حفل توقيع كتاب ما تيسر من الحب والوطن

للشاعر نزيه حسون

آمال عوّاد رضوان

تحت رعاية بلدية شفاعمرو ودار الثقافة والفنون، أقام المنتدى الأدبيّ الشفاعمريّ في الجليل أمسية أدبيّة، احتفاءً بصدور "ما تيّسر من عشق ووطن" للشاعر الشفاعمريّ نزيه حسّون، وذلك بتاريخ 4-5-2012 في قاعة دار الثقافة، وبحضور عدد من السّياسيّين والصّحفيّين وأعضاء بلديّة شفاعمرو، وجمهور من المثقفين والأدباء والشعراء والأصدقاء والأقرباء.

تولّى عرافة الأمسية الفنان عفيف شليوط، واستهلّها بكلمة ترحيبيّة أعقبها بقوله: لقد انطلق صوتُ الشاعر نزيه حسّون ثوريًّا مُدوّيًا في السّبعينيات من القرن الماضي، في فترة شهد فيها المجتمع العربي الفلسطينيّ في الدّاخل مَفصَلاً تاريخيًّا في معركة البقاء، والتصدّي والصّمود لسياسات نهب الأرض والاقتلاع، وكان ديوانه الأوّل "ميلاد في رحم المأساة" الصادر عام 1980، متأثّرًا إلى حدّ كبير بتلك الأحداث التي ألمّتْ بالشعب الفلسطينيّ منذ عام 1948، وحتى هَبّة يوم الأرض الخالد عام 1976، ثمّ اشتدّ عزمُهُ الثوريّ في مجموعته الشعريّة "أبحثُ عن جسدٍ يَلدُ النصر" الصادر عام 1983، لينقطعَ نشرُ إنتاجه الأدبيّ رغم عدم توقفه عن الكتابة، حتى منتصف العقد المنصرم من القرن الحاليّ، حيث أصدر عام 2006 ديوانه الثالث "سيمفونيّة الحزن المسافر"، والذي يمكن اعتباره الديوان الأوّل الذي يشير إلى التحوّل الكبير في شعر نزيه حسون، من حيث أسلوبه الشاعريّ الرقيق الذي لا ينفكّ منذ ذلك الوقت عن تناول مشاعره الإنسانيّة وعشقه الأبديّ، ولا بدّ من التنويه أنّه كان قد أصدر بين "أبحثُ عن جسدٍ يلدُ النصر"، و"سيمفونية الحزن المسافر"، مؤلّفًا له أهمّيّته في مكتبتنا، هو كتاب "أروعُ ما قيل في توفيق زياد" الصادر عام 1997، الذي جاء إثر رحيل شاعرنا توفيق زياد عام 1994.

في العام الماضي عندما كرّمَتْ مؤسّسة الجذور في شفاعمرو الشاعر نزيه حسّون، كان لي شرف تولّي عرافة هذه الأمسية، ورافقته قبل أسبوعين لمدينة القدس حيث كان ضيف الإطار الأدبيّ المقدسيّ "اليوم السابع"، وقد تورّطت معه في عمليّة هروب بوليسيّة في مدينة الطيبة، حيث هربنا في جنح الظلام بعد أن أحتجزنا من قبل المُعجبين بشعره، لإلزامه عنوة بالاشتراك في أمسية شعريّة أخرى لم تكن مُدرَجة في البرنامج. باختصار؛ لازمت نزيه في سكناته وحركاته، وتحدّثت عنه كثيرًا وعن شعره، وساهمت في تحليل قصائده، فخصلة جيدة لدى نزيه أنه يحبّ أن يتعلم دائمًا ويستمع لرأي الآخرين، ويهمّه رأي الناس والجماهير، فهل صدفة أن أطلق اسم الجماهير على مكتبته؟! والأمر الذي يربكني اليوم، هو كيف  يمكنني أن أقدّم نزيه دون أن أقع في فخ الرتابة والتكرار، فماذا يمكنني أن أضيف وأن أجدّد؟

