ربمّا لحسن حظّي أنّني أوردت تعليقًا مختصرًا على إحدى لوحات الفنّانة مها محيسن في أحد المواقع على الشبكة العنكبوتيّة، وأشرت فيه أنّ العمل لفت نظري كثيرًا، وأتمنّى أن أرى اللوحة أو أحد معارض الفنانة مباشرة، فتلقّيت دعوة رقيقة من الفنّانة لزيارة محترفها، وقد كنت في زيارة للسّعوديّة، ولم يكن معي سوى ثلاثة أيام سأقضيها في عمّان الهوى قبل عودتي لرام الله العشق والجمال. فوضعت على رأس برنامجي المكثّف زيارة محترف الفنّانة لأرى أعمالها وإبداعها مباشرة، فدوما كنت أقول أن الصّورة الفوتوغرافية لا يمكن أن تمنح المتأمِّل للوحة فنّيّة كلّ خفايا اللوحة أو اللوحات، فألوان اللوحات تتغيّر بالصّورة، وآثار ضربات الفرشاة وكمّيّة الألوان لن تظهر أبدًا بُخلاً أو كرمًا أو اعتدالا، إضافة إلى أن البثور والسّيلان الناتج عن أخطاء فنيّة لن يظهر كذلك، فتظهر اللوحة مصقولة وخالية من العيوب، علمًا بأنّني على يقين أنّ أيّ عمل إبداعي لا يخلو من بعض الضّعف، فهو عمل بشريّ بعيد عن القدسيّة.
ما استوقفني في أعمال الفنّانة محيسن التي تناولت الطّبيعة هو الوحشيّة التي شعرت بها، فرغم أنّ الفنّانة ابنة المدينة منذ أن رأت عيناها النور وهي بذلك لم تعايش الطبيعة بوحشيتها وثورتها وسلامها، إلاّ أنّها عبّرت عنها بقوّة. فخلال تجوالي بين اللوحات كنت أشعر بحجم كبير من مشاعر متناقضة تنتابني: كالإحساس بأنّ الفنانة تستدعي روحها ونفسيّتها وتوثّق اللحظة لتعيد تشكيلها في لوحاتها وهي في عالمها الخاصّ، بحيث تنعكس الطّبيعة والظّروف النفسيّة التي تمرّ بها الفنّانة من خلال لوحاتها والألوان التي تستخدمها و لمسات فرشاتها.
وأحبّ أن أشير هنا إلى أن ما رأيته في لوحاتها هو ما جعلني أسمّي قراءتي في لوحاتها بهذا العنوان (وحشية الطّبيعة) ولا علاقة له بالمدرسة الوحشيّة في الفنّ التّشكيلي، وهي التي استمدّت اسمها من مقولة النّاقد (لويس فوكسيل) حين رأى تمثالاً للنحّات (دوناتللو) بين أعمال معروضة لمجموعة من الشبان عام 1906 وهم من المؤمنين باتّجاه ساد في تلك المرحلة وقائم على التبسيط في الفن، فقال لويس: (دوناتللو بين الوحوش)، ومن أشهر فنّاني تلك المدرسة الفنان هنري ماتيس والفنان جورج روه، وروّاد تلك المدرسة اهتمّوا بالبناء المسطّح، والضّوء المتجانس، والتّبسيط في رسم الطبيعة دون استخدام الظلّ والنور، وهذا الأسلوب لا يسيطر على أعمال الطبيعة للفنّانة التّشكيليّة مها محيسن.
يمكننا أن نجزّئ لوحات الطّبيعة لدى الفنّانة إلى ثلاثة أقسام:
الأولى: الوحشيّة..
في لوحاتها تلك، نجد أنّ الفنانة أكثر تأثّرا بالمدرسة الانطباعيّة في الفن، مازجت في لوحاتها بين التجريد والانطباع، ويظهر ذلك واضحا من خلال استخدام ألوان هذه المدرسة القائمة على انعدام الخطوط في الطّبيعة، واستخدام ألوان المنشور المعروفة وهي الأصفر والبرتقالي والنّيلي والبنفسجي إضافة للأزرق والأحمر، وإن اختلفت مع هذه المدرسة بنقاء اللون، ولكنها وثّقت لحظة الإحساس باللحظة، فهي تعتمد في العديد من اللوحات أسلوب تجريد الطّبيعة، وتثير في النفس ثلاثة مشاعر:
الانقباض: من خلال ألوان الطّبيعة والغابة بلونها الدّاكن وأرضيّتها عبر تمازج الأخضر مع الأسود مع ألوان مختلفة. وفي العديد من اللوحات يكون البنفسجي بتدرّجاته.
