أيها القارئ الكريم.. يبدو أنك سيد مهذب ذو ذوق، مثلما اعتقد أنني كذلك.. ويخيل إليّ أيضاً أن دارك نظيفة مثل داري.. حسناً.. لعلك كنت أيضاً صبوراً متفهماً.. لأنني لم أجد أحداً بين القوم من لديه المقدرة على فهم هذه النزعة الروحية المرهفة..
إنني لن اعترف بحقيقة مروعّة.. ولا أطمع في استعدادك لأحداث مثيرة.. لكني فقط سأحاول أن أتحدث عن شيء ما.. شيء سخيف.. لزج.. ممل.. لحوح.. شيء جعل لحياتي مذاقاً كريهاً..
ولأنني أعرف ما لديك من صدق البصيرة والدراية النفسية وحسن الذوق.. فأنني موقن من أنك قد عرفت ما هو..!
* * *
الذباب..
لكم أمقت هذا الكائن الوحش البالغ القسوة.. أنني لا أبالغ يا سيدي.. فما من مخلوق يتقصّده الذباب ويجعله شغله الشاغل سواي..
إذا جلست أمام التلفاز أو قررت أن أقرأ قليلاً؛ فإذا بهم يأتون من حيث لا أدري لإفساد لحظات الهدوء القليلة هذه.. أهشة بيدي.. فيبتعد.. ثم يعود ليحوم حول وجهي وفوق أنفي وعلى يدي ذاتها.. الحجرة طويلة عريضة.. لكنه يصر على الهجوم علىّ..
لا أستطيع تفسير هذا التصرف الغريب من ناحيته.. لكن المؤكد أنه قد أحال حياتي إلى جحيم..
أسمعك تقولها: الذباب يضايقنا جميعاً، فلماذا تحسب نفسك متفرداً بهذا؟
صدقني.. عندما أجلس بين جمع من الناس؛ أكون أنا المستهدف الأساسي إن لم يكن الوحيد – لهم – أعني الذباب وليس الناس طبعاً – تقف إحداهن على طرف أنفي والأخرى تتنزه على قفاي وثالثة تتمشى على جفني وتحاول دخول عيني.. ورابعة تنقض علىّ من سقف الحجرة لتلقي بنفسها في فمي، كما كان يفعل طياري الكاميكاز الانتحاريين في الجيش الياباني أبان الحرب العالمية الثانية عندما كانوا ينقضون بطائرات الزيرو في قلب الهدف فتتلاشي الأبراج الأمريكية من على وجه الأرض.. وبالطبع صار هذا واضحاً لكل من كانوا معي وقتها..
تخيل أنك تهش الهواء حولك كالمجانين، وتنفخ كقاطرة بخارية، وتهرش كالأجرب، وتبصق الذباب من فمك وتحاول إخراجه من أذنيك..
بالطبع لم يكن الموقف يستحق الاهتمام؛ وكان من الممكن أن يمر ببساطة.. لكنهم – بمنتهي اللطف – سخروا كما حلا لهم.. وقالوا شيئاً عن برميل العسل (بالطبع تعرفون تلك الدعابة القديمة المملة عن برميل العسل الذي يجذب الـ..) وحتى لا يتكرر موقف مماثل أكون فيه الأحمق الوحيد بين الجالسين؛ فقد اعتزلت الجميع، وقبعت في داري.. فتفرغت لهم تماماً..