وعن رئيس بلدية شفاعمرو السيّد ناهض خازم ناب السيد أحمد حمدي مدير القسم الثقافيّ في مدينة شفاعمرو، الذي اعتذر عن عدم حضور رئيس البلديّة لتواجده الاضطراريّ خارج المدينة، فحيّى الأدباء والشعراء، مؤكّدًا أنّ البلديّة وقسم الثقافة سيعملان دائمًا على خدمة الأدب، وعلى إيجاد نهضة أدبيّة راقية في شفاعمرو، ثمّ تطرّق إلى دوْر الشاعر نزيه حسّون وإسهامِهِ الكبير وعَبْرَ عقودٍ من الزمن في خدمة مشهدنا الأدبيّ، وتسخير شعره لخدمة قضايا شعبنا الفلسطينيّ قائلا: لقد رافقت الشاعر الكبير عبر فترات طويلة إلى مختلف قرانا ومدننا من راهط حتى الجولان، وكنت أشهد كيف كانت الجماهير تقاطعه بألوفها صارخة، أَعِدْ أعِدْ، وكيف كان له دوْر هامٌّ بإيصال الانتفاضة الفلسطنيّة عبر الشعر إلى العالم كله.

واختتم كلامه بالتأكيد على دور الكلمة، وضرورة دعم الأدباء والشعراء، وتحدّث عن انطلاق صوت الشاعر نزيه حسون ثوريًّا مدوّيًا في السبعينيات من القرن الماضي، في فترة شهد فيها المجتمع العربيّ الفلسطينيّ في الداخل مفصلا تاريخيا في معركة البقاء والتصدّي، والصمود لسياسات نهب الأرض والاقتلاع، واستمراره بالإبداع حتى يومنا هذا.

ويعود عفيف شليوط ليقدم مديرة دار الثقافة والفنون السيّدة عزيزة دياب إدريس بفقرة اقتبسها من مقدّمة حوار أجرته آمال عوّاد رضوان مع الشاعر نزيه حسون فيقول: "الشاعر نزيه حسون؛ تسكُنُ الرّيح أمواجَ وصلِهِ وتمخرُ زوارقهُ لججَ الأحاسيس، لكنّها أبدًا لا تكنُّ ولا تسكن، تُمطرُ سماواتُ حبّهِ طوفانًا مِن الأحلام الصّامتة الصّاخبة، تُعطّرُ مساءاتِ الإنسانيّة المهدورة على قارعةِ الظلم بأثيرٍ نزيهٍ مِن شجون قلبِ الحسّون، وكما الحمامة تنطلق مِن فُلك نوح تنشدُ الأمنَ والسّلم، ينبثقُ الحسّون مِن زورقِ وصالِهِ مُحلّقًا، ليطليَ ظلالَ اللّيل العابس بشفافيّةِ ألوانِهِ القزحيّة، وهناكَ على ضفافِ السّكون، تتماهى كلماتُهُ الوضّاءة مناراتٍ تتناثرُ في أفقِ الخيال، وعلى هودجٍ مِن حروفِ العشق وأجنحةٍ مِن فراشاتِ الكلماتِ الجميلة، وزورقٍ صغيرٍ مُبحرٍ في رحلتِهِ الأبديّة إلى موانئ الشّعرِ والجَمالِ يُنيرُ القلب، وتتوهّجُ الرّوح"!