الألم: من خلال الأزرق بتدريجاته الدّاكنة كمستنقع تعلوه الطّحالب في بعض اللوحات، والأخضر الوحشي الذي لا يبعث على الطّمأنينة.
الفرح: من خلال لون السّماء في بعض اللوحات بزرقتها الهادئة الموشّحة ببياض الغيوم وصفار الأفق الموشح بالبرتقاليّ، إضافة لبعض البؤر المضيئة بشكل غامض في لوحات أخرى وكأنّها تمهد للمرحلة التّالية.
الثّانية: الثّورة..
نرى أنّ لوحات الطّبيعة تعتمد على الثّورة؛ فمشاعر الغضب كثيرة. وفي هذا القسم نجد أنّ اللون الأحمر هو الطاغي على معظم اللوحات. وبعض اللوحات فيها عاصفة هوجاء أو دوّامة شديدة تتبلور، ورياح من كلّ اتّجاه. وهذا ما نلمسه من خلال التّناقض في انحناء عناصر الطّبيعة كالأشجار مثلاً وكأنّها تتعرض لإعصار عنيف. ورغم طبيعة الألوان القويّة المستخدمة كالألوان الحارّة أو الألوان القاتمة المضطربة، إلاّ أنّ البؤر المضيئة متواجدة في اللوحات، وكأنّها تبشّر بانفراج بعد توحّش أدّى لثورة.
الثّالثة: السّلام..
في هذه المجموعة نجد أنّ هدوء الرّوح والنّفس يسودها، فالطّبيعة هادئة بدون صخب ريح ولا دوّامات ولا أعاصير، وبدون سيطرة اللون الأحمر وقوّة الألوان الحارة، حيث نجد الطبّيعة بجمال وفرح وهدوء وسكينة وسلام. لوحات كثيرة فيها أزهار متفتّحة وجميلة، واللون الأخضر يمنح الرّوح راحة وهدوءًا ينتشر بتدرّج فرح. وفي إحدى اللوحات نرى الغابة وكأنّها تنادينا لراحة النّفس والهدوء والشّعور بالسّلام بين أشجارها.
استخدمت الفنّانة في معظم لوحاتها الأسلوب الحلزونيّ في الرّسم، فهي تبدأ من بؤرة تشكّل قلب اللوحة لتنطلق منها بالشكل اللولبي حتّى الأطراف، وفي الوقت نفسه وجدتُ أن الفنّانة سخيّة باستخدام الألوان، ولعل اعتمادها في كثير من الأحيان على استخدام السّكّين والكشط ساعد في ذلك، رغم أن الفنّانة فنّانة بالفطرة، فهي لا تنتمي لمدرسة معيّنة، ولم تدرس الفن في معاهد أو جامعات، ممّا منح فنّها انعكاس الرّوح دون التّأثّر بالمدارس وأساليب التّعليم المختلفة.
في نهاية هذه الرّحلة السّريعة في إبداعات الفنّانة مها محيسن، حيث نقلتنا الرّيشة مع اللون إلى مراحل متنوّعة ومشاعر مختلفة، ومنحتنا اللوحات جوًّا خاصًّا يثير المتأمّل للبحث عن الفكرة التي ألخّصها وفق قراءتي بأنّها ألم يؤدّي إلى انقباض متوحّش وثورة وصولاً للفرح والسّلام، مؤكّدا على إحساسي، الذي شعرت به منذ البدايات، بأن الطّبيعة هي انعكاس لنفسيّتها ومشاعرها في لحظات الرّسم، وليست الطبيعة بالمفهوم الّذي نعرفه ونراه، بل الطبيعة بمراحلها في روح الفنّانة.
(رام الله 10/4/2012)