تحاول هذه الدراسة مساءلة المدى التعريفي الذي خصصه إدوار الخراط "للقصة القصيدة" في علاقتها بثلاثة أجناس رائجة في النقد الشعري العربي المعاصر هي قصيدة النثر على الخصوص والشعر الحر وقصيدة التفعيلة، مع تدقيق بعض الهفوات الاصطلاحية التاريخية التي صاحبت عملية تلقي وإنتاج هذه الأجناس الشعرية الثلاثة. ومعلوم أن إدوار الخراط ولَّدَ سلسة من المصطلحات النقدية والتحديدات الأجناسية المنضوية داخل جنسين شاملين كان يروج لهما هما: "الحساسية الجديدة" و"الكتابة عبرالنوعية"، وما يهمنا في هذه الدراسة هو "جنس" "القصة القصيدة" أحد تفريعاته الأجناسية "للكتابة عبر النوعية"، فكيف حدد هذا "الجنس" الهجين؟ وما مدى توفقه في ذلك؟
لـقد عرف الخراط "القصة القصيدة" بأربعة محددات أجناسية، هي (1) "الوجازة"، و(2) "الكثافة والتركيز"، و(3) "إيقاعية اللغة"، و(4) "هيمنة السرد": «ما أسميه "القصة القصيدة" في النهاية ... له قسماته التي حاولت أن أشير إليها بقدر ما يسعني من الدقة، أولا: الوجازة، إن شق القصيدة في "القصة القصيدة" يتطلب قدرا من الإيجاز أو ضيق المساحة الزمنية (حتى لو كان في تراثنا وتراث غيرنا كم من القصائد المطولات، فكم فيها من جوهر الشعر في ركام القوالب وحشد الزوائد؟) وثانيها: الكثافة والتركيز وهي قرين الوجازة والزهد في الحشو والإسهاب، وثالثها: إيقاعية التشكيل وموسيقية الجملة والتركيب على السواء، أما أهمها وأفعلها ولعلها المعيار فهي، في النهاية، سيادة السردية – بأي من مناحيها وأشكالها ومشاربها الخفية والمعلنة.»(1)
ومن الملاحظ أن ثلاثة من هذه المحددات الأربعة تخص الأداء اللغوي الشعري، أما رابعها فيخص الجانب السردي، ومحدد السرد هذا الذي اعتبره الخراط المعيار الأساس في تشكل الكيان الأجناسي المركب "للقصة القصيدة" في ما يخص شقه الأول القصصي، لا يميز، كما هو معلوم، القصة القصيرة وحدها، بل يغطي كل الأجناس التي تندرج تحت مسمى جنس سردي شامل هو المحكي، سواء في شقه التخييلي: الرواية والقصة القصيرة والملحمة وغيرها، أو في شقه الوقائعي: السيرة الذاتية واليوميات والمذكرات والتاريخ والحوليات والرحلات وغيرها؛ أي أن السرد مظهر خطابي عبر أجناسي يميز صيغة تلفظ كل أشكال وأجناس المحكي. يكفي لغاية الآن لفت الانتباه إلى هذا الأمر الذي سنعود إليه فيما بعد. وقد ألحق الخراط بهذه المحددات الشكلية الأربعة محددا خامسا تداوليا له علاقة بالمقصدية الفنية، أو بتعبير فلسفة اللغة بالوضع التحقيقي الكتابي لهذا الجنس المختلط: «ولعل من المهم هنا أن "القصدية" أي ما يقصد إليه الكاتب قصدا لها اعتبارها، على خلاف ما يقال عادة. ولذلك فإنه مما يعول عليه – عندي – طريقة "كتابة" أو "طبع" العمل الفني، أي طريقة تقديمه، جسمانيا، للقارئ. هل هو جريان في فقرات تطول أو تقصر – كما جرى العرف في تقديم القصة للقارئ، في طريقة صفها طباعيا، وقبل ذلك طريقة خطها كتابيا، أم هو يقدم للقارئ على طريقة "الشعر" سطورا تطول أو تقصر، فيها، إذن بالضرورة اقتراح، بل أحيانا إملاء وفرض للوقفات والفواصل، أي فيها "توزيعا موسيقيا".»(2)
يمكننا بكل سهولة تصور إلى ما يريد أن يوصلنا إليه هذا التساؤل التأكيدي للخراط: إلى أن "القصة القصيدة " تنبني على طريقة تقديم القصة أو الرواية؛ أي على طريقة الكتابة النثرية المسترسلة، وكأن هذه الطريقة خاصة بهذين الجنسين دون غيرهما من أجناس الخطابات النثرية الأخرى، غير الشعر المتميز، طبعا، بطريقة كتابته المختلفة القائمة على التقطيع النظمي وفق أبيات أو أسطر شعرية.(3) وهذا ما يكشف عنه صراحة عندما يقول: «في "القصة-القصيدة" إيثار واضح ومعلن عنه لطريقة التقديم "القصصية" أو "الروائية" لن تجد فيها – بقدر ما أعلم – جملة مقسومة على سطرين أو أكثر، ولن تجد فيها من باب أولى تلك الأبيات التي يتكون كل بيت فيها – بلا استثناء – من جملة واحدة كاملة أو حتى من أكثر من جملة ولكن "البيت" المستقل هو المقر الأساسي للعبارة».(4)
