يسعى الناقد العراقي هنا إلى تقديم بعض الاستقصاءات النظرية التي تستوعب عددا من مقولات النظرية النقدية الحديثة، وتعود بها إلى مساءلة تاريخية للنص العربي وتنظيراته القديمة حول أجناس الكتابة وفاعلية كل منها. وهي استقصاءات تهتم برد الاعتبار للنثر وخاصة في تجلياته السردية في فاعلية الكتابة والتوصيل معا.

فاعلية السرد وفعالية الشعر في ثنائية الكتابة

قراءة في المنظور التاريخي

عباس خلف علي

مقدمة:
في سؤال يتبادر إلى الذهن هو ما مساحة النص الشعري في السرد؟ وما مساحة السرد في النص الشعري؟ أعتقد أن هذا السؤال الذي يتكرر أيضا في التشكيل والسينما والمسرح هو كيف تتداخل أو تتجانس الوحدات الافتراضية لكل منها داخل الصورة وتعيين وظائفها وعلاقاتها ودلالاتها في بنية النص إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إن كل مشغل منها ينتج نصا مقاربا أومحايثا لخواص المعاني والدلالات التي يحاول أن يستدعيها أو يبغي تصويرها لنا/ سامع، قائل بمعنى التواصل على حد قول الجاحظ،1 والتي أعيدت صياغتها نظرية التلقي بمفهوم لذة النص القائمة على فلسفة الأشياء كما في قول بارت، ليس لجسدي نفس الأفكار التي لي. وبهذا التمثيل والتحويل ترسم معطيات فكرة النص التي تحتاج إلى ما أسماه القرطاجني2 بالقوة الحافظة أي القادرة على التخيل والتدرج منها إلى البعض، الذي لا يمكن أن يستغني عن سنن التفعيل استنادا إلى المعنى الذي يحاول أن لا يخرجه الفقهاء عن مقولة نحوية لغوية أي المعنى لا وجود له خارج اللغة. وعلى هذا الأساس سنولي دور الفعالية أهمية عن تساؤلنا السابق الذي طرحناه حول ما تمثله من قيمة في الشعر أو السرد.

نظرة تاريخية لفاعلية الشعر:
حري بنا ونحن نتناول موضوعة «الفعالية» أن نبحث المزايا الشعرية التي استحوذت على سلطة النقد والواقع لعصور متفاوتة وفاقت كثيرا على الأجناس الأخرى في الشيوع والانتشار وجسدت أهميتها في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي وشكلت لها بذلك ذاكرة حية وخالصة أتاحت لها أن ترتكز بقوة وصدارة تحت مقولة (الشعر ديوان العرب) بوصفه نتاجا تستمد منه الخبرة الشاملة بأوضاع المدينة، البادية، البلاط وما إلى غيرها من ألوان الطيف التي يعيشها الفرد والمجتمع. هذه الفعالية كان لها صدى واضح أيضا في التثقيف والمداولة والمناظرة التي كانت تعقد في المناسبات على مختلف أشكالها ونواياها وأهدافها، وهذا ما دفع في الحقيقة إلى خلق نوع ما يسمى بالكارزما، أي الشخصية الشعرية ومن ثم تحديد هوية الشعر ومصطلحه، كما جاء ذلك في مقال د. حسن النعمي3 في نادي الإحساء الذي تحدث فيه عن مكانة الشعر وتفوقه على الأجناس الأدبية الأخرى.

إن الأمر اللافت والمهم باعتقادنا إن الشعر عاش فترة اطراد حركة النقد تاريخيا وهذه بالأخير أعطتنا مساحة في اكتشاف قدرات نقدية مهمة لم يزل تأثيرها قائم إلى اليوم ومنها تشكيل اصطلاح أو مفهوم على فاعلية التجربة الشعرية عند الأقدمين، بالصناعة4، التي تتمثل فيها ماهية الإبداع في المضمون والشكل واللفظ والمعنى والأسلوب والدلالة واللغة والبحث عن سمات الموضوع قياسا إلى ضرورته في التخيل والتصور، كما وصف ذلك الجاحظ في البيان والتبيين، وهو استدعاء قائم على قيمة المخيال ويصفه بـ(ذلك البعيد الوحشي الذي ينقلب باللفظ إلى ذكر). كما توسعت النظرة إلى الشعر وتعمقت البحوث في تحليل المضامين على أساس بنياتها الفنية والدلالية ضمن محصل كل تجربة من زاوية العصر ومنظوره الجمالي، أي نظامه المعرفي.

