إهداء
إلى آمال ومهجة وجبير
عام 2000 م كتبت نصا قصيرا عنوانه تجدد، نشرته في بعض الصحف الليبية وفي بعض مواقع النت، وصدر ضمن مجموعتي القصصية حجر رشيد وضمن روايتي سرّة الكون، يقول النص:
"أرجعـت الذاكرة إلي الآن، فابتسمت، أشعلت سيجارة، نفثت منها بطريقة متواصلة، المنفضة بعيدة وأنا كسول، أوقفتها على عقبها فوق البلاط، تتبعت الجمرة وهي تهبط وتحرق ما يعترضها حتى وصلت إلي القطن، انطفأت بسهولة فكرت..
لماذا لا تستخدم هيئة المطافئ القطن في الإطفاء؟!
لكن قلت لنفسي: مالي ومال القطن.. خليني في همي.
أحبها وتحبني ونريد أن نتزوج والظروف الآنية قاومـتـنا.
ذهبت هذه المرة بالذاكرة إلي الأمام، يبدو أنني توغلت كثيراً في هذا (الأمام) وجدت نفسي ممسكاً بعكاز وهي بجانبي تتكئ علىّ وتسير ببطء وبعض الخصلات البيضاء تبزغ من رأسها كسحاب خلفه سبورة.
أكتـب بالطباشير: اللحم، العظم، الشعر، الظفر، كلها ليست قطنا.
تأملت رأسها الواقف على قاع السماء وتمتمت:
ما كنت أدري أن للزمن أفواه تمتص بنهم.
يـا رب.. يا خالق كل شيء.. يا مدبر الأمر.. سلمني حياتي دفعة واحدة.. طفولتي شبابي.. كهولتي.. شيخوختي.. أعطني حرية تشكيلها فأنا حر.. أريد أن أبدأ بالشيخوخة لأن من أحب التقيت بها بالأمس وفرقتنا ظروف الآن.. واجتمعنا في الغد.. هي الآن تسبح بجواري دون أي مشكلة دون أي ظروف، نضحك معاً، نبكي معاً، نصعد درجات العمر معا، نلجم أفواه الزمان معا، نستأصل نهمها، ليكون وصولنا عودة لأرحام أمهاتنا، ولكن أين هي الأرحام التي ترضى أن تئد؟!!".
أنظر الآن إلى شاشة حاسوبي.
أتأمل الطفلة التي تحتلها، لن أعلن حرب تحرير، احتلالي من الطفولة ينفعني، أشحذ أصابعي، وأواصل الكتابة في خيالي متأملا في طفلة شاشتي، طفلة طازجة تنظر إلي بعمق، لا أفعل شيئا حيالها سوى مبادلتها النظرة بالمثل، عمر نظرتي تجاوز الخمسين عاما، عمر نظرتها عامين وربع فقط، من فمها يتقاطر الحليب اللعاب الابتسامات، من فمي تتقاطر الصرخات.. الآهات.. الأحلام.
قطراتها ممكنة التحقق، قطراتي أشك أنها ستتحقق، القطرات أحلام، أمال، نحلم، ننتظر، ربما لا ننتظر، نحلم، الانتظار ربما لا ينتج حلما، وربما لا يعني ذلك أن العُجالة تنتجه.
ها أنا هذا لا انتظر، ها أنا هذا لا أحلم، ها هي الطفلة تحلم، وأحلامها تصعد إلي، تتحقق بأسهل من السهولة، أحلامي تهبط وشبه استحالة أن تتحقق، لن أغرس دفء الأحلام في تراب الزمن، سأغرسه في تراب روحي وأتمرغ عليه، وأنام عليه، وأحلم أثناء نومي بأحلام عشوائية لا أختارها، اتركها تختار كائني النقي، تمارس على حصير سباته ألاعيبها، سأصحو بعد كل غفوة لأغتسل من عفن الأحلام ثم أنطلق زاحفا صوب الشمس أو القمر وإن لم أجدهما فسأبكي وأسكت وأنصت وأرى فلا أحس بأحد إلا بهذه الطفلة التي تنظر إلي بعمق فأبادلها النظرة ذاتها، لا أكثر ولا أقل.
أواصل اللعب بهذه السعادة، لا أحطمها حتى عند الارتواء والملل، لماذا نتحطم نحن دائما؟ هل هناك من يلعب بنا حتى يشبع ويرتوي ويمل؟ وهل اللعب طعام وشراب ولذائذ متنوعة؟، دعونا من طرح الأسئلة ولنركلها بعيدا عنا.
نظرتها العميقة لا تشعرني بملل، إذن كل ملل أشعر به سأعتبره مزيفا، سأجدد نفسي، وأصلح من حالها، سأبدع طرقا مبتكرة للفرح، نظرتها العميقة منجم من المعنى، أحفر فيه بأنوار روحي واستمتع.
الأطفال لا يتسببون في الملل لأحد، خيالهم متجدد، روحهم متجددة، يرتقون ولا يضمحلون، سأنظر إلى هذه الطفلة بكلي وعندما أشعر بالتعب ارتاح قليلا وأعود للنظر إليها، ستكون دائما أمامي، نظرتها العميقة انتقشت في ذاكرتي، صارت نقشا مشرقا بازغا بصورة طرية كفجر أو كأي شيء يجلب السرور.
كتابتي عن الطفلة ستأتي جميلة بمذاق نفسي، كتابتي عن نفسي أشك في جمالها رغم الجهد المدعوم ببعض الموهبة والخبرة وأدوات الكتابة والأدب.
دعوني أثرثر، أتفلسف في جهل وغباء قليلا، صرت الآن تيسا كبيرا، أقصد كاتبا معروفا مشهورا، يمكنني كتابة أي هراء دون وجل أو خجل ودون أن يحاسبني القراء أو يقللون من شأني، الأحلام ثابتة، لكن فعل تحققها من عدمه هو المتغير، البكاء واحد وأسبابه متغيرة، الرغوة واحدة، لكنها في اللبن تختلف عن البيرة، وفي الشاي تختلف عن البحر، أقصد زبد البحر، الطفلة إنسان وأنا إنسان، لكن زمننا ـ على الرغم من أنه زمن واحد ـ متغير ومختلف، العمق واحد لكن منتجاته متغيرة ومختلفة، الطفلة تنظر إلي بعمق وأنا أفعل أيضا، لكن ما يعتمل في رأسها بعد النظر يختلف عن ما يعتمل في رأسي.. لقد تصدع رأسي من الشرح، لقد شرحت لنفسي الآن درسا في الكلام الفارغ وما ينتجه من نتائج مؤثرة في كل شيء، إنني أضيْع الوقت، كتابتي حتى الآن سيئة، أعدكم أنها ستتحسن قريبا، فقط الآن لم أعرف كيف أدخل إلى موضوع الرواية، مازلت استدرجها للخلق، لن أتوقف عن الكتابة وسأكرر المحاولة من زاوية أخرى، لن أحذف الحشو الماضي، ربما يكون جيدا بعد اكتمال الرواية وامتشاق سياقه المناسب، سأمنحه فرصة الحياة، لن أتعب في ذلك، لن أخسر شيئا، الكمبيوتر مريح، وضغط حروف لوحة المفاتيح أكثر راحة، وطنجة التي أنا فيها الآن رائعة، الوقت فجر، والمكان هادئ وساكن، وبجانبي زجاجة ويسكي صغيرة، من اللاتي يمكن وضعها في جيب السروال أو الجاكيت، شراب السعال الذي اشتريته من مطار تونس استهلكته والحمد لله، بفضل الله والدواء شفيت من السعال وأسرع من شفائي إفطاري الطنجاوي على المسمّن الساخن بالعسل الأصلي وزيت الزيتون والآتاي الأخضر بالنعناع، الفجر يؤذن الآن وسأكون سخيفا وقذرا ولا أستحق الحظ البهي لو أني أخذت رشفة من زجاجة الويسكي، سأسكب ما تبقى فيها في المرحاض وألعن القلب الذي أبى أن يطاوعني.
الآن:
أنظر إلى أذن طفلتي بإمعان.
في أذن الطفلة قرط ذهبي صغير، في أذني ثقب أقفلته بثور الزمن، آه من الزمن وبثوره التعيسة وآه من طفلة طازجة تنظر إلي بعمق، وماذا أفعل حيال نظرتها إلا أن أغسل نفسي في صفائها؟!.. خلعت ملابس نفسي، رميتها في ماء النهر، دخلت صفاء طفلتي كي أغتسل، غرقت في صفائها الذي يسحرني الآن، ويمنحني هدوءا نسبيا، سأترك عمقها الظريف يتأملني، العمق الذي لم يترهل بعد، أحتاج إلى هذا العمق الطازج الآن، سطحي مخدوش، مخدد، مسمّر على حصير وسط ظهيرة صحراوية مغبرة، الملح الذي ينز ممتزجا بعرقي يشربه الهواء لتكون وجبة نسيمه بمذاق البحر.
آه سجّل:
الإنسان بحر.. البحر عميق.. مظلم.. مالح.. غامض.
لو كان الإنسان عذبا للثمه النحل ولتحصلنا على توليفة جديدة من أنواع العسل:
عسل ربيع الإنسان..
عسل خريف الإنسان..
عسل صيف وشتاء الإنسان ولكلٍ بالطبع فوائده الجمّة.
لكن الإنسان يطرد النحل، لا يحتمل لسعه إلا على مضض ولغرض الاستشفاء.
أحتاج إلى هذا العمق الصغير الطازج الآن، سطحي مضـبـب مسمّر على حصير وووو إلخ، العمق الصغير الطازج لم يفسد بعد، مازال محتفظا بسِمَة البراءة التي خلق عليها، لم ينتج ذنوبا لا تصاحبها توبة نصوح، لم يتلوث بالأخطاء المقصودة أما العفوية فتلوثها لا يضر.
***
وأنا مشدوه أتمتع بجمال عارضة أزياء تايلندية تعرض رشاقتها على شاشة التلفاز، كسرت هذه الطفلة نظارتي، جذبتها فجأة، ورمتها بشدة على حافة السرير.
هل غارت الطفلة من تجاهلي القصير لها؟
هل كبرت فجأة في لحظة لتصير زوجتي؟
حافة السرير تألمت، صرخت:
وما دخلي أنا يا شقية؟ حطميها على عظام جمجمته.
قرصتْ حافة السرير الباردة، وابتسمتُ للطفلة معتذرا من القلب.
الآن نظارتي عوراء، ركنتها في درج الذكريات، سأهديها للمسيخ الدجال إن حضر، أو إلى السيد موشي دايان إنْ تاب عن الجرائم التي ارتكبها في حق الضعفاء، لن أصلحها أبدا لدى محل النظارات، لن اشتري بديلا عـنها، شيء يكسره الأطفال علينا أن نحترمه، نعتبره رسالة من الفطرة الربانية.
آه من جديد، واصلت القراءة كما ذي قبل من دون نظارة، الحروف الصغيرة تكبر لي لتلائم مقاس بصري وبصيرتي والكبيرة فوق الحد تتواضع قليلا وتصير متوسطة الحجم، نظرتي هي نظرتي، لا تكبر أو تصغر مع الحروف، لكن مع هذه الطفلة ذات العامين وربع جربت أن تصغر، هبطت من سلم الخمسين للأربعين، للثلاثين، وجدت الظروف حلوة ولذيذة، واصلت الهبوط للعشرين ثم العشرة الثمانية الخمسة فالأربع سنوات.
لولا نظرة الطفلة التي حذرت نظرتي كي لا تنجرف أكثر إلى تحت فتتجاوز العام الواحد وتكون صفرا وأرقاما عدة تحت الصفر العمري لكانت نظرتي قد تجاوزت في هبوطها العام الأول من عمري، وربما والله أعلم أكون قد ولجت رحم أمي وخصيتي أبي، لأضيع في عوالم المضغ والعلق والأصلاب والترائب والظلمات وما قبلها، عوالم مجهولة صعب تخيلها لأنني لم أعشها والحلم بمجرد تصور لها لا يضيء الطموح.
عندما كانت نظرتي تنجرف بسرعة سعيدة إلى أسفل دون انتباه للمحطة المقصودة الواجب التوقف عندها تلقتني الطفلة براحتيها الطريتين الغضتين لأكون معها في هذا العمر، عامين وربع، تنظر إلي بعمق، أنظر إليها بعمق، الحقيقة صرت في هذا العمر الصغير لا أفهم كلمة عمق، سألت الطفلة فأجابتني أنها أيضا لا تفهم، ستسأل الآبار التي حفرتها في الرمل على شاطئ جوليانا وتجيبني، لكنها فيما بعد أخرجتني من ملكوتها الزمني، لم تذكر لي السبب، لكن فهمت تلقائيا أني انجرفت إلى أسفل وفي رأسي كل همومي وإرثي الذي جمعته في رحلة نموي في الحياة.