وبغض النظر عن تحفظنا أعلاه، نلاحظ أن إدوار الخراط قد حصر خمسة محددات خطابية لهذا الجنس الهجين المبني على تضافر جنسي القصة والشعر: ثلاثة منها مستقاة من جنس الشعر وهي الوجازة والتكثيف والإيقاع؛ واثنان منها مستقيان من جنس القصة القصيرة وهما هيمنة السردية والتقديم الطباعي. وسنحاول، فيما يلي، استقصاء الأساس الشعري لهذه المحددات، ومناقشة مدى كفايتها في تحديد الحقل التعريفي لكيانه الأجناسي هذا، لنخلص في النهاية، إما إلى قبوله وإقراره، أو رفضه نهائيا بناء على قناعتنا النظرية والمنهجية. إن أول ما يشترطه الخراط في تحديده "للقصة القصيدة" هو الوجازة. ومعلوم أن الوجازة اعتبرت شرطا أساسيا في الشعر الحديث عند المدرسة الرمزية، خصوصا مع إدجار ألان بو (E.A.Poe) الذي اعتمد على هذا المقوم في تحديد مفهومه للشعر؛ حيث أنه في دفاعه عن فكرة "الشعر الخالص" كان يرى أنه «لا توجد قصيدة طويلة»(5) في محاولة منه لإقصاء القصيدة الملحمية أو التعليمية من مجال الشعر ونفي الشعرية عنهما. وقد أخذ شارل بودلير (Ch.Baudelaire) هذه الفكرة عن ألان بو ليستخدمها في تحديداته لقصيدة النثر التي كان يبشر بجماليتها آنذاك؛ حيث أنه كان يرى بأن الشعرية مقولة موضوعاتية صرفة، لذا يجب أن يضاف إليها شرط الوجازة لتحديد كيانها الشكلي، ومن ثم كان يرى أن على النص الذي يمثل قصيدة النثر «سواء كان سرديا أو وصفيا، مجردا أو محسوسا، لكي يكون شعريا أن يظل قصيرا».(6)
لقد قمنا بهذه الالتفاتة التاريخية لنبين أن الوجازة اعتبرت منذ القرن التاسع عشر شرطا ضروريا في جنسين شعريين معروفين؛ الأول خالص وهو القصيدة الحديثة والثاني مختلط هو قصيدة النثر. ومن ثمة فإن هذا المحدد لا يعتبر شرطا كافيا – وإن كان ضروريا - لتحديد "القصة القصيدة" بما أنه يسم هذين الجنسين القائمين قبله. وبما أن القصيدة الحديثة تتميز بما فيه الكفاية عن التصور الأجناسي للخراط "للقصة القصيدة"، فإن قصيدة النثر تبقى المحك الفعلي الذي بإمكانه إثبات مقترحه الأجناسي هذا أو إبطاله: إثباته إذا ما كانت بعض المحددات التي خصها "للقصة القصيدة" لا تشترط في قصيدة النثر، إبطاله إذا ما كانت جميعها تشترط في هذه الأخيرة. ومن أجل التوضيح أكثر فلكي يتم الإقرار "بالمشروعية" الأجناسية "للقصة القصيدة" يجب أن تختص على الأقل بواحد من المحددات الخمسة التي اشترطها الخراط فيها دون أن تنازعها في ذلك قصيدة النثر، وإلا اعتبرت مجرد تنويع اصطلاحي لهذه الأخيرة. وكما نعلم فإن ذلك ينتفي، كما أسلفنا، في أول محدد من محددات الخراط الخمسة "للقصة القصيدة" وهو الوجازة، فهل يا ترى يتوفر في المحددات الأربعة الباقية؟ ذلك ما سنتقصاه على التوالي في السطور الموالية.
إن ما قلناه عن الوجازة ينسحب كذلك على محددي الكثافة والإيقاع، فهما يعدان سمة جوهرية في كل شعر، سواء كان موزونا مقفى، أو شعرا حرا، أو كان قصيدة نثر، مع التأكيد على أن إيقاع هذه الأخيرة دلالي وليس صوتيا. ولعل ذلك هو ما حدا بجان كوهن (Jean Cohen) أن يطلق على قصيدة النثر اسم القصيدة الدلالية.(7) ومعلوم أن هذه الأخيرة كانت تمثل الحلم الأزلي لكثير من الشعراء المعاصرين مثلما أوحى بذلك بودلير في قولته الشهيرة: «من منا لم يحلم في أيام طموحه بمعجزة نثر شعري، موسيقي بدون إيقاع وبدون قافية، وفيه من النعومة والشدة ما يجعله يتلاءم مع الحركات الغنائية وتموجات الأحلام وقفزات الوعي».(8)
وتتجلى الوظيفة الجمالية العميقة للتكثيف والإيقاع اللغويين في لفت الانتباه إلى شكل الرسالة اللغوية في حد ذاته، عن طريق جمالية التكرار والتوازي المؤديين إلى إبراز الوظيفة الشعرية للخطاب بشكل مهيمن وجعل لغته مكثفة ولازمة، بحيث تكتفي بذاتها ولا تحيل على أي شيء خارجها؛ أي جعلها شعرية ولو بدون التزام بمقتضيات وزنية خارجية. ويبدو أن الخراط باشتراطه لهذين المحددين في "القصة القصيدة"، إنما كان يبحث عن تمييز خطابها اللغوي بطاقة شعرية عميقة، بل وخفية، وهذا ما يتأكد لنا من قوله: «أما روح الشعر الذي يخامر السرد في القصة القصيدة بل يسري فيها كامنا وخفيا ولكنه جوهري، فهو من الأسرار التي لا تفض، ولا يمكن تعريفها أو تحديدها على نحو قاطع مانع جامع، ومهما اتخذ هذا الروح من أشكال وأجسام عند فنانين – وفنانات - على اختلاف مشاربهم ومواهبهم في الفن (...) فإن هذا الروح الشعري يبقى هو المميز لعملهم عن القصة وحدها، كما أن الإيقاعية - برانية أو جوانية - هي التي تميز القصيدة البحتة».(9)
نرى، إذن، أن ما يميز "القصة القصيدة" عند الخراط هو روح شعرية خفية وغير قابلة للتعريف، تتسم عموما بإيقاع أعمق لا تهيمن عليه القيم الصوتية فحسب، كما في القصيدة الخاضعة لمتطلبات الوزن والتقطيع الإيقاعي، وإنما تهيمن عليه القيم الدلالية - الصوتية أو بعبارة الناقد "إيقاعية التشكيل وموسيقية الجمل والتركيب". يبدو أن الخراط يقصد هنا الإيقاع الدلالي غير الصوتي الشبيه بما كان يبحث عنه بودلير في قصيدة النثر؛ أي الإيقاع الداخلي القائم على التكرار والتوازي الدلالي والتركيبي، الذي يشكل، إلى جانب كثافة الصور المجازية والموضوع الرمزي وتوظيف الأسطورة وغيرها، كنه قصيدة النثر. وبهذا نرى أن هذه الروح الشعرية، وإن كانت تفصل بجلاء، "القصة القصيدة" عن جنس القصة القصيرة، فهي لا تفصلها، بكل تأكيد، عن جنس قصيدة النثر.