ولذا نرى أمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى في التراث العربي برهنت جميعها على القيمة الشعرية كلغة استعمال ولسان وأسلوب ووفرت لها غطاء نقدي تمثل في إسهامات جادة منها على سبيل المثال لا الحصر تمثلت في اسانيد ابن العميد، ابي هلال العسكري صاحب كتاب الصناعتين، الآمدي، عبدالقاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم، حازم القرطاجني، قدامة بن جعفر صاحب كتاب نقد الشعر وكتاب صناعة الكتابة وجواهر الألفاظ وغيرها من الأسماء المهمة في التاريخ العربي التي أفرغت لنا شيئا عن مضمونها الناتج عن محصلة اهتمامها في تثبيت المكون الشعري واعتباره حدثا وموضوعا وتاريخا وثقافة جسدت فيه عصرا شعريا بامتياز. ولا يفوتنا أن نذكر بالتحديد ولكثرة استخدام المجاز في لغة الشعر راح المغالون يكررون صيغة القول بالزيغ ويؤكدون على وصف القران الكريم (الشعراء يتبعهم الغاوون) للتقليل من أهمية الشعر أولا، ولتشويش على ما يدرس من قبل مشايخ النقاد العرب الأقدمين ثانيا، ولإضعاف شخصيته وهويته وتأثيره في الفرد والمجتمع.

يقول الجاحظ5 لا يمكن لعاقل أن لا يبحث عن المعنى القائم في الصدر المتصور في الذهن حتى في الكتب السماوية، كذلك قال ابن عباس بأن الشعر له المقدرة على تفسير الآية في كتاب الله العزيز، ثم أضاف (إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه من أشعار العرب). هذا باعتقادنا اعتراف تام وغير منقوص باللغة بوصفها نظام بالغ الدقة في تثوير الفلسفة القائمة خلفها وقد قال دي سوسير6 لعل من أهم ممكنات اللغة وسياقاتها أزمنة الخطاب التي تبلورت بصيغتيه الاثنتين التي نذكرهما بإيجاز، هما زمن التاريخ الذي يدل على زمن انجازه وتعينه، وزمن التواصل الذي ينقسم بدوره إلى زمنين تعاقبيين هما: زمن الاستقبال الذي يبدأ من الحاضر ثم ينتهي بالماضي، وزمن الإرسال الذي يبدأ من حيث انتهى الماضي ليعود به إلى الحاضر، وهذا ما يفسر لنا قول بن عباس حول دالة المعنى التي كانت تلتحق بأشعار العرب، مستفيدين من كون اللغة حاملة لجملة من الوظائف التي تسعى إليها في ضوء فعاليتها في الممكن والمحتمل7. وكذلك في تحقيق بلاغة اللفظ المستعمل في بناء متعدد العناصر الذي هو الكلام على حد قول أبي هلال العسكري الذي يرينا قيمته المثلى المتولد من استشهاد التنزيل والاعتراف الذي لا لبس فيه أو شائبة كما ورد في قوله تعالى (إنا أنزلناه بلسان عربي مبين).

ومن ذلك يتضح لنا اعتناء رواد النهضة الأدبية العربية ومنهم طه حسين بمقولات الشعر الذي راح يرمز لها بقوة بوصفها تشكل حاضرة العرب .. وظاهرة مهمة في تاريخه الاجتماعي والسياسي والعسكري والديني والاقتصادي .. إذ أن الشعر شكل قيمته في الوجدان العربي لأنه كان يمثل الزهو والانتصار والهيبة التي كانت تقوده نحو الفروسية في كل شيء، أي إنه كان يقف على النقيض تماما من حالات الضعف أو الهزيمة التي قد يتعرض لها. هذه الصورة التي ساهم في صنعها الشعر ولعصور خلت من تاريخ تراثنا العربي، برهنت بما لا يقبل الشك، على أن الشعر قد تفوق باستخداماته ووسائله متعددة الأغراض هيمنته المطلقة على لغة السرد التي كانت بحاجة إلى ضمان استمرار يته في خضم الاستحواذ الشعري وشيوعه وانتشاره.

فاعلية السرد:
إذا ما أردنا أن نعد فن المقامة على أنها الأب الروحي للنص الروائي الحديث نرى أن الإشكال قائم في تحديد هذه المسألة تحديدا متباينا قابل لاجتهاد كل طرف، ولكن نعتقد أن هذا الفن لعب دورا مهما في التراث العربي ليس فقط بما تتضمنه من نصح وإرشاد وموعظة ولا بالطريقة التي يؤديها المحدث أو الحكواتي بما يسطره على الناس، التي لفتت هذه الطريقة (جوستاف لوبون) بقوله، أتيح لي في إحدى الليالي أن أشاهد جمعا من الحمالين والأجراء يستمعون إلى أحدى القصص وإني لأشك في أن يصيب أي قاص غربي يتمثل ما يسمعه كأنه يراه، هذا الفن خرج من رحم الفقراء والمساكين المهمشين ليكونوا أبطال النص.

