء والصابون واخراج الفرش والآثاث للتهويه والتشمس وكما كان حالى مع التموين في البدايه كنت اشتراكيّاً متحمّساً متفانياً في بدل الجهد وسكب العرق من اجل الصالح العام ولكننى لاحظت ان اثنين او ثلاثه فقط هم اللدين يقع عليهم العبء كله اما الباقى فانهم يمكثون طوال نهار يوم النظافه يتسكعون في الساحه او في الحجرات الاخرى ولايساهمون حتى في رفع حاجياتهم الشخصيه وملابسهم التي يحتفظون بها داخل صناديق كرتونيه كبيرة تحت اسرتهم، وهكدا وجدت نفسى في مفرق طرق اما ان ارتضى بهدا الوضع الظالم واتحمله على مضض واما اعلان الاستقلال ولم يخطر في بالى ابداً ان ارتكب ماترتكبه الاغلبيه، اقصد التهرّب من العمل وبعد اعلان الاستقلال صرت اكتفى بغسل الارض تحت سريرى

وامامه فقط يوم في الاسبوع حتى لو لم يتقيدوا هم جميعاً بهذا اليوم وكثيراً ما يحدث هذا اى انهم يتفقون ليلاً على تحديد يوم معيّن للنظافه العامه يوم في الاسبوع ولكن عندما يأتى هذا اليوم يؤجلون الحملة او ينسونها وتكون النتيجه ان يمضى شهر او اثنين دون نظافه ولامن ينظفون وتتحول الدار الى اسطبل حقيقى وترتفع الشكاوى من هنا وهناك بسبب قدارة المكان وكان معظمهم يوافقنى ويؤيدنى كلما مرّوا على وانا منغمس في حملة النظافه الخاصه بى قائلين: احسن شى هو ماتفعله انت.. احسن شى انك تعيش وحدك ولهذا اكتفيت هذا اليوم بتشميس الفراش والبطاطين ورفع اغراضى من تحت السرير الى مافوقه حتى لايصل اليها الماء ولم اساهم بشى في الحمله العامه لان اليوم الدى جعلته خاصاً بالنظافه بالنسبة لى لايوافق يوم الحمله العامه ولكن اقتصارى على تنظيف مكانى فقط حتى لو كان في يوم آخر هو في الحقيقه مساهمه في الحملة العامه ولو ان كل فرد منهم فعل مثلى اى اقتصر على تنظيف مكانه فقط فستكون الحجرة في النهايه نظيفه على الدوام.

بعد أن اقمت صلاة الظهر فوق الحصير الصغير وفوقه سجادتى امام الحجرة شرعتُ في اعادة اغراضى الى مافوق وتحت سريرى ومن الطبيعى ان يغمرنا شعور جماعى بالارتياح والانتعاش بسبب نظافه الحجرة واعادة ترتيب الاشياء ولكن الاحساس بالضيق عاد الىّ من جديد ليس بسبب الافكار السوداء هذه المرة ولكن بسبب اننى بدأت الاحظ ان زملائى في الحجرة قد لاحظوا علىّ هذه العادة القديمه الدميمه التي مازالت تسيطر وتتحكم فىّ، انها العادة السريّه او الاستمناء وليست المشكلة في اقترافها في حد داته ولكن المشكلة والمصيبة في طريقتى واسلوبى في اقترافها اذ اننى عند النوم او قبله لابد لى من الاستلقاء على بطنى والاحتكاك خفيفاً ورويداً بالفراش والضغط عليه بالقضيب تدريجيّاً حتى يصير هذا الضغط عنيفاً ثم ينتهى بوصولى الى الرعشه الجنسيه وخروج السائل المنوى وتلويث السروال ولم استطع الخلاص من هذه العادة رغم اننى حاولت دلك مراراً، حاولت الاقتصار على الطريقه التقليديه باستعمال اليد داخل الحمّام اثناء الاغتسال، ولكنى كنت بعد حين من الزمان اعود الى طريقتى واحياناً كنت استخدم طريقتى هذه حتى داخل

الحمام ودلك بوضع منشف على الحائط ممسكاً بطرفيه بيدىّ وملتصقاً بالقضيب على الحيط واحك به متخيّلاً نفسى ملتصقاً بارداف امرأة او حتى ارداف ولد ثم ينتهى الأمر بالغسل والاغتسال معاً وصارت هذه العادة سواء بالطريقه التقليديه او بطريقتى الخاصه ملازمه للاغتسال حتى كأنه لايصح الا بها، كان بعض الزملاء ينظر الىّ باستغراب واندهاش والبعض الآخر يضحك مجلجلاً دون ان ينظر الىّ مباشرة وهناك من يختلس النظرات الىّ اختلاساً بعيون متسائلة تبحث عن اجابات، انها العادة السريّه فقط، كدتُ ان اصرخ.. ماذا تظنون؟ بعضهم لم يشعرنى ابداً بانهم يعرفون او انهم قد لاحظوا، ربما لانهم بالفعل لايعرفون، وسمعت احدهم يهمس مؤكداً انه الشبق الجنسى لااكثر ولااقل كأنه ينفى استنتاجات اُخرى قد قيلت، لماذا لم يقل انها العادة السريه لااكثر ولااقل؟ الايعرفون العادة السريه؟ اخرجت كراسه اليوميات ودخلت سريرى واسدلت ستائره على نفسى وسجّلت فيها هذه الافكار بخصوص العادة وملاحظات الزملاء وبعد ان سكبت كل شى على الورق زال عنى هذا الضيق سريعاً كما لو اننى شربت دواءاً قوى المفعول.

بعد صلاة العصر حملت ادواتى الرياضيه الى الزاويه البعيدة عن الحجرة محاولاً ان امضى وقتى فيما يُفيدنى ورياضه كمال الاجسام التي امارسها تقتضى رفع الاثقال وخفضها مراراً قياماً وقعوداً واستلقاءاً قد زادتنى نحافه ولم تزوّدنى بالعضل المفتول كما كنت اتوقع او لنقل انها منحتنى القليل منه اقل مما اطمع فيه ولكننى مازلت مواظباً عليها رغم دلك فهى رياضه على كل حال، بدأت بالتسخين اولاً بواسطه القفز بالحبل وبعض الحركات دون اثقال ثم دخلت في تمرين الاثقال وكنت مازلت متفكراً في عادتى السريه ومضاعفاتها وملابساتها عندما وقع بصرى على صاحب العادة العلنيه السيئه الضرّاط الجرىء فحجرته قريبه من مكان تمرينى، فوجدت نفسى اقارن بينى وبينه إن عادته السيئه علنيه بينما عادتى السيئه سريه فهل حاول هو ايضاً ان يتخلص منها فلم يستطع؟ لااعتقد ان عادته قاهرة الى الحد الدى يصعب فيه التخلص منها لانها غبر مرتبطه بشهوة من الشهوات الاساسيه كما هو الحال معى ام ان هذا هو تفكيرى انا؟ انه يفعل ما يفعل بعين قويه لاترمش وثقه كبيرة وتحدّى للآخرين بينما انا

رغم ان عادتى لم تعد سريه على الاقل داخل حجرتى حريص جداً على ارتكابها بعيداً عن الاعين ويتبعها الكثير من اللوم والعتاب للنفس والتصميم على تركها وعدم العودة اليها، هل تجلب له شيئاً من الشهرة؟ شهره المخالفه للمألوف وفيما عدا هذه العادة السيئه لم ألاحظ عليه شيئاً آخر معيبا، انه لا يدعو الى اشياء اخرى بواسطتها بل يمارسها هى في حد ذاتها ربما كلون من الوان التعبير عن النفس وممارسه الحريه.

وفى المساء يندمج معظم المساجين في مباريات لعب الورق التي ترافقها التحديات وتتناهى الى اذنى من آن لآخر صيحات النصر التي يطلقها الفائزون في الحجرات الآخرى مصحوبه بالعواء بفعل الحماس وينشغل عدد منهم في اعداد طعام العشاء الدى يتفننون كثيراً في اعداده ويقضون وقتاً طويلاً في تجهيزه وتراهم يتحركون بين الحجرات يقترضون ما ينقصهم من لوازم العشاء، بينما تصدح اصوات المطربين هنا وهناك من خلال المسجلات في ساحه العنبر وداخل الحجرات، هذا كله عندما يتأخر الحرس في اخد التمام المسائى الدى هو كشف الاسماء الى مابعد صلاة العشاء، وكنت مستلقياً على الارض في صدر الحجرة اتابع برامج الاذاعه المرئيه عندما تقدم منى احد الزملاء والقى امامى مجموعه من الصحف والمجلات الليبيه وقال: لقد جاء اخى لزيارتى اليوم واحضر لى هذه.. لاحظت انك تحب القراءة. فهممت بالقول لقد احضرها لك انت وليس لى انا ولكنى لم اقل بل اظهرت له الاهتمام بها مجامله له وشكرته وشرعت في تصفح احداها وتقليب اوراقها امامه وتوقفت عند بعض المقالات لكى اُشعره بأننى اقرأ، ولكن ماذا يوجد في الصحف والمجلات الليبيه ليستحق القراءة؟ بل ماذا يوجد في جميع وسائل الاعلام الليبيه ليستحق القراءة او المشاهدة او الاستماع؟ ومع ان وسائل الاعلام في ليبيا توصف بأنها شعبيه ويملكها الشعب كله فانه باسثناء المهنيه فانك لاترى فيها ولاتسمع ولاتقرأ الا اخبار وافكار واراء شخص واحد فقط اسمه معمر القذافي بالاضافه الى الصور طبعاً كما لو انها ملكاً خاصّاً به وحتى هذه المهنيه لاتخلوا ابداً من احدى مقولاته او اعلان من اعلاناته ولو اننا اردنا اختصار ماحوته وسائل الاعلام الليبيه منذ تطبيق الاخ القائد لنظريته في حكم الشعب لنفسه على ارض الواقع في صحيفه واحدة فسوف نجد الآتى: الصفحه الاولى تبدأ بمقولتين من مقولات القائد ثابتتين على الدوام والدوام لله وليس للقائد في اعلى يمين الصفحه ويسارها كعيّنه فقط من مقولاته الكثيره جداً جداً والتى توصف بانها خالدة وصالحه لكل زمان ومكان وباقى الصفحه الاولى يمتلىء بمتفرقات هى الاخرى لاتتغيّر ابداً وهى: القائد يصل.. القائد يستقبل.. القائد يغادر.. القائد يجتمع.. القائد يدعو.. القائد يُحرض، اما الصفحه الثانيه فتحتلها مقالات لكتاب تخصصوا في تحليل وتفسير ماجاء في الكتاب الاخضر وهو الكتاب الدى قام بتأليفه قائدنا اما الصفحه الثالثه فهى عبارة عن مقال واحد يملأ الصفحه كلها ويتحدث كاتبه فيه عن مدى انتشار النظريه العالميه الثالثه التي ابتكرها قائدنا ايظاً حول العالم وازدياد عدد المؤمنين بها كطريق وحيد لخلاص البشريه من الشقاء والاستعباد والسخره اما بالنسبه للصفحه الرابعه فهى صفحه مصوّره وتظهر لنا هذه الصور المظاهرات والاضطرابات والاضرابات والاحتجاجات المنتشرة والمستمره كل يوم في انحاء العالم الرأسمالى وكدلك انتشار تعاطى المخدرات وازدياد عدد العاطلين عن العمل وبالتالى فهذا العالم الرأسمالى على وشك الانهيار كما تؤكد التعليقات المرافقه لهذه الصور وبالطبع سيكون هذا الانهيار في صالح المجتمع الجماهيرى السعيد الدى يدعوا اليه قائدنا اذ سيحل محله دون ادنى شك في دلك حسب هذه التعليقات، اما الصفحه الخامسه فيحتلها اعلان عن انجاز جديد هائل من الانجازات الثوريه العملاقه التي ظلت تتواصل منذ فجر الفاتح ولم تتوقف ولايبدوا انها سوف تتوقف، اما باقى الصفحات فهى متفرقات من هذا وداك وكدلك الامر بالنسبه للاذاعتين المرئيه والمسموعه فجميع البرامج ملزمه بأن تبدأ دائماً بالحديث عن هذه الانجازات الهائله الخارقه التي حصلت بفعل الثورة والتأكيد والتشديد على ضرورة حمايتها من الرجعيين والرأسماليين والبرجوازيين المندسين وسواءاً كان البرنامج رياضيّاً او فنيّاً او دينيّاً او تاريخيّاً فلابد لمقدميه من البدايه بنفس التأكيدات والتشديدات والتحديرات حتى ضاقت المساحه للافكار الأخرى وللمعانى المختلفه فكأن هذه الانجازات قد اصبحت اهم من البشر انفسهم، وهكدا تحوّل جهاز الاعلام في ليبيا الى جهاز اعلان عن القائد ومقولاته ومنجزاته، وفى الوقت نفسه لايتحدثون في هذا الاعلام مطلقاً عن الافسادات الهائله المتمثله في تدنى مستوى الخدمات في المستشفيات وانحطاط مستوى التعليم ومستوى الاداره في المؤسسات العامه ولاحديث عن اسباب التأخير الدائم في دفع الرواتب واسباب انتشار الزباله وتراكمها في الاحياء السكنيه ولاحديث عن الاهانه والتحقير وعدم الاحترام الدى يتعرض له المواطن الليبى كل يوم من خلال تعامله مع المؤسسات العامه ولاحديث عن تحطّم البنيه التحتيه ولاعن انتشار الجريمه بدرجه لم تحدث من قبل في ليبيا، وعندما قلت ان اعلامنا لايستحق القراءة والمشاهدة والاستماع ليس بسبب مجرد تواجد افكار معمر القذافي واراؤه وصوره فيه ولكن بسبب الاستحواد والسيطرة وبسبب الترديد والتكرار الممل والاستفزازى لهذه الافكار والنظريات وبسبب منع الافكار الاخرى المختلفه عنها والمتناقظه معها من التواجد هى ايظاً في وسائل اعلامنا.