وخلاصة القول إن هذه التحديدات "الشعرية" الثلاثة الأولى: الوجازة والتكثيف والإيقاع، لا تمثل محددات حاسمة كافية لتمييز "القصة القصيدة" عن قصيدة النثر. وهذه الحقيقة تبدو بديهية بما أن هذه المحددات الثلاثة خاصة بالجانب الشعري، وليس القصصي في التركيبة الأجناسية المزدوجة "للقصة - القصيدة"؛ ومن ثمة فالمعول عليه لتمييز هذه الأخيرة عن قصيدة النثر هو المحددان الباقيان المرتبطان أكثر بالجانب القصصي، أي السردية وطريقة التقديم الطباعي النثري، علما أن الخراط قد انتبه لذلك وجعل هذين المحددين "القصصيين" مرتكز الحسم في تحديد الكيان الأجناسي المركب "للقصة القصيدة". وما علينا الآن إلا تفحص هذين المحددين "القصصيين" عسى أن يقدما لنا المحدد "القفل" الكفيل بتمييز "القصة القصيدة" عن قصيدة النثر.
لقد جعل الخراط من مقوم السردية المعيار الحسم في تحديد "القصة القصيدة"، كما يتجلى بوضوح في نهاية الاستشهاد الذي قدمناه آنفا : «أما أهمها وأفعلها ولعلها المعيار فهي، في النهاية سيادة السردية – بأي من مناحيها وأشكالها ومساربها الخفية والمعلنة»،(10) علما أن السرد، كما أشرنا آنفا، هو محدد شامل يسم الصيغة الخطابية لمجموعة كبيرة من الأجناس الأدبية الأخرى غير القصة القصيرة، من مثل الرواية والسيرة الذاتية واليوميات والحوليات وغيرها. ومن هنا نرى أنه كان عليه، لتمييز المقوم القصصي في "القصة القصيدة"، أن يضيف محدد جوهري في جنس القصة القصيرة وهو التخييل، إلى جانب السرد والقصر طبعا، بيد أنه اكتفى بالمحددين الأخيرين وأغفل المحدد الأول الذي بدونه لن تستقيم التركيبة الثلاثية المميزة للوضعية الأدبية لجنس القصة القصيرة باعتبارها تخييلا سرديا قصيرا.
وهكذا يتبين لنا أن السرد، الذي يراهن عليه الخراط لتمييز "القصة القصيدة"، إنما هو صيغة خطابية عبر أجناسية تسم مجموعة متنوعة من النصوص السردية التخييلية كما الوقائعية (القصة القصيرة والرواية والسيرة الذاتية واليوميات والرحلات والحوليات الخ). وبالتالي فالمحدد الدقيق الذي كان عليه أن يقيد به الوضع الأجناسي "للقصة القصيدة" في بعدها القصصي هو محدد مزدوج وليس منفرد، ويتجلى في ثنائية التخييل والسرد، أو التخييل السردي بعبارة جامعة، حتى نخرج من مجال تعريفها التخييل الدرامي، إضافة إلى مقوم القصر حتى نزيح الرواية. والحق يقال: إن تحديد أو إعادة تحديد كيان أجناسي ما ليس بالأمر اليسير، فهو يمر عبر حقول تعريفية جد ملغومة تقتضي كثيرا من التدقيق والحذر والتمحيص. ومع ذلك يمكن غض الطرف عن حصر الصيغة السردية على القصة (والرواية) بهذا الشكل الفضفاض، بما أن ما يهمنا في نقاشنا هنا ليس هو كفاية السرد لتمييز «القصة القصيدة»، وإنما تمييز هذه الأخيرة عن قصيدة النثر.
يمكننا إذن إهمال هذا الخلل المبدئي في تحديد "القصة القصيدة"، والتساؤل فقط هل بإمكان السرد أن يسعفنا في تمييزها عن قصيدة النثر؟ إن هذا ما يعتقده الخراط بالفعل، إذ يعتبر أن السرد كفيل بتمييز "القصة القصيدة" عن قصيدة النثر والفصل بينهما بشكل قاطع ونهائي، فهو يرى أن الثانية مثل القصيدة العادية ذات بنية موسيقية محضة، بينما الأولى ذات بنية سردية صرفة: «إن الإيقاع والبنية الموسيقية إذا كانت تحتل المكانة الأولى في العمل فلعلها تميل به إلى جانب القصيدة البحت. في القصيدة البحت – ولو كانت قصيدة نثر وخاصة عندما تكون قصيدة نثر – تكون البنية موسيقية وليست سردية. أما "القصة– القصيدة" فإن بنيتها الأساسية في سرديتها لا في موسيقيتها، هذا ما أعنيه "بالمصطلح القصصي" الذي يفرق بين النوعين».(11) ولكن، وكما نعلم مسبقا، فإن شعرية قصيدة النثر ليست موسيقية وإنما دلالية، كما أن تعريفها العلمي الدقيق لا يمنع من أن تكون سردية، بل بالعكس من ذلك يتم التأكيد فيه بأن أغلب نصوصها ترد في صيغة سردية، كما هو الحال في التعريف المقدم لها في القاموس النقدي والأدبي لكل من جويل جارد تامين (J.G-Tamine) وماري كلود هاربت (M.C.Hubert): «تظهر قصيدة النثر، سواء كانت سردية – وهو الغالب – أو غنائية، في شكل ملتحم... أو في شكل فقرات مستقلة»،(12) وكما هو الحال مع بودلير الذي يعد من أهم المقحمين لها في الأفق الجمالي للأدب الحديث، والذي، مثلما رأينا سابقا، جعل السرد والوصف من مقوماتها الأساسية شريطة توفر عنصر الوجازة.