وجاء في كلمة مديرة دار الثقافة عزيزه ذياب: السّيّد أحمد حمدي رئيس قسم الثقافة والفنون، أعضاء البلديّة الكرام، الأدباء والشعراء، الضيوف والحضور الكرام، يسرّنا في دار الثقافة والفنون والمنتدى الأدبيّ الشفاعمريّ أن نحتضن في هذا المساء هذا الجمهور الكريم، وأن نحتفل معًا بولادة ديوان شاعرنا نزيه حسّون "ما تيسّر من عشق ووطن"، كما يسعدنا أيضًا أن يشاركنا هذا الاحتفال أعضاء من رابطة الطلاب الجامعيّين في شفاعمرو، والتي تأسّست قبل أسبوعين في هذا المكان نفسه. إنّ الأدب هو سِجلٌّ حيٌّ وتعبير عن الحياة ينير فكرنا، ويخلق بيننا علاقات جديدة من الفهم  والمعرفة، وهذه غاية إنسانيّة نطمح إليها، فاهتمامنا بالأدب مرتبط ارتباطا مباشرًا باهتمامنا بالحياة، وللمنتدى الأدبيّ في شفاعمرو أهدافٌ عديدة، ولعلّ أهمّها أن يغدو قوّةَ دفعٍ وتغيير في بناء مشهد ثقافيٍّ جديد في  شفاعمرو، ليمنح كلّ أديب منصّة لأدبه شعرًا كان أم نثرا. إنّ هذه الأمسية ما هي إلاّ انطلاقة لسلسلة لقاءات ثقافيّة أدبيّة، ستنظّمها دار الثقافة والفنون، إيمانًا منّا أنّ الأدب يعكس ثقافة المجتمع، ولا يمكن أن يكون بمعزل عنه، فشكرا لحضوركم، وأتمنّى لكم سهرة ممتعة.

بعد ذلك دعا العريف الشاعرَ نزيه حسّون لإلقاء إحدى قصائده، فأكّد في كلمةٍ مقتضَبةٍ على الرّسالة المقدّسة للكلمة في خدمة القضايا الإنسانيّة، وأهمّيّة زرع  حبّ الكلمة والمعرفة في نفوس أجيالنا، فبغير ذلك سوف تلعننا الأجيال. وقد أنشد قصيدة جديدة بعنوان "هواجسُ مَنفيّ"، عكسَ فيها حقَّ العودة بأسلوب شاعريّ، كان له أثرٌ عميقٌ في نفوس الحضور.

وفي مداخلة الشاعر تركي عامر، استهلها بقصيدة للصديقه الشاعر نزيه حسّون هي "الحبّ سرّ المعجزات جميعها" (من مجموعة "ما تيسّر من عشق ووطن") ص 73، ثمّ قال: إنّ هذا الشّعر الواضح الأنيق البسيط العميق، هو ما سيبقى ممّا يكتب الكاتبون. فالشّعر، قطعًا، ليس كلماتٍ متقاطعة أو فوازيرَ رمضانيّة. ولا يأتي بمثل هذا إلاّ من كانت "زوّادتهم" الفنّيّة والفكريّة "ماكنة". وهؤلاء سيدخلون الجنّة بغير حساب. وحسب نزيه حسّون أن يكون من النّاجين من العقاب، وأضاف:

 يصدّر نزيه حسّون مجموعاته الشّعريّة بـ: "للهِ كنوزٌ تحتَ العرش مفاتيحُها ألسنةُ الشّعراء". وهؤلاء، لا نحتاج إلى قهرهم أو نهرهم كي يسلّموا المفاتيح. أعطهم هامشًا من زمكان يهرّوا ما بجعبتهم دون ضربة كفّ. أمّا لو تحصّلوا على قبّعة إخفاء، لخرّبوا الدّنيا وقرّبوا الآخرة.
ثمّ تطرّق تركي عامر إلى ما يعانيه الكاتب العربيّ في بلادنا بسبب انعدام دور النّشر وشبكات التّوزيع المهنيّة الّتي تحفظ للكاتب أبسط حقوقه الآدميّة! وتمنّى على رجال الأعمال العرب أن يهتموا بالكتاب كاهتمامهم بالكراميكا والكنافة وكرة القدم، واختتم مداخلته:

شكرًا لبلدية شفاعمرو ودار الثقافة والفنون والمنتدى الأدبي الشفاعمري لهذا العرس الثقافي الفاغم. أمّا أنت، يا نزيه حسّون، فلتدم لنا صديقًا شاعرًا وشاعرًا صادقًا. مبروك هذا التّوقيع الّذي يستأهلك.