 

اليوم الرابع
فى هذا اليوم تم اغلاق ابواب الحجرات كلها بالاقفال منذ الصباح الباكر، بعد ان اخرجونا جميعاً الى ساحه العنبر والزمونا بالتدريب العسكرى بواسطه الايعازات المعروفه: يس يم رجل ابدل عادةً سر الى اليمين در، ثم جعلونا نقف مدة طويله بلا حراك ولا كلام ثم جلوس لمدة اطول في نفس مكان الوقوف واخيراً تركونا نتحرك كيفما شئنا في الساحه ولكنهم لم يفتحوا ابواب الحجرات، وهذا التدريب الدى نادراً مايحدث في هذا السجن كان يحدث كل يوم تقريباً عندما كنت في سجن منطقه البركه وهو يقع داخل معسكر الشرطه العسكريه ودلك قبل انتقالى الى سجن الكويفيه بطلب كتابى تقدمت به الى آمر السجن، كنت جالساً بالقرب من باب حجرتى المقفل ولكننى ولدهشتى وجدت نفسى جالساً في ساحه سجن البركه على الكرسى الحجرى الطويل جداً مع عدد كبير من الموقوفين متراصين متزاحمين على الاماكن الظليله التي تقل كلما اقترب النهار من الانتصاف ومعظم هؤلاء الموقوفين من افراد الشرطه العسكريه وقضاياهم تتراوح بين الغياب والهروب والخمرة والمواقعه اناثاً وذكوراً والمشاجره والسرقه ويقدم الى السجن كل يوم باستثناء الخميس والجمعه رئيس عرفاء لينادى على اسماء اللدين يتوجب عليهم الذهاب الى النيابه. والكرسى الحجرى الدى نجلس عليه وهو على شكل مربع فاقد لبضعه اجزاء يحيط به سور السجن العالى جداً وهناك سور آخر من الاسلاك الشائكه فوق هذا السور العالى وقد تم اغلاق ابواب العنبرين المسقوفين منذ الصباح كما هى عادتهم كل يوم ولاتفتح العنابر الا بعد الغداء او عند قدومه وهاهو الغداء قد وصل فعلاً في براميل الجيش الخضراء الداكنة الخضرة وكدلك الجوع وصل بنا الى منتهاه وهاهو الشرطى يصرخ: كوجينه.. كوجينه ينادى جماعه من المساجين المكلفين بتوزيع الطعام وغسل الصحون والبراميل وتنظيف صالة الطعام دات المقاعد والطاولات الحجريه،وعندما فرغ هؤلاء من توزيع الصحون فوق الطاولات حان وقت الدخول لتناول وجبة الغداء فصاح الشرطى: ديروا طابور، فتراكض الجميع ليصنعوا هذا الطابور وبسبب رغبة كل منهم في الدخول اولاً تزاحموا في رأس الصف حتى صار منتفخاً كأنه رأس ثعبان ضخم فغضب الشرطى وزعق فيهم: انتظموا والا والله لن تدخلوا، ولكنهم ظلوا متشبتين بمواقعهم في المقدمه وظل رأس الثعبان شديد الانتفاخ بالنسبه الى جسده وكان الطابور طويلاً جداً يمتد دائراً حول الساحه كلها بحيث ان مؤخرته تكاد تتصل بمقدمته ولايفصل بينهما سوى المساحه التي امام مدخل صاله الطعام حيث يقف شرطينا الدى كان يواصل تهديداته قائلاً: انتظموا والا فقسماً عظماً لن تتغدوا اليوم.واتبع قوله باغلاق باب صاله الطعام بعد ان اوصى جماعه المطبخ بعدم فتحه لاحد ثم غادر المكان تاركاً المساجين يتلاومون ويدعون بعضهم بعضاً الى التزام النظام فقال شخص يقف امامى مباشرةً في الصف: هؤلاء المساجين حيوانات ولايمكن للحيوانات ان تتعلم النظام. فقلت له: التنظيم مهمة الشرطه. فقال: وماذا تريد من الشرطى ان يفعل؟ فقلت: ان يفرض النظام فرضاً لاان يدعوهم الى دلك بأن يعاقب غير الملتزمين منهم فقال: المفترض فيهم ان يدركوا اهميه النظام بانفسهم. فقلت: المفترض فيهم ان يُدركوا ولكن بعضهم لايدرك او لايرغب في الادراك. فقال: انهم ليسوا اطفالاً، عليهم ان ينظموا انفسهم

يجب ان لا يحتاجوا الى رجال الشرطه. فقلت: ولكنك ترى بعينيك الان انهم في امس الحاجه الى رجال الشرطه ثم ان معظمنا منتظم في الطابور منذ تأسيسه بينما هناك قلة قليلة هم المتسببين في هذه الزحمه وهم يقفون مباشرة امام الشرطى يراهم ويرونه. فقال مصرّاً: ولكن يتوجب عليهم ان ينظموا انفسهم بانفسهم.

عاد الشرطى الينا وقد بدأ على محيّاه البشر والسرور كما لو انه قد اهتدى الى حل لغز عويص وانتصب في موقعه السابق وتطلع الى الصف الطويل الممتد المحيط بالساحه كلها ثم صاح: الى الوراء در فاستدار الجميع وبدلك صارت مؤخرة الطابور هى مقدمته واصبح المتزاحمون في المؤخره ثم فتح باب الصاله واشار الى الشخص الدى في المقدمه الجديدة بالدخول قائلاً: عادةً سر وهكدا بدأنا في الدخول ولكن هذا لم يمنع بعض الاشخاص اللدين كانوا يتزاحمون داخل رأس الثعبان من التراكض حول الطابور المتحرك وتجاوز الآخرين حتى كادوا ان يصلوا الى مقدمته تحت بصر الشرطى الدكى.

هاقد عدتُ الى سجن الكويفيه من جديد، وها انا بين عدد كبير من المساجين الذين يروحون ويجيئون تمتلىء بنا ساحه العنبر كأننا في سوق ومن النادر ان يتواجد جميع سكان العنبر في وقت واحد في الساحه دون ان يكونوا مصطفين في ثلاثه طوابير اذ انهم في هذه الحاله يشكّلون سوقاً حقيقيّاً مزدحماً برواده وهاهم الشرطه العسكريه قد شرعوا في فتح الابواب فساد شعور عام بالفرح والابتهاج وارتفعت الزغاريد اغتباطاً وما ان ولجت الى الحجره وجلست فوق سريرى حتى تملكتنى مشاعر واحاسيس العائد الى الوطن بعد تغرب طويل وتشرد وتناهى الى ادنى من الحجرة المجاوره صوت الدقات المميزه المعلنه عن بدء نشرة الاخبار في اذاعه لندن اداعتى المفضله فاسرعتُ الى جهازى الخاص وبعد قليل من البحت عن الاصوات القويه الفصيحه المعروفه عن مذيعى هذه المحطة بواسطة المؤشر، اهتديت اليها، ما سر هذا التميّز للقسم العربى في الاداعه البريطانيه عن باقى الاداعات او الاقسام العربيه في الاداعات الاجنبيه هل تميّزها بسبب قوة البث ووضوح الصوت؟ ام فصاحة المذيعين والمذيعات؟ ام نباهه المسئولين عنها ام هو كل هذا؟، وهاهى نشرة الاخبار تنقلنى من حدث الى حدث ومن مكان الى مكان واستماعى اليومى لاذاعه لندن هو علامه مميزه لى في هذا السجن، فلا يمر يوم دون ان يسمع الجميع دقّات ساعه بنج بونج تصدر عن جهازى ولا يمر يوم دون ان نسمع خبراً من اخبار المعارضه العربيه المتواجده في الخارج بمافيها المعارضه الليبيه وهى طبعاً المعارضه الاهم بالنسبه لنا او قراءة لمقال ينتقد فيه كاتبه السياسه الليبيه في احدى المجلات العربيه التي تصدر في اوروبا وعندئدٍ يسود الصمت داخل الحجرة او في الساحه كلها ادا كنت مفترشاً حصيرى في احد جوانب العنبر وتتجه الآذان نحوى ويكف الجميع عن الصوت والحركه حتى يتسنى لهم الاستماع الى تفاصيل الخبر واكثر ما يكون الصمت واكثر ما يكون الاحتشاد حول اجهزة الاستقبال عندما يكون الخبر عن وقوع محاولة انقلابيه في ليبيا وكم مرة سمعتُ فيها الاخ القائد يتهم اداعه لندن بالكدب والتحيز في خطاباته وكان اكثر ما يُغضبه منها هو وصفه بالطاغيه وربما تكون الميزة الآكبر لهذه الاداعه متابعتها لاخبار المعارضه العربيه والقضايا المتعلقه بالحريّه وحقوق الانسان.

كنت اتناول طعام الغداء بمفردى كما هى عادتى جالساً فوق سريرى واضعاً الصحن فوق كرسى امامى وقد يمر بى شخص ما ويسلم علىّ ويتحدث معى ولاادعوه ابداً الى مشاركتى في الطعام خشيه ان يطلب شيئاً آخر غير الطعام او يُطيل المقام بعد تناول الطعام او يعتبرها دعوة دائمه منى له كل يوم افطاراًوغداءاً وعشاءاً وكثيراً ما حدث هذا ولم تكن هذه عادتى قبل السجن ومازلت رغم اقتناعى بفوائد هذا السلوك اُحس بالحرج الشديد وعدم الارتياح كلما تناولت طعامى بمفردى في حجرة ممتلئه بالاشخاص، اننى اكره منظرى هذا ولكنى مضطر اليه وقد يمر اليوم واليومين دون ان اتكلم مع احد البته ودون ان انطق بكلمه باستثناء قراءة القرآن في صلاة الجهر على الرغم من كثرة الناس المحيطين بى، في مظهرى وسلوكى الخارجى استغناء عن الناس وعدم احتياج الى احد وانشغال دائم وعمل دائب وفى داخلى احتياج شديد للصداقه وفقر الى الصحبه وبطاله مزمنه وفراغ هائل ومع هذا فأن مساوىء الانفراد تظل احب الىّ من مساوىء الاختلاط ولعل طبيعتى كانت تميل للانفراديه حتى قبل السجن ولكن ليس لهذه الدرجه التي صرت اليها الان لقد زادت هذه الوحدانيه ونمت وترعرعت واشتد ساعدها في هذا السجن ونتجت عنها فائدتان كبيرتان اولهما السمعه الحسنة والمكانه فقد كان جميع المساجين ورجال الشرطه يُعاملوننى باحترام شديد وتوقير كما لو اننى ولى من اولياء الله الصالحين لمجرد اننى منفرد عنهم ومبتعد عن مخالطتهم وايظاً لاننى لااتوانى عن مد يد المساعدة لاحدهم عند الضرورة وفى نفس الوقت لااطلب شيئاً منه في المقابل اما الفائدة الثانيه فهى تنامى هوايه القراءة والكتابه عندى فكنت حريصاً على تسجيل خواطرى والاحداث التي تمر بى في كراسه اولاً باول حتى وجدت في نفسى الجرأة على كتابه الشعر والقصة القصيرة من خلال محاولات وخربشات غير مكتمله في معظمها والحقيقه فقد ظننتُ ظناً حسناً بهذه المحاولات واُعجبت بها واحسست كما لو اننى قد التقيت بنفسى لاول مرة وعرفتُ من انا اخيراً، لابد ان هذه هى مهنتى الحقيقيه، نعم لابد اننى كاتب اديب ولاشك عندى الان ان هذا هو سر حبى للوحدة ونفورى من الناس،اننى مدفوع دفعاً ومسيّر نحو الكتابه الادبيه وقرض الشعر وكما يقولون لقد ادركتنى حرفه الادب اما القراءة فهى اقدم بكثير من الكتابه فانا لا اشبع مطلقاً من القراءة وخاصة قراءة الروايات والاقاصيص وامتلأت حجرتى في بيت والدى بالصناديق المرصوصه بالكتب بعد ان فاضت عن الدولاب والخزانه وهذه عيّنه من المحاولات الشعريه التي احتفظ بها كأنها كنز سيأتى اليوم تظهر فيه للناس وتستولى على البابهم.

قصيدة (فروق)
يد بقبضتها اذا ضربت تقتل وسكين في يد لايجرح
نفوس الى الناس اذا ظلمت تشكو ونفوس اذا جاءها الشرف بالموت تفرح
اوناس تحروا الصدق قناعة وايمانا واوناس مثل الغنم تسرح

قصيدة (الناس)
ترى الناس مثل الشجر انواع ولكن الشجر يحمل الثمر
تراهم في الاسواق غزياً جاحظة عيونهم واللعاب مطر
وتراهم في الصلاة جماعة ولكن قلوبهم من الايمان فقر
وتراهم يطيلون السجود تنافقا كمثل الدجاج في النقر
فيارب ارزقنا بعداب من عندك واقطع نسل هذا البشر

قصيدة (الايام)
تدور بى الايام متشابه فلم اعد اميز بين جمعتى وسبتى
انام على فراش الصبر كل ليلة ولاادرى اصباح غدٍ يطلع ام صباح امسى
وكم مر من شتاء علىّ وكم قطع الزمن من وقتى
وكم مرة عن الكلام سكت لسانى حتى اشتكى الصمت من صمتى

 قصيدة (الحلوه)
وما ينفع الرجل المال والبناء اذا لم تكن الحلوة غايته
امرأة لايفلح الصبر والايمان معها جاء الشيطان ليغويها فاغوته

وبعد كتابتى لهذه المحاولات وبعض القصص القصيرة انحصرت احلام اليقظه عندى في كونى شاعراً او كاتباً يشار اليه بالبنان ولم يعد مقبولاً ان اتصور نفسى لاعب كرة او مطرب او ممثل، ان احساسى القوى في اننى ساكون يوما ما شيئاً ما في مجال ما قد تركز في المجال الادبى، وهذه محاولة قصصيه من واقع السجن بعنوان تضحيه لم تحدث.

كنا في انتظارها بفارغ الصبر، انا ورفيقى الدى يحتل الزنزانه المجاوره لزنزانتى، كنا منفردين في هذا القسم من السجن اما باقى الزنازين فهى فارغه وكنا ندردش من خلال فتحات صغيرة مستطيله في صدر الباب اننا في انتظارها بشوق كبير ودلك لسببين اولهما ان طعام الافطارهذا الصباح كان قليلاً جداً وثانيهما ان موعد حضورها قد تأخر ساعه كاملة حتى هذه اللحظه، انها وجبة الغداء وقد اعترفت لنفسى على غير عادتى بأننى جائع حتى انه قد بدر منى ما يدل على هذا الجوع عندما سألت رفيقى عبر النافدة الصغيره عن سبب تأخر الغداء رغم انه كان موجوداً معى هنا طوال الوقت ثم عندما سألت الحارس الدى يمر علينا من آن لآخر ولكن الحارس لم يرد على استفسارى، اما صديقى فقد كان دائماً يسأل عن الغداء والعشاء في الاحوال العاديه حتى بدون ان يكون هناك اى تأخير وحتى بدون ان يكون هناك اى نقص في الافطار ومع دلك فهو في هذا اليوم بالدات لم يسأل عن الغداء المتأخر بل انا الدى سألت، انا الدى كنت حريصاً على مظهر الشخص الدى ليس له رغبات ولايتأثر بالشهوات وهذا حز في نفسى كثيراً وبينما كنت الوم نفسى واعاتبها على تلهفها للطعام وعلى مابدر منها من سؤال عنه، سمعت صوت شىء ما يوضع على الارض، فلما تطلعت الى الخارج من خلال الفتحه الصغيره وقع بصري على صحن يتصاعد منه البخار فوق ارض الممر، انه المقطّع، ياإلاهى انها اكلتى الشعبيه المفضله، يالها من مفاجأه ولكن هل يمكن ان تكون من انتاج مطبخ السجن؟ وجاءنى الجواب سريعاً من الحارس الدى كان يهم بفتح باب زنزانه جارى قال: الصونيه هديه لكما من زميلكما الموجود في القسم العام لقد حضر اهله لزيارته اليوم، الغداء سوف يتأخر اليوم فعليكما بها فعزم عليه رفيقى ان يأكل معنا ولكنه رفض بكلمه واحدة صحه وبينما كان يفتح باب زنزانتى اقسمت بالله بينى وبين نفسى ان لااتناول من المقطع الا ملعقتين او ثلاثه ثم القيام سريعاً تاركاً المجال لرفيقى لكى يشبع فالصحن صغير لايكفينا ودلك تضحيه منى من اجله فلاشك عندى انه جائع جداً وعقابا لنفسى على ما اظهرته من ضعف تجاه الطعام عندما سألت عن الغداء ولكى يعلم جارى اننى انسان لاتؤثر فيه الشهوات ولايخضع للرغبات، جلسنا متقابلين وبيننا صحن المقطع الساخن الشهى، لقد جاء في وقته في هذا اليوم الشتوى البارد وبدأت حركه الملاعق ملعقه ترتفع وملعقه تنخفض،ملعقه تمتلىء واُخرى تفرغ ورغم ان الطعام كان ساخناً فلم يمنعنى هذا من ملء ملعقتى بالكامل في كل مرة وافراغها بسرعه، مازلت ادكر قسمى الدى الزمت به نفسى وهو

القيام عن الطعام قبل صديقى حتى اتيح له فرصه للشبع مضحيّاً بفرصتى انا ولكن الصحن لايزال ممتلئاً وبالتالى لم يحن الوقت لتنفيد القسم، لاادكر عدد الملاعق التي تناولتها حتى الان ولااعرف رقم هذه الملعقه التي تصعد الى فمى في هذه اللحظه ولكن هذا لايهم فنحن لم نبدأ في الاكل بعد، مازلت مصرّاً على تنفيد قسمى مهما كانت الظروف ولكن لمن اقول هذا الكلام؟ لماذا التشديد والتأكيد منى على ضرورة الالتزام بالقسم؟ اننى سوف التزم بالتنفيد دون شك، خلاص بعد هذه الملعقه سوف انطق بكلمة الحمدالله ثم النهوض فجأة شعرتُ بحرقه في حلقى منعتنى من النطق بالكلمه الموعوده ولكنها لم تمنعنى من اضافه ملعقه اُخرى، خلاص لقد قررت القيام الان ولن يمنعنى شىء عن القيام لاحُرقه ولاغيرها ولكن ماهذا إن رفيقى ينهض واقفاً وهو يحمدالله ويشكره ورغم اننى الححت عليه بالقعود والاستمرار غير انه لم يعبأ بالحاحى واتجه نحو صنبور الماء ليغسل يديه، لقد دهب رفيقى وتركنى وحدى مع المقطّع فلامفر امامى الان من المواصله حتى النهايه وتكمله المشوار حتى قاع الصحن، اننى مضطر لدلك اضطراراً كما قال الله عز وجل في كتابه " الا من اضطر غير متجانف لاثمٍ " فلم يعد هناك مجال لتنفيد القسم وضاعت منى فرصه التضحيه من اجل جارى ورفيقى.