لقد تعاملنا لحد الآن مع "القصة القصيدة" ومعها قصيدة النثر كبناءين أجناسيين مجردين، أما الآن فسنعمل على تقصي بعض تحققاتهما النصية من خلال الوقوف عند نماذج تمثيلية لكل واحد منهما، وبعد ذلك يمكننا أن نقرر بشكل ملموس: هل "القصة القصيدة" تتميز وحدها بتوظيف السرد؟، أم تشترك في ذلك مع قصيدة النثر؟ علما أنه إذا ما تبثت هذه الفرضية الأخيرة فإن المشروع الأجناسي "للقصة القصيدة" عند الخراط سيصاب في مقتل وسيكون عرضة للتقويض. نبدأ إذن مع نص "لك ياحبيبتي قصة" لبدر الديب الذي أورده الخراط في كتابه "الكتابة عبر النوعية" كأحد مختاراته التمثيلية "للقصة قصيدة":
«لك يا حبيبتي قصة
لا أول لها ولا آخر
ولي في يدي ناي
عليه كل النغمات
دخلت ذات صباح
فتفتحت لي الأبواب،
وأنزلت لي كل الجسور،
دخلت بخيولي المجتمعة
نحو باب القصر
تحت الشرفة
ووقفت وحدي أغني
على نايي الوحيد
وأنصتت أذناك واطلعت
على مكنون القلب الاسم المغلق
وخرجت لي في الشرفة
ووقفت تنظرين
ماذا يفعل فارسك بعد الدخول
وقفت أنا أراقب
أن تنتهي الدنيا وأن يفرغ الوجود
لأنك قد منحت النور لكل الوجود
ولأنك قد أحلت العدم
إلى نغمة مستديمة لا تريم.»(13)
بداية نلاحظ أن هذه القصيدة قد أوردها الخراط ضمن مختاراته "للقصة القصيدة" رغم أنها تتخذ "طريقة كتابة الشعر"؛ مما يتناقض مع الشرط الخامس الذي قيدها به أي الكتابة النثرية المسترسلة. بيد أن هذه القضية التي تخص المحدد الخامس لا تهمنا الآن وسنعود إليها لاحقا. فما يهمنا في هذه المرحلة من التحليل هو محدد السرد ومدى كفايته الأجناسية لتحديد "القصة القصيدة" بشكل واف. وللإجابة عن ذلك سنقارن هذا النص بأحد النماذج العربية المكتملة لقصيدة النثر وهي بعنوان "سعادة عوليس" للشاعر العراقي سامي مهدي، حيث سنعمل على تفحص صيغتها التلفظية لنرى هل هي سردية أم غنائية؟ فلنقدم القصيدة أولا قبل أن نصدر حكمنا عليها:
«يصحو صباحا مثقلا بدخان أمس مر، يسعل سعلتين، وينفض التعب القديم ويدعك العينين، يمسح ما تجمع من كلال فيهما، ويرى إلى الأشجار والضوء المذهب في ذراها: خضرة براقة تزهو، وأوراد ملونة، وسيدة تعد الشاي خفقة ثوبها الهفهاف تفصح عن حدائقها، وضحكتها تشي ببهيج ليلتها التي (جرس إلهي إذا ضحكت) وتجمع حولها الأبناء، تحرص أن يتم فطوره "هذا الصغير" .. وأن تشد شريطها "تلك اللعينة". والصغير يريد .. يحرن .. وهو يأكل بيضة أخرى، ويشرب شايه الثاني، ويسرح في فطور "بلوم" .. ينهض .. "أين؟ ساعدني قليلا" .. وهو يضحك … من خنوع "بلوم" ... تضحك؟… من شقاء "بلوم". يضحك، ثم يتركنا ليحلق ذقنه، الأبناء يتسربون، وهي تتم زينتها وتلبس أجمل الأثواب (لايخفي نضارتها ولا أمواج فتنتها) فيوشك أن يهم بها، وتفلت منه ضاحكة وتمضي، وهو خلفها، طيرين منغمرين في يوم ربيعي، وشمس تغسل الطرقات، رائحة القرنفل».(14)
يبدو جليا من خلال هذا النص أن قصيدة النثر يمكن أن تنطوي على بنية سردية متكاملة وأنها لا تكون دائما غنائية، حيث أن نص سامي مهدي الذي مثلنا لها به هنا يتميز ببنية سردية أعمق من نص "لك يا حبيبتي" لبدر الديب الذي قدمه الخراط كنموذج تمثيلي "للقصة القصيدة"؛ فنص سامي مهدي يتكون من حركة سردية مسترسلة بضمير الغائب، تواكب حقل إدراك شخصيته المحورية (تبئير داخلي ثابت)، تتخللها مونولوجات وحوارات متنوعة موزعة على عدة مناطق من جسده، إنه يمثل بنية سردية متكاملة أعمق من مثيلتها في نص بدر الديب، الذي يتشكل أساسا من ومضات سردية ذات طفرة شعورية متنامية، محملة بمجموعة من الصور المجازية التي تعبر عن مدى إحساس الذات الشعرية بالحب في إطار لغة مكثفة دلاليا وإيحائيا؛ أي أن بنيته غنائية أكثر منها سردية. بيد أن ما يهمنا أساسا في هذا الصدد هو أن قصيدة النثر بإمكانها أن تتشكل في تحققات نصية ذات بنية سردية عميقة، ومن ثمة فحتى هذا المكون الخطابي المحوري في تحديد الخراط "للقصة القصيدة" هو الآخر لا يمثل شرطا كافيا لتمييزها عن قصيدة النثر. وهكذا لم يبق لنا في هذه الحالة إلا المحدد الخامس: "طريقة التوزيع الطباعي القصصي"ّ! (مع مزدوجتين للاعتراض وعلامة تعجب للتعبير عن عدم المواءمة النظرية)، لتمييز "القصة القصيدة" عن قصيدة النثر.