أمّا مداخلة الأديب محمّد علي سعيد "الشاعر نزيه حسون من الدّلالة المباشرة إلى الدّلالة المجاورة" فجاءت تقول: تعود علاقتي بصديقي الشاعر نزيه حسون إلى أكثر من ثلاثين عامًا، ولمّا تزل، فكلّما أكون عائدا من سفر ومارًّا بهذا البلد الطيّب شفاعمرو، أزوره في مكتبته ولا أجده إلاّ متفسبكًا، يكتب تعليقاته الدّافئة والأنيقة والشاعريّة، يُحدّثني عن آخر كتاب قرأه، ويُسمعني آخر قصيدة أوحاها له شيطانه الشعريّ، وتتّسع دائرة أصدقائي الشفاعمريّين من رواد مكتبته. قال المتنبي: "أعزّ مكان في الدّنى سرج سابح/ وخير جليس في الزمان كتاب"..، وكأنّي به يقول: أعزّ مكان في الدّنى بيت/ وخير جليس في الزمان بيت. عرفته منذ كان صوتًا مُجلجلاً في المهرجانات السّياسيّة، بهدف تحريض الجماهير إلى الالتزام أكثر وأكثر بهُويّتها الوطنية، فيقول الشّعر الخطابيّ بدلالاته المباشرة والملتزمة الواضحة، ولقد كان هذا هو الشعر المطلوب مضمونًا وفنيّة بحُكمِ وظيفتِهِ آنذاك، فمِن وظائف الأديب أن يُربّي الأملَ لدى المتلقّي، من أجل حياة أجود وأجمل في المستقبل، وذلك من خلال إثارة شعور الدّهشة الذي يحرك الفكر، فيكون اتخاذ الموقف وإحداث التغيير في السّلوك نحو الافضل، مَهْما كان قليلا.

الصّدق الحياتيّ والفنيّ: مَن يعرف الشاعر عن قرب يقف على أفكاره ومواقفه الوطنيّة والتقدميّة، وهذه المواقف تنعكس في تعبير جماليّ وفنيّ في لغته، ومن هنا فهو صادق حياتيًّا وفنيًّا، فالصّدق موجود لديه في دائرة التذويت وليس الدّخلنة، وشتّان ما بينهما.. فقد ينجح الكثيرون من المبدعين في تقديم صدقا فنيًّا وليس صدقًا حياتيًّا.. فالموقف يجب أن ينعكس في الأقوال والأفعال.  قراءات مجاورة لشعر نزيه حسون: شاعرنا محسوب على الرّعيل الثالث، وقد بدأ ملتزمًا وطنيًّا ولمّا يزل كغيره من أبناء شعبنا الأبيّ.. يعيش آمالَ وآلامَ شعبه بتفاعلٍ، وبموهبته الإبداعيّة يُعبّر عنها شعرًا قويّ النبرات واضحًا، ومُتّحدًا بذكاء بين أناه المفردة وأناه الجمعيّة، في علاقة متداخلة بين خاصّه الجوانيّة الحسّونيّة وعامّه الشعبيّة الخارجيّة، وشاعرنا إنسان يحمل قلبًا طافحًا بالمشاعر الإنسانيّة والعواطف الغريزيّة، ناهيك عن التزامه بهموم شعبه،  ويُعبّر عنهما بشعره الغزليّ والوطنيّ، تحت راية واحدة. بعضُ قصائده بالإمكان أن نفسّرها بدلالة الغزل المباشرة وبدلالةٍ وطنيّة مجاورة في آن واحد، وبدون تحميل القصيدة فوق طاقتها، وهناك قصائد تحتمل دلالة مباشرة غزليّة كانت أم وطنية..    

