«حوار القرآن والشعر .. عند أحمد الشهاوي» كتاب جديد من تأليف د. حياة الخياري ، صدر عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة ، ويقع في مائتي صفحة من القطع المتوسط ، ويحتوي على تمهيد وخمسة فصول تتفرع إلى أكثر من عشرة مباحث فرعية ، وخاتمة .
والكتاب بموضوعه ومنهجه دراسة جديدة تتعامل مع النص الشعري في عمومه ، ونص أحمد الشهاوي على وجه الخصوص في سياقه الإسلامي واستفادته باعتباره ابنا لهذه الثقافة ، وتأثره بها ، واستقرار القرآن كنص معجز لغويًّا وموضوعيًّا في وجدانه ، وفضلًا عن جدة الكتاب ، فإنه يستأنف البحث الأدبي في موضوع شائك كان القدامى من نقادنا وشعرائنا أكثر جرأة في تناوله والتعامل معه على مستوى الدرس والتمثل ، كما أن الكتاب من ناحية أخرى ، يتحدى ويثبت خطأ وخطل الرؤية الضيقة التي تحصر الدين في مجموعة من الطقوس والرقي ، وتعود به إلى عصور الانحطاط ، ولا تتعامل معه كنص كوني يسع معاني الحياة جميعًا ، وهي الرؤية التي تظهر بكل وضوح في أغلب دواوين الشاعر أحمد الشهاوي ، وهو في سبيل تأكيد رؤيته تلك لاقي عنتًا وتكفيرًا وتضييقًا إبداعيًا ، وحياتيًا ، ولإيمانه بعالمية الإسلام ، ومركزية النص القرآني فيه ، لم يتخل عما اعتقد ، بل رسخه في نصوص متعددة رافقته منذ ديوانه الأول «ركعتان للعشق» مرورًا ب«باب واحد ومنازل» و«قل هي» و«أسوق الغمام» ، حتى «لسان النار» ، وهو في هذا المنحى اختار الطريق العكسية التي سار فيها روّاد الشعر الحديث وذلك باستلهامهم للأسطورة الغربية بمرجعيتها اليونانية ، والتأثر بالشعر الغربي في الغموض والإحالات «الثقافية» الكثيرة التي ترهق الفن الشعري وتخرجه من إطاره المجتمعي وسياقه المكتوب فيه ، فهو عاد إلى تراثه وحضارته الإسلامية في وجهها المضىء واتكأ على نصها المركزي : القرآن الكريم .
هذه المعاني بتناقضها وما يمكن أن تثيره من جدل انتبهت إليها الباحثة التونسية الدكتورة حياة الخياري ، ففي حركة التفاف سجالي أو ربما استباقي لأي اتهامات تثار في هذا الشأن ، ويمكن أن يوحي بها عنوان الكتاب ، تسارع المؤلفة ، معتمدة هي الأخرى ، على التراث العربي المشرق ، فتقول : وإذ نتناول تجليات الحوار بين القرآني والشعري من المناسب الإقرار منذ البداية ، بأن غايتنا لا تخرج عن مقاصد معرفية يشرِّعها البحث الأكاديمي بما هو مساحة مفتوحة للاكتشاف والتأمل في كل ما له صلة باللغة العربية وأفانينها المجازية .. وتضيف في المقدمة :
«لكن مقاربتنا لحوار القرآني والشعري وإن تأسست على رؤية معرفية ، فإنها في صياغتها المطروحة حاليا ، لا تعكس سوى وجهة نظر الكاتبة بتطلعها إلى فضاءات نقدية ، تراعي أريحية الكتابة الإبداعية ، وتتسع لتعدد القراءة في كنف احترام قدسية النص القرآني» .