يذهب إدوار الخراط إلى أن "القصة القصيدة" تتميز، من حيث طريقة كتابتها، باختلافها التام عن قصيدة النثر- والقصائد الشعرية عامة: «ولعل من المهم هنا أن "القصدية"، أي ما يقصد إليه الكاتب قصدا، لها اعتبارها على خلاف ما يقال عادة. ولذلك فإن مما يعول عليه - عندي - طريقة كتابة أو "طبع" العمل الفني، أي طريقة تقديمه، جسمانيا مجسما للقارئ. هل هو جريان في فقرات تطول أو تقصر، كما جرى العرف في تقديم القصة للقارئ، في طريقة صفها طباعيا، وقبل ذلك طريقة خطها كتابيا ؟ أم هو يقدم للقارئ على طريقة "الشعر": سطورا تطول أو تقصر، فيها إذن بالضرورة اقتراح، بل أحيانا إملاء وفرض، للوقفات والفواصل، أي أن فيها "توزيعا" موسيقيا(...).في "القصة–القصيدة" إيثار واضح ومعلن عنه لطريقة التقديم "القصصية" أو "الروائية" (...) وحتى في "قصيدة النثر" فإن لها تشكيلا "جسميا" (إن صح التعبير) خاصا، تفرضه "قصدية" موسيقية مركبة. أما التشكيل الجسمي (الكونكريتي) في "القصة–القصيدة" فهو أساسا تشكيل "القصة" لا تشكيل "القصيدة"».(15)
نلاحظ إذن أن الخراط يعتقد أن "القصة القصيدة" تتحدد بشكل كبير "بطريقة التقديم القصصية أو الروائية"!؛ أي أنها تتميز - والعهدة عليه - بهيئة كتابية نثرية مخالفة لما هو عليه الحال في قصيدة النثر، التي يرى جازما بأنها متماثلة مع القصيدة الحديثة في نظام التقطيع السطري. بيد أن هذه الأخيرة، وعلى عكس ما ذهب إليه ويذهب إليه عدد كبير من النقاد العرب، لا تعد في الحقيقة قصيدة نثرية إلا لكونها تنتظم وفق طريقة كتابة النثر وليس وفق طريقة كتابة الشعر.
كما يمكنا أن نعاين في هذا الصدد قصورا تحديديا مبدئيا؛ فطريقة التقديم الكتابية وفق "فقرات تطول أو تقصر" ليست حكرا على القصة والرواية، إنما هي سمة شاملة تسم نظام كتابة كل الخطابات الإنسانية الموصوفة بالنثرية: أدبية وغير أدبية، في مقابل الشعر المتميز طبعا بطريقة كتابته المختلفة، سواء في أشكاله الكلاسيكية المقيدة، بتفاوت، بالوزن والقافية - إضافة إلى الروي في الشعر العربي العمودي - أو في أشكاله الحديثة الحرة التي تتشكل وفق نظام الأسطر الشعرية مع التحرر التام من مقتضيات الوزن والقافية، كما هو الحال في الشعر الحر بمعناه العلمي الدقيق.(16) هذا الأخير الذي يتم خلطه لدى بعض الأوساط النقدية العربية بقصيدة النثر(سنعود فيما بعد لمناقشة هذه القضية الشائكة). المهم الآن هو التأكيد على أن هناك نظامين عالميين للكتابة: كتابة النثر وفق فقرات تتكون من جمل متسلسلة خطيا عبر تمفصلات نحوية ومنطقية تنتهي دوما بوقفة صوتية ودلالية، كما هو الحال في الرواية والقصة وقصيدة النثر – أؤكد وقصيدة النثر - وكل أشكال الكتابة النثرية سواء كانت أدبية أو وقائعية أو علمية أو غيرها؛ وكتابة الشعر المنتظم وفق أسطر أو جمل شعرية، تطول أو تقصر، تنكفئ على نفسها باستمرار وفق تمفصلات إيقاعية تحترم الوقفات الصوتية وتخترق الوقفات الدلالية،(17) إما إجباريا: الشعر الموزون والقصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة، أو اختياريا على حسب الدفقات الشعورية: الشعر الحر. ومن ثمة فقصيدة النثر التي تستمد اسمها من إسنادها إلى النثر، لا تتميز أجناسيا إلا لكون شكل كتابتها مستعار من التوزيع الكتابي المسترسل للنثر، ولكون شعريتها من نمط دلالي وليس من نمط صوتي.(18)
إن الخلط بين قصيدة النثر والشعر الحر لدى بعض الأوساط النقدية العربية، ربما هو الذي أفضى بإدوار الخراط إلى اعتبار قصيدة النثر تتشكل وفق سطور «لها تشكيل جسمي خاص، تفرضه مقصدية موسيقية مركبة». وهو ما جعله يحكم على قصيدة بدر الديب، التي اتخذ وضعها التحقيقي في الأصل شكل قصيدة نثر، ثم تم العدول عنه لفائدة الوضع التحقيقي للشعر الحر، بكونها كانت في الحالة الأولى "قصة قصيدة"، ثم أصبحت في الحالة الثانية قصيدة نثر. والحقيقة أن قصيدة بدر الديب هذه تتذبذب بين اصطناع الكتابة الشعرية الموظفة «لهوامش بيضاء كبرى، ولهوامش صمت كبرى»،(19) حسب تعبير بليغ لبول إلوارد (P. Éluard) عن الشعر الحر، وبين اصطناع الكتابة النثرية الخطية المنتظمة وفق فقرات تحترم الوقفات الصوتية والدلالية المميزة لقصيدة النثر.(20) يقول إدوار الخراط معبرا عن هذا الخلط بين قصيدة النثر والشعر الحر: «ومن النوادر أن بدر الديب كتب إحدى "قصصه" ونشرها على منحى كتابة "القصة"، أي في فقرات متصلة ومتتابعة مختلفة الطول. ولكنه عاد فآثر نشرها كما كان قد كتبها بوحي سابق على شكل سطور أو أبيات لها موسيقيتها المفروضة على القارئ. فكأنه، إذن، قد آثر شكل "قصيدة النثر" لا شكل "القصة-القصيدة"، وإن كان يؤثر دائما أن يسمي أعماله "مقطوعات"».(21)
إن ما يعتبره الخراط هنا طريقة كتابة "القصة القصيدة"، ما هو في الحقيقة إلا طريقة كتابة قصيدة النثر، وما يسميه طريقة كتابة "قصيدة النثر"، ليس في الحقيقة إلا طريقة كتابة الشعر الحر بمعناه العلمي الدقيق الذي يتسم بعدم التقيد بالوزن مع المحافظة على التقطيع الشعري. ولقد عمل كثير من كتاب الشعر الحر العرب، الذين كانوا يصنفون عن خطأ تحت خانة شعراء قصيدة النثر، على تصحيح هذا الخطأ النقدي التاريخي في أكثر من مناسبة. من مثل سركون بولص الذي كان يعتبر، حسب هذه الهفوة الاصطلاحية التاريخية، من أكبر كتاب قصيدة النثر منذ ستينيات القرن الماضي، بينما هو في الحقيقة يكتب الشعر الحر المختلف عن قصيدة التفعيلة وعن قصيدة النثر معا. وقد أكد ذلك في أكثر من مناسبة: «نحن حين نقول قصيدة النثر، فهذا تعبير خاطئ، لأن قصيدة النثر في الشعر الأوروبي هي شيء آخر. وفي الشعر العربي عندما نقول قصيدة النثر نتحدث عن قصيدة مقطعة، وهي مجرد تسمية خاطئة. وأنا أسمي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحر. كما يكتبه إيليوت وأودن وكما يكتبه شعراء كثيرون في العالم الآن، وإن كنت تسميها قصيدة النثر فأنت تبدي جهلك، لأن قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه وتعـــرف ب(Prose Poem)، أي قصيدة غير مقطعة».(22) ومن مثل جبرا إبراهيم جبرا الذي جمع بين كتابة الشعر والرواية، وعادة ما كانت توصف أشعاره بكونها قصائد نثرية، رغم إلحاحه الحثيث على تصحيح هذه الزلة النقدية المتكررة، التي أصبحت من فرض تكرارها عادة متأصلة، قد أدى منبعها النقدي الخاطئ إلى جرف البناء الأجناسي لإدوار الخراط برمته.