الأسلوب جملة ومفردة: أسلوبه يندرج في باب السهل الممتنع، مفردات سهلة من قاموس المثقف العاديّ، باستثناء عدّة كلمات مثل: (النجيع، تنثال، تنشلع..)، تتوالى الجمل في عفويّة متدفقة بسلاسة متماسكة ومترابطة، فتعكس كُلاًّ مُتجانسًا ووحدة عضوية في القصيدة من فاتحتها إلى خاتمتها، والجوّ العامّ لشعره رومانسيٌّ أنيقُ العبارة دافئُ الصّدى، وموسيقيٌّ حالمٌ وإيقاع هادئ ومثير للخيال في لوحاته المرسومة بالكلمات، وكأنّي به يُطبّقُ ما قالته العرب "لكلّ مُسمّى من اسمه نصيب"، فالاسم نزيه حسون: نزيه في النظافة الوطنيّة والمواقف الحياتيّة، وحسّون اسم طير متعدّد في طبقات صوته كما الشاعر، يعيش في قلق دائم كما الشاعر، ويعيش في سفر دائم كما الشاعر، ونزيه أيضًا له ديوان "سيمفونية الحزن المسافر" يا لروعة العنوان. شاعرنا يكتب شعرًا موزونًا بحسب البيت الخليليّ أو بحسب التفعيلة، وهو بعيدٌ عن نثريّة الجملة الشاعريّة، بعيد عن أسلوب الشّعثرة.

بيت الشعر الحكمة: ليس كلّ بيت شعريّ يصلح لأن يتحوّل إلى حكمة يتداولها الجميع، بغضّ النظر عن معرفة قائلِه، وهذه درجة وصَلها بعض الشعراء، ومن بعض مميّزات هذه الأبيات أن تكون مُحْكَمَةَ البناء تامّة المعنى والمبنى مستقلّة الفهم، وتُقدّم موقفًا فكريًّا، وشاعرنا نزيه نجحت بعض أبياته في ضيافة هذه الدّائرة، وتصلح أن تكتب شعارًا مستقلاًّ، ومنها: صبوا الدماء على الثرى وتقدموا/ جسر الولوج الى الخلود هو الدّم/ مهما صنعتم من تماثيل لكم/ يومًا بأحذية الشعوب ستُلطم/ ما لم نضمخ بالنجيع ترابنا/ لن تغمر الوطن المعذّب أنجم.

الغلاف: الغلاف مُزيّن بلوحة فنيّة مُعبّرة جدّا، وللأسف الشديد فقد سقط اسمُ فنّانها، وجهان حالمان لرجل وامرأة هما طرفان للعشق، وهما نواة لبناء أسرة وبالتالي لبناء مجتمع يحتاج إلى وطن ليستقرّا فيه باطمئنان وحرّيّة، وكي يتحقق هذا الوطن لا بدّ من تضحية وتضميخ الثرى بالنجيع، أي دم الشهداء الأحمر والمائل إلى السّواد، وتوافق لون الغلاف النجيعيّ مع الدّلالة الإدراكيّة، وكذلك لون المنديل الأزرق دلالة الحرّيّة ونظرة الرّجل التي تستشرف المستقبل، فاللوحة تُعبّر تلميحًا عن علاقة جدليّة بين ثنائيّة العشق والوطن، ندركها بالتفكير الاستنتاجيّ، ولكن الشاعر يخبرنا بذلك تصريحًا بنص العنوان "ما تيسّر من عشق ووطن"، نصّ يحتمل أكثر من تفسير مجاور، وكأنّي بالشاعر يقول: "لديّ الكثير من العشق والوطن، وهاكم ما تيسّر منهما"، أميل الى هذا التفسير، فالشاعر ضمّن بعض عناوين دواوينه بهذه الكلمات: مزامير من سورة العشق، أبحث عن وطني في وطني، عشق على سفر، ناهيك عن ذكرها كثيرًا في قصائده..

 والعنوان هو عتبة فهم النصّ الأولى، وإن تكرار هذه الثنائيّة تدلّ على أنّها موتيف مهمّ في مواضيع الشاعر. وأمّا اختيار الشاعر لمصطلح العشق وهو فرط الحب ويقع دون مرتبة التدله والهيام ، مثلا. 