كان لزاما في بادئ الأمر أن اغتسل أولا من ركام ومرارة الخمسين عاما وأكثر، وأنجرف إلى تحت بهدوء حتى أصل إلى هذه الطفلة، وفي لحظة الانجراف أرمي لكل عقد عشته من الزمن وجبات همومه وعلومه وخبراته وعُهدته التي أتحفني بها، كان لزاما ولزاما ولزاما زمن الانجراف أن أقذف بمكتسباتي إلى كل يوم عشته سابقا، حتى أصل إلى العامين وربع بمتطلبات واحتياجات وشجون العامين وربع فقط.. لكن لم يحدث ذلك، وعلى الرغم من ذلك تمتعت كفاية، لم يمنعني ثقل رأسي الذي هبطت به من تذوق المتعة، وأنا أهبط شعرت أنني أخف وأشف، وعندما كنت معها شعرت بطفولتي، بحثت عن أمي لأرضعها فلم أجدها، ناولتني الطفلة إصبعها فامتصصته وكدت أعضه من فرط الحلاوة، وفعلا كنت طفلا على سجيتي وعضضته، فصرخت الطفلة، وجاءت أمها من المطبخ تجري، ضمتها إلى صدرها وأخرجت لها ثديها وألقمتها حلمتها فنامت الطفلة فورا، ونمت إلى جانبها فورا، في هذه الأشياء أحب كلمة فورا موت، نمت لا داريا بالزمن وهو يمر، لقد تجاوزت الساعة الآن ميقات عمري، نظرة الطفلة مازالت تثيرني، عمقها مازال يتعمق في روحي، لقد وصل إلى الماء وتجاوزه وإلى النفط وتجاوزه وإلى العصب والعظم والنخاع وتجاوزها، لقد تعمق في عمقي حتى اخترقني وصرت عبر هذا العمق مخترقا من نظرة طفلة، إنْ كَبُـرَتْ وكبِرتُ أنا فلن نلتقي، وإن هبطت إليها وكَبُرتْ هي أيضا لن نلتقي، وكيف هو اللقاء إذن؟، هي على الورقة الآن، في أعلى الورقة، في أسفلها، بين السطور، ممتزجة في البياض في الحبر في كهرباء الحاسوب، الطفلة عندما هبطت إليها أخرجتني من ملكوتها، لديها لا وعي يعمل، جعلتني أشك في براءة الطفولة وفطرتها، جعلتني أشعر أن في كل طفل شيطان وملاك، يتشاجران يختلفان ويتفقان ليقوم كل واحد منهما بدوره المرسوم له من قبل الرب.
لا أدري هل الملاك قبِل بهبوطي والشيطان قرر إخراجي أم العكس؟
ليس معنى ذلك أن الملاك في الجانب الموجب من منظور الحياة وأنه لا يضر أحدا.. أحيانا تفعل الأرواح الطيبة أخطاء غير مقصودة، فالملاك مخلوق وليس إله أو نائب إله أو حتى نبي معصوم من الخطأ حسب ما أخبرت به النصوص المقدسة.. كثير من الناس أضرت بهم الملائكة ونفعتهم الشياطين، تأملوا في الحياة وستجدون أمثلة.
أنا حزين جدا، الطفلة أبعدتني وعدت إلى حقيقتي، عدت إلى موقعي فوق الخمسين، يائسا بائسا حائسا مذهوب الشيرة وسعيدا جدا بهذا البؤس واليأس والحيسان وذهاب التركيز عني لأن سببه طفلة عميقة، ولأني أيضا وجدت شرابا روحيا منعشا فوق الثلاجة فتأملته بنظرة عميقة جدا، ثم لعنت الجميع، لعنتهم بحب، بطريقة لعنة غلاء ما فيها داء.
عدت إلى جهاز الحاسوب، وضعت صورة الطفلة على شاشته، انهمكت أتأملها وهي تتأملني، لا أتكلم، هي تتكلم، بأصابعي أنقش مشاعري نحوها، أمتص مشاعرها نحوي، الحروف سعيدة، ترتقن على الشاشة ببشاشة وانسيابية، الطفلة تتأملني، في نظرتها عتاب ما، تحاول أن توصلني رسالة ما، آه من دهاء الأطفال، آه من بريدهم الساطع الصدوق الحدس، لا أستطيع خداع طفل وبإمكاني خداع العالم.
لو أضفنا جملة ـــ كما تخدعه الشعارات بأنواعها ــ ستكون الجملة تقريرية، لكن لا بأس من هذه التقريرية عندما تأتي في مكانها أو محلها، فاللتقرير جماله الخاص.
***
أحتاج إلى طفلة غبية كي لا أحترق من عمق نظرتها، هل الغباء برودة أم خرطوم مطافئ يرش جريش ثلجه على ضياعي؟!
ربما يكون الغباء أشد وطأة على النفس من الذكاء، لكن قد يأتي هذا الغباء على صورة:
بساطة صدق شفافية تلقائية فطرة سذاجة، فيكوي مشاعري أكثر ويشعل آلامي ويُكئِبها، سأنظر إلى الطفلة كما تنظر إلي، نظرة عمق جذابة، تسعد دواخلي، تبهج ظواهري، الأطفال يجعلوني ابتسم حتى وهم نائمون في مُهدهم، الفكاهات والطُرف وكل كوميديا ألوان الطيف غير قادرة على جعلي ابتسم، بل تزيدني عبوسا على عبوسي، أحيانا أضحك لموقف طريف فـُجائي يحدث أمامي، أضحك من دون أنْ أبدأ الضحكة بابتسامة، أضحك فجأة وأبتلع الضحك فجأة، أضحك بدون صدى، لا أسجل في ذاكرتي هذا الموقف، الذي لم أبدأه بصورة طبيعية، أي بابتسامة تتسع تدريجيا:
تحرث اللسان
تبذر اللهب
تشرح النفس
تعزف على أوتار الحنجرة ألحان ضحكتها.
نظارتي كسرتها الطفلة، فرحتُ لذلك كثيرا، الحروف التي أقرأها فرحت هي الأخرى، كانت حزينة بسبب هذا الحاجز الزجاجي، الآن تتواصل مع دموعي مباشرة، تتواصل مع نور اختلاجاتي مباشرة، لقد أنهكها العازل الزجاجي الواقف حجر عثرة أمام خصوبتها، شج كيانها، أدماها، عبث بها بالتكبير والتصغير، أي التقعير والتحديب وزدْ الاستواء، لكن بواسطة هذه الطفلة استطاعت الحروف أن تضع حدا لهذا العبث، فأعادت الزجاج إلى حظيرته المعهودة:
في كؤوس المطابخ والحانات
في الأطباق
في القوارير
في المرايا
وآه من المرايا !!
في الأبواب والنوافذ
في قصور سليمان وبلقيس وغيرهما.
لقد أبعدته الحروف الشجاعة نهائيا عن عتبات المآقي، كي يتاح لها رؤية العيون مباشرة، كي تحس العيون بدفء الكلمات ونبضها، وتحس الكلمات بحنان العيون وبريقها وردود فعلها وحتى بللها المالح.
ربما الحرف ذكر
ربما الحبر أنثى
ربما النظرة أنثى والعيون ذكر
ربما العيون أرحام والحروف أجـنـّـة
ربما تموت الحروف في مذابح أو بصورة طبيعية
ربما تموت فجأة من دون سابق إنذار
ربما الطفلة تـمرح الآن
ربما الطفلة تحلم الآن
ربما الآن قد أنجبت بالسلامة
ربما لم تمت هي ولا الحروف أبناؤها
ربما الحروف تبكي ثم يغلبها النعاس
ربما ترضع الحليب
ربما تنمو وتكبر
ربما تشق طريقها في الحياة
ربما تعيش الآن عبر شعب كامل مضطهد داخل كتاب
ربما تتجدد مع الزمن
ربما تنتقل من طبعة إلى طبعة
ربما تتحول إلى هيأة إلكترونية
ربما يعيش بعضها في صدور العالمين إلى الأبد
ربما تنتقل من صدر إلى آخر
ربما إنْ مات القارئ تحولت على قبره إلى أزهار متألقة
ربما لأن غذاء الأزهار هو النور وليس الماء
ربما لأن لا أزهار تعيش في الظلام..
ربما لأن في الظلام لا نرى الأزهار ولا حتى نتلمسها..
ربما نشم أحلامها فقط فنشرع النوافذ.
***
حكاية"ربما"هذه حلت لي المشكلة، أدخلتني إلى صفحات جديدة من هذا العمل بسهولة، أحيانا ألجأ إلى كتابة شبيهة بالشعر، ليس رغبة في إبداع الشعر، لكن كي أتقدم أكثر في العمل، الطفلة قالت لي صح، أنا أيضا أفعل ذلك، كيف تفعل ذلك؟ لا أدري، لكن أحس أنها صادقة، فلكل عمر قصائده، وقصائد الأطفال هي الأجمل، لقد نسيت العديد من القصائد التي قرأتها ودرستها في المدرسة ولم انس فلنقل ابتسامة طفلة صغيرة.. لا.. لا.. سبق أن حكينا في هذا الموضوع.. ولنعدل الجملة إذن بـ:
ولم ننس أغاني الأطفال التي استمعنا إليها عبر مسلسلات بداية المساء في التلفاز الليبي أو التي يتغنى بها الأطفال في الشوارع والأزقة والمدرسة في المناسبات الدينية مثل:
طلعت يا محلى نورها.. شمس الشموسة
شارعنا القديم.. شارعنا زمان
ياما العبنا فيه.. مع أولاد الجيران
بإمكان كل كائن أن يتذكر الأغاني التي سمعها وعاشها في الطفولة وأن يتغنى بها وحيدا أو برفقة أو يترنم بها في صمت، سيشعر بالسعادة وراحة البال وإني جربت ذلك في لحظة حزن وكآبة وقد شعرت بتلك السعادة الوجدانية، فقبل أن أبدأ كتابة هذا النص سقط مني أو قل سرق مني كل المبلغ الذي حضرت به إلى تايلند وهو 800 دولار وعندما اكتشفت ذلك شعرت بالحزن والكآبة وكل شيء يزعج النفس، لكن تداركت المأزق سريعا وقلت النقود لا تريدني فماذا أفعل لها؟.
فلتذهب بعيدا عني، لن أتركها تفسد هدفي من الرحلة وهو الكتابة، سأتجاوز الأمر، سأقلب صفحة الضياع، سأعوّض المال الضائع سريعا، سأكتب نصا لا يقدر بثمن، لا يضيع من جيبي أو يتم نشله أو سرقته أو نسيانه، أجرة الفندق كنت قد سددتها في الوطن لوكالة السياحة مقدما، والطعام رخيص في تايلند خاصة في الجزر البعيدة عن العاصمة بانكوك، إذن يمكنني تدبر أموري بقليل جدا من المال، سأفطر مجانا جيدا في الفندق، وسأضحي بوجبة الغداء كرجيم إجباري وفي المساء أتعشى في مطعم رصيف، سأنسى هذا الأمر برمته الآن، وأركز على الكتابة فقط ولن أشرب بيرة مجددا مهما كانت ثالجة ومكلل زجاج كأسها أو قارورتها بالقطرات الأنيقة، لن أشرب أي مشروبات أخرى تذهب الذكاء باستثناء الماء المعدني والعصائر الطبيعية الخالية من الكحول، فالحرام ليس لدي فيه حظ، ما إن ارتكبه حتى تحدث لي كارثة، هذا إن اعتبرنا الكاتب مسلما دينه يحرم الصهباء ويعتبرها أم الكبائر، أما إن كان الكاتب ليس مسلما، فيمكننا حذف المقطع الذي يبدأ من (فالحرام ليس لدي فيه حظ.... إلى ما إن ارتكبه حتى تحدث لي كارثة)، بالطبع الكلام السابق ليس رأيا من مؤلف هذا الكتاب إنما تداعي متدفق من الروح الساردة التي تحكي هذه الرواية.
عدت إلى الفندق راجلا وفي الطريق كنت أغني أغنية أطفال، كان يعرضها التلفاز الليبي عندما كنت طالبا في المدرسة تقول:
هات الشنطة تعال ورّيني.... أيش خذيت اليوم يا حسين
عارفك شاطر وتهنيني..... ديمة مذاكر درسك زين.