يقول جبرا: «الشعر الحر، ترجمة حرفية لمصطلح غربي (Free verses) بالإنجلــيزية أو (vers libre) بالفرنسية. وقد أطلقوه على شعر خال من الوزن والقافية كليهما، فكُتاب الشعر الحر بين شعراء العرب، هم أمثال محمد الماغوط وتوفيق صايغ وكاتب هذه الكلمات، في حين أن "قصيدة النثر" هي القصيدة التي يكون قوامها نثرا متواصلا في فقرات كفقرات أي نثر عادي».(23) لقد وضع جبرا هنا شاعرين يعدان، عن خطأ، من أرباب شعراء قصيدة النثر: محمد الماعوظ وتوفيق صايغ، في مكانهما الصحيح من حيث نمط الشعر الذي يكتبان: الشعر الحر. يبدو أن هذا الخطأ التاريخي في التقويم النقدي لقصيدة النثر والشعر الحر، قد ترتب عن خطأ آخر أسبق ساد مع ظهور قصيدة التفعيلة في أربعينيات القرن الماضي،(24) والتي عرفت كذلك "بالشعر الحر" رغم قيامها على نظام إيقاعي قائم الذات، رصدت قواعده بشكل واف نازك الملائكة في كتابها الرائد (قضايا الشعر المعاصر).(25) والحال أن قصيدة التفعيلة تختلف تماما عن الشعر الحر، الذي لا يتقيد بالمرة لا بالوزن ولا بالقافية، وإنما يتوزع في شكل سطور أو جمل شعرية تنتظم وفق تقطيع فضائي معين للكتابة الشعرية، دونما أدنى تقطيع زماني كيفما كان (الوزن). بينما قصيدة التفعيلة، كما نعلم، ذات إيقاع منظم يروم إعادة تشكيل المكونات الوزنية في العروض الخليلي، وذلك بالانتقال «من مستوى الكتابة بالبيت ذي الشطرين المتساويين المنتهي بقافية إلى مستوى الكتابة بالتفعيلة ضمن أسطر متفاوتة الطول مع التحرر النسبي من الالتزام بالقافية بوصفها رويا لا بوصفها نظاما».(26)
كان لابد أن نقوم بهذا الاستطراد التاريخي، لكي نثبت أن المحدد الخامس الذي اشترطه الخراط لتحديد "القصة القصيدة" والذي هو طريقة الكتابة النثرية، لا يمثل شرطا كافيا كفيلا بتمييزها عن قصيدة النثر، بما أنه يعتبر سمة تمييزية جوهرية في هذه الأخيرة. وبهذا نكون قد استعرضنا جميع المحددات التي يتأسس عليها تصور الخراط لما يسميه "القصة القصيدة"، فتبين لنا بالملموس أن ولا واحد منها تنفرد به دون قصيدة النثر. خلاصة المجموع: إن جميع المحددات الخمسة: الوجازة، والتكثيف، والإيقاع الدلالي، والسرد، وطريقة الكتابة النثرية، التي ميز بها الخراط "القصة القصيدة"، هي نفسها التي تميز قصيدة النثر، اللهم المحدد الرابع السردي الذي يعتبر اختياريا في قصيدة النثر، بينما اعتبره الخراط ضروريا في "القصة القصيدة". غير أن هذا لا يثبت في شيء صواب افتراضه الأجناسي، اصطلاحا ونظرية، إنما يثبت أن مكون السرد إذا ما كانت له الهيمنة فإنه يشكل أحد متغيرات قصيدة النثر، التي ترد أغلبية نصوصها بصيغة سردية، ويرد بعضها الآخر بصيغة غنائية، مثلما رأينا في تعريف بودلير وتامين وهربت.