الإهداء:

إلى الشهداء الذين رووا التراب بنجيعهم فداء لحريّة الانسان. ونجع الشيء ظهر أثره ونفع، ولا توجد كلمة أخرى تحمل عمق هذه الدلالة، فالنجيع وهو دم الجوف يظهر، ولولا ظهوره لما أفاد في تحقيق الهدف بنيل الحريّة، وقال شوقي في نكبة دمشق: وللحريّة الحمراء بابٌ بكلّ يد مضرجة يدق/ ودم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نورٌ وحق..

الاستهلال: ( للّه كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء). شاعرنا استهلّ أكثر دواوينه السابقة بهذه المقولة، ممّا يدلّ على أهمّيّتها لديه، شاعرنا يؤمن إيمانا أعمى بقوّة الكلمة وللدقة بتأثيرها السحريّ ليس على الانسان فقط، بل على كنوز الله بأنواعها المختلفة، ويطول النقاش حول العلاقة بين الشعر والدين، الديانات الأرضيّة والسماويّة، فالكلمة سلاح قويّ جدًّا، فقد قال العرب: (كلم اللسان أنكى من كلم السنان.. لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك.. مقتل الرجل بين فكّيه.. الكلمة الطيبة بتطلع الحيّة من جحرها.. وقال سقراط تكلم حتى أراك.. ). وبين الشاعر والنبي أكثر من قاسم مشترك، فهما همزة وصل بين عالم الروح وعالمنا المادّيّ، ووسيلتهما في الإقناع هي الكلمة، ولديهما رغبة جامحة في إصلاح المجتمع؛ ولهذا قيل: كلّ شاعر نبيّ وليس كلّ نبيّ شاعر..

التظهير: على الغلاف الأخير، توجد خمسة أبيات من قصيدته الأولى فاتحة الديوان، وهذا الانتقاء يشير إلى علاقة خاصّة بينها وبين الشاعر، فهي تعكس موقفه ممّا يحدث في العالم العربيّ، وهي قصيدة جواهريّة في متانتها فراهيديّة في بنائها وموسيقاها وبحرها، وحديثة في وحدتها الموضوعيّة والعضويّة، فيها التداخل وذوبان الحدود بين ذات الشاعر والناس، فالمطلع ناجح جدًّا وهو يلمّح إلى موضوع القصيدة، والبيت الأخير مهمّ جدًّا، فقد نجح الشاعر في جعله يُشعر القارئ أو السامع بإتمام المعنى، وبهذا يتمّ إغلاق الدائرة على حدّ التعبير في النقد القصصيّ التقليديّ.

التناص، أو التعالق النصّيّ: هو ما يتداعى للمتلقي قارئًا أو سامعًا من نصوص أخرى مضمونا ومبنى وأسلوبا، وهذا التداعي يعكس ثقافة الشاعر أو المتلقي.. والاقتباس أبسط أنواع التناص الحرفيّ، والعرب قالت بحسن الأخذ وقبح الأخذ ولم تستخدم مصطلح السرقة.. ظاهرة التناص  في الأدب قديمة جدًّا ولكنّها كمصطلح حديثة، وعلينا أن لا نبالغ فنجعل من كلّ توارد أفكار تناصًّا، فأحيانًا يقع الخاطر على الخاطر كما يقع الحافر على الحافر، وذلك بسبب تشابه الظروف والثقافات التي قد تؤدّي إلى التناص.

1- وامعتصماه

يقول الشاعر في ص14 (فلأيِّ معتصم تصيح سبيّة  ولمن ينادي جائع يتألمُ)  شاعرنا يستحضر تاريخ العرب المجيد أيا كانوا يرفع الحكام رؤوسنا في سؤال استنكاري ساخر، لأنه يعرف الجواب بعدم وجود حاكم عربيّ اليوم كالمعتصم.  صاحت إمرأة عربية أسرها الروم (وامعتصماه)، وصل الخبر إلى الخليفة المعتصم بالله وهو على سريره فأجابها (لبيك  لبيك) ونهض وقال: النفير النفير، وزحفت الجيوش وفتحوا عمورية، وخلد شاعرنا أبو تمام حبيب بن أوس الطائي المتوفي 846م واقعة عمورية بقصيدة عصماء: السيف أصدق انباءً من الكتب/ في حدّه الحدّ بين الجِدِّ واللعبِ.