لقد أنشأ بديع الزمان الهمداني8 هذا الفن من دون أن نلتفت إلى الخلاف الذي نشب عند ذيوعه في الأمصار، إذ يكفي أن أعترف برياديته الحمداني، ثم قلده الزمخشري والسيوطي والجاحظ وابن دريد وابن فارس وانتقلت بشكلها وطبيعتها بعد ذلك للأندلس ليكتبها السرقسطي، ومن ثم تتحول للغرب لتشتهر بصيغة البيكارو – المكدي - الشخصية التي تشبه أبي الفتح الإسكندري لبديع الزمان الهمداني، وأبي زيد السروجي بطل مقامات الحريري، وفي هذا الجانب تؤكد د. سوسن رجب حسن في مقالها الموسوم خلاصة النثر النقدي، إن النثر وإن لم يحظَ بأهمية البحث عند العرب القدامى، إلا أن فن المقامة الذي أشيع في آسيا وأروبا ليصبح مقدمة حقيقية لظهور الرواية النثرية بمفهومها الحديث، لما يحتويه من توظيف غريب في القطع والانتقالات التي تحرص على تكريس الإثارة والدهشة.

كان القرن الرابع الهجري زاخرا ليس في المقامة وحدها على حد قول أبي حيان التوحيدي بل اكتسب النثر (أحسن الكلام مارق لفظه ولطف معناه وقامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم) وهو يقصد بذلك جميع النثر الذي ظهر إلى جانب المقامة من فصول التي تعني الرسالة والحكاية والطرفة والنادرة والخطابة وحتى سجع الكهان وما إلى غير ذلك من النماذج التي تحمل صبغة اللون السردي. إن ما يهمنا من ذكره في هذه الورقة نقطتان

أولا:
هذه الأشكال أو الأساليب التي خاضت في مواضيعها المختلفة جل القضايا التي تهم الإنسان بالدرجة الأولى وخصوصا الإنسان البائس والمعزول الذي أنهكه شظف العيش والإهمال والجوع والجهل وبذلك كانت رسالتها محددة في هذا الإطار أو المضمون بغض النظر عن طريقة الأداء التي تمارسها في التعبير (لأن الأغلب والأعم كان يتلى على مسامع الناس مثل القصيدة) وكان البعض يعد ابن المقفع مثلا يحتذي به في التصريح الذي يفترض أن يكون عليه الأدب ويذكر طه حسين في كتابه الأيام بأنا كنا نجد في قراءتنا لكليلة ودمنة وألف ليلة وليلة من أنهما كتابان استحقا عن جدارة خلود الكلمة وقيمتها وثراها على الرغم من إنهما نصان متباعدان ولكن ما يجمعهما ثقافة الكلام وبرهانه على قول ما يريده المؤلف مهما كان الثمن الذي ينتظره باهظا. أي أن الحقيقة التي يريد أن يظهرها يصعب الوصول إليها إلا من داخل النص ولذا حوًل المشتغلين على هذه الأنماط من السرد أنظار الناس إلى ما يسمى في الوقت الحاضر المسكوت عنه والتعرف على بوصلته المخبوءة.

ثانيا:
إن المفهوم السردي ظل قاصرا عن تحديد فنون الحكاية أو وجهتها في مصطلح تتمثل فيه القيمة الفنية والجمالية الدالة على مقومات البناء السردي للنص، هذه الإشكالية فسرها منذر عياشي في كتابه – الكتابة الثانية وفاتحة المتعة – من أن السرد ولد مقموعا منذ البداية، أي استغل السارد إمكانياته السردية لمواجهة السلطة المطلقة في جبروتها الاجتماعي والسياسي والديني ثم يضيف في موضع آخر، إن بعض نصوص المقامات للهمداني والحريري وألف ليلة وليلة والسيًر الشعبية وما روى في كتاب الأغاني للأصفهاني من قصص متنوعة ومتعددة الأغراض تعطي جميعها مثالا على طبيعة النثر وانحساره في زاوية التعويض عن الانكسار. هذا الانكسار في اعتقادنا لم يكن قامعا أبديا لرسالة النثر التي تمثلت في نصوص كثيرة منها حي بن يقظان لأبن طفيل ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري وغيرها من الأعمال الخالدة التي بقي صداها ملهما لنصوص لم تلد بعد.