وحتى نزيل أدنى شك لنقارن إحدى قصائد النثر لآرثر رامبو(A. Rimbaud) - الذي يعتبر من أوائل الشعراء، بعد بودلير، الذين أقحموا قصيدة النثر في الأفق الجمالي للأدب الحديث، بما فيه الأدب العربي المعاصر، باعتراف أغلب شعراء قصيدة النثر العرب – مع إحدى "القصص القصائدة" من مختارات الخراط. نقدم أولا قصيدة رامبو الأسبق تاريخيا:
»Un beau matin, chez un peuple fort doux, un homme et une femme superbes criaient sur la place publique : « mes amis, je veux qu’elle soit reine ! Je veux être reine ! Elle riait et tremblait. Il parlait aux amis de révélation, d’épreuve terminée. Ils se panaient l’un contre l’autre.En effet, ils furent rois toute une matinée où les tenures carminées se relevèrent sur les maisons, et toute l’après-midi, où ils s’avancèrent du côté des jardins de palmes.» (27)
نعاين في هذا النص - الذي يعتبر من النماذج الفرنسية المعروفة لقصيدة النثر - حضورا لافتا للسردية إلى جانب حضور صيغي جلي للخطاب المنقول. كما نلاحظ أنه يتشكل من فقرتين تتسلسل جُمَلُهُما خطيا إلى أن تنتهي بوقفة صوتية ودلالية نهائية؛ أي أنه يستجيب تماما للمحددين الرابع والخامس الحاسمين عند الخراط في اعتباره مختاراته "قصص قصائد" وليس قصائد نثر. وللمقارنة علينا الآن أن نتفحص إحدى مختارات الخراط "للقصة القصيدة" - التي هي في الحقيقة قصيدة نثر تتقنع باسم مغاير- وهي من توقيع يحيى الطاهر:
«سمعت صوت الجبل يا سارية الجبل» ورأيت: طائرة العدو تطير، وتكرهني، دمرت بيتي بقنبلة ورمت قلبي بقنبلة ورمت قلب محبوبي بقنبلة – وكنت قد سمعت الصوت. لم يعد قلبي في بدني، فحملني ذلك على قطع الصحراء. لم يلمني أحد، ولم يبصق في وجهي أحد، ولم أسمع أية إهانة، ولم يرد اسمي على فم أي مخبر. بيدي، زرقاء من ورق – لكنها تطير، طائرتي، أنا، الملاح الماهر صانع الصندوق والقارب، الروح الحية الهائمة بغير ظل، عدوي أرميه بقنبلة، والعاشق والعاشقة أرميهما بوردتين.»لا تفلت الخيط» أنت من صلبي، «لا تفلت الخيط.»»(28)
نلاحظ أن هذه القصيدة لا تخرج عن محددات قصيدة النثر التي حصرتها S.Bernard في الوجازة، والوحدة العضوية، واللازمنية، والحضور السردي، ونظام الكتابة النثرية، وكثافة اللغة وانكفاؤها على نفسها لعرض بهائها اللساني وإشراقه.(29) ومن ثمة فهي تمثل بكل بساطة أحد التحققات النصية العربية لقصيدة النثر، لا أكثر ولا أقل.
ومما يجب التنبيه إليه أن ليس كل مختارات الخراط "للقصة القصيدة" عبارة عن قصائد نثر، بل إن البعض منها - وهو قليل - قصص قصيرة مكثفة لغويا، توظف إلى جانب عنصر الوجازة، مميزات المحكي الشعري باصطلاح جان ييفس تاديي (J.-Y.Tadié)، المبني على تضافر مكونات التخييل السردي : وجود محفل سردي وفعل تلفظ تخييلي وتعاقب الأفعال والوقائع وغيرها؛ ومكونات الخطاب الشعري : الكثافة اللفظية والكثافة الدلالية وحضور الأسطورة والتناص وغيرها من نهوج تفضي إلى إبراز الأداء اللغوي في حد ذاته، مما يؤدي إلى تجاذب و«تنازع دائم بين الوظيفة المرجعية بمهامها الاستحضارية والتمثيلية، والوظيفة الشعرية التي تلفت الانتباه إلى شكل الرسالة نفسها».(30)
تجدر الإشارة في الأخير أنه ورغم هذا الخلل المعاين في الكفاية التجنيسية للمحددات الخطابية التي اصطنع الخراط "للقصة القصيدة"، فإن إدراكه الجمالي لبعض التجسدات المختلفة للمحكي العربي الحداثي الذي ينظر له يبشر بشعريته إبداعا وتنظيرا، تتميز بعمق معرفي وحس تنظيري كبيرين، حيث أنه أصاب من حيث المبدأ: فالظاهرة الأدبية التي كان ينظر لها في عموميتها، سواء كانت تمثل قصيدة نثر أو تمثل بعض تمظهرات المحكي الشعري القصير، هي فعلا من مظاهر الكتابة بين الأجناسية الحداثية التي بدأت تتغلغل بقوة في الأفق الجمالي العربي مؤخرا، والتي حاول التبشير بها – روائيا ومنظرا - منذ ستينات القرن الماضي بإلحاح وحماس منقطعي النظير.
ويمكن إجمالا اختزال أهم مطبات الخراط التنظيرية في هذا الصدد في خلطه (المبرر) بين قصيدة النثر والشعر الحر، كنتيجة حتمية للهفوة النقدية التاريخية الغالبة على تقويم قصيدة النثر عربيا، وجعله قصيدة النثر الفعلية مرادفا لما سماه "قصة قصيدة"، وتحميله مقولة السرد أكثر مما تتحمل لتمييز جانب القصة القصيرة في كيانه الأجناسي المركب هذا. فحين كان عليه أن يوجه اهتمامه، بشكل حصري، إلى بعض تمظهرات المحكي الشعري المكثف لغويا وألا يخلطه بقصيدة النثر، حيث كان عليه أن يركز بشكل محدد على وضعه التخييلي، ثم وضعيته التلفظية (المحفل السردي)، ثم أفعاله المسرودة ومدى تراوحها بين التمثيل الذاتي أو ضدية التمثيل (لزوم الخطاب وعدم شفافيته)، ثم محدداته الشعرية الخاصة بأدائه اللغوي في حد ذاته (آثار الأسلوب)، إضافة إلى عنصر الوجازة. ورغم ذلك فمن المؤكد أنه قد تمكن، بشكل أو بآخر، من التنبيه إلى واقعة التداخل الأجناسي والخطابي بين صيغتي التلفظ السردية والشعرية، برؤية تثويرية وحس تجديدي ملحوظين. وهذا ما ينسجم مع طموحه الجمالي والفني الكبير، الذي ضاق عن الأفق المحدود الذي كان عليه الأدب العربي في أواسط القرن الماضي، وأخذ يروم سبر آفاق أدبية واعدة، والتبشير بقيم فنية بديلة، أصاب في تحديد بعض أشكالها بدقة وعمق، ولم يحالفه النجاح في تحديد بعضها الآخر بنفس الدقة والعمق.
هوامش
(1) . الكتابة عبر النوعية: مقالات في ظاهرة "القصة-القصيدة" ونصوص مختارة، القاهرة، 1994، ص. 15
(2) . نفسه ونفس الصفحة.
(3) . من المعلوم أن طريقة توزيع الخطاب في الشعر هي ما تمثل الاستثناء، وليس طريقة توزيعه في القصة أو الرواية اللتين تلتقيان مع جميع الأجناس غير الشعرية، أدبية كانت أو غيرها، في كونها خطابا نثريا عاديا، بيد أن الخراط يغض الطرف عن هذه الحقيقة البديهية، ربما حتى لا يقوض منذ البداية البناء المنطقي لتعريفه "للقصة القصيدة"، لأن في حالة العكس سيظهر أنه يتكلم بكل بساطة عن قصيدة النثر كما أثبتنا في هذه الدراسة.