هل تسأل: ماذا فعلت حيال ذلك، يمكنك أن..؟
يمكنك أن تنظف دارك.. فعلتها.. وكل يوم أفعلها.. حتى لم يعد لدي من عمل سوي هذا! يمكنك شراء مبيد قوي للحشرات الطائرة.. فعلتها.. وإذا تفضّلت بزيارتي يمكنك أن تشاهد مجموعتي الكاملة لجميع أنواع المبيدات.. علب خضراء وحمراء وصفراء ومساحيق الرش وأخري للتعفير.. كما أنني قد أتبعت كل قواعد الوقاية من الذباب..غطيت النوافذ والأبواب بالأسلاك ذات الثقوب الرفيعة جداً.. وضعت ناموسية على الفراش.. مصائد للذباب.. صواعق للذباب.. دهانات جلدية.. أبخرة.. كل شيء.. كل شيء... حتى أنني قد قررت أخيراً شراء بندقية صيد ووضعها إلى جواري على سبيل الاحتياط! أسمعك تهمس بعبارة تفوح منها سخرية بينة: "أنه يتشاجر مع ذباب وجهه!" لن أغضب منك.. فمن قال أنني لست كذلك؟.. لقد بدأت الحرب بيننا ولا رجعة فيها.. فلك الحق إذن مع تعديل بسيط "أنني أحارب ذباب وجهي..!"
ولك الحق أيضاً إذا قلت أنني أبالغ نوعاً ما..
* * *
وهذا مشهد لا يجب أن يفوتك..
قررت النوم – لأنه قد صار من العسير كما تعلم أن أمارس أي نشاط ما في الآونة الأخيرة – وكما تعلم أيضاً كنت قد أعددت الدفاع اللازم.. أغلقت الأبواب والنوافذ واستخدمت قميصي في هش الذباب عبر نافذة المطبخ ثم أحكمت إغلاقه هو الآخر.. وهكذا تراني كجندي مخلص غارق في عرقه – لأننا كنا في يوليو.. أمعاناً للتعذيب – أطلق المبيدات في كل مكان..
في البداية.. كانت بالطبع أتأذى من رائحته الكيماوية.. وبالتدريج أدمنتها.. حتى صارت كشذا العطر.. محببة إلى نفسي.. ولدي في ركن المطبخ هرم هائل الحجم في العبوات الفارغة.. (لقد راجت هذه الصناعة بسببي.. هذا مؤكد.. ولقد حقق الصيدلي المجاور لداري ربحاً لا بأس به أبداً..) وفازت غرفة نومي بعناية مركّزة.. إذا فرّغت في جوها عبوة كاملة تقريباً.. حتى لقد صار الجو خانقاً تماماً.. رائحتها مثل.. مثل بستان مبيدات حشرية، لو كان هناك شيء كهذا..
وأخيراً..
أستلقي على الفراش.. وبالرغم من أن العرق كان يتفصد من كل بوصة مربعة في جسدي إلا أنني بدأت استمتع بالهدوء، وشرعت في تخيل أشياء رائعة وأمني نفسي بأحلام بهيجة و..
ززززززززززززززززززززززززززز......
* * *
أرجو ألا تسألني سؤالاً من نوع "ما هذا؟ - هل سمعت هذا الصوت؟ - هل يا تري..؟".. لأن سؤالاً كهذا سيحطم أعصابي..
بالطبع وجدت إحداهن مدخلاً عبر الناموسية المحكمة.. ظننت هذا مفهوماً للقارئ!.. وإلا فلماذا تراني انتفض جالساً )ظهرت ذبابة ثانية) أحاول قتلها بكفي إذ تقف على الوسادة )ثم ظهرت ذبابة ثالثة) ورابعة.. وخامسة و.. وبدأ المرح..
الحر الرهيب.. رائحة المبيد القاتلة.. وهُم!.
وقفت على الفراش لأقاتل بأطرافي الأربعة، حتى ليصبح مشهداً جديراً بأفلام الكاراتيه السخيفة التي تنتجها هونج كونج..
زززززززززززززززززززز....
ازداد العدد.. وازداد الزن..
وكفي تشق الهواء يميناً ويساراً، فوق وتحت و..
هوب..
اشتبكت قدمي بملاءة الفراش.. انزلقت.. استقبلت الأرض رأسي.. ورقدت حيثما كنت بلا حراك.. شدة الحر تزداد وطأة.. رائحة المبيد تزكم أنفي أكثر.. الذباب – اللعين – يهاجم أكثر شراسة عن ذي قبل.. ومن الملل والإرهاق ثقل جفناي رغبة في عالم النوم الرحيم.. ورأيت حلماً بديعاً مليئ بالألوان الزاهية..