ركزت على كلمة درس في الأغنية وذاكرته في دماغي جيدا.
بالنسبة لي تضيع مني نقود لا أتأثر أكثر من نصف ساعة حتى وإن كان المبلغ مليون، جربت هذا الأمر مرارا ولم أعد أشعر بمرارة حدوثه، لقد ضاعت مني أشياء ثمينة أهم من المال، مثل أخي الوحيد ومستقبلي المهني وترابط عائلتي وتكيفت مع الأمر، إنها الحياة وقوانينها التي لا نملك لها دفعا مهما زعمنا أننا حاذقين، لا تعنيني ضياع الأشياء المادية إطلاقا، لكن عندما تضيع مني كلمة أحب أن أكتبها أموت عدة مرات، وأقلب العالم وأجوبه حتى أجدها، أمسك دائما كتابا ضخما أو ضئيلا لأقرأه وفي البداية أقول:
"يا أنا يا هو"
أي لابد أن أكمل قراءته ولا أتركه يعجزني، من العار والمخجل أنّ تعجز عن قراءة كتاب، وأواصل القراءة حتى أنتهي منه في أقرب وقت ممكن لأن الكتب المنتظرة من أجل القراءة طابور طويل لا ينتهي، زحام شديد بينها، تنافس مجنون محموم بينها، كل كتاب يبحث عن قارئ، يدوس الكتب التي في طريقه، لا يوجد في الأدب كتاب نبيل لديه إيثار، يسمح بالعبور لكتب أخرى غيره أو على الأقل التي ليست من أرومته، أعتقد أنه لا يوجد كتاب نبيل إلا كتاب واحد وهذا رأي الكاتب وليس الروح الساردة وهو (القرآن الكريم) الذي لا يزاحم أحدا ولا يدوس على أحد، ولا ينتهز فرصا بواسطة قوة بلاغته وروحانيته ولا يمارس الأنانية على البسطاء والضعفاء.. فعلا كتاب مقدس جليل.. لكنه دائما يتغلب علي، أعجز عن القراءة فيه طويلا.. سأقول:
أن ذلك بسبب الشيطان.
لكن سأقول أيضا:
أنا الآخر مشارك في المسألة.. ينبغي أن أقرأ في هذا الكتاب العظيم يوميا لأتطور روحيا ولغويا وحياتيا ولأعرف الله بعمق كما عرفه من قبل أناس أحبهم كمحي الدين ابن عربي.
***
الطفلة الطازجة الناظرة إلي بعمق هي أيضا ستتذكر أغان غنتها لها أمها وهي حبلى بها أو وهي في نصف عامها الأول أو شهورها الأولى وستشعر بالسعادة، هي الآن تنظر إلي بعمق مكلل بابتسامة، هي أغمضت عينيها الآن وعادت إلى الوراء، إلى عمر طفل أصغر يتأملها بعمق كما تأملتني بالضبط، يوقفها في الوقت المناسب قبل أن تنحدر إلى السديم، يتلقاها براحتيه الصغيرتين اللتين أخرجهما بشقاوة من ثنايا اللحاف المزنرّ بالقمّاط، كانت الطفلة تنظر إلى قرص القمر الفارض نوره رغم ما يحيطه من كثبان السحاب، ربما يكون قد شعر بالغيرة فجذب قرطها بعفوية عنيفة فصرخت عاليا فجاءت أمها تجري، لقد شرم الطفل أذنها، بكت الأم وبكت الطفلة وبكى الرضيع المشاكس أيضا الذي سكت فورما ألقمته أم الطفلة حلمة ثديها.
الحليب يواسي الصراخ، الدم النازف من الأذن أيضا واساه الحليب، لقد حلبت الأم على الأذن النازفة سبع دفقات كي يتطهر الجرح الذي سببه الجذب والذهب وربما رغبة النهب، بعدها ألقمت طفلتها ثديها، فصار الطفلان أخوين بالرضاعة وصارت الطفلة تكبر والرضيع يكبر خلفها، وفرق عام واحد غير مؤثر إطلاقا إن قررا الارتباط بالزواج، سنتخيّل أنهما في المستقبل أحبّا بعضهما البعض ثم بعد كر وفر اجتماعي وديني تزوجا، وجدا شيخا فضائيا أفتى بصحة الزواج، لأن كميّة الحليب قليلة جدا وربما كانت بدون قصد إرضاعه إنما إسكاته وتهدئته من لحظة فزع رأى فيها دما ينهمر من أذن إنسان غيره هو من تسبب فيه، الدم استدعى له مشهد قطع الحبل السُّـري الذي استقبلت به الحياة صرخاته البكر ومشهد فقيه أو طبيب الختان الذي ختنه في يوم أسبوعه مسببا له ألما مبرحا لا يحتمله الكبار أصحاب العزم فما بالك برضيع هش في بداية نموه.
توقفت عن الكتابة الآن.. أحتاج لبعض التدليك والراحة واسترخاء القلب، أيضا إفطار الفندق المجاني سينتهي الساعة العاشرة والآن التاسعة والنصف صباحا من يوم الجمعة 9ـ7ـ 2010 م، سأتغذى اليوم كسكسو تونسي في منطقة سوكومفيت التجارية، صاحب المطعم تونسي متزوج من امرأة تايلندية، يعد وجبة الكسكسو بنفسه كل يوم جمعة، بعد صلاة الجمعة بنصف ساعة يكون الكسكاس قد خلى من كل حبيبات الكسكسو، تتأخر يفوتك الكسكسو، ويوم جمعة بدون كسكسو لا أشعر به، لو غيرنا أسماء أيام الأسبوع بأسماء وجبات سيكون الكسكسو من نصيب يوم الجمعة، يعني ممكن نقول:
الجمعة كسكسو أكلة مغاربية
السبت حرايمي أكلة يهودية
الأحد سباقيتي أكلة فاتيكانية أوروبية
الاثنين بازين أكلة ليبية
الثلاثاء أرز أكلة أسيوية
الأربعاء مقلوبة أكلة شامية
الخميس باميا وملوخية أكلة مصرية
أي تصير أيام الأسبوع تنعت كالتالي:
كسكسو
حرايمي
سباقيتي
بازين
أرز
مقلوبة
باميا وملوخية
أي نقول مثلا صدر الملحق الثقافي لجريدة كذا اليوم الكسكسو الموافق لـــ 9 -7 – 2010 م.
وبإمكاننا تغيير الأكلات في كل الأيام إلا الجمعة الذي سيختص بها الكسكسو لعدة اعتبارات ليس هنا مجال ذكرها، بالعربي لا أعرف هذه الاعتبارات، لقد جاءني مقترح الكسكسو عبر الإلهام، عندما أكون قد درست الأمر أكاديميا سأفصل وأحلل لكم الاعتبارات العديدة لاختصاص الجمعة بالكسكسو، لكن جماعة الإلهام مرفوع عنهم القلم، وبإمكان المعترضين محاكمة الموهبة إن قبضوا عليها، بعدها أشرب شاي في مقهى لبناني أو قهوة اسبريسو في مقهى أوروبي، بعدها أدخل إلى مقهى نت لأرى بريدي وهل من شيء يفيدني فيه ثم أتابع جديد العالم في الثقافة والفن والرياضة فمن خلال هذه الثلاثية الإبداعية سأفهم سياسة العالم ومجريات أحداثه وأقرر كيف أتعامل معه لهذا اليوم، بطريقة هجومية أم دفاعية أم فنية أم أدبية أم رياضية أم عهرية وغيرها من طرق التعايش السلمي أو الحربي مع مجتمع الحياة القاسي قسوة الكآبة، بعدها أعود للفندق وأجلس مجددا للكتابة، أضع صورة الطفلة أمامي على شاشة الحاسوب وأنطلق كما تقول الميديا الإعلامية العربية قـُـدُمـــاً.
***
الحرارة والرطوبة معتدلتان، لا تسببان في سواد ياقة القميص، الوقت عشية، ضاحية نانا والسوكومفيت ببانكوك مكتظة بعرب الخليج والأفارقة وقليل من اليابانيين والكوريين والأوروبيين الشرقيين، العاهرات كالعادة يقفن صفا طويلا عند مدخل بوابة فندق جريس، وعند نواصي الشوارع القريبة، عاهرات غالبيتهن أسيويات وأفريقيات وبعض اللاتينيات وعربيات الشرق الأوسط والمغرب العربي، العاهرات الروسيات والأوربيات والأمريكيات لا يقفن في الشارع، ينشطن في حانات ومراقص فنادق 5 نجوم وسعرهن غالي من 100 دولار وأطلع فوق، الصبايا والفتيات الخليجيات يتمخطرن بعباءاتهن السوداء وأوشحتهن الشفافة، انثناءات العباءات وانسدال الأوشحة وليونة الأجساد ونعومتها يحدثن معا تناغما رائعا تتذوقه العين من خلال ما يرسمه فنان القماش المجنون من لوحات تلتصق على الأجساد فتنقش مفاتنها الشهية، اللوحات تتجدد مع كل خطوة، مع كل انحناءة، مع كل وقفة ذهول وتدبر تقفها فتاة أو امرأة في وسط الطريق من أجل سؤال نفسها إلى أين أذهب الآن، معظم الخليجيات اللاتي رأيتهن يتسوقن ويتسيحن أجسامهن رشيقة وشابات وذوات أنوف طويلة دقيقة نوعا ما، بشرتهن قمحية اللون تميل إلى البياض قليلا، أكفهن وأقدامهن مُحنّاة بطريقة النقش، العجائز القليلات بينهن يضعن خمارا معدنيا يحجب الأنف والفم، البقية متزينات على خفيف وسافرات الوجوه ويلكن اللبان بشيء من الغنج، منهن من تسهى عن نفسها فتنفخ فقاعة علكة وتفرقعها لتهبط خيمتها الممزقة على شفتيها المروجتين بلون يتماشى مع زيها واكسسواراتها، الشعر مغطى بأوشحة ملونة شفافة قليلا، بعض الخصلات المتمردة تطل من تحت الوشاح وترسم على الصدغين أو الجبين خيوطا بديعة جالبة للبهجة.
الخليجيات يتجولن ويتسوقن من الدكاكين الكثيرة التي يديرها ويملكها هنود وتايلنديون وأفارقة وصينيون وعرب وإيرانيون، وعندما تثقل أيديهن بالأكياس يوقفن دراجة توكتوك توصلهن إلى الفندق لحفظ ما اقتنين من مشتريات.
بعد راحة قصيرة يعدن مجددا فيدخل بعضهن لتناول الطعام في مطعم شهر زاد المصري أو ناصر المصري وباقي الزنفليقة تواصل سياحتها التسوقية بين الدكاكين.
أراهن كل يوم يتجولن لوحدهن دون إخوتهن أو أزواجهن، الحقيقة أن المنطقة لا تحتاج لأن يرافقهن محرم، فالمنطقة آمنة جدا، لا توجد أي معاكسات للأسر وللنساء، الكل يحترم نفسه، لأن في هذه البلاد لا شيء ممنوع، كل شيء متوفر بكثرة خاصة الفتيات، فالتحرش والمعاكسة الوقحة قليلة الحدوث، النظر فقط في جمال ربي مباح وإن خفت أن تحدث مشكلة مع خليجية محافظة عندما تنظر إليها بطريقة الالتهام فاختصر المسألة وضع نظارة، لكن يا حسرة، نظارتي كسرتها الطفلة.. وفي الوقت نفسه لا أحبذ العوازل أمام الحواس.
لا تمر خليجية دون أن أنظر إليها لا شعوريا، أنظر في عينيها مباشرة، وأهمس لها:
هلا بالطيب الغالي، أو ب يا ناس أحبه أو بأي أغنية خليجية أخرى تخطر على بالي تلك اللحظة.
بصراحة عيونهن شيء غير محتمل، عيونهن واسعة كعيون الظباء وكحيلة وسوداء ومثيرة وتبهذل كل من يقدّر ويتذوق جمال العيون، الطفلة تتأملني بغضب الآن، سأرتق الموضوع، الحقيقة أشعر دائما أن نظراتهن جميلة لكن ليست عميقة كفاية، كنظرة الطفلة التي كسرت نظارتي، الطفلة تنظر إلي الآن بعمق وتبتسم.