(4) . المرجع السابق، ص. 15.
(5) . D’après G. Genette, «Introduction à l’architexte» in Théorie des genres (en collaboration), Paris, Ed. du Seuil, coll. «Points», 1986, p.138
(6) . T. Todorov, «La poésie sans le vers» in la notion de littérature et autres essais, Paris, Ed. du Seuil, coll. «Points», 1987, p.76.
(7) . جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ت. ع. لمحمد الولي ومحمد العمري، الدار البيضاء، دار توبقال، 1986، ص. 13
(8) . نقلا عن تدوروف، المرجع السابق، ص. 70
(9) . الكتابة عبر النوعية، مرجع السابق، ص. 18.
(10) . نفسه، ص. 15
(11) . نفسه، ص. 11.
(12) . J. G.-Tamine, M. C. Hubert, Dictionnaire de critique littéraire, Tunis, Ed. Cérès 1998, p.222-223.
(13) . النصوص المختارة التي قدم الخراط "للقصة القصيدة" في كتابه: "الكتابة عبر النوعية: مقالات في ظاهرة "القصة-القصيدة "، ص. 36-37.
(14) . سامي مهدي، ديوان "سعادة عوليس"، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987.
(15) . الكتابة عبر النوعية، ص. 15.
(16) . وبتجاوز مع قصيدة التفعيلة التي تعتبر في الحقيقة صيغة وسطى بين الشعر الحر، بالمعنى الدقيق، وبين القصيدة العمودية، لأنها لا تتحرر تماما من الوزن والقافية، فهي تقوم على تفعيلة الأبحر الصافية وبعض الأبحر المركبة، وتتشكل من أنماط حديثة من انتظام القافية، كالقافية المرسلة والقافية المتتابعة والقافية المركبة. وبالتالي فهي ليست شعرا حرا بالمعنى الدقيق، لأنها تحترم نظاما إيقاعيا بديلا (انظر: أحمد المعداوي، » البنية الإيقاعية الجديدة للشعر العربي«، الوحدة، ع. 82-83، 1991، ص ص.53-81). لهذا فتسميتها "بقصيدة التفعيلة" لدى بعض أوساط نقد الشعر العربي الحديث أقرب إلى الصواب والتدقيق الاصطلاحي، بينما عدم التمييز لدى بعض الأوساط الأخرى بين الشعر الحر وقصيدة التفعيلة، وبين الشعر الحر وقصيدة النثر، يعد خطأ شائعا مثلما أثبتنا في هذه الدراسة.
(17) . انظر: جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، مرجع سابق، ص ص. 55-59.
(18) . انظر الجدول الذي اصطنعه جان كوهن للأجناس الخطابية حسب هيمنة المستوى الصوتي أو الدلالي فيها، حيث مَوْقَعَ قصيدة النثر في الخانة المتقاطع فيها التوظيف الأقصى للسمات الدلالية والتوظيف شبه المنعدم للسمات الصوتية: الوزن، (بنية اللغة الشعرية، ص. 13.)
(19) . D’après G .Genette, «Langage poétique, poétique du langage« in Figures II, Paris, Ed. du Seuil, coll. «Points», p.150
(20) . انظر التمييز العلمي الدقيق الذي أقامه جان كوهن بين نظام الكتابة الشعرية في القصيدة والشعر الحر من جهة، والمتميزان بتفككهما النحوي مقابل انتظامهما الفضائي، وبين نظام الكتابة النثرية في قصيدة النثر المتميزة بانتظامها النحوي والدلالي مع استرسالها الفضائي الطولي العفوي، (بنية اللغة الشعرية، مرجع سابق، ص.69.)
(21) . الكتابة عبر النوعية، ص. 16.
(22) . نزوى، ع.6، أبريل 1996، ص. 188.
(23) . الرحلة الثامنة: دراسات نقدية، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979، ص. 14-15
(24) . لقد شكلت قصيدة التفعيلة في الأدب العربي، المنـزاحة جزئيا عن العروض الخليلي، المنفذ التاريخي منذ ستينيات القرن الماضي إلى الشعر الحر ، المتحرر نهائيا من الوزن والقافية مع الحفاظ على التقطيع الشعري أو تشكيل البياض والسواد في كتابة نصوصه - وهو ما يسمى وفق الخطأ المأثور قصيدة نثر - ومنه إلى قصيدة النثر بالمعنى الدقيق للكلمة. بينما شكلت قصيدة النثر في الأدب الأوربي مع الشعراء الرمزيين، بشكل معاكس، معبرا تاريخيا نحو الانتقال إلى الشعر الحر منذ بداية القرن العشرين، لدرجة أن جستاف كالان (G. Kalin) رأى فيها جسرا للعبور من التقليد العروضي إلى عالم الشعر الحر، نافيا أن تكون جنسا شعريا بالفعل.
(D’après S. Bernard, Le poème en prose de Baudelaire jusqu’à nos jours, Paris, Ed. Nizet, 1959, p.468) وما هو ثابت في كل الأحوال أن قصيدة النثر تتواجد على نفس المستوى جماليا مع الشعر الحر، سواء في الأدب العربي أو في الأدب الغربي.
(25) . نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، بيروت، دار الآداب، 1962.
(26) . أحمد المعداوي، مرجع سابق، ص. 53.
(27) . « أخذ رجل وامرأة رائعان، ذات صباح جميل لدى شعب جد وديع، يصيحان في الساحة العامة: «أصدقائي، أريدها أن تكون ملكة ! أريد أن أكون ملكة!» ضحكت وارتعشت. تحدث مع الأصدقاء عن كشف، عن تجربة مكتملة. وأغميا عليهما الواحد مقابل الآخر. وفعلا كانا ملكين الصبيحة كلها حيث كان يرتفع بساط قرمزي فوق المنازل، والعشية كلها حيث كانا يسيران بجانب حدائق النخيل».Rimbaud, « Royauté », d’après (Dictionnaire de critique littéraire, op.cit., p.222).
(28) . الكتابة عبر النوعية، ص. 24(Rimbaud, « Royauté », d’après Dictionnaire de critique littéraire, op.cit., p.222).
(29) . S. Bernard, op.cit., p. 15
(30) . Le récit poétique, Paris, PUF, 1978, p.8.