وهنا يجدر بنا أن نسأل، هل أن الحتمية التاريخية التي فرضت هيمنة الشعر، هي ذاتها تحرض الآن على كتابة السرد؟ أم أن توسيع النظرة في الطور المعرفي جسد رؤى أدبية وإبداعية وثقافية أدت بالتالي إلى فرز نوع من تحول الأدوار؟ القديم الجديد، التراث المعاصرة، الماضي الحاضر. أو ما تسمى عند جابر عصفور، أهمية تبادل الأثر والتأثير، أو السبب والنتيجة بين اللافت والحافز، تلك المفردتان اللتان انحاز أليهما الفن الروائي في استهلال زمنه النوعي في بداية عصر النهضة العربية بكل عيوبه وحسناته التي ازدحمت فيها المطابع على تدوين كتابات أديب إسحاق وبطرس البستاني وأحمد فارس الشدياق وفتح مدارس مثل مدرسة الألسن التي أسسها رفاعة رافع الطهطاوي بعد عودته من فرنسا ومدرسة الإنجيلية اليسوعية وغيرها من المدارس التي أصبحت نافذة واسعة على الثقافة بكل معارفها وعلومها. وعلى هذا الأساس تقلص دور القصيدة وتهدد عقد الخليل، إذ لم تعد الأوزان والقوافي هي المنظور الجمالي لوحدة استجابة القصيدة أمام مواجهة الأنزياحات المستمرة والقائمة على إشكاليات الواقع وزمنه التاريخي. وبذلك استهدفت مناطق القصيدة الحبلى بصور البادية والبلاط والقبيلة على حد قول أودنيس ليتشظى زمن القوافي باستجواب الهوامش.

الخلاصة:

إن ما أرادت أن تقوله هذه الورقة أن النثر على مختلف أجناسه والذي تعرض إلى إهمال تاريخي تميز بروح التجديد والاكتساب والخبرة ولم يبق جامدا محنطا يعيد تجربته باستمرار ويمارس فاعليته باختراقه المتكرر لأسئلة يصب الإمساك بها مما اكسبه شرعية ما يؤهله لتبوء قيمة عالية كانت غائبة.

 

مصادر البحث:
1) الجاحظ موقفه من النثر كما جاء في اعداد الدكتورة سوسن رجب حسن لبحث مطول اسمته النثر العربي وفيه تطرقت إلى ثلاث مواضيع الأول في مفهوم النقد العربي عند العرب القدامى والثاني يتحدث عن الجاحظ وموقفه من النثر والثالث أبو حيان وموقفه من النثر هذا الموضوع منشور على موقع النثر العربي.

2) الأصل الملحمي وموضوع النضم بحث مقدم إلى المربد سنة 2002 بغداد مصفى الكيلاني، تحدث فيه عن مثلث حازم القرطاجني الفعل والفاعل والمفعول به، المنعطف على الحركات المتمثلة بما أسماها بالقوى الحافظة والمائزة والصانعة.

3) جدل العلاقة بين الشعر والسرد، د. حسن النعمي ، موقع منتدى القصة العربية.

4) الموقع السابق، د. سوسن رجب حسن.

5) ورد هذا القول في كتاب – الكتابة الثانية وفاتحة المتعة، منذر عياشي، طبعة بيروت 94 19 وفيه نقل عن كتاب الإمتاع والمؤانسة ج 3 ص136 لأبو حيان التوحيدي، ماجاء فيه أن الجاحظ قد أنصف النثر في كتابه _ الحيوان _ ج1 ص75.

6) السويسري دي سوسير صاحب الثنائية المعروفة ( لغة، كلام ) والذي يعد الأب الروحي للمدرسة البنيوية في اللسانيات وخصوصا تركيزه على الإشارة الصوتية بعد أن عد العدة لعلم الإشارة، من أقواله، اللغة لا تعرف زمنا سوى زمنها الخاص والزمن لو ترك لغير اللغة لأ نقضى، واللغة دائما تقول رؤها للأشياء، إذ انها تكتنز من فعالية الكتابة وفعالية القراءة.

7) نعتقد أن دي سوسير قرأ تعين زمن الخطاب من موقف المعتزلة في قضية – خلق القران – أزلي أم محدث، المبني على صفة الأفعال المنتمية إلى صفة الكلام وهذه تستلزم وجود المخاطب ولو كان متكلم منذ الأزل معنى ذلك إنه كان يتكلم دون مخاطب وإن القرآن مخلوق بوجود مخاطب. والذي يعزز اعتقادنا هذا هو يعتبر اللغة ظاهرة اجتماعية، والنزول بلغة قريش بما تمثله آنذاك من قوة ثقافية وسياسية واقتصادية لدى العرب جميعا.

8) جوستاف لوبون 1841 – 1931 طبيب ومؤرخ فرنسي عني بالحضارة الشرقية، من أشهر آثاره حضارة العرب والهند وباريس تحدث في كتابه هذا عن قيمة المقامة وأثرها في نمو الوعي الشعبي.