لم أتبادل الحديث معهن، لكي يحدث ذلك لابد أن تحوز خليجية بمفردها، وهن مجتمعات يتعذر ذلك، كل واحدة متحفظة وخائفة من وشاية وتشهير الأخرى، وكل واحدة منهن لها همومها السرية وسبب زيارتها إلى تايلند والتي تنحصر معظمها في هذه الأشياء، خذ عندك:
بحيرة تماسيح.. غابة أفيال.. حديقة نمور وسنانير.. سوق عائم.. صفقة تجارية.. جنس.. ترقيع بكارة.. تخسيس.. جلب بخور كمبودي.. تدليك وتجميل.. تقويم أسنان وعلاج لثة.. جلب بتات عرس والخ.
أخيرا في مقهى أوروبي بديكور زيتوني وأسود اسمه ّstar bucks ملاصق لمبنى سوق أرض الطعام (food land ) ابتسم لنا الحظ وحُزنا غزال القارة الذي بالطبع سود أنظاره كما يصفونه شعراء البادية الليبية، كانت جالسة تلعق من كوب طويل مملوء بالآيس كريم، عيناها واسعتان، كفاها وقدماها محنتان، ترتدي عباءة زرقاء غامقة تميل إلى السواد، على رأسها وشاح لازوردي شفاف بلون صندلها، يظهر خصلات شعر جامحة كثيرة على صدغيها وعلى جبينها، شعرها من الخلف مجموع في كعكة صنعت بروزا ضخما للوشاح مما يعني أن شعرها طويل يضرب حتى وركيها، لكنها، لكنها، لكنها بطة، أي سمينة، لا بأس من كونها سمينة، فالسمينات رغم تهدل أثدائهن يظل دمهن خفيفا، وأهم شيء في العلاقات الإنسانية التي قد تتطور سريعا إلى الارتباط الدائم هو خفة الدم، التي ستنتج عبر الزمن خفة الروح.
حييتها بابتسامة فتجاهلتني وواصلت لعق كتلة آيس كريم بلون المشمش، بالطبع لابد أن يكون وجهي باردا أي وقحا فلا استسلم، حييتها مجددا بابتسامة أوسع فردّت علي بابتسامة أبانت أسنانها البيضاء المبللة بمياه الآيس كريم الملونة، صافحتها فلم تمانع هذه المرّة وصافحتني، لم تكن ترتدي قفازا أسود يعزل اللمس المباشر، راحتها دافئة وناعمة ولا تتمنى رفع يدك عنها، وأنا أتمتع بشم رائحة بخورها الكمبودي الأصيل سألتها:
هنا لوحدك أم معك رفيق؟.
أجابتني:
تفضل أجلس أولا.
وأزاحت حقيبتها المنتفخة من على الكرسي الذي بجانبها، ركنتها إلى جانب قائم الطاولة، عرفت أنه يرافقها أخوها الذي ذهب إلى البنك القريب لتصريف بعض العملة الخليجية بعملة تايلندية، وسيعود قريبا.
واصلت رشف آيس كريمها ورشفتُ أنا أيضا من فنجان قهوتي السوداء، لا أدري هل شعرت أني راغب في التعرف إليها أم أنها رأت أني أحتاج لكرسي فقدمته لي؟، خاصة أن معظم الطاولات عامرة بالأيرائن، فتحت باب الثرثرة معها وعرفت أنها خليجية من قطر لكن أمها مصرية، لذلك أنا يا صديقي سمينة قليلا.
قالت الجملة وهي تبتسم بعفوية.
وجاءت إلى تايلند من أجل التخسيس، لكن تعليمات الطبيب عاجزة عن تطبيقها خاصة في التقليل من تناول الآيس كريم والحلويات والفواكه الحلوة.
قلت لها:ممكن أحبك فأسبب لك الهموم والشقاء فينقص وزنك سريعا
لم تضحك لعبارتي السخيفة والنمطية..
وقالت: الحب العربي لا يسبب في نقص الوزن ولا في زيادته، يسبب في نفخ البطن فقط.
لم أضحك أيضا لعبارتها الموضوعية نوع ما، لكن بعدها تبادلنا فكاهات أجمل وأقوى أضحكتنا بشدة معا وعاد أخوها الذي فاجئنا ونحن في وابل ضحك مشترك لنكتة أخرى قالتها هي فشاركنا الضحك وصافحني بحرارة وأخته قدمتني له كصديق جديد التقت به للتو صدفة في هذا المقهى، لم أر أمارات انزعاج على وجه أخيها وواصل ثلاثتنا الحديث في شؤون الحياة والعالم.
وشاركتنا الطفلة ذات النظرة العميقة جلستنا، عبر حضورها الضمني في قلبي، كانت في مذاق قهوتي، في ترانيم ضحكاتي، كانت تتعمق بنظرتها في مكنونات نفسي إلى أبعد حد، كانت تخترقني، أشعر أنها تقودني، تعرف أن هذا المشهد من مستلزمات الرواية ولم يحدث فعلا، أشعر بغيرتها الساخنة، إنها تحاصرني، تحوزني في زاوية ضيقة لا ينفع معها أي مناورة، تضع في أنفي وفمي لجاما لا فكاك منه، تملأ ذاكرتي بتناسخاتها، مرت نصف ساعة وأنا في جو مبهج مع الخليجية الدُبّة ذات رائحة البخور وأخيها النحيف المتحرر المتسامح، نواصل التخيّل أو الكذب، مرت ربع ساعة أخرى، استلطفتها واستلطفتني، لن تردني لو كان المكان ملائما لتبادل القبلات اليابانية أو الفرنسية أو حتى العربية التي أحب مشاهدتها اليوتوب، ما تبقى من قهوتي برد وما تبقى من كوب آيس كريمها الطويل ذاب، وتحول إلى ماء خاثر ملون، أخوها استأذن أن يغادر لموعد مبرمج سلفا مع صديق:
قال لها:خذي راحتك، نلتقي بعد ساعة في الفندق، ثم غادر.
قلت لها: هل تسمحين أن ارتشف ما تبقى من آيس كريمك الحلو الذائب في كوبك؟.
قالت لي:هل تسمح أن ارتشف ما تبقى في فنجانك من قهوة مرّة؟.
رفعتُ كوبها وهي بدورها رفعتْ فنجان قهوتي، ورطمنا زجاج الكوب بفخار الفنجان على هيأة في صحتك، لحن جميل عزفه فعل الرطم، شربتُ بقية كوبها، شربتْ بقية فنجاني، ثم تأملت قارئة في قاعه الخالي من الحثالة لأنه قهوة أسبريسو معصورة خالية من الرواسب وليست قهوة تركية أو عربية راسبها ثقيل كثيف أغبر، لا يغادر القاع إلا بفركه بالإصبع فما بالك إن طفح لك على القمّة وقرر توريث لونه.
تبادلنا أرقام الهواتف، وتواعدنا أن نلتقي في أقرب فرصة ممكنة.
ـ سأرن عليك بهاتفي حالما أجد وقتا مناسبا، آه قهوتك في لساني مرّة لكنها في روحي حلوة.. ابتسمت ورددت على عبارتها ثقيلة الدم بعبارات أثقل دما وأسخف
ـ لن أخبرك عن مذاق آيس كريمك الذي رشفته لآخر قطرة للتو، فلا أحب قراءة قاع الأشياء الحلوة لأن ذلك......
لم أكمل الجملة ونظرت بعمق في عينيها، فأقفلتهما وفتحتهما بعد برهة لأراهما أكثر بريقا وبللا، الفراق كان صعبا، ومصافحة الوداع جاءت أطول من مصافحة اللقاء، لقد وضعت راحتي اليسرى هذه المرّة فوق راحتها وهي تصافحني، كانت بشرتها ناعمة جدا، كبشرة طفلة طازجة طرية غضة، قلت لها وهي تهم بالمغادرة:
أكيد سنلتقي
قالت لي:
أكييييييييييييييييييييييييد، وهل غادرتك أنا أصلا؟!.
أقول في النص عن العبارات المتبادلة بيني وبينها أنها سخيفة ونمطية وغير جميلة مراعاة للطفلة الغيور التي قد تخرج من شاشتي وتصفعني فأعجز عن الكتابة، هذه السطور الأخيرة لن تراها لأنها نائمة الآن، وها هي استيقظت، سأتكلم عنها في ملزمة أوراق أخرى لأقلب هذه الصفحات على ظهرها، أنا من عادتي الدائمة الكتابة على بطن الصفحة أما ظهرها فأخصصه لتدوين الملاحظات المهمة جدا.
***
الطفلة لا تتركني، ملاك برئ يجري في دمي، كل خطيئة لا تـُقاوم تقترب مني، جرسها ينبهني، صارت ضمير باطني لي، سأهبط إلى عمرها ذي الحولين وربع بأقل قدر ممكن من الخطايا، أحب البقاء في ملكوتها الدافئ، أحب التخلص من خطايا السنين الخمسين الماضية، لا أدري هل فعلت حسنات كثيرة وقبلت أم لا؟، متيقن فقط من السيئات أنها سجلت كلها بأدق التفاصيل، وكيف التكفير عنها لأهبط نظيفا، مقطف كاهلي لا يقطر إلا بالماء، أهبط إلى عامين وربع لأبدأ رحلة جديدة نحو هذه الحياة الزمنية، لن أتسلح بوعيي القديم ولا لا وعيي القديم المفصح عن مكنوناتي، بمجرد أن يتم قبولي في ملكوت الطفولة هذا يعني اعترافا من الطفولة أن لا ذاكرة ماضية رتعتْ في جحيم المستقبل لنصف قرن لي، وماذا عن الطفلة التي تنظر إلى بعمق؟، سألتقي بها ونكبر معا، وهل يرضى الزمن الذي عشته أو أنفقته بهذا؟، وأين يذهب آنذاك؟، في أي مدفن سيندفن؟، بدون إنسان مسئول عنه ستعتبره دورة الزمن نفاية قذرة وستدفنه في البحر أو في الصحراء أو في قبر الشمس، وهل يرضيك ذلك؟، أليس بزمنك الذي نفضته عن نفسك ذكريات جميلة وأحداث رائعة وحتى خطايا رغم أنها غير محببة لكنها لطيفة وبها مرح وتحتوي على بعض المروءة، لكن أمر الله وتقدّر، يعني هذا الذي حدث، إنها الكتابة، تأمرني أن أهبط وأتخلص من هذا الإرث الماضي وأبدأ من جديد، شيء خارج عن إرادتي، لابد أن أنقر حروف لوحة المفاتيح، إن لم أكتب شيئا أشعر أني مريض جدا وقد أموت، سأتفاهم مع الزمن مع الله مع الناس مع القراء مع العالم.
الطفلة الآن تقودني، تضع شكيمة"لجام"في خطمي، تتأملني بعمق، تحثني أن أعيش معها، أن أكتب عنها أو لها، سأكتب عن الشكيمة التي وضعتها عبر نظرتها العميقة الآسرة في عنقي وأنفي وفمي وحتى قلبي وروحي قبل أن أكتب عن الطفلة ذاتها، سأكتب عن الشكيمة وما فجرت في داخلي من تداعيات، فالحياة برمتها عبارة عن شكيمة، لا أحد يمكنه أن ينزعها من رأسه، شكيمة في يد الزمن ونزواته ورغباته، ففي كل يوم يجذبنا لنتوجه إلى هناك أو إلى هنا، لا أحد يمتلك القرار، أنا الآن في عنقي شكيمة الكتابة، كلما أتوقف أشعر بحدة اللجام تؤلمني حد الجرح، أنا أنتظر هذا الجرح، أتوقف عمدا كي يشتد اللجام أكثر، أعاند الشكيمة بإرادة طفل، تجذب خطمي بقوة، ارعف ثم أنزف، أتلقى براحتي مطر النزف، ألصقها مباشرة على بطن الورقة، ثم أرفعها، لأرى الورقة وقد تلطخت بأصابعي الخمس راسمة ما نسميه في موروثنا الشعبي الليبي "الخميسة".. الأفضل الآن أن أتوقف عن نقر لوحة المفاتيح لأن الطفلة قد بدأت في الغناء وتقديرا واحتراما للطفولة ينبغي أن أتوقف عن الكتابة وأسمعها.
إنها تغني الآن:
حويتا وخميسة وقرين.... عليك يا بلادي من الحاسدين.
لن أكون سخيفا ومغرورا وأقول أنها بكلمة خميسة تقصدني.. لأن ذلك سيدخلني في موضوع آخر يحتم علي أن أعرف من هي الحويتا ومن هو القرين ابن الإيه.