حلمت إنني ذبابة.. انتقل كالنحلة بين رحيق دورات المياه.. وأحدهم قد وضع يده على كتفي معلناً أنها فرصة عظيمة لا تتاح إلا لسعيد الحظ ولا تتيسر إلا بالمال والوساطة.. وأصبحتُ ذبابة غاية في المهارة وأصبح لزني مفعول السحر، فانهالت علىّ العروض المغرية لأعمل صحافي.. ناقد فني.. عضو بمجلس الشعب.. زوجة لعريس لُقطه.. نجم سينمائي.. كاتب!.. ورأيتني محاطاً بالفتيات أوقّع لهن على الأوتوجراف..كيف لم يلحظن أنني ذبابة بالرغم من أن لدي ثلاثة أزواج من الأرجل المشعرة القصيرة وثلاث فقرات صدرية وأربع بطنيه.. ولاحظ كبار رجال الدولة أجزاء فمي الهيئة للمص والشفة المشقوقة وقناة طعام باللسان وقناة لعاب فقرروا على الفور الموافقة على تعييني طبيباً أو رئيس حي أو مسئول.. ولأنه من الصعب قتل الذباب فقد نجحت في الفرار من محاولات اغتيالي ووقفت على جبل من الفضلات والقمامة والصحف والقرارات والأفلام والعقاقير وكتب التاريخ والأكباد الملتهبة والحمى المعوية والكوليرا.. و.. و...
* * *
انتهي (سامي) الصيدلي من تضميد جرح رأسي.. وانبري أحد أصدقاؤنا الجالسين يقول وهو يهش ذبابتين تحومان حول رأسي:
-"يبدو أن لعنه من نوع ما قد أصابتك.. هذا هو التفسير الوحيد!"
نصف ضحكة ساخرة بترتها بسرعة لأكرر ما قال:
-"لعنة!.. لا اعتقد أن أحد أجدادي كان من حفاري قبور الفراعنة!"
وقال مستظرف آخر:
-"إذن هي لعبة يهودية لتدميرك.. حرب مخابرات.. نظرية المؤامرة.."
قلت لأخرسه:
-كلام يقال في كل شيء وعن أي شيء وقابل للتصديق في أي وقت... وهذا الذباب ميكانيكي طبعاً يتحرك بالتحكم عن بعد بغرض التجسس أو التفجير... أو هو مهجن بمعالجة جهنمية تجعله يستهدفني من بين ملايين .. ظريف جداً!"
حاول (سامي) تهدئتي:
-"مهلاً!.. مهلاً!.. إننا نمزح وحسب.. لقد صرت حاد الطباع هذه الأيام.. الأحرى أنك قد أصبحت مثل.. مثل ذبابة مشاكسة!"
وراق التعبير لأحدهم فعلق بدوره:
-"من عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم!"
رمقته بنظرات سفاكة، وأبعدت ذبابة وقفت على حافة صوان أذني..
* * *
حاولت في الأيام التالية أن أكون مضيفاً مهذباً لكميات الذباب التي تزورني يومياً، فتخلصت من الناموسية ومضارب الذباب وكففت عن رش المبيدات، إلا أن العلاقة بيننا لازالت مشحونة بالتوتر.. مضايقة من جانبهم وحنق بالغ من جانبي.. وواتتني يوماً خواطر غريبة بعد أن عدلت عن قتل تجمع للذباب بواسطة صحيفة مطوية تخيلت فيها أن هذه الكائنات صغيرة بحق، وتستحق الشفقة ولربما كانت تضايقنا دون أن تعرف ذلك. ألا تنقل فيروسات شلل الأطفال والتهاب الكبد وطفيليات الدوسنتاريا على شعرها وبطنها دون أن تدرك المأساة التي تتسبب فيها؟..