وتواصل المؤلفة الدكتورة حياة الخياري في المقدمة ردها على النظرة الضيقة في التعامل مع الدين : «ومهما يكن من شأن خصائص الكتابة الإبداعية وشروط جماليات التلقي فلا مفر من الإقرار بأن الحدود المفهومية بين «القرآني» و«العقائدي» ، تظل شديدة المرونة كلما اتصل الأمر «بالحس الديني العام» أو بـ «وجدان المسلم» و«ذاكرته الثقافية» ، مما يجعل تناول حوار القرآن والشعر مبحثًا محفوفا بالصعوبات المترتبة ، لا على طبيعة الموضوع ، بل على محاذير «قيمية» اعتبارية .. لاسيما إذا ما التبست بـ «فوضى الفتاوى» والمحاسبة على «النوايا» ..
وتختم رأيها في هذا السياق قائلة : إنها كلمة حق خصوصًا ونحن نعايش ظرفًا تاريخيًّا مفصليا أنتجته الثورات العربية ، التبس فيه العقائدي بالسياسي وبالإبداعي فكانت الفنون والآداب الحلقة الأضعف في سلسلة إرهاصاته المعتمة حتى اللحظة» .
ولأن نص الشاعر أحمد الشهاوي ، مثير للجدل ، لإمكانية التعدُد القرائي له ، وتشعب علاقاته بالنصوص العربية : الوصايا ، والأحاديث ، والقرآن ، جاء اختيار الباحثة حياة الخياري لتجري هذا الحوار النقدي موضحة مدى تمكن الشاعر من نصه والتصاقه بواقعه الحالي ، ووضعه الوجودي كعربي ، ومدى معرفته بتراثه وتعمقه فيه ، وذلك بأن أوضحت :
«أما انتقاؤنا لأدبيات الشاعر أحمد الشهاوي مجسًّا لحوار القرآني والشعري ، فعائد بالنظر إلى كثافة الحضور القرآني فيها ، بالإضافة إلى ما واجهته من جدل عقائدي ونقدي ، كثيرًا ما كان مجانبًا للمعايير الموضوعية ، من حيث مدى مراعاتها للخصوصية الرمزية المميزة للكتابة الإبداعية عند الشهاوي ، وغيره من المبدعين ، الذين يعتبرون النص القرآني من المشترك الثقافي ، الذي لا يمكن أن تحتكره أية طائفة أو جماعة تحت أية ذريعة» .
كانت تلك هي أهم القضايا التي تناولتها المؤلفة قبل دخولها إلي نص الشهاوي ، أما التمهيد التالي لها مباشرة فقد ذهب إلى تأصيل منهجية البحث ، وكيف أن مثل هذا النوع من الدراسة يندرج تحت مسمى «التناص» في الدراسات الأدبية ، وتبدأ المؤلفة مباشرة في الدخول إلى موضوعها بعنوان : تفسير القرآن والحاجة إلى الانفتاح على الشعر ، وفي هذا السياق ، كما تذكر ، تناقل المفسرون قولًا مأثورًا عن عمر بن الخطاب سأل فيه وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى : ﴿ أو يأخذهم على تخوف ﴾ (النحل : 47) ، فسكت الحاضرون ، فقام شيخ من «هذيل» فقال : هذه لغتنا ، التخوُّف هو «التنقص» ، فقال عمر «فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟» ، فقال : نعم . وذكر البيت الشعري ، فقال عمر : «أيها الناس عليكم بديوانكم لا تضلِّوا» . فقالوا : «وما ديواننا ؟» قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم» .