في الكتابة كما في الحياة اليومية.. تحرك مارشة"عصا تغيير السرعة"تخدم عام.. وأنا سأدوس على الشاراتوري (دواسة البنزين) لأنطلق إلى الأمام.. لكن أين هي السيارة؟، صحيح أنا لا أملك سيارة ولا حتى دراجة نارية أو هوائية، سأدوس إذن على دواسة براقة في الخيال، في الأحلام، حيث كل شيء رخيص، برخص الليل، الشمس دائما أغلى من القمر، فالقمر صعدوا على ظهره، لكن الشمس على الرغم من أنها أنثى فلا أحد يستطيع أن يتجاوز حدوده، أن يقترب من سمائها الإقليمية، ستكون الإنسانية جميلة، لو صار كل إنسان شمسا، ستكون السموات آنذاك بعدد الشموس، وسيكون الدفء أكثر روعة، والنور أسحر ألقا، اوووف إني أتثاءب الآن، استحلفكم بمن تحبون دعونا ننام، ونحلم بذلك، فالحلم بالشمس لا يجلب للنفس الضيق أو الفزع، يجلب لها نسيم منعش، يجعلها تستيقظ وتستحم وتبدأ يوما جديدا بفأل حسن.
عندما يضعون في خطمي شيئا قاسيا استسلم وانصاع وأنطاع لهذا الشيء، يجذبني من يمين أتيمّن، من يسار أتيسّر، يجذب الحبلين أو الشريطين أتوقف، يطلقهما ويهزهزهما فأسرع الخطى، يجذبهما فجأة وبعنف فأشب إلى أعلى حتى أكاد أقف على قائمتي الخلفيتين، حين تكون الشكيمة في فمي أعجز عن الصهيل، لا أصهل حتى تُزال من فمي، وعندما يضعون رأسي في كيس العلف، لا أصهل أبدا حتى يزيلون كيس العلف من عنقي وحتى أرتوي من الماء وسيكون صهيلي عذبا لو أن الماء ماء غدير يبلل حوافري المهترئة قبل خطمي وسيكون جميلا أيضا لو أنه بعد الارتواء أرى فرسا تتمضغ وتهشهش بذيلها، سيكون صهيلي شجيا جدا، جدا جدا، يطرب القاصي والدان، ويجذب عشاق الفن من تلابيبهم.
تقول لي الطفلة حكاية الفرس أحذفها من النص، الأمر والله خادش للحياء العام، لا أدري هل هي غيرة أم رأي صائب؟ سأواصل التشكيم بهذه الطريقة، وسأعتبر الطفلة هي الفرس التي لم أجد لها مربطا.
الشكيمة في فمي.. طرفاها في أيدٍ ليست لي.. يداي أركض بهما صحبة رجلي.. بطريقة العسكرية القذرة.. الرِّجل اليسار مع اليد اليمين والعكس.. لم أعد أصفق.. لم أعد أضغط على الزناد.. لم أعد أسبّح أو أُشهّد.. لم تعد لي أصابع أضع في بنصرها دبلة حب.. لقد كلست الشكيمة فيَّ كل شيء.. أحالت أصابعي إلى أظافر متبلدة.. لا تحس بخشونة الحجر ولا بوخز الشوك وهي تركض.. أصابع مجرمة لا ضمير لها.
أنا حصان بشري.. أختلف عن حصان الحيوان بشيء واحد هو الذيل.. ذيله يهش وينش.. وذيلي لا يفعل ذلك.. لقد عقد صلحا مع ذباب العالم.. قرر أن يتركه يقتات ولا ينهره أو يطرده.. كل ذلك من أجل أن أصطاد ذبابة.. أضع في فمها الشكيمة التي في فمي وأتركها تطير بي إلى أماكن سعيدة.. إلى جنة الذباب الطنانة.. حيث لا مبيدات حشرية.. ولا مراوح كهربائية ولا نشاشات سعف خشنة الألوان ولا ذيول حمير أو بغال أو خيول أو بوبريصات.. هناك سأستريح مرحا.. سأمارس صهيلي العذب.. سأغني للذباب وأرقص له وأقول له:
"طيّح اسعدك"بصرك ضعيف.. نظرك أحول.. عيونك قذرة.. فارزة لبحر من الطمز اليابس الكثيف.. أنا بشر.. ليس لي ذيل.. لكنه خُيـِّل لكم أنه لي.. في جنة الذباب سأعيش عاريا.. أقضي حياتي كلها في الطيران.. في التنزه في حدائق وأزقة السماء.. أحط على وجوه مجاعاتها.. أتسكع في مكبات قماماتها.. في بحيرات قيئها.. وإذا باغتني الغبار بهجوم خانق.. أندس في أول مغارة مروّقة بذيل نشط ذي سبيب ناعم حتى تهدأ العاصفة.
لم أصطد الذبابة التي تنقلني إلى السماء.. حاولت مرارا وفشلت.. الذباب ذكي وماكر جدا.. أذكى من طاغية وأمكر من غانية حرون.. يطير في اللحظة التي تود أن تغرر به فيها.. لديه معاهدة شرف مع الزمن.. لديه عيون في جيش الزمن تنذره بالعملية التي تستهدفه قبل وقت كاف.. استخدمت معه أنواع عدة من الشكيمات وفشلت جميعها.. يلحس ما عليها من سكر ناعم وقطرات عسل ولا يدخل فمه فيها.. كما يعمل سمك البوري بالضبط، غير أن الذباب نبيل وأخلاقه عالية فلا يتبول على الشرك، استخدمت معه صاولة رعاة بقر أيضا فشلت.. عندما رميتها نحوه انحشر رأسه في حلقتها، وأثناء جذبي له رأيت أنها تحولت إلى مشنقة.. وأن روحه ستزهق حتما.. فرميت الصاولة القبيحة على الأرض نصرة للحياة، وتكفّل بقية الذباب المنجد بتخليص رأسه منها.
الشكيمة في نسنوستي مؤلمة..
لا تتركني أتكلم..
لا تتركني أضحك..
لا تتركني أغني..
لا تتركني أمضغ..
لا تتركني أعض..
لا تتركني أعطس..
لا تتركني أحلم..
تتركني فقط أكتب وأبصق ورأسي إلى الأرض.
أتمنى أن أبصق ورأسي إلى الوراء.. لكن الطفلة سائس الشكيمة لا تمكني من ذلك.. كل طرف منها في يد.. تجذبها قليلا لمدى الانعطافة فقط.. لا تجذب طرفا واحدا بقوة تمكني من الالتفات.. لا تريدني أن أرى طريقة إمساكها للشكيمة.. إستراتيجيتها في سوسي.. سأظل أركض حسب إرادة الشكيمة.. أتوقف إن رغبت.. أمشي إن حلى لها.. رأسي ينظر إلى الأسفل.. إلى سماء التراب.. إلى سماء سأدوسها بعد خطوة واحدة جديدة.. سأدوسها بحوافري اليابسة.. التي ستحرثها قليلا.. وسأتبرز عليها شعيرا غير مهضوم.. فينبت سريعا.. مخلفا في الوراء الذي لا أراه سنابل وظلالا ومدنا جديدة خلقتها مؤخرتي.
أشعر أني خرجت عن موضوع الرواية، خرجت من دون عمق، لذلك سأواصل هذا التداعي، العودة إلى أجواء الرواية أمر سهل، أنا دكتاتور، أفعل ما أريد في وطني الروائي هذا، لن تطردني الرواية أو تغتالني، لقد جعلتها ضعيفة وتافهة، وكل كلماتها تشتغل لدي في وظيفة واشٍ، فلتعتبرني الرواية مسافر في رحلة عمل، لقد سلمت مفاتيح الرواية لولي عهدي الذي أثق فيه الذي هو أنا نسخة أخرى، الثقة في محمد ومحمد مات الله يرحمه.
آه.. السوط يلسع ظهري.. الشكيمة تلهب فمي.. لا خيار لي إلا الامتثال.. أركض على الإسفلت.. على الطين.. على الحجر.. على الوحل.. على التراب.. بطني لا تهضم الشعير جيدا.. لا تتركني الشكيمة أهنأ على طعامي.. أمضغه متمهلا.. استمتع بلذة حياته وعصارته.. لا تترك فمي إلا وقتا ضئيلا.. غير كاف للمضغ الصالح للهضم.. يظل الشعير في معدتي بحبوبه.. لا يتدشدش أو يذوب إلا قليله.. أتبرزه على هطلات بطيئة.. يستمتع التيس العربادجي وهو يراها تخرج من صرمي على مهل.. العربادجي به نزعة لوطية.. لا يسوطني بالسوط السوداني أثناء تبرزي.. يطبطب على فخذي وظهري بحنان.. وقد يسند خده على وركي مغنيا: "يا لو تعطيني مرّة.. حتى من برّة لابرّة".
الروث يترك ورائي مسربا من شعير.. أحسه ينبت خلفي.. ينتج سنابل سمينة.. تحصدها الناس وتطحنها لتتناولها خبزا مع الحساء أو بازينا قاسي القبّة.. العربادجي يجذب الشكيمة.. أتوقف وأسأله بذيلي.. فيقول لي أنا برئ.. أنا عبد مأمور.. أنفذ أوامر شكيمية ليس إلا.. أنا نفسي في فمي شكيمة.. بواسطتها امتثل للأوامر.. أجعلك تسرع أو تبطئ.. تشبع أو تجوع.. تجر عربة أو يمتطيك صيني أصفر.. أوقات قليلة جدا أشعر فيها بالسعادة.. عندما آخذك إلى البحر لتستحم وتداعب خصيتيك الأسماك الصغيرة والحلازين الباحثة عن مأوى وأهرش لك ظهرك وصدرك وبطنك وكفلك وخلف ذيلك بليفة خشونتها ناعمة.. أو عندما أقدّم لك العلف بحرية.. ليس في كيس خيش يعلق في رقبتك الرشيقة.. إنما في وعاء نظيف إلى جانبه جردل ماء ضخم.. أو أيضا عندما أراك تصهل بقوة.. وتضاجع فرسا شقراء أو بيضاء أو بلون الحناء.. أو تضاجع حتى بغلة مغناج مقبولة الشكل رمت بها صُدفة الحظ إلى طريقك.
تقول لي الطفلة أشطب المقطع السابق وتجذب الشكيمة بعنف كي امتثل، أحتمل ألم الجذبة الفجائية ولا امتثل، أحاول أن أزيل الشكيمة من فمي.. لكن ما إن أمسها حتى أشعر بصعق الكهرباء.. بلهب النار.. الشكيمة - عليها اللعنة - محروسة بشكاكيم أخرى.. كل كائن في خطمه شكيمة يتحكم فيها آخر.. قطار متصل من الشكاكيم.. اختلطت الشكاكيم في بعضها البعض.. لم نعد نعرف من هو المسيطر على أم الشكاكيم أو أصلها.. من هو الممسك بالشكيمة النواة.. وحتى إن عرفناه كيف سنعرف أنه هو ذاته ليس في فم إرادته شكيمة.