2 الماء والخضراء والوجه الحسن: قول مأثور منتشر جدًّا بين الشعوب العربيّة ينسبه البعض للرسول الكريم بقوله: (ثلاثة يزدن في قوّة البصر، النظر الى الخضرة والماء الجاري والوجه الحسن)، وقيل (ثلاثة يجلين الحزن: النظر الى الخضرة والماء الجاري والوجه الحسن).

3 باق أنا بترابها حيفا. – ص35 / باق أنا في حيفا، هذه وصيّة الكاتب الكبير إميل حبيبي بأن يكتبوا النصّ على قبره، وحيفا مدينة أحبّها وتغزل الكثيرون بها، فخصّ لها شاعرنا قصيدة رائعة.. وتطابقت وصيّته مع وصيّة حبيبي.. وخصّها الشاعر المرحوم جورج نجيب خليل وهو أول من أصدر كتابا في البلاد باسم ورد وقتاد عام 1951. (ماذا أقول وقد عقدت لساني/ وسحرتني بجمالك الفتان).

4-    فأغار من قمر يقبل ثغرها. – ص32

الغيرة شعور غريزيّ فيه أنانيّة حبّ التملك، لدرجة الغيرة من كلّ شيء معنويّ أو مادّيّ.. وعبّر الشعراء عن ذلك كثيرا: أغار عليك من القمر من الهواء من وسادتك ومن السّواك، لدرجة أنّ الشاعر يغار على محبوبته من نفسه من أحلامه، وهذا بليغ العرب ومفتاح مدينة العلم علي بن أبي طالب يغار بتشبيه فيه منطق وموازنة بين الطرفين، فيقول وقد رأى زوجته فاطمة بنت الرسول تستاكُ بالسّواكِ: (وهنئت يا عودَ الأراك بثغرها/ أما خفتَ يا عود الأراك أراكَ/ لو كان غيرك يا أراك قتلته ما نال منها يا سواك سواكَ. وقيل البيت الأخير كالآتي: لو كنت من أهل القتال قتلتك/ ما نال مني يا سُواكُ سواكَ).

5-    وتحرروا وتمردوا وتفتنموا، ص16.

تفتنموا تستدعي بالتناص نضال الشعب الفيتناميّ بقيادة هوشي منه وطرده للغزاة الامريكيّين، فالشاعر يستعير الكلمة الأجنبية ويخضعها لقوانين الصرف في اللغة العربيّة ليصوغ منها فعلا، وهذه هي ظاهرة التعريب في إثراء اللغة، وطريقة الإثراء اللغويّ الأخرى هي الدخيل اللغويّ، وهو استعارة الكلمة الأجنبيّة كما هي دون أي تغيير مثل: راديو وإبريق وأوكسجين، وتناصّ آخر يحضرني وهو ما قاله المرحوم الكاتب الكبير حقا مخاطبا الجماهير العربيّة، وطالبًا منها أن تحذوا حذو كفرياسيف، فقال: تكفرسوا. من وظائف الأدباء هو إثراء اللغة بالتعريب والدخيل وتناسل الأصيل.

6- مهما صنعتم من تماثيل لكم يومًا بأحذية الشعوب ستلطم. ص15.  تناص يستدعي حدث اللطم وضرب تمثال حاكم العراق صدام حسين.

تراسل الحواس: لغة الأدب عامّة انزياحيّة، فكم بالحريّ لغة الشعر فهي انزياحيّة بامتياز، وعليه فكلّ نصّ كتابته في درجة الصفر، فهو نص غير أدبيّ وإن كان سليمًا من حيث النحو والصرف والمفردات، فقد يكون نصّ إنشائيّ جيّد، ولكنه ليس بنصّ أدبي، ولأُعطِ مثالاً عن وصف لمدينة حيفا كتبته خصّيصًا لمحاضرة في الموضوع.