إذن استفاد الشعر من القرآن ، كما استعاد مفسرو القرآن من الشعر ، والغريب أن نقادنا القدامى كانوا أكثر انفتاحًا وجرأة في تعاملهم مع مسألة القرآني والشعري ، فلم يناقشوا القضية على أساس ديني ، أو على أساس أن الشعر ينتقص من القرآن ، إن استفاد منه ، أو يحط من منزلته ، أو العكس لو أن القرآن وافق الشعر ، بل شملت نظرتهم لهذه القضية مباحث عدة تدرس الأمر على أساس الاشتراك في اللغة وفي المجاز ، كما تذكر المؤلفة :
«لقد أدرك نقاد الأدب أن لكل مقام مقاله ، فمثلما رُسمت لعلوم التفسير والفقه شروطها الدينية وضوابطها المعرفية ، فقد وضعت للنقد الأدبي مقوماته وآلياته ، التي ضبطوا لها أسسًا تضمن أريحية الكتابة الإبداعية وتراعي جماليات الانزياح عن الاستعمال القرآني ، ومن هؤلاء القاضي الجرحاني ، الذي كان أشدَّ صرامة في تحرير الشعر من الأحكام المعيارية الأخلاقية منها والدينية حين قال : فلو كانت الديانة عارًا على الشعر وكان سوء الاعتقاد سببًا لتأخر الشاعر لوجب أن يمحي اسم أبي نواس من الدواوين ، ويحذف ذكره إذا عُدَّت الطبقات ، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد الأمة عليه بالكفر ، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزبعرى وأضرابهما ممن تناول رسول الله ، وعاب أصحابه بكما خرسًا مفحمين ولكن الأمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر .
وفق هذا النظر الموضوعي ، تحلل المؤلفة نصوص أحمد الشهاوي ، بامتداد مجموعة من دواوينه مثل «قل هي» و«لسان النار» و«باب واحد ومنازل» ، و«أسوق الغمام» راصدة فيها مجموعة من القيم اللغوية والروحية التي شكلها القرآن في وجدان الشاعر ، راصدة ذلك في العديد من المباحث والفصول مثل : أسس حوار القرآني والشعري في أدبيات الشاعر أحمد الشهاوي بادئة بمقطع من آخر دواوينه «أسوق الغمام» يقول فيه :
أكبر من وردة
أكبر من حجر أزرق
وأدفأ من ثلج شمس
أكبر من خاتم نادر
وأعلى من سورة خاصمتها السماء
بيوتها لغة تعطلت المعاجم عن فك شفرة سرها ..
مثل تلك الأسس النظرية المترددة بين مقومات «السورة» الموظفة شعريًّا و«اللغة» المشفرة رمزيًّا تدخل في علاقات مع خلفيات معرفية يقيمها المبدع من المرجعية القرآنية فصلًا ووصلًا وتستوعبها احتمالات البياض الممتد على المقطع الشعري السابق ، راصدة أن النص الشعري يعارض النص القرآني انزياحًا في نقطتين هما : «استبعاد المعرفة» و«استبعاد الموت».
ثم تدخل المؤلفة بعد ذلك إلى استراتيجية التناص مع الحرف القرآني ، في شعر أحمد الشهاوي وهو المعروف عنه غرامه بالحروف ، ليس هذا فقط بل امتد تأثره بالقرآن موضوعيًّا وهو ما تم درسه في جدله مع مجازية اللغة القرآنية في بقية الفصول حتى تصل بنا المؤلفة إلى أفق القراءة حول حوار القرآن والشعر التي لامست فيها صوفية شعر أحمد الشهاوي وافتراقه عن الاستلهام الصوفي كما عرف في القصيدة الحديثة بشكل عام ، حيث اكتسب تصوفه طابعًا مميزًا عرف به ، تقول المؤلفة :
«إن ركون الشاعر إلى الإيقاع الحروفي ، سواء في تجليه الطبيعي أو في تجليه الثقافي ، إنما ينبع من التأثر بفعالية الذكر القرآني والإنشاد الصوفي وأهمية الإيقاع الحروفي ، في مثل هذه السياقات الشعرية ، إنه يحتفظ لنفسه بالحضور المحسوس في الأسطر الشعرية ، على عكس الإيقاع العروضي الذي يذوب تلقائيا في الصياغة ولا يتبقى منه إلَّا إحساس مبهم ، يقول الشهاوي :
«لست سوى ملاك سائب
بين بشر يجهلونك
امتحنت في الرسالة
فسقطت في الموسيقى
لأن إيقاع روحك
كان أعلى» .
وأحمد الشهاوي شاعر ترجمت أعماله إلى عدة لغات ونالت حضورا كبيرا واستهدفها عدد من الأصوليين بفتاوى تكفيرية بسبب اعتماد صاحبها على استلهامات من النصوص الدينية.