عن إذنك أيتها الطفلة.. دعونا نفكر قليلا.. نفكر بحرية وليس بطريقة مشكومة.. لكن لن نجد الوقت.. الحمار محمل بالملح.. إرررررررررررررر أيها الحمار المرح.. لابد أن نصل بأكياس الملح إلى الحديقة لتصديرها.. ليس معنا قماش مشمع لنغطيها من المطر.. لكن الآن صيف.. ولا مطر في الصيف.. قلت لك إرررررررررررر يا حمار.. خلينا أصحاب.. كن حمارا جنتل مان وتحرك بالتي هي أحسن قبل أن أنغزك بهذا المهماز حاد الرأس.. قالت لي الطفلة تقول لي وليس أنت يا حمار.. الشكيمة التي في فمي قالت لي توقع.. لا تترك شيئا للصدفة.. ربما شكيمة السماء تفعلها فجأة فتسكب شآبيب غزيرة.. الطفلة تقول لي إرررررررر أيها الحمار العزيز.. وكلمة عزيز عزيزة على لساني لا أخاطب بها إلا من أحبهم من القلب.. فإرررررر الآن يا صديقي وألف إررررر.. إرررررررر إلى الأبد.. لا تحرجني معك.. لا تنس أني أتحكم فيك.. وقد لا أطلقك مجددا تضاجع جحشة الجيران تأديبا حازما لك.. الحمير لا تتأدب جيدا إلا بشكم ذلك الشيء !.. بعد أن تفرغ الحمولة سأتركك تلعب وتنهق وتبرطع وتضرط وتتمرغ على نجيل الحديقة الندي.. سأتركك تُسمع غناءك لكل أتُن المدينة وجحشاتها العذارى الجميلات.. سأتركك تعبّر كما يحلو لك.. تمارس ديمقراطية النهيق على راحتك.. سأنزع الشكيمة من فمك كي ترتاح ولا يسيل لعابك أكثر.. أعرف أنك لن تهرب لأنك تعزّني وتهبط إلى سلم عمري العامين وربع ولا تحتمل أن تورطني في مشاكل مع مسّاك شكيمتي.. أو بالأحرى أعرف أنك لن تهرب لأنك أدمنت على هذه الشكيمة.. لا يمكن لك الحياة بدون مسيطر مادي أو معنوي.. أنت حمار ضعيف رغم أنك تجر قناطير مقنطرة من السلع.. ورغم أن رفستك تقتل جملا.. ففي الصباح عندما تستيقظ لن تفعل أي شيء.. ستتأكد أولا بواسطة أسنانك ولسانك وشحمة أنفك وأذنك من وجود الشكيمة في فمك أو بالقرب منك كي تلبس فيها خطمك طواعية.. عندما تجد الشكيمة في فمك أو نافذتي أنفك المخننتين أو معلقة قربك تشعر بالراحة.. تشعر أنّ الدنيا بخير.. وأنها تسير بصورة طبيعية.. تلقائية.. كل جزء فيها يقوم بدوره المرسوم له.. بكل دقة.. ستشعر بالسعادة.. ستستأنس بالرتابة.. وتعلم أن الثورة التي ستطيح بالشكاكيم لم تقم بعد.. وبأن المصلحين المختفين لم يهبطوا من السماء أو ينبجسوا من أعماق الأرض بعد.. وبأن الأمل مازالت خزائنه لم تنفد.. ومازالت الحياة تقتات على خبز رجائه.. ستنطلق نشطا تجر العربة إلى كاوة الملح.. يُحمّلها الكادحون بالملح سريعا وعلى ظهرك وراء البرذعة يضيفون كيس ملح زيادة كدليل على التضحية والتفاني من قبلك.. سينغزك العربادجي الذي يقودك بعود زيتون مدبب مثقوف الرأس قرب خصيتيك لتنطلق بالحمولة نشيطا غير متذمر.. تنطلق بها وأنت مثل الحمار الطيب مستمتعا بغناء الألم.. ستجر العربة سعيدا لأن الأمور تمام التمام.. لم تتغير.. باقية كما هي عليه بالأمس.. كل فم به شكيمة يجذبها آخر إلى مزاج هدفه وغايته.. الكل يجذب الشكاكيم إلا أنت أيها الحمار الغالي.. فلا زمام في يدك.. أم أنك تجذب شكيمة سرية لا نراها.. مجازية مثلا.. إررررررررررررررررر راهو جاك الضبع.
***
تسألني الطفلة حائرة:ماذا كتبت؟، لم افهم خربشاتك.
وأقول لها: ذلك لأنك طفلة وهذا أحسن، لم أكتب شيئا، رفست قليلا تحت حزام هذا العالم، لا تهتمي بعملية الفهم أو الكتابة، ليتني أكون مثلك ألعب ولا أكتب شيئا ولا أفهم شيئا، دعينا ننام الآن، تعالي إلى حضني، كي نحلم أحلاما واحدة ونقاتل الكوابيس اللعينة معا، وفي الفجر عندما نستيقظ آخذك في نزهة إلى شاطئ البحر، نشم الهواء المنعش ونعد الأمواج حتى تخلط حساباتنا، أو إلى مكتبة نقرأ الكتب ونختار منها باقة قيمة للاستعارة وقبل أن نغادرها بما استعرنا نودع الكتب الباقية في الرفوف بل نودع الصفحات التي تكوّنها بل الحروف التي تكوّن الصفحات دون تفرقة، نقبل كل كتاب على حده ونضعه على القلب والرأس وفي العين.
لا تغاري مني لو قلت لك حبيبتي الحقيقية ورقة، ليست ورقة عملة ولا ورقة بفرة ولا ورقة اكلينكس ينظف بها الأوروبيون والأمريكان مؤخراتهم، إنما ورقة بيضاء قد تكون خالية وقد تكون حاوية لبعض الجمل أو الرسوم، تقول لي الطفلة كيف تحب ورقة؟ لم أفهم يا.... لم تنطق كلمة أبي أو أخي أو حبيبي.. عند ياء النداء صمت لسانها.. لأسمّي أنا بدوري ما يأتي بعد النداء فأقول: يا حبيبتي، الجميل أنك لا تفهمين، لو فهمتي ستندمين مثلي، وستحاولين مسح هذا الفهم بالركض المتقهقر إلى الوراء، إلى نقطة البدء، أعرف أن الطفلة لا تعي كلامي هذا، وستكتفي بالابتسام منتظرة قطعة حلوة كاكاو أو حلوة سكر أو لعبة أو ترقيصها ومرجحتها، الأطفال لا يشعرون بتقدمهم في الزمن، يعيشونه وحسب، عكس الكبار الذين يراقبون الزمن بعين نصف مغمضة محاولين عرقلة تقدمه بتكديس أكوام التأمل والأدوية والعادات الصحية وغيرها من الأشياء التي قد تحافظ على العمر من المرض في طريقه، لكن من القدر لا، لكن ليس مهما أن تفهم الطفلة الآن، ستفهم لاحقا، فيما بعد، أو سيفهم القارئ ويفهمها بدوره بطريقته التي أجهلها، إن وجد ذلك مسليا له، وإن لم تكن له بنت أو أخت أو حفيدة بهذا العمر عليه أن يستعير دمية بالحجم العمري سالف الذكر ويفهمها الحكاية.
حبيبتي فعلا ورقة، لقد شعرت بذلك فور دخولي مبني المكتبة، أوَّل مرَّة أدخل مكانًا ولا أحب الخروج منه.. وعندما خرجت منه شعرت كأني فارقت حبيبًا غاليًا بالموت أو بالفراق.. أنا في الإسكندرية الآن.. حبيبيان يختلفان يفترقان إلى الأبد أو إلى حين عودة المياه إلى مجاريها.. وقد كان فراق حبيبتي هذه المرَّة إلى حين.. ففي اليوم الثاني دفعت للشباك عشر جنيهات ووجدتني في أحضانها مجدَّدًا.. ووجدت أنَّ الفراق مؤقت، وكان قد حدث أي الفراق المؤقت من أجل النوم أو تدبُّر أمور الحياة الأخرى.. عندما فارقتها لم أشعر بالتعاسة أو الحزن، وشعرت أنَّ فراقها قد أكسبني قوَّةً، وأنها قبل الفراق كانت قد استودعت فيَّ الكثير من خيراتها الطازجة التي تمكِّني من مواصلة الحياة، ومكافحة الملل والحزن والبلادة.. وها أنا هذا مجددًا بين أحضانها أقبِّل روحها، أجلس في ظلال أشجارها الوارفة جدًّا.. أرتشف من رحيق عسلها غايتي.. كنت حريصًا على الوقت الذي أقضيه معها، وكأنَّ هذا الوقت هو آخر ما تبقى لي من عمر.. لم آلف سابقًا هذا الكم الهائل من الحنان والدفء والماء والنور.. لقد أحالتني هذه الحبيبة دون غيرة أو أمراض نفسية أو طمع إلى حبيبات كثيرات غيرها.. كل واحدة وضعتني في حضنها قليلاً لأتذوَّق وأنهل.. وأمنح من نفسي إليهن أيضًا أمطارًا غزيرة.
هذه الحبيبة هي أم الحبيبات، وجميل جدًا أن يكون للحبيبات أمٌّ ترضعهنَّ الحبَّ والمودَّة والحنان والتواضع والصدق والشفافيَّة والدفء.. هذه الحبيبة هي الحبيبة المتفاهمة المنيرة بالسلام.. لقد أحببتها بعمق.. ومقدار الحب الذي خرج إليها لم يخرج مني من قبل.. شعرت أنَّ صاعقة قسمتني إلى اثنين، ورمت نصفي الشرير الوقح إلى البحر ثم أعادته إلىَّ في شكل شرير ووقح، لكنه نظيف يخطئ ولا يلوث المكان.. يضاجع دون هتك للبكارة.. أنا الآن إنسان طيب.. نقي.. يضعونني على الجرح يبرأ.. أضع نفسي على النوم أو الموت يشتعل الصحو والحياة فيهما.. أعانق اليأس فأحوِّله إلى أمل.. لا اقترف الأخطاء العفوية أو المقصودة أو المضطر لها، ولا أسبِّب الأذى للآخرين كما ذي قبل.
لقد علمتني هذه الحبيبة الكثير والكثير من خلال وقت قصير عشته في محرابها.
كي نحلم جيدا علينا الامتلاء بهذا الكم الهائل من القراءات والحياة المشتركة مع الكتب، أو مع الناس الذين على هيأة كتب قيمه، الناس الصادقين الواضحين الخائضين في عجلة الحياة، المتذوقين الهم والسعادة على السواء، الأحلام تحتاج إلى مخزون، مثلها مثل الكتاب، مثل كل شيء آخر تنتجه أرواحنا وتعبر عنه ويخرج من أعماق إحساسها.
احتضنتني بلهفة ولم تفارقني حتى تأكدت من أنَّ أزهار الدهشة والفن والحياة قد ارتقت بداخلي.. نبتة عاطفية إبداعيَّة غرستها في وجداني.. لم أرغب في مغادرة حضنها.. قاومت المغادرة بكل قوة.. وعندما أخرجوني عنوَّة شعرت بالعذاب والحزن والموت.. لكن ابتسامتها وهي تلوِّح لي أراحتني.. وكلماتها وهي تهمس لي ضاعفت من راحتي.. كانت تقول:
لم تترك حضني... لم تغادره.. أنظر إلى داخلك وتأمله ستجدني فيه.. أحضاني نور.. عناقي دفء معطر.. حبي لك بسيط جدًّا.. لا تعقيد فيه.. لا رفض لآي رغبة ترغبها مني.. في داخلي كل شيء يا حبيبي.. إنني الحياة.. الحياة الماضية والحاضرة والقادمة.. إنني الفن والأدب والفلسفة والجغرافيا والدين والسياسة والتاريخ والاقتصاد.. وكل الأنوار التي أشرقت على الإنسانية.. وكل الظلمات التي في طريقها للتبدد.. إنني الأحلام التي تتمنى أن تحلم بها وتحققها.. الأشياء التي تحققها من دون أن تحلم بها.. أشياء تولد ويولد موتها معها.. لابد من الحلم.. لابد من إشراك الداخل في تحقيق الرغبة.. أحب القبلات وأنا مغمض العينين.. عندما أفتح عيني أشعر أنني عارٍ.. لا أرتدي توت أحلامي.. لا أحسُّ بدفقي ودفئي الداخلي اللذان لا يقاسان بترمومتر الإبط أو اللسان.
هذه الحبيبة هي أم الحبيبات.. عندما غادرتها شعرت بالحزن والألم.. وعلى الرغم من أنَّ وجودها في داخلي ثابت وحقيقي إلا أنني شعرت بالفراغ حتى عدت في اليوم الثاني والثالث والرابع وإلى الأبد.. أدفع عشرة جنيهات وأدخل، وآخر يوم الذي نويت أن أسافر فيه رأت دموعي فأدخلتني مجانًا وأعادت لي أضعاف ما دفعته من أموال ليس في الأيام التي زرتها وعرفتها فيها فقط.. لكن في كل أيام حياتي الماضية.. لقد دفعت لي ثمن كل كتاب اشتريته في حياتي السابقة.. إلا أني لم أقبل المال وقبلتها قائلا:
أنا الذي ينبغي عليه أن يدفع مرة أخرى ثمن كل كتاب اشتريته سابقا مرات ومرات.