ومن تعابير الانزياح: المجاز مثلا والتشبيه بأنواعه المتدرجة من تشبيه بسيط فيه جميع عناصر جملة التشبيه، وصولاً إلى التشبيه البليغ بحذف أداة التشبيه ووجه الشبه، وذلك ضمن إطار منطقيّ واحد للصورة الكلاميّة، ويتطوّر التشبيه ليشمل على تراسل للحواس وحالة من الصورة المركّبة، بسبب غموضها وضبابيّتها المثيرة لحب الاستطلاع وقدح الذهن، وليس إبهامها وانغلاقها وتحوّلها إلى أحجية.. لقد طوّر شاعرنا عنصر التشويق هذا.. ومثال ذلك ص18:

هذا الجنون يذيبني فيمور نبضك في دمي ويمور نبضي في صداه – تتراسل الحواس من اللمس إلى البصر إلى السمع.

ص22: حيفا وقد غرقت بعطر العشق حتى رمشها، تأتي إليّ عروسة بيضاء تغزل من هديل الشوق أسرار الوجود= تراسل الحواس من الشم إلى البصر إلى السمع).

ص71: يسيل حزن قلبها كدمعة خرساء. = تراسل الحواس من البصر إلى  السمع .

وملاحظات أخرى سريعة     

وقعت عدّة أخطاء مطبعيّة في الكتاب كان من الممكن أن لا تقع، لو راجع شاعرنا المادّة بأكثر من عين.. وفيما يلي بعضها، وسأسلمه الباقي، احتياطا لطبعته القادمة.

ص4 شفاعمرو وليس شقاعمرو. ص12 ترزح وليس ترزخ/  ص19 ما أدراكِ ما عيناك وليس ما عينيك..

ص25 إملاء كلمة اللآلئ غير صحيح../ ص29 وإذا ترقرق صوتُها وليس صوتَها.. 

ص34 بشَغافها وليس بكسر السين،../ ص10 تؤرخ وليس تؤرج في هبّت نسائمه تؤرخ نصرنا..

قام الشاعر بتسكين أواخر كلمات القوافي في بعض قصائده (حرف الروي) وكان من الأفضل لو أبقى ألف ، وهذا خطأ تراكمي.

كان من الأفضل لو: ص33.  يمسد بدلا من يجفف في ويفر قلبي كي يجفف شعرها..

ص. 44 طويلا بدلا من نزيلا في لأقمت في تلك العيون نزيلا..

ص.. ص34 وضع كلمة شَغافيها في النهاية في: باق أنا في بضفافها بشغافها بعروقها عبر الزمن.. وبالمناسبة الباء للوسيلة والصحيح في).

ص79  فلأيّ أرض ترحلين حبيبتي    والقلب عند الهجر ينشلع انشلاعا. الفعل شلع كلمة آرامية تعني الفصل بقوة: شلع الصخر أي قطعه، وشلع الشجرة اقتلعها، ونقول: شلع ذانه أي شدها.. هذه هي المفردة العامية الوحيدة التي استعملها الشاعر وأراها أفضل من (انفطر انفطارا).

عزيزي نزيه، لقد نجحت فمبارك ديوانك هذا وإلى مزيد من الإبداع المتألق.       

بعد ذلك دعا العريف الصحفي وليد ياسين الذي أجرى حوار صحفي شيّق مع الشاعر، تعرّض فيه لمختلف القضايا الأدبيّة والسياسيّة التي  نعيشها. وكان مسك الختام ان شنف الشاعر نزيه حسون وبناءً على رغبة الجمهور آذانهم بقصيدته "حيفا تسافر في دمي"، وبعدها قام بالتوقيع على الديوان والتقاط الصّور التذكاريّة.