 كنت قد استلقيت بعد الغداء على فراشى مستمعاً الى برامج اذاعه لندن التي تعقب برنامج عالم الظهيرة الاخبارى فتخيلت ان المديع يقرأ في احدى قصائدى بصوته القوى الفصيح فداخلنى الزهو والغرور كأن الامر قد وقع فعلاً بل ان الامر حقيقى فانا الان جالس على كرسى فخم في الصف الاول وعلى يمينى ويسارى اوناس جالسون على كراسى فخمه ايظاً تبدوا عليهم سيماء المثقفين والادباء الكبار وخلفى صفوف كثيره من البشر تمتلىء بهم قاعه فسيحه مغلقه وكان هناك شخص يقف على المنبر امامى مباشره وكأنه يتلو شيئاً، نعم انه يقرأ في قصيدة لى اصبحت معروفه جداً للناس ومتداوله بينهم وفهمت من خلال كلام بعض الاشخاص لبعضهم اننى المعنى والمقصود بهذا التجمع البشرى الكثيف كما لو انه حفل تكريم لى وبالفعل سمعت صوتاً يدعونى للصعود الى المنبر والقاء كلمتى التي يترقبها الجميع بفارغ الصبر وعجت القاعه بالتصفيق الحاد لدى صعودى الى المنبر حتى كدت ان اتعثر، قلت كلاماً كثيراً عن الشعر والشعراء وعن القصيدة التقليديه والقصيدة الحديثه وصلت وجلت شرقاً وغرباً حتى تناهى الى اُذنى آذان صلاة العصر فانتبهت فاذا انا فوق فراشى وليس على المنبر، بعد العصر تمشيت الهوينا في قطعه صغيره من الظل امام الحجرة ولاحظتُ خلو الساحه من البشر ولفت نظرى السكون الشامل والصمت المطبق المهيمن على العنبر وكنت قد تركت لتوى زملاء الحجره ليسوا نائمين فقط بل خامدين، ان قضاء فترة الصباح كلها في التدريب العسكرى والجلوس والوقوف الطويلين والتشرد في الساحه بعيداً عن الحجرات هو السبب فلا اكاد اسمع لاحد حساً ولاركزاً ورغم ان كل شروط النوم والقراءة متوفرة في هذه اللحظه لم استطعهما، لم يواتينى احدهما، بل وجدت نفسى منجدباً ومستسلماً لتيار نهر الدكريات الدى بدأ يغمرنى تدريجيّاً حتى تجاوز عنقى ثم رأسى اننى الان ادرع ارض غرفتى في بيت والدى جيئةً ودهاباً فوق السجادة التي تغطى نصف مساحه الحجرة ولاافعل شيئاً لمدة طويله سوى المسير حتى يبلغ منى التعب مبلغه وينال منى الارهاق غايته، الارهاق الجسدى والعقلى، الجسدى بسبب الحركه والعقلى بسبب كثرة التفكير والخيال وعندئدٍ اى عند الوصول الى هذا الارهاق الفكرى استلقى على السجادة واتمكن من الاستغراق في القراءة او في النوم وهناك نوع آخر من الاستغراق وهو الاستماع الى ما لدىّ من اشرطه منوّعه حتى الارهاق ايظاً شريط وراء شريط واغنيه وراء اغنيه ملصقاً اُذنى بمكبر الصوت في جهاز التسجيل وقد يُفاجئنى ابى صائحاً من وراء باب الحجرة ينبهنى الى ضرورة خفض الصوت وقد تطرق امى الباب تدعونى الى طعام الغداء والعشاء، كان هذا هو الروتين اليومى طوال فترة الخدمه العسكريه التي بدأتها كمستجد في معسكر البركه ثم مدرسة المشاة في بوعطنى ثم الابيار وبالطبع فأن هذا الروتين اليومى لايخلو من ممارسه للعادة السريه التصاقاً بالحيط او على السجادة.

 

اليوم الخامس
جاء رئيس مكتب الامن في الابيار الى المعسكر وطلبنى، وعندما حضرتُ الى قلم الكتيبه اخد كل من يعرفنى يؤكد له حسن اخلاقى واستقامتى وابتعادى عن الشلليه وانفرادى عن الناس وهو يرد عليهم قائلاً: ستفيده هذه الشهاده وكان يرتدى بدله عربيه، سرت وراءه بصمت دون ان اسأله عن سبب استدعائى وصعدت بجواره الى السياره وسار بنا في اتجاه بنغازي وظل صامتاً طوال الطريق وكذلك انا، لقد مر اسبوع كامل على خروجى من سجن المعسكر بعد ان قضيت فيه عشرة ايام عقوبة لى على محاولة هروبى وظللت اتردد خلال هذا الاسبوع بين البيت والمعسكر حتى صبيحه هذا اليوم، فكّرتُ خلال الطريق في انهم قد عرفوا علاقتى بالعبارات المكتوبه على جدران المراحيض او انهم يشكون في وجود هذه العلاقه، وصلنا الى فيله في وسط بنغازي وادخلونى الى مكتب كان فيه احد الضباط جالساً يتحدث هاتفيّاً فجلست قبالته كما طلبوا منى وبعد قليل اعطانى هذا الضابط ورقه وقلم وقال لى: اكتب ما ساقوله لك، ونطق ببعض الجمل والاسماء المنفصله عن بعضها فادركت انهم يريدون معرفه خطّى فهذه الكلمات والاسماء المنفصله هى في الحقيقه ما تتكون منه العبارات التي كتبتها على جدران المراحيض، ثم اننى اعترفت ببساطه للضابط عندما سألنى: هل تعرف سبب احضارك الى هنا؟ فقلت: نعم بسبب العبارات المكتوبة على جدران الحمامات فقال: هل انت الدى كتبتها؟ قلت: نعم قال: ماالذى دفعك الى دلك؟ فقلت: لاننى لا احب العسكريه قال: هل هذا هو السبب فقط؟ قلت: نعم. وبعدها نقلونى الى مكان آخر ولكن قبل دلك واثناء خروجى من هذا المكتب، سمعت بعضهم يردد هذه الكلمات: نعم هو هذا.. هل هو.. نعم هو وبدا لى من خلال قراءتى لملامحهم اننى باعترافى قد ازحت عنهم مسئوليات كبيرة وارحتهم من اعمال شاقّه وهذا المكان الآخر الدى نقلونى اليه ظاهره فيله تحيط بها الاشجار وباطنه سجن ذو زنزانات سميكه الابواب ضيّقه المساحه عاليه السقوف والنوافد وبعد ثلاث ليالى من هذا اليوم الدى قبضوا فيه علىّ فتح الحارس الدى كان يرتدى لباساً مدنيّاً باب النافدة الصغيرة جداً الموجودة في صدر باب الزنزانه وحدّق الى الداخل فلما وجدنى واقفاً قال: ماذا تفعل؟ فاجبته لاشىء اتمشى فقط، فردد كلمتى: تتمشى! ففتح الباب بسرعه ودخل الى الحجيرة ونظر في ارجاءها ثم تطلع الى الاعلى واخيراً قال لى تعال، فتبعته حتى ادخلنى الى مكتب آمر الحرس الدى دعانى الى الجلوس واعطانى سماعه الهاتف قائلاً: خود كلم بوك، سمعت صوت ابى يقول: كيف حالك؟ قلت: الحمد لله فقال: لماذا فعلت دلك؟ فقلت: هذا اللى صار. ثم اضاف ابى: اننا نضع صحون الطعام للافطار امامنا انا امك وبعد آذان المغرب لانستطيع مد ايدينا الى الطعام ولاقدرة لنا على الاكل منذ عرفنا ان الامن قد احتجزوك. وعلمت فيما بعد ان ابى قد حضر الى المعسكر لمعرفه سبب تأخرى في العودة الى البيت فاكتشف انى موقوف لدى الامن، واستدعونى ثلاث مرات خلال ثلاث ليالى متواليه وفى كل مرة كان هناك ثلاثه ضباط احدهم كان يسجّل في الاسئله واجاباتها والآخر يتولى القاء الاسئله والثالث صامت ولكنه يسأل احياناً واجروا معى تحقيقاً كاملاً وسألونى عن كل شىء وكانوا كلما سألونى هذا السؤال هل انت غير راض عن الوضع القائم؟ يكون جوابى السريع هو: كلا. مناقظاً ما في نفسى فيكون السؤال التالى اذن لماذا فعلت دلك؟ فاجيب قائلاً: بسبب كرهى للحياة العسكريه. هل هناك من دفعك للقيام بهذا العمل؟ وكما حدث في المرة السابقه فقد الحّوا علىّ بهذا السؤال الحاحاً شديداً وكانوا ينظرون الىّ باستغراب واستهجان مع هز الرؤوس اسفاً عندما اُجيبهم: كلا لم يدفعنى احد الى هذا العمل. كانوا يتصورون انه من المستحيل ان شخصاً ما ينتقد قائدهم دون ان يدفعه احد الى دلك فلابد اذن ان هناك من دفعنى للكتابه على الجدران وكان من نتيجه هذا الالحاح انى اعطيتهم اسم ابن عمّى وصديقى لمجرد انهما كانا عالمين بأننى اقوم بتوزيع المناشيرفى شوارع بنغازي ولكنهما لم يدفعاننى الى دلك ولم يكونا عالمين بكتابتى على جدران حمامات المعسكر، فسألونى: هل اشتركوا معك في كتابه المناشير او توزيعها ولو لمرة واحدة؟ فاجبت بالنفى، والغريب انهم لم يُعيدوا هذا السؤال مرة اُخرى ولكنهم حتى لو الحّوا علىّ في هذا السؤال ايظا فاننى لن اعترف بشىء لم يحدث، ثم دهبتُ مع بعض المخبرين وارشدتهم الى منزل كل منهما، لم يكن من الصواب ان افعل دلك ولكننى فعلت وبدون اى نوع من انواع التهديد ولم يمضى يومان حتى شاهدت ابن العم والصديق يشاركاننى السجن رأيتهما انا اولاً وفى البدايه كان الحرس يحرصون بشدة على غلق باب زنزانتى كلما خرج احدهما للتحقيق ثم بعد دلك صاروا يحرصون على ترك جميع ابواب الزنزانات مفتوحه ولفترة طويله من النهار كأنهم يشجعوننا على التلاقى والتحادث، كان موقف ابن عمّى مختلفا عن موقف صديقى اذ كان يبدوا خائفاً وشارداً ولم يقل لى شيئاً سوى انه مش عارف حاجه ولايفهم شيئاً مما يجرى حوله وكان يتجنب الحديث معى او مع اى شخص آخر اما صديقى فكان يتصرف بطريقه عاديه جداً لدرجه انه اقام بسرعه علاقات مع بعض الحراس والسجناء وحدثنى عن الطريقه التي قبضوا بها عليه وكيف كانوا يحققون معه ولم يعاتبنى ابداً ولم يسالنى السؤال الدى توقعته وهو: لماذا ورطتنى معك؟ ولكنه اكد لى انه لم يفعل شيئاً ولم يشاركنى في شىء فوافقته واكدت له اننى قد اخبرتهم بدلك ايظاً واستمرينا على هذا الحال حتى افرجوا عنهما بعد شهر من وصولهما وقد اسعدنى دلك كثيراً وازاح عن قلبى همّاً كبيراً

لم اتوقف عن التفكير في الزيارة منذ ليلة البارحه وحتى صباح هذا اليوم مواصلاً رياضتى المعتادة في ساحه العنبر في سجن الكويفيه، اذ ان هذا هو يوم زيارة الاهل الاسبوعيه وقد انتشلتُ نفسى من نهر الدكريات انتشالاً، لقد دفعتنى هذه الدكريات الى التفكير فيما سببته لابى واُمى من معاناة ومشاكل بالاضافه الى قدومهما لزيارتى اسبوعيّاً ومايتكلفانه من مصاريف هذه الاكياس المحمّلة بالطعام والمجلات التي يحضرونها في كل زياره وكنت الوحيد على ما اظن في العنبر الدى لايغسل ملابسه في السجن بل اتبادل في يوم الزياره مع امى كيس الملابس المغسوله والمكويه بكيس الملابس التي تحتاج الى غسل وبينما انا افكّر في كل هذا انفتح باب العنبر وسمعت الحارس ينادى باسمى ثم اتبع دلك بقوله " زياره " فدخلت حجرتى وحملت كيس الملابس وخرجت وراء الشرطى، كان ابى واُمى ينتظراننى في قاعه الزيارات جلوساً وبين اقدامهما اكياساً كثيره ممتلئه بكل شىء وكانا يرفضان منى اى حديث بخصوص التقليل من هذه الانفاقات وفى الحقيقه لم اكن راغباً في التقليل ولكنى راغب في التخفيف عنهما من الناحيه الماليه ورآيت الصونيه الكبيرة " القصعه " الممتلئه بالطعام الساخن ملفوفه بخرقه قديمه تحت اقدام اُمى.. شنو حالك..قالت لى امى ثم اخدت تتأملنى وتتفرس في وجهى فهى تعتمد اعتماداً كبيراً على هذا التفرس لمعرفه حالى واحوالى.. الحمدالله.. قلت لها وحكت لى عن كل مادار في البيت وماوقع فيه من احداث بالتفصيل طوال الاسبوع الماضى بمافيها مشاجرات اخوتى فيما بينهم او مع الجيران، هذه الام التي كنت دائماً اذا ما استبد بىّ الغضب منها لسبب من الاسباب اشتمها بقولى: ياحمارة. فترد هى علىّ ردّاً سريعاً: نعم انا حمارة لاننى انجبتك وقد تضيف الى هذا الرد بأن تتمنى انها قد فعلت شيئاً احمد الله الان انها لم تفعله وهذه الامنيه تقول فيها: ياريتنى قعمزت عليك اول ماجبتك. يعنى ياريتنى جلست عليك بعد ما انجبتك مباشره، اما ابى فقد ظل صامتاً لفترة ثم انتهز فرصه سكوت امى ليقدم لى الصحف والمجلات العربيه إذ انه يُدرك مقدار شغفى بالقراءة ومتابعه الاحداث السياسيه داخليّاً وخارجيّاً وكان يستعجل دائماً انهاء الزياره بعكس امى فيهتف بنا: خلاص هيّا قبل ان يطردوننا، وساعدنى الشرطى في حمل بعض الاكياس الى الحجره وعزلت لنفسى في صحن صغير بعض الطعام الساخن ووضعت القصعه الكبيره في منتصف الحجره ودعوت الناس اليها وكان احد زملاء الحجرة قد رآيته يحمل قطعه من البصل الاخضر منذ الصباح الباكر بعد ان شدبها وغسلها وخبأها تحت سريره،رآيته يستخرجها بسرعه ومعها ملعقه وكان هو اول الواصلين الى القصعه وسبق له ان كرر هذا الفعل في زيارتى الماضيه والتى قبلها ايظاً، لفت نظرى في هذا الشخص انه بقدر ما يحرص ويواضب لايتهافت ولايتهالك لايخفى شهوته للاكل وفى نفس الوقت لايأكل كالبهائم مثل بعضهم، لايزاحم بكتفيه واذا ما زوحم فانه يتخلى عن موقعه ولكنه يظل قريباً ويمد يده من بين المتزاحمين ويغرف باستمكان ويملأ ملعقته ويأكل بجد وتأنى ويستمر الى النهايه وكلما وقف شخص من الآكلين حامداً شاكراً لله الحّ عليه قائلاً: كل.. كل. واذا ما دخل شخص الى الحجرة اثناء الاكل يكون هو اول من يدعوه للطعام ويكرر له الدعوه حتى كأنه يأمره واذا لم تكن هناك ملعقه للقادم الجديد فانه يسارع قبل غيره باشراكه في ملعقته لقمة بلقمة، لقد اعجبنى هذا الشخص في اتزانه ووضوحه يعترف ببساطه انه جائع عندما يجوع وقد يظل اثناء الغداء او العشاء مستمراً في الاكل حتى بعد ان ينهض الجميع عنه، يظل يأكل بكل هدوء وتأنى وهذا الوضع اى البقاء وحيداً بعد نهوض الجميع هو وضع محرج جداً، يتهرب منه كل المساجين، منفرداً تحيط به الصحون شبه الفارغه بينما الكل قد غسلوا ايديهم وجلسوا فوق اسرّتهم ينتظرون هذا الاكول حتى يفسح لهم مكان الجلوس ولكن صاحبنا يواصل تناوله طعامه كما لو انه لايوجد في الحجرة احداً غيره وهو الشخص الوحيد الدى كان يحضر لى قصعتى مغسوله.

كانت اصوات بعض الاطفال تتناهى الى اُذنى وانا مستلق على الفراش في زنزانتى الضيّقه بعد ان انبلج ضوء الصباح وملأ المكان داخل الساحه او على الاصح الصاله في سجن الاستخبارات الدى هو من الخارج فيله مشجرة ومن الداخل معتقل غليظ الابواب والنوافد، كنت اتخيل هؤلاء الاطفال متحلقين حول امهم يتشاجرون على بسكويت وحليب الصباح اعتدت على سماع اصواتهم كل يوم من خلال النوافد العاليه الضيّقه وفى هذا السجن لايفتحون ابواب الزنزانات الا ثلاث مرات في اليوم بعد الافطار والغداء والعشاء ولهذا انا شديد الحرص على التقليل من الاكل والشرب حتى لااحتاج كثيراً الى المرحاض ورغم ان المشى يستدر البول الا اننى لم استطع الكف عنه، نعم انا اتمشى حتى في هذه الحجيرة الضيّقه وفراشى يحتل الزنزانه كلها طولاً ويترك مساحه صغيره عرضاً وهذه المساحه الصغيرة هى مضمار المشى الخاص بى والشعور العام هنا هو اننا نحمدالله كثيراً ونشكره لانهم يأتوننا بالطعام ويسمحون لنا بالخروج للحمّام بعد الوجبات لغسل ايدينا وقضاء حاجتنا ولايضربوننا ولايُهينوننا، لانه بالفعل مكان للخوف كما توحى به هذه العباره التي وجدتها مكتوبه بطريقه الخدش بشىء حاد على باب زنزانتى من الداخل (اخى لاتخف فالحياة تجارب وعبر ودروس) كنت اعود لقراءة هذه الجملة من آن لاخر كأننى اتزود منها بشىء ما وقبل صلاة العشاء لهذا اليوم ورغم ان الزياره لم يكن مسموحاً بها هنا فقد جاءنى الحارس بكيس من النايلون قائلاً لى: انه من اهلك، وكان يحوى ملابس وغيارات داخليه وصابون ووجدت خرقه ملفوفه بعنايه على شىء ما فلما فتحتها فاذا بداخلها قطعه من اللحم المطبوخ كبيرة وباردة وبما ان دخول الطعام ممنوع فقد نجحت امى في تهريبها لى وبعد حوالى ساعه من ادائى لصلاة العشاء استدعانى ضابط الخفر اليه وهو الرجل الثالث من اللدين كانوا يحققون معى، الدى كان لا يسأل الا نادراً وقد استبقانى مرتين من قبل في حديث شخصى خلال الايام التي استغرقها التحقيق، هذا التحقيق الدى يبدوا انه انتهى الان، تحدّث معى في المرتين السابقتين في شئون كثيره وباسلوب مهذب وبطريقه مختلفه تماماً عن اسلوب ضبّاط التحقيق ولهذا كنت اُعلن له بكل بساطه عن افكارى المعارضه للوضع السياسى في ليبيا، كان ضابط الخفر يجلس في صالون فخم ويتسلى بمشاهدة برامج الاداعه المرئيه ويتمتع بسفرة عامره بانواع من الفاكهه وبعد ان دعانى لمشاركته التمتع بما فوق سفرته ابتدرنى بالحديث عن عظمه الانجازات العملاقه الهائله التي تحققت بفعل الثوره وقال ان اول هذه الانجازات هو تحرير الوطن من القواعد الاجنبيه وآخرها النهر الصناعى العظيم مروراً بتسليم السلطه والثروة والسلاح للشعب وكان ردّى عليه هو ان الحريه هبه من الله وليست هبه من القائد وان الانجازات تندرج تحت بند الواجبات التي يُفترض ان لاشكر عليها ثم ان هذه الانجازات مهما كانت كبيرة لاتُبيح للقائد ان يفرض علينا افكاره ومعتقداته فقال بسرعه: معمّر القذافي لم يفرض شيئاً على الليبيين

قلت: لايوجد نشاط من النشاطات في ليبيا اليوم الا وهو يسير وفقاً لافكاره

قال: ماذا فعل لك معمر القذافي؟

قلت: لقد حطّم آمالى في مواصله دراستى العليا

قال: ولكن حسبما فهمت منك ان المجموع لم يؤهلك لدخول الكليه التي كنت ترغب فيها.

قلت: نعم ولكن كان بامكانى اعادة الثانويه العامه ولكنهم وجّهونى الى احدى الكليات العسكريه فتخلفت واشتغلت حتى شملتنى الخدمه الوطنيه

قال: هل هذا هو السبب فقط في كتاباتك المضادة؟

قلت: الحريه.. الحريه هى السبب الاول والاخير

قال: لماذا لم تحاول الكتابه في الصحف والمجلات وتعبّر عن نفسك

قلت: وهل يسمحون بتوجيه انتقادات لقائد الثورة؟

قال: لماذا لاتدع القائد وشأنه؟ لماذا لاتتحدث عن الظواهر السيئه في المجتمع وتقترح حلولاً لها؟

قال: لا استطيع ان ادع القائد وشأنه لأن اخطر الظواهر السيئه واهمها على الاطلاق هى فقدان الحريه والكرامه فالناس في ظل العبوديه يفقدون امكانياتهم الطبيعيه وقدراتهم الاصليه فتقحط مواهبهم وتنحط نفوسهم وتصغر عقولهم فتنعدم فيهم حتى الرغبه في حل مشاكلهم بل تراهم يتعمدون المساهمه في زيادتها واستفحالها ودلك بسبب فقدانهم للانتماء الوطنى الدى ينتج عن غياب الحريه فلماذا لايتركنا معمر القذافي نعيش كما نريد نحن؟ لماذا لايدعنا وشأننا؟

قال: قلت لك ان قائد الثورة لم يفرض شيئاً على الليبيين، بامكان الليبيين جميعهم ان يجلسوا في مؤتمراتهم الشعبيه ويتحدثوا في كل شىء ويستطيعون تغيير كل القوانين التي لايرغبون فيها.

قلت: حكم الشعب لنفسه بواسطه المؤتمرات الشعبيه واللجان الشعبيه ومؤتمر الشعب العام هو اما ان يكون من ابتكار معمر القذافي ومن بنات افكاره او قد استورده من الخارج وفى كلتا الحالتين هو المسئول الاول عنه وعن كل ما نتج منه وما تسبب فيه ولم يسبق لاحد من الليبيين ان تحدث عنه او طالب به

قال: ولكن الشعب الليبى وافق وبايع ورضى بهذه الاطروحات الثوريه عندما عُرضت عليه وبالتالى صارت ملكاً للشعب كله كما حدث للثوره نفسها، في البدايه مجموعه من الضباط استطاعوا الاستيلاء على السلطه بقوة السلاح ثم خرج الشعب كله في مظاهرات ومسيرات مؤيده ومؤازره لهؤلاء الضباط فهى اذن تسمى ثوره وليست انقلاباً ثم ان التغييرات الكبيرة والتحولات الخطيره التي حصلت بعد دلك تؤكد وتشهد انها ثوره

قلت: ان هدفى الاول والاخير ان اعيش حرّاً في بلادى وان لايتدخل احد في حياتى الخاصه. ولايهمنى بعد دلك من هو رئيس الدوله، ولاشكل نظام الحكم

قال: وهل تعتبر ان استدعائك للخدمه الوطنيه هو تدخل في حياتك الخاصه؟

قلت: نعم.. يجب ان يؤخد رأيى الخاص حتى في الخدمه الوطنيه من ناحيه المدة المحددة لها وكيفيه ادائها

قال: ان من واجب كل انسان في اى بلد ان يتدرب على السلاح ليكون مستعداً للدفاع عن وطنه عند الضروره.

قلت: كدلك من واجب كل انسان في اى بلد ان يفرّق بين الدفاع عن الوطن وبين المغامرات الخارجيه التي ليس لها دافع سوى تحقيق الطموحات الشخصيه للقائد الاعلى للقوات المسلحه ورغبته الشديدة في الخلود في الدنيا.

وفى كل مرة يصل فيها الحديث بيننا الى النقطه التي يتوجب عليه عندها الاعتراف بحقائق الامور يغيّر الموضوع ويفتح اسطوانه الانجازات العملاقه التي تحققت بفعل ثورة الفاتح من سبتمبر وكان يؤكد لى على هذه الانجازات كما لو اننى قد انكرت وجودها حتى انه قال لى: يدهشنى منك انك لاترى كل هذه الانجازات !.

قلت: وانا يُدهشنى منك انك تعتبر كل من يمارس النقد لايعترف بوجود الانجازات، اننى عندما امارس النقد امارس الحريه التي وهبها الله لنا جميعاً وهذا لايعنى اننى انكر وجود الانجازات، الانجازات موجودة ومعروفه يعرفها العدو قبل الصديق وهى كبيرة ورائعه ولكننا عندما نحوّل جهاز الاعلام الرسمى للدولة كله الى مجرد اعلانات عنها ونمنع النقد ونحرّم اى حديث عن السلبيات فاننا بدلك نرتكب جريمه كبرى في حق انفسنا وندمّر مستقبلنا ومستقبل ابناءنا واحفادنا لأن الانجازات تحتاج الى النقد والتصحيح بصوره مستمره فهو بالنسبه لها عمليه صيانه دائمه والا فانها تتحول الى افسادات عظيمه عملاقه.

فقال مؤكداً: ليس لدينا اعلام رسمى في الجماهيريه بل اعلام شعبى، يعنى ملك للشعب كله وليس لجزء منه.

فهو لم يلفت نظره في كلامى السابق سوى عباره الاعلام الرسمى للدولة

فقلت: كيف يكون الاعلام ملك للشعب كله ونحن لانرى للاصوات والاقلام الناقدة اى تواجد فيه؟ ولايستطيع احد ان يعارض النظام الا من خارج ليبيا؟

فقال بعد ان سكت قليلاً: ليس هناك اى داعى لوجود معارضه في الجماهيريه باعتبار ان الشعب هو الحاكم وهو الدى يقرر مصيره ويحدد مستقبله من خلال المؤتمرات الشعبيه الاساسيه التي يجلس فيها كل الناس ويتحدثون فيها حول القضايا التي تهمهم وهم وحدهم اى كل الناس اللدين يحق لهم الحكم وممارسة السلطه ووضع السياسه الدائمه والثابته للدوله وبالتالى لماذا تتخد موقفاً معارضاً في الوقت الدى تستطيع فيه ان تحكم؟ ثم هل تجوز معارضه الشعب؟

قلت: نعم.. عند الاحرار تجوز معارضه الشعب، غير ان حكم الشعب لنفسه حتى الان في ليبيا لم يتحقق منه شىء باعتراف قائد الثورة نفسه اكثر من مرة في خطاباته ولايمكن ان يكون حكم الشعب حقيقه واقعه لمجرد اننا نرغب في دلك ونتمناه وحسب فهمى للامور ان جلوس الناس جميعاً في مؤتمرات عامه وحديثهم في كل شىء لاعلاقه له بممارسه الحكم ولايعنى ان الشعب يمارس الحكم مهما طالت مدة هذا الجلوس ومهما استمر هذا الحديث وتشعّب لأن من يمارس الحكم في رأيى يجب ان تصب عنده معلومات جميع الاجهزة الامنيه وان يكون قائداً اعلى للقوات المسلحة ومسيطراًعلى ذخيرة هذه القوات وان يكون شخصاً واحداً تسانده مجموعه من الناس وحسب عقليتى انا ان المواطن العادى لايرغب في ممارسه الحكم او امتلاك السلطه ان القليل من الناس اللدين لديهم تطلعات نحو الحكم والقيادة فممارسه السلطه او الحكم ليس مطلباً شعبيّاً وقد يمارس الشعب الحريه ولكنى لااعتقد ان هناك شعباً قد مارس الحكم من قبل او حتى رغب في دلك.

فقال: هذا رأيك انت اما معظم الليبيين فقد وافقوا على ضرورة ان يحكم الشعب نفسه بنفسه ووافقوا على الاطروحات الجديده وجاءوا فعلاً للمؤتمرات الشعبيه ومارسوا سلطتهم لاول مرة ومن الطبيعى ان تكون التجربه في بدايتها سادجه ومليئه بالاخطاء ولكن مع مرور الوقت سوف يتعلم الناس وسوف تترسخ التجربه وتتحول الى نظام متكامل مثل كل الانظمه السياسيه الراسخه الان في العالم بل ستكون افضل منها واكثر رسوخاً لانها ستقضى على الصراع السياسى نهائيّاً وتلغى كل هذه الانظمه تلقائيّاً وعلينا نحن الليبيين ان نفتخر بأن نكون نحن اول من مارس الحكم في التاريخ لا ان ننتقد ونعارض التجربه من بدايتها وعلينا ان نزهوا على جميع الامم لان الشخص الدى جاء بهذه الاطروحات وحل بواسطتها مشكلة الصراع على السلطه وتم في عهده تدشين اول جماهيريه في التاريخ هو شخص ينتمى الينا اسمه معمر القذافي.

قلت: لا شك عندى في نزاهه الاخ قائد الثوره ورغبته الصادقه في ان يتسلم الناس البسطاء السدّج اللدين هم اغلبيه عدديه في هذا الوطن زمام امورهم فهو دائماً يتحدث عنهم ويوجه الخطاب اليهم ويؤكد انه لم يضح بحياته في صبيحه سبتمبر الا من اجلهم (فبدأ على ضابط الخفر الرضى والاستحسان لكلامى ووافقنى بهز رأسه وهو ينهض وينادى على الحارس ولكن قبل وصول الحارس اسرعتُ بالقول: اذا استطاع معمر القذافي حل مشاكل العالم السياسيه فهذا يعنى انه سيترك العالم بدون مشاكل وهذه في حد داتها ستكون اكبر مشكله تواجه البشريه، فكأننى لمحت شبه ابتسامه تلوح على وجهه وانا اخطو نحو الخارج.

 

 اليوم السادس
بينما كنت في حجرتى في بيت والدى بعد رجوعى من جوله مسائيه بالسياره قمت خلالها برمى عدد من الحزم الورقيه الممتلئه بالشتائم يغمرنى شعور بالرضى والسكينه، لقد انتقمتُ من الرجل الدى دمّر حياتى واضاع مستقبلى ومنعنى من مواصله دراستى، اذا بطرق على الباب فاسرعتُ بفتحه فوجدتُ والدى يقف امامى ومن خلفه عمّى، دلفا الى الداخل واغلق عمى الباب فقال ابى: ماهذا الدى تفعله؟ هل تريد ان تؤدينا جميعاً معك؟ هل هذا هو جزاؤك لنا؟. لم ارد بكلمه واحده لاننى فهمت على الفور عمّا يتحدثان، كنت قبل الجوله بالسيارة قد اخبرت ابن عمّى بما انويه فاستنتجتُ انه قد اخبرهما واضاف ابى: ثم ماذا تظن؟ هل تعتقد ان اوراقك هذه التي تلقيها في الشوارع ستؤدى الى تغيير النظام؟ كلا انك ستجلب الضرر لنفسك ولنا، ان هذا النظام شيوعى وسوف يبقى مدة طويله. وكان عمّى يوافقه في كل ما ينطق به ويستشهد باحداث ووقائع للتدليل على عدم فائدة هذا العمل ووعظانى كلاهما ونصحانى بالاكتفاء بهذه الجولة وعدم تكرارها واصغيت لهما دون اقتناع ولكنى اظهرتُ لهما الاقتناع والتوبه، انهما لايملكان سوى المواعظ ولم يقدما لى البديل عن كتابه المنشورات وكأنهما لايدركان حاجه الانسان الماسة للتعبير عن نفسه والفضفضه عن داته، انهما يشتمان معمر القذافي دائماً امام الاقرباء والاصدقاء الموثوقين وخاصه ابى فهو ينتقد سياساته ويسخر منه عندما يلقى خطاباته او يأتى بافكار جديدة ولكنه لم يكلف نفسه قط الدهاب الى المؤتمر الشعبى والتعبير عمّا في نفسه صراحة امام الناس ولم يدعونى الى فعل دلك، انه لايفعل شيئاً ويرغب في ان اقتدى به بحجه ان في دلك السلامه والعافيه، لقد كانت علاقتى مع ابى مختلفه عن علاقه اخوتى به فقد كنت الوحيد من بينهم الدى يجرؤ على توجيه النقد اليه مباشرة سواءاً في الجد ام المزح وكان هو يحرص على اتخاد مظهر الوالد العصرى الديمقراطى المتفهم وكان يستشهد دائماً بالمثل السائر (وين يكبر ابنك خاويه) ولكنه لايلتزم به فعليّاً وسلوكيّا بل انه يلتزم بالمثل القائل وين يكبر ابنك اشخط فيه، اسخر منه، هدده، اكدب عليه فلم يكن يتناقش معنا ابداً وكثيراً مايستعمل عبارة (هذا بيتى انا) كلما اراد ان يُنهى جدالاً ينشب بيننا وكان يستغل في اخطاءنا ليستبد بنا وليتدخل في ادق شئوننا الشخصيه ويوجه الينا توبيخاته امام الناس، ومن الوسائل التي يستخدمها ضدنا القول باننا قد نخسر رضاهُ اذا ما خالفناه وبالتالى سوف لن ندخل الى جنّه الخلد الموعودة عند الله للمؤمنين مهما ارتكبنا من اعمال صالحه باعتبار ان الشرط الاساسى لدخول هذه الجنّة هو رضى الوالدين، وفى الحقيقه ان والدنا يتشابه تشابهاً كبيراً مع قائدنا اذ ان كلاهما يدّعى انه لايريد شيئاً لنفسه وكلاهما يدعى ان همه الاكبر هو ضمان مستقبلنا و سعادتنا فالاخ القائد قد تخلى عن الحكم للشعب حسب قوله وتفرغ للتحريض والتوجيه والارشاد والتعليم بينما الواقع يقول انه لم يترك صغيرة ولاكبيرة في حياتنا الا وقد فرض علينا فيها رأيه الشخصى ودوقه الخاص وجعلنا نرتدى جميعاً كباراً وصغاراً رجالاً ونساءاً نفس مقاييس ملابسه هو وتحولت افكاره التي اراد بها القضاء على الظلم والاستغلال في العالم كله نهائيّاً رغم استحالة دلك تحوّلت الى اسلاك شائكه تفصلنا عن بعضنا البعض ومعتقلات نظريه نحيا فيها كما يرغب وكما يتصوّر هو واصبحت طموحات الشعب وتطلعاته التي من اجلها قام بالثورة في المرتبه الثانيه بعد الطموحات الثوريه الشخصيه ثم انه رغم كل هذا يقول انه لم يفرض شيئاً على الليبيين ولم يتدخل في اى شىء البته، مسافه شاسعه بين الاقوال والافعال.

نقلونى مع مجموعه اخرى من الموقوفين تتشابه قضاياهم مع قضيتى دون سابق اندار في ليله من الليالى من سجن الاستخبارات الى سجن الشرطه العسكريه وبالتحديد داخل قسم الزنزانات الضيّقه الدى يسمونه قسم الخطيرين وهو شبيه من ناحيه ضيق الزنزانات بسجن الاستخبارات واستمروا معنا على نفس النظام السابق لاخروج الا بعد الافطار والغداء والعشاء لغسل اليدين وقضاء الحاجه فقط ثم بدأ الضغط يخف شيئاً فشيئاً حتى صاروا يتركون ابواب زنزاناتنا مفتوحه ومكثنا سته اشهر في هذا القسم ثم انتهى الأمر بنقلنا الى القسم العام الدى هو ملتقى لجميع انواع القضايا فشعرتُ وكأنهم قد افرجوا عنى بعد ان اصبح بامكانى التحدث مع كل الناس بصورة عاديه وبدون قيود لاول مرة منذ سنة كاملة وكان الموقوفين يروحون ويجيئون الى و من النيابه كل يوم فيما عدا الخميس والجمعه ومن تزيد المدة التي تفصله عن الجلسه التاليه عن شهر كامل ينقلونه الى سجن الكويفيه ولكننى في الوقت الدى كنت فيه سعيداً بالتحادث مع الناس عن قضاياهم وعن قضيتى افتقدتُ الهدوء والسكينه ولم اعد اجد وقتاً ولامكاناً للقراءة والكتابه وهما الهوايتان اللتان كنت اتمتع بهما في القسم الانفرادى ولو بصوره سريّه وهذا من الاسباب التي دفعتنى في النهايه الى كتابه طلب انتقال الى سجن الكويفيه الى آمر المعسكر عن طريق آمر السجن وبما ان مدة توقيفى قد زادت عن السنه فقد وجدتُ انه من حقى الانتقال الى سجن اكثر استقراراً من هذا المكان الدى يجبرون فيه الموقوفين على التدريب العسكرى اليومى ويغلقون ابواب العنابر طيلة الفترة الصباحيه فنظل مشردين في الساحه المزدحمه المشمسه الى ما بعد الظهر.

فى لحظه من لحظات الجد والانتباه هتفتُ بينى وبين نفسى ما هذا الدى افعله؟ هل هذا انا الدى يقوم بهذا العمل؟ يجب ان اتوقف فوراً عن هذه العادة السيئه انها بقدر ما تضحكنى على نفسى تبكينى عليها، الفعل في حد داته لايدعوا للضحك او البكاء ولكن الضحك يتعلق بالطريقه والاسلوب اما البكاء فلأننى ارغب في الكف عنها والخلاص منها ولااستطيع دلك، انها كثيراً ماتسببت في تأخرى عن اداء الصلاة في وقتها والخوف من مضارها يلازمنى دائماً كما ان افتضاح امرى احياناً يسبب لى ازعاجاً كبيراً، كيف اسير بين الناس في هيئه الشاب المحترم المتديّن الدى لايرفع بصره قط في وجوه النساء ويحرص على عدم المرور بجوارهن ويتنزه عن الاشتراك مع الاتراب في احاديثهم حول النساء وحول الزنا، كيف اكون كل هذا بينما عندما اختلى بنفسى اتحول الى شيطان من شياطين الإنس مستحضراً مئات من الصور النسائيه العاريه في اوضاع جنسيه مختلفه استحضرها في خيالى باعتبارها ضرورة ترافق ارتكابى لهذا الفعل، لقد تكررت لحظات الجد والانتباه قبل السجن في حجرتى في بيت والدى وكانت هذه اللحظات تدفعنى ليس فقط الى الاقلاع عن العادة السريه ومقدماتها وكل ما يدعوا اليها بل تدفعنى الى اعداد برنامج اصلاحى شامل لاسلوب حياتى وتسجيل هذا البرنامج على الورق والقسم باليمين على الالتزام به ولكننى بعد ثلاثه ايام او اسبوع على الاكثر ابوء بالفشل الدريع واتخلى عن قسمى واحنث بيمينى بكل بساطه وفى منتهى السهوله وكأننى شخص آخر، كأننى لست انا الدى اقسم بالله على الالتزام وسجّل هذا القسم على الورق ولهذا السبب اى عندما تكرر معى هذا الفشل فقدت لحظات الجد والعزم والتصميم قيمتها فقد صرت اعلم انها لن تؤدى الى ما اطمح اليه وتساوت مع لحظات المزح والغفله والهوس،

لم يسبق لى من قبل ان اغرقت في الضحك حتى ذرف الدموع او اننى بكيت بصوت عال، كنت استحى من ذلك، كنت اكبت نفسى ولا اسمح لها بالوصول الى هذه الحالة لاننى كنت اعتقد ان دلك يتناقض مع الاعتزاز بالنفس واحترام الدات ولكننى الان صرت اميل الى انه لايوجد تناقض بينهما وقد ادركتُ مدى حاجتى الى دلك، اننى اشتاق الى البكاء العنيف والضحك السادر، لطالما رآيت السجناء هنا يبالغون ويشتطون في الضحك وفى الحقيقه هم لايفعلون شيئاً اكثر من دلك، لقد رآيت مرة اشخاصاً ابتلاهم الله بمصيبة فقدان احد اعزاءهم يبكون بصوت عالى وبحرقه غير عابئين بمن حولهم حتى انهم فقدوا الحرص على مظهرهم الخارجى وشغلهم البكاء عما ينطقون به او يقال لهم، فهل تلزمنى انا ايظاً مصيبة كبيره حتى استخرج ماعندى واتخلص مما يُثقلنى، لقد صرت مخلوقاً ضعيفاً، مكبوتاً في حاجه ماسه للتعبير والفضفضه عن النفس ولاادكر بالتحديد متى بدأت معى العادة السريّه ومتى بدأت طريقتى الخاصه في ارتكابها ولكنى وجدت نفسى امارسها دائماً، كنت اضع منشفاً على الحائط وامسك به بكلتا يدىّ من طرفيه والتصق به واتحرك بطيئاً ثم سريعاً متخيلاً نفسى ممسكاً بخصر امرأه من الخلف، امرأة كبيرة الردفين حتى الوصول الى الذروه بالرعشه الجنسيه ونزول السائل المنوى وتلويث المنشف ولتنظيف المنشف من السائل فأننى امسح به الحائط وكثيراً ما فعلت دلك، كثيراً جداً لدرجه ان حائط الحجره امتلأ بخطوط سوداء في معظم جهاته الاربعه وبارتفاع قامتى انا فصار كالحزام للحجرة ومع ان السائل المنوى ابيض اللون الا انه يتحول الى الاسود بعد مسحه على الحائط بفترة وقد سألنى ابى مره عن سبب هذه الخطوط فلم اجد جواباً، كيف لو عرف انها بقايا وعلامات السائل المنوى لابنه وقد اتخيّل نفسى ملتصقاً بمؤخرة ولد او بنت فعندى تجارب كثيرة مع الاولاد والبنات ولكنى لم اتجاوز معهم الالتصاق الخلفى الخارجى ولاتوجد عندى تجربه واحدة مع امرأة ولم تكن لى ابداً علاقه مع اى فتاة واعتقد ان هذا هو سبب اننى افضّل تخيّل الالتصاق الخلفى اثناء ممارسه العادة السريّه فهو يصل بى الى المتعه بسرعه وبسهوله بينما اجد من العسير جداً ان اتخيّل نفسى قد اولجتُ قضيبى في فرج امرأة اذ لم يسبق لى ان فعلت دلك ولهذا فهو

مشهد يُبعد عنى المتعه ويُصعّب علىّ الوصول اليها رغم اننى قد شاهدتُ العمليه الجنسيه كثيراً من خلال الاشرطه الاباحيه.

 

اليوم السابع
حقاً ان سلوكاً بسيطاً متاحاً لجميع الناس مثل غسل الجسم، وتنظيف المكان وتنظيمه وتغيير الملابس قد يؤدى الى ازالة الافكار السوداء، ويُشفى من المنغصات، ويجلب الارتياح النفسى، وخاصةً اذا جاء هذا السلوك البسيط بعد ارهاق الجسم بالعمل او بالرياضه، هذا ما حدث لى بعد فترة صباحيه قضيتها كلها منغمساً في حملة نظافه خاصه بدأتُ فيها منذ ان ايقظتنى ساعتى لصلاة الفجر، بدأتها والناس نيام بازالة ستائر سريرى وغسلها قبل ان يفتح الحارس باب الحجرة ثم نشرتها فوق حبل الغسيل بعد دلك في الساحه وعندما انتهيت من حملتى كنت اتصبب عرقاً. وكدلك الأمر عند التعرّف على ضيف جديد يقدم الينا من العالم الخارجى، فالحديث مع نزيل جديد عن مشكلته التي جاءت به الى السجن خاصه في اليوم الاول لوصوله يُعيد الرباط بيننا وبين ايقاع الحياة اليوميه في الخارج ويُجدد نشاطنا العقلى ويُخفف من شعورنا بالوحدة والوحشه، ولكن عباره تلقاها مكتوبه على الحائط داخل احدى الحجرات قد تجدد النشاط العقلى ايظاً وتؤثر في النفس تأثيراً حسناً وتُعطى العبرة الضروريه التي يجب ان يدركها كل سجين وهى انه مغادر يوماً ما هذا السجن وسوف تتحول ايامه واسابيعه وشهوره وسنواته وما جرى فيها من احداث الى دكريات مجرد دكريات مثل هذه العباره التي تقول (ياقاعد صيورك ماشى نا قبلك سيّبت فراشى) وهى بيت شعر وليست مجرد عباره نثريه ولكن عباره اُخرى حيّرتنى وشغلتنى وهى (مافى الخراء خيره) انها تبدوا كالمثل السائر ولكنى لم اسمع به من قبل وبالطبع فإن الخراء هو فضلات الانسان الدى لايوجد فيه خير او فائدة وبالتالى عدم وجود تفاضل بين انواع الخروات اذا اعتبرنا ان الخراء انواع او بعباره اخرى مافيش خراء احسن من خراء

لقد كان بامكانى ان اكون افضل بكثير مما انا عليه الان، انى اتحسر على عدم لجوئى الى المنبر الرسمى المعترف به من قبل الدولة وعلى عدم اهتمامى بمعرفه اصول الدين ومدى تطابقها وتوافقها مع ما قمت به من عمل، ان عدم اقتناعى بهدا المنبر ماكان يجب ان يمنعنى من استخدامه ومن التعبير عن النفس من خلاله وليس من المفروض ان تعمل القياده برأيى ولكننى بتوجيه انتقاداتى لها من خلال المؤتمر الشعبى اقوم بوجبى تجاه ربى وتجاه بلدى قائلاً كلمة الحق التي امرنا الله بقولها ورسوله في كل حين وفى كل مكان وارضى نفسى بقيامى بهذا الواجب وهو الواجب الاول والآهم لكل مسلم بل لكل انسان، نعم لقد كان بامكانى توجيه منشوراتى للمؤتمر الشعبى وتلاوتها على رؤوس الاشهاد في موعد انعقاده من كل عام بدلاً من القائها في الشوارع او كتابتها على الجدران، بالطبع يجب ان تكون افكاراً ومقترحات وليس شتائم لأن هذا مما يدرأ عنى العقاب او يخفف من اللوم والعتاب اذا كان هناك ما يدعو اليهما.

لاشك انه لا يوجد من يرغب في ان يُشتم او يتعرض للاهانه غير ان حقائق الامور وضرورات الحياة تخبرنا ان الحقيقه والشتيمه قد يندمجان اندماجاً كاملاً فنعبّر عنهما بكلمه واحده بمعنى اننا قد نضطر لكى نقول الحقيقه في موقف من المواقف او قضيه من القضايا وصولاً الى العداله، قد نضطر الى الشتيمه فننطق بالبذاءات واحقر الالفاظ واسوأ الكلمات فالشتائم هى قبل كل شى وصف لسلوكيات وافعال يرتكبها بعض الناس في معظم الاحيان كما يقترفها كل الناس احياناً ولهذا السبب نجد انه لاتخلوا لغه من اللغات من الشتائم ولايوجد انسان لايحمل قدراً من الشتائم في مخزن داكرته اللغوى، ورغبتنا الاكيدة في المحافظه على المصلحه العامه تفرض علينا السعى بجد واخلاص لمعرفه الحقيقه، كما ان معرفه الحقيقه تفرض علينا بدورها الحرص على تسميه الاشياء بأسماءها الحقيقيه، فهناك اذن علاقه وطيدة بين الصالح العام وبين ضرورة ان تسمى اعمالنا وسلوكياتنا باسمائها الحقيقيه ولو لم يكن للشتائم اى اهميه او دور في حياتنا لكان يجب ان يخلو منها كتاب الله، القرآن، ان كتاب الله او الذكر الحكيم يمتلئى بالكثير من الشتائم والاهانات سواءاً كانت موجهه لافراد بعينهم او لامم وشعوب باسرها مثل قوله عز وجل (كالحمار يحمل اسفاراً) و(كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث) و(كالانعام \بل هم اضلُ سبيلاً) كما وصف الله اقواماً بانهم قوم سوء فاسقين او مجرمين وسخط على آخرين فحوّلهم الى قرود وخنازير بالمعنى الحرفى للكلمةعقاباً لهم لانهم ارتكبواافعالاً جعلتهم مستحقين لدلك وحرصنا في العادة على مظهر الادب والنضج والوقار وخوفنا من الاتهام بسوء الاخلاق وفساد الاسلوب هو الدى يدفعنا الى تحاشى الشتائم والتعبيرات القاسيه رغم اننا قد نضيّع الصالح العام بسبب دلك ومن جهه اُخرى قد تنطبق الحقيقه مع المديح فنعبّر عنهما بكلمه واحدة ايظاً، قد يكون من الضرورى للصالح العام تعداد انجازات القائدعندما تكون كلها او معظمها انجازات حقيقيه وقد صبت بالفعل وليس بالقول فقط في الصالح العام قد يكون الاعلان عنها والدعايه لها مفيداً للوطن وللشعب من حيث انها حقائق في حد داتها وحقوق للقائد على الناس ومن حيث ان فيها كبت واخراص للحاقدين الحاسدين المتطلعين للحكم اللدين لايتورعون عن البحث في اخطاء القائد الصغيرة وعيوبه الشخصيه واعلانها بهدف الاساءة اليه لاحداث بلبله وتشكيك وسوء ظن من اجل دفع الناس لخلق اوضاع سياسيه مترديّه قد تؤدى لوصولهم للسلطه اوحتى على الاقل اقترابهم منها وهؤلاء الحاسدين للزعماء موجودين في كل المجتمعات.

انتشرت شائعه قويه في السجن مفادها ان هناك افراجاً عاماً شاملاً عن السجناء بمختلف قضاياهم بمناسبه دكرى سلطه الشعب في 2 مارس التي ستهل علينا بعد ايام قليله وقد ازدادت قوة هذه الاشاعه عندما نقلونا نحن سكان العنبر العسكرى رقم 2 الى العنبر المجاور الدى كان يقطنه المدنيين ولاادرى ماذا فعلوا بهؤلاء السجناء المدنيين او الى اين نقلوهم؟ وقد تزاحم المساجين العسكريين في العنبر الجديد على الاسرّه وتراصّوا في الحجرات فامتلأت بهم الا حجره واحده تركوها خاليه بسبب عدم وجود مصابيح كهربيه فيها وعدم وجود حتى اسلاك للكهرباء ولا اسرّة، فرآيت انها فرصتى للتمتع بالانفراديه والوحدة فاستوطنتها وقمت بتركيب سلك الكهرباء الخاص بى والدى ينتهى بمصياح كهربائى ووصلته بالسلك الرئيسى الخارجى وسرقتُ سريراً من احدى الحجرات ورغم سعادتى بمكوثى وحدى الا اننى شعرت بوحشه وخوف وخاصّةً في الليل عندما يغلق الحارس ابواب الحجرات بالاقفال فقد كانت الحجرة واسعه جداً بالنسبة لى ومصباحى الصغير يُضىء المساحه حول سريرى ويترك باقى الحجرة مظلماً ولهذا كنت اقرأ في سوره ياسين بصوت عالى عقب صلاة العشاء كل ليله وانا متربع فوق سريرى وبعد ايام قلائل حلت دكرى 2 مارس دكرى استلام الشعب الليبى للسلطه والثروة والسلاح كما يُزعمون وكان هناك خطاب لمعمر القذافي استمعت اليه وحدى من خلال الجهاز المسموع، اهم ما جاء في هذا الخطاب هو قوله انه باستثناء 500 شخص فأن جميع الموقوفين والمحكومين في جميع انواع القضايا بما فيها السياسيّه سوف يشملهم العفو ومن تم الافراج وقال شيئاً عن سبب استثناء هؤلاء الخمسمئه لم استوعبه جيداً ولم تسعنى الدنيا من الفرح ووصل الى اذنى الصراخ والهتاف من الحجرات الاخرى وانعدم وزن العنبر كله وشبت نار الحريه وسادت حالة من الهرج والهبل والمجون وبدون اى اجراءات او معاملات اداريه في ظهيرة اليوم التالى للخطاب امتلأت عدة حافلات كبيرة بالمساجين وكنت انا في واحدة منها وبينما كانت الحافلة المكتظه تخترق بنا شوارع بنغازي اخد السجناء الاحرار يهتفون بحياة القائد، فحرصت على عدم مشاركتهم، انهم لايدركون انهم انما ينتقلون من السجن الصغير للسجن الكبير وان الفضل في هذا الافراج لله وحده ثم ان معظمنا كان مظلوماً وخاصه اصحاب القضايا السياسيه وافرغتنا الحافلات داخل معسكر الشرطه العسكريه الدى سبق لى وان تشرفت بالاقامه في سجنه ولكننا هذه المرة لم ندخل السجن بل اصطفينا امام بابه وتم توزيعنا حسب نوعيه القضايا وكانت سياره صغيره من نصيبى انا واثنين آخرين وسارت بنا الى مكتب مدير الامن في الفيلّة التي سجنت فيها سابقاً وتم توزيعنا على ثلاث سيارات اخرى بعد ان اخدوا العهود منّا بعدم تكرار مافعلناه وحملتنى السيارة الى شارعنا وشاهدتُ بيتنا بعد غياب طويل وكان ابى في تلك اللحظه يهم بالخروج من الباب، فلما شاهدنى نازلاً من السيارة عاد مسرعاً الى الداخل ليبشر أمى بقدومى.