لقد عدت من رحلتي إلى مكتبة الإسكندرية بثروة كبيرة.. ببئر بترول خاص بي.. لا ينضب ولا يهبط سعره.. أدخل الكأس إلى داخلي وأغرف وأبيع أو أهدي أو أسكب على الأرض البوار وأشعل فيها نيران إبداعي.. حبيبتي الجديدة هي أم الحبيبات.. هي آخر من سأحبُّ.. من وافقت أن تكون حبيبة لي بعدها فمرحبًا بها.. ومن رفضت ففي ستين سلامة.. من أحبها لابد أن تعرف أن وراءها أخرى سأحبها أكثر وستكون الأخيرة.. حبيبتي الأخيرة هي أم الحبيبات وآخر من أحب.. هي مكتبة الدنيا.. الجوهرة الأسطورية الواقعية.. الصرح الكبير.. الإنجاز الإنساني الباهر الذي جمع كل أحاسيس الحياة في قلم وورقة وشيء آخر عصي عن الكتابة والتشكيل.. يُحسُّ إحساس بواسطة دقة معنى موطنها قلوب الناس.. يحس بواسطة نظرة مؤثرة يا حبيبتي.. كنظرتك الآن التي أرغمتني أن أكتب عنها وأن أهبط إليها عبر سلم الزمن لأعيشها أكثر وأتعمّق فيها أكثر، نظرتك عميقة تجعلني أكتب بلا توقف، أكتب أي شيء بسهولة، أنا لا أكتب الآن، لا أرسم الآن، أنا ممسك بك وأراقصك وأغني لك في مكتبة الإسكندرية، أشعر أني ممسك بقنديل يضيء بالطفولة، أتجوّل به في شوارع العمر دون أن أصطدم بأي جرم ميت، مع قنديلك أشعر أني شفاف، أخترق الأشياء دون ألم، وأسبح كما رجال الفضاء في بحار انعدام الجاذبية، أنا حقيقة لم أهبط إليك، لم أصغر لأكون في عمرك، لو حدث ذلك ما كتبت كل الثرثرة السابقة، لكنت جلست إلى جانبك واكتفيت باللعب فقط، الصغار لا يكتبون، الصغار لا يكذبون، الصغار لا يزمرون... الصغار لا يقوّدون... الصغار يلعبووووووووووون، اوووون، اووووووون فقط بس.
***
نظرة أخرى لصورتك تجعلني أكتب، تجعلني أحس بجمال الأشياء فأحبها.. ودون نظرة إليك أحس بأن الجمال ينقصه شيء.. لا أعرف لماذا أحسست بجمال نظرتك؟.. لا أدري لماذا أحببتها؟.. الحب شيء عجزت أن أجد له تفسيرا.. وأصدقك القول إنني لم أجهد نفسي في البحث عن هذا التفسير.. قد أكون قد عثرت عليه.. لكن لن أغفر لقلبي جريمة القبض على التفاسير.. صحيح أنني أحب نظرات عديدة.. لكن نظرتك يا طفلتي الغالية هي الأولى.. هي التي ارتحت لها نفسيا.. لم تفاجئني فيها تكشيرات مضمرة.. قابلتني بابتسامة عذراء.. ابتسامة تولد من الروح مباشرة.. حلوة كلمة مباشرة.. تذكرني بالركلات الحرة.. وبالديمقراطية.. وبطرق الحديد وهو ساخن.. وها أنا هذا أسخّن الحديد.. الحظ يحبني لأنني عثرت على هذه النظرة العميقة التي أعادت تشكيل رؤيتي لنفسي وللحياة.
يا كل الضمائر الرائية.. ماذا أفعل لنظرة أحببتها؟.. سأكتفي بالتمعن فيها.. أنا الآن في الجزائر، الوقت فجرا، جالس في شرفة غرفتي بفندق الأوراسي، أحتسي كأسا من الفودكا الروسية، أتمعن في البحر، في الميناء، في السماء الشبيهة بقلب حبيبتي، السماء أو الطفلة أتخيلها شابة على هيأة كائن أرق من الرقة.. بنطلون أبيض.. قميص وردي بدون أكمام.. الذراعان آسران.. بقعة التحصين ضد المرض المنقوشة على أعلى الذراع تحفة أكثر من رائعة.. جزيرة جمال قرمزي على فضاء سجادة حياة.. أبحث عن نفسي في مرآة البقعة فلا أرى مرضي.. حصنني مصل الحب الذي تناولته أحلامي.. عليَّ أن أدخل الآن ولا أتردد.. الأبواب مفتوحة.. النوافذ مشرعة.. طاهرة من الستائر والقضبان.. الأقفال حطمتها قشعريرة خيال.. قالت لي:
تفضل يا رائع.. القلب لك على الرحب والسعة.. تفضل يا شعب حبي الجميل.. يا شعب الوجع اللذيذ.. هذه ثروتك من ذاكرة الصدق والجنون.. أغمس إصبعك في عصيدتها وتذوق.. أو قرّب أنفك واستنشق حصصك من الأكسجين.
التقطت لها صورة بهاتفي النقال.. صرت أقبّل هذا الهاتف الظريف.. ولا أهتم بالرنين المزعج الذي فاجئني كضوضاء.. ربما رنين غيرة.. ربما رنين ـ دراه كبد ـ.. من الذي نقول عنه في بنغازي:"اللعنة مش وقتك بكّلْ".
ضغطت على زر الصامت.. لا أريد أن أرى أو أسمع أشياء تعكر مزاجي.. الذي ما صدّقت أن راق وعاد يكتب.. سعيد جدا بهاتفي النقال.. سأقيم له حفلة.. حفلة أكبر من احتفالات مهرجان الفوز بكأس العالم.. أجمل شيء فعله هاتفي النقال في حياته أنه التقط لهذه الطفلة صورة.. لك أنت صورة.. أعيش على رؤيتها الآن.. سيدخل هاتفي النقال جنة الهواتف.. وينهل غايته من جنات الرصيد والشحن والمزايا التقنية المتطورة، لقد ابتهلت من أجله هذا الفجر.. حينما كنت واقفا في الشرفة.. أتطلع إلى وجه الحياة الصاخب.. أتطلع إلى الصباح وهو يغسل هذا الوجه، وينقيه من البثور والطفيليات والشوائب العالقة والدخيلة.. ابتهلت له بمخزون ذاكرتي من الخير.. وعندما نفد خيري القليل.. أسعفتني الشمس بعبّوة خير جديدة نسفت بها يباس ظلامي.
الشمس الآن تبزغ رويدا رويدا.. بزوغها يبهرني فأشيح بوجهي وأغمض عيني.. أفعل ذلك ليس لأن شخصيتي ضعيفة.. عاجزة عن تأمل الجمال.. لكن لأني خجول.. خجول جدا أمام النور.. وأمام ماذا يا ربي؟!.. آه تذكرت.. أمام حمرة الخوخ الذي عندما أمس به وجهي أشعر بخشونته وفي الوقت نفسه أستمتع بشم عطره.. فأذوب وأنصهر وأصب نفسي في قلادة، أطيشها في السماء وأنتظر هطولها خرزة خرزة.. تلتضم في شعاع نور.. يطوّق عنق حبيبتي.. وقد يكون حظي حسنا فتحتفظ بها السماء.. وهذا يعني أنه عليَّ انتظار المطر.. حتى أرى قلادتي في جيد وردة.. في جيد طفلة طازجة تنظر إلي بعمق.. وأنا أبادلها النظرة نفسها.. ثم أكتب وهي تواصل لعبها بي.. بالنظر عميقا.. حيث أنا أحاول التخفي.. لقد كسرت نظارة عيوني.. فليتها تكسر نظارة قلبي أيضا.. سأهبط إليها واقترب منها أكثر.. سأكون نظيفا من تداعيات العمر.. طفل بعامين وربع فقط.. مازال يتألم من ختانه.. طفل في قميص صغير أبيض دون سروال.. سأقترب منها كي تكسر نظارة القلب.. سأقترب منها أكثر دون خوف، فأعرف أن يدها ستحطم النظارة وستتحاشى خدش القلب.. الصغار لا يخدشون القلوب.. لا يجرحونهههههههها.. ونههههها، ونهههههههها.
طبعا السطور الماضية معظمها حشو ورومانسية فارغة يمكن حذفها على رأي التيوس النقاد، لكن لن أفعل لأن هناك قراء يحبون الكلام الفارغ ولديهم وقتا طويلا له، أنا نفسي غير مقتنع بها، ولا أستخدمها في حياتي العامة، لكن ثرثرتها عمدا، لأنها انهالت فجأة على مخيلتي، فقلت لا بأس، سأتبع نزوات حدسي، وسأطبع هذا الحشو، حتى لا تكون الرواية جيدة فيكتبون عنها كثيرا وتتاجر بها البغال والحمير من موظفي الثقافة.
سأقول للنقاد، أتقبل النقد بصدر رحب، وذات مرّة سوف أكتب للنقد جيدا، خاصة إن امتزج النقد بهموم الناس، لكن الآن خليها تنمرشكم، لن أفعلها، لن أكتب جيدا، أنا أبكي الآن، بلادي الآن ليست جيدة، ليست جيدة بالمرّة، إذن أنا لن أكتب جيدا، علي الطلاق بالثلاثة لن أكتب جيدا الآن، فالكاتب بلاد.. بلاااااااااااااااادددددددد، ب لــــ اااااااااااا ددددددددددددددددددد.
***
لم التق بالفتاة الخليجية السمينة مرّة أخرى، لم تتصل بي وأنا لم أتصل بها، ربما سافرت العزيزة إلى وطنها، ربما كشطت من ذاكرتها لقاءنا السريع العابر، أنا أيضا تركت المدينة التي التقيتها فيها، غادرت إلى جزيرة هادئة رخيصة بعيدا عن صخب العاصمة وتلوثها وغلائها، مازلت حزينا من ضياع ميزانية سفري البسيطة، أعيش في حالة تقشف حاد الآن، بل أعيش تحت خط التقشف الآن، وجدت الخط جائعا فاشتريت له حبرا ليغلظ ويبان أكثر ويكون فوقي، لا أحب رؤية خط فقير، إن شبع الخط مني وبان رآه الضوء، رأى ما فوقه وما تحته من حياة، أنا بالطبع تحته، لأن الأمطار الآن غزيرة وليس معي مظلة، سألبد تحت خط الفقر هذا تقية من البلل، وسأعيش حياتي تحته بطريقة على"قيس فراشك مد رجليك"، استخدم أرخص الأشياء، حتى توفـّي معي على رأي المصريين، مازال معي القليل جدا من المال، لقد وضعت البيض كله في سلة واحدة فسرق، لكن هناك قليل منه تبقى، مبلغ زهيد تدفعه حين الوصول للفندق كضمان ليتم الخصم منه إن تناولت أو استخدمت شيئا من ثلاجة الغرفة أو السفرة التي فوقها المملوءة بالمكسرات والمقبلات وعلب الواقي الذكري أو استخدمت الهاتف أو أرسلت ملابس لمغسلة الفندق من أجل الغسل والكيْ، آه من الكيْ، إني أشعر به الآن على مؤخرتي النائحة بمقولة:
"شعفة يا داود.. ما عاد تعاود".
قلت أعيش في حالة تقشف، أعتمد على إفطار الفندق المشكل من أرز وخضروات وبيض وفواكه صيفية ومربى وزبدة وحليب وقهوة وشاي وعصائر طبيعية وأصناف من أطعمة ومقبلات أسيوية أخرى لا أعرف أسماءها، لكن أتناول منها القليل حتى لا أجوع إلا في المساء، حيث أتناول آنذاك وجبة أرز مع فواكه البحر بسعر زهيد.
أعمل معظم الوقت، لا أخرج من غرفتي بالفندق إلا للضرورة على الرغم من الأجواء الطبيعية الجميلة التي تحيطني، أقضي وقتي متفرجا على التلفاز، أو فاتحا جهاز الكمبيوتر متأملا في صورة الطفلة الرابضة وسط الشاشة، أتأمل بعمق وأفتح حوارا بيني وبينها، أتخيّلها تكلمني، تسألني أسئلة كثيرة ولأني كبير تظن أنني أملك الإجابات، وأنا أملك العصبة مع احترامي لكم، نملك طاقتي على رأي البنغازيين، تمطرني بأسئلة تحيرني كثيرا، أجد نفسي عاجزا عن الإجابة عنها، سألتني لماذا أنت هنا في هذه البلاد البعيدة جدا عن الوطن؟.
أجبتها:كي أكتب.
ابتسمت بمكر وكأنها تقول:
"ياناعليْ وما تحلالك الكتابة إلا في تايلند يا دين أمي".
ابتسمت مرة أخرى ولسانها لم يتحرك، لكن نظرتها ازدادت اتساعا وعمقا، هل أنا كذبت عليها؟ هل أنا فعلا هنا من أجل الكتابة؟ أم من أجل شيء آخر؟ سنقولها بصراحة من أجل الجو السمح والسكير والنساء والتدليك، قالت لي الطفلة أو هكذا تخيلت أنها قالت، إذن سنرى، ستمر الأيام وسنرى هل كتبت فعلا أم ضيّعت الوقت في الوجيج، كما ضيعت من قبل أوقات طويلة؟.
قلت للطفلة أنا هارب من القلق إلى تايلند فريحي... أمي، ولا تصطادي في الماء العكر، وهمست لها في أذنها بعبارة لدي لك مفاجأة:
"لقد صليت الجمعة اليوم"فاتسعت أساريرها وسمعت من قلبها عبارة الحمد لله ربنا يهديك إلى طريق الصلاح.