ولكني عدلت عن فكرة معادلة الصلح هذه ..هل جننت حقاً؟.. بالتأكيد لدي خبراء علم النفس تعبيراً لاتينياً من عشرة حروف يناسب وضعي هذا..
ورأيت في الأيام الأخيرة لهذا الأسبوع الهول ذاته ممثلاً في كميات عجيبة من الذباب من كافة الأشكال والأحجام!..
وبدأت الحرب!..
"اعرف عدوك" ..هي نقطة البداية التي اتخذتها فاشتريت كتاباً ضخماً من نوع (كل ما يجب أن تعرفه عن الذباب) – (الذبابة المنزلية) –(الحشرات.. كل شيء عنها)..الخ، وعرفت عنهم الكثير بالفعل.. إلا أن هذا الذباب كان يخالف ما ذكره الكتاب في أنه يستكن ليلاً وينعدم نشاطه في الطقس البارد.. إذ أنه يقيم الحفلات ليلاً ويتراقص فوق بطاطين الشتاء.. ورأيت الذباب الأخضر )لوسيليا) والأزرق (كاليفورا).. وساعدني (علاء) ابن شقيقي – وهو طالب بكلية العلوم – على فهم أشياء كثيرة في هذا الكتاب وبفضله تعرفت على ذبابة الرمل وذبابة الخطيرة والتسي تسي ذات الجناحين المقص والساطور على الجناح المفرود.
واتباعاً لنصائحه حاولت إلا أعرض جروحي لهجمات الذباب (هل جننت؟..ليس لدي أكثر من كلمة: ربما).. هكذا ترى حقيقة العلاقة الشائكة المتشابكة المليئة بالشك وسوء النية بيني وبين الذباب.. أعرف أن بعضكم لن يصدق حرفاً مما قلت والبعض الآخر سوف يؤمن به وبل ويتوقع أنني ربما قد فعلت أكثر من ذلك!
* * *
وقد فعلت أكثر من ذلك:
لقد تلاعبت الأفكار الغريبة برأسي المنهك!.. والطريق ممهد الآن لإصابتي بالجنون !..أعذرني فلقد شاب شعري من هول ما رأيت..
المهم.. بتحريض مني.. استطاع )علاء) أن يحضر لي كرتونه مليئة بزجاجات عسلية اللون .. اقرأ في عيونكم سؤالاً سأحاول- مؤقتاً –الفرار منه.. لكني قضيت الليالي في مزج السوائل وتحضير المحاليل ورشها هنا وهناك..
كانت للرائحة أضرار جسيمة.. أحمر أنفي..ويمكنني أن أقول أن حجمه قد تقلّص وكان للسائل نفسه تأثيره السيئ على الجلد.. والتهاب شديد على الذراعين وراح الشعر ينمو بغزاره في بعض المناطق) مع هرش مستمر في كل مكان -أرجو من القارئ افتراض حسن النوايا..)
صرت سجيناً مع الذباب والمبيد بعد أن أغلقت النوافذ والأبواب واعتزلت الخلق.. فقدت شهيتي للطعام، فازددت تحولاً، وبرزت أوردة زراعي! وأحسب أنها قد تشكّلت في خطوط متوازية ومتقاطعة..
واستمر استعمال السائل الذي كان له تأثيراً حارقاً على شفتي حتى أشعر أنها تنشق وعلى وجهي ظهرت قروح على شكل حرف (S) مثل يرقات ذباب الخطيرة وعلى صدري قروح أخرى على شكل الفصلة، وبقع أخرى برميلية الشكل وأسطوانية وأشكال تشبه الموز لوناً وشكلاً..!..
الأفضل من كل هذا، أن حركتي صارت أكثر خفة كأنني.. كأنني أطير.. وبدأ لون البطن يتحول إلى الرمادي.. بقع سوداء في كل مكان..ولازال الشعر ينمو بغزارة.. وجدت أن الحياة بجناحين وثلاثة أزواج من الأرجل أكثر سهولة..
ولأنني قد صرت واحداً منهم..
فلم يعد أيهم يضايقني مرة أخرى..!