اليوم جمعة في تايلند، وصوت آذان الله أكبر تسمعه جليا، تدخل إلى المسجد الواقع في شقتين ضيقتين تعلوان مطعم شهر زاد ببانكوك، تدخل من باب المطعم وتمرق من بين طاولات الآكلين، من باب جانبي قرب المغاسل تصعد السلم الضيق، تتقابل في الدروج مع النادلات المحجبات الظريفات والصغيرات جدا، الملقبات من قبل التجار والأشقياء الليبيين بالسنافر، تتقابل بهن في السلم الضيق وهن يجلبن الطلبات من نافذة مطبخ تقع في الدور الثاني، وعلى الرغم من السفر اللاتي في أيديهن والزاخرة بالأطباق الشهية فهن يمرقن من جانبك دون أن يمس ولو طرف صغير من جلابيبهن الوردية جسمك، رشاقة وأناقة ولطف وخلق كريم يا ما شاء الله، الدور الثالث شقة مفرغة من الغرف تفتح الباب تجدها مزدحمة بالمصلين، الدور الرابع شقة أخرى مفرغة من الغرف تفتحها تجدها مزدحمة بالمصلين وبها المحراب غير المفرغ صحنه في الجدار، عبارة عن قوس تحيطه بلاطات قيشاني ملونة، يقف تحته الخطيب ويخطب في المصلين، باللغة العربية واللغة التايلندية، الخطيب شاب تايلندي قصير صغير الحجم ذي لحية خفيفة يمكنك أن تعد شعيراتها شعرة شعرة، أمه مصرية وأبوه تايلندي، أبوه كان طالبا في الأزهر، وهناك في أرض الكنانة عشق مصر وصاهرها متأثرا بآية"أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، وقد دخل على عروسته آمنا من بوليس الآداب، أي بالحلال وأنجب منها شيخا جليلا، تزدحم حوله الناس بعد انتهاء الصلاة طلبا للفتوى خاصة من التجار والسماسرة العاملون في تاي، الجميل في هذه الصلاة الجامعة أنها تشعرك بأن دينك الإسلامي أممي، مصلون من كل أجناس الأرض ومن كل الأعمار، المسجد ذي الشقتين مكتظ جدا، المصلون شكلهم جميل بألبستهم الوطنية، الأفارقة لهم لباسهم المزركش ذي الألوان الفاقعة، عرب الخليج لهم لباسهم المميز المعروف عالميا، جلباب أبيض وعلى الرأس شال يسوّره عقال وفي القدمين صندل جلد أو شبشب، الهنود والباكستانيون والبنغال لهم لباسهم المميز أيضا، الليبيون هم الآخرون لهم لباسهم المعروف، البدلة العربية والجرد والشنة أو الكبوس والبسكل، تشعر كأنك في موسم حج صغير، لا تشعر بأنك سني أو شيعي، كلمة الله أكبر خاصة عندما ينطقها ملحونة قليلا مسلم غير عربي تشعرك بالسعادة والحبور وراحة البال، بعد الصلاة تجد شخصا إفريقيا فاتحا كيسا قماشيا كبيرا كوجه مخدة يجمع التبرعات، وعند الباب تجد وجبات كسكسي أو أرز وغيرهما مكيّسة في علب فاخرة صدقة من المحسنين على المحتاجين، عند خروجك من المسجد عبر الدروج ستمر على المطعم وطاولاته المملوءة بالأسر الخليجية، قد تجد مكانا شاغرا فتجلس لتناول الغداء، وإلا ستخرج مع الخارجين ليلتهمك الشارع المزدحم، حيث بقية المطاعم التونسية والمصرية والعراقية والعمانية والإماراتية والتايلندية وغيرها، فتختار المطعم الذي تهواه شهيتك.
الألوان العطور الابتسامات المعانقات الأخوة السلام.. كلها مجتمعة في روح واحدة وفي مكان واحد اسمه المسجد، ساعتان من الأجواء الروحانية، لا شك أن الملائكة تحلق الآن في المكان، لو لم تكسر الطفلة نظارتي ما كان قلبي قد رآها، الزجاج والبلور والسوائل تعكس الأشياء ولا تراها، الأزياء الوطنية تتألق في يوم العبادة، تمتزج في بعضها لتعبد ربها على طريقتها، تعبده بصلاة ستر الإنسان وحماية جسده من أنواء المناخ، تتسخ فتغسل نفسها لتكون يوم الجمعة جاهزة معطرة، تتطهر بالشمس، أو الحرارة أو الريح المجاهدة ضد كفار القذارة.
مناظر تسر العين، تجعلك تشعر أن المعبود أروع وأرقى وأسمى من هذا السرور البديع، العطر يتزاحم في جو المسجد، يمنح روحه للأنوف، ليكون الأكسجين في هذا اليوم معطرا ولذيذا، وليكون ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء غير ملوثين لفضاء النقاء.
العطر الذي يستدعي رعيته من زهور تكوينه، يستدعي أمهاته وأبائه ليكونوا حاضرين في رحاب هذا الجمع المبارك، لا يشعر أن أسرته قد ذبحها مدق العطر العاصر، ليمنح روحها على هيأة رائحة تبسط الإنسان، شعرت أن أسرتها قد عاشت حياتها بالطول والعرض، تــألـقت في الحدائق، في باقات الزهور، في الأفراح وحفلات النجاح وحتى في المآتم الحزينة. تألقت في جيوب الفنانين والشعراء من عشاق الورود، شعرت أن أسرتها عاشت دورتها الطبيعية في الحياة، وكما يغذي الإنسان التراب بصورة يومية هاهي تغذي الإنسان بنفحة حنان روحية، حنان معطر تمنحه للبشر كل يوم، وتكون سعيدة لذلك جدا، عندما تكون التغذية يوم البركة والخير، يوم الجمعة.
يوم العبادة المباركة، اليوم الذي تلتقي فيه عبر جنس الروائح بكل عالمها المتنوع، تلتقي فيه بكل أعراقها وأجناسها وطوائفها وألوانها، تلتقي فيه كروح جديدة، مسرح حياتها في أنوف وأمزجة الإنسان.
لم تشعر بالضيق من رائحة الإنسان، التي يحاول إزالتها بواسطتها، هي سعيدة عندما تمطر على الإبطين، وعلى اسطوانة الرقبة، وحتى قرب الأعضاء الحساسة للإنسان، عرق الإنسان تحبه، لا تطرده أو تطغى عليه، إنما ترتشفه، خاصة إن كان عرق نشاط، رياضة، جنس، عمل يدوي ذهني، أو حتى عرق فرضه المناخ الحار على بني البشر.
الملابس الوطنية لبلدان المصلين تتألق كثيرا، أغطية الرأس بأنواعها وألوانها وأشكالها، طرابيش، شالات، باريهات، شاشيات، قبعات سعف، قبعات قماش ذات لسان أمامي، كبابيس، معارق ذات شنوارة، شناني برقاوية، بسكل ليبي ذي ذيل كالذي كان على رأس الملك إدريس في ورقة العملة عشر جنيهات ليبية، أوشحة أفريقية، أيضا السترات تنوعت كثيرا، جلابيب، أردية، جرود، سراويل واسعة، قمصان مفتوحة أو ذات أزرار كثيرة، هرك، بدل إفرنجية، سواري واسعة زاهية الألوان ذات سحابات، قماشها مبرقش بالزهور وبخطوط كأمواج البحر، أو برسوم على هيأة جلد نمر.
لو لا تركز في صلاتك وسط هذا الجمع التعبدي ستجد نفسك مشغولا بتأمل هذا الفن الروحاني المتمثل في أزياء المصلين الأممية، كل هذه المخلوقات الأنيقة والنظيفة والعطرة، تجتمع على كلمة واحدة، هي الله أكبر، الله الذي هو أكبر فوق ما نتخيّل أو سنتخيّل، لا مقياس يمكنه قياس حجم الله أو سرّه أو قدرته.
الإيمان به يجلب الراحة والسكينة والاطمئنان، لكن لا يجلب الاستسلام، فالله هو الانتصار، هو المقاومة، هو الحياة التي لا تتوقف في محدود، هو روح الخلق ونواة الوجود، في هذا المسجد الذي بدون مئذنة ولا قبّة، عبارة عن شقة صغيرة في عمارة ضيقة، ترى مالا عين رأت ولا أذن سمعت، ترى أشياء أعجز عن كتابتها، أو حتى تذكرها الآن، الصلاة فيه من التجارب الخالدة، تجارب النسخة الواحدة غير القابلة للنسخ والتصوير، تجارب بيضة الديك، تجارب الفرصة التي تأتيك في الحياة مرّة واحدة فتستثمرها وتستريح، إنه مثل الحج الفعلي، لا أحد ينوب فيه عنك، عليك أن تخوض التجربة بنفسك، تنقشها على متن ذاكرتك النابضة، بعد النقش لا تسأل عنها، ستدخل عالما جديدا، لن تعود منه إلى أينك السابقة.
بعد خروجي من الصلاة تناولت الكسكسي في المطعم التونسي، وحرصت على أن أبدأ وجبتي بقرن الفلفل الأخضر الحار الذي يزين الصحن، حتى أشعر بالحرارة في فمي، وأشعر أيضا أن تناول الكسكسي كما في بنغازي من دون صلاة نوع من العيب والكفر بالنعمة.
على الرغم من أني لا أصلي الجمعة في الوطن منذ الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين حيث حقبة الإرهاب البوليسي والصراع مع الجماعات الدينية، وذلك مشيا من الساس للساس"تجنبا للمشاكل" ودرأ للشبهات، إلا أني كلما أسافر إلى خارج الوطن، أحرص على أداء صلاة الجمعة، لأتمتع برؤية المسلمين من جميع أجناس الأرض متآخين متحدين بحب، ولأشعر أن الإسلام دين أممي صالح لكل البشر، وأشعر أيضا بكل يقين أن الإسلام لا علاقة له بالصراعات والأعمال الإرهابية التي تقوم بها جماعات باسمه، فالإسلام دين سلام وحب ونقاء وطهارة.
شعرت بعد الصلاة أن الله غفر لي ضياعي في الأيام السابقة وعاهدت نفسي التي دائما أنقض العهد معها أن أكون خيّراً وأن أسير دائما على الصراط المستقيم.
لا شعوريا قلبي تأثر من خطبة الجمعة وتأثر من وجودي بين هؤلاء المصلين المنتمين إلى أكثر من عرق ومن بلد.
عند خروجي من المسجد، عجزت أن آخذ قرطاس طعام من طعام الإحسان، ووضعت في كيس التبرعات الذي يحمله المصلي الإفريقي الكهل ذي اللحية السوداء المخضبة بالبياض عشرين بات، ثم هبطت كما قلت سابقا إلى المطعم التونسي لتناول الكسكسو الذي أدمنت معدتي عليه.
إني أصارع الإفلاس، أصارع الوقت معا، لا أشعر بالهزيمة، والهزيمة غاضبة لأني لا أشعر بها، تعري قليلا وسأحبك وأشعر بك، قبلة عميقة من رحيق إحباطك تجعلني أشعر بك، وأرفع عن كاهلك ما أقدر من الألم، سأشعر بك لأحولك إلى هزيمة في العلى، في أي لحظة لو بذلت الهزيمة القليل من الجهد والحب قد تتحول إلى انتصار، وعندما تتحول إلى انتصار سوف لن أشعر بك، لأن الحياة تنسى دائما سلالم الوقود وتحرقها بحطب الجحود والنسيان، سأكون نذلا شريفا كالعادة، أشبع منك، وأغرقك في الحضيض، لأن الحضيض يعشق الهزائم الغانية، ويمنحها فرصة الانبعاث من جديد دون مساعدة إي أنذال مثلي.
الإفلاس أحاربه بخيالي، بسيطة جدا، طظ فيك أيها الإفلاس، سأخرج منك، وأتخيّل أني غني، أما الوقت الفاسد فسأرمي ساعته في النهر القذر، أخخخخخخخخ أشعر بالملل الآن، لا أدري كيف أتصرف، سأتوقف عن الكتابة، سأسافر إلى باتايا، مدينة على بعد ساعتين بالباص من بانكوك، وصلت الفندق في باتايا، سأخرج أتمشى قليلا على شاطئ البحر ولن أصفه بالطبع أو ما رأيت بقربه لأن الوصف في الروايات موضة قديمة وحتى الحوارات التي قد تحوّل الرواية إلى مسرحية موضة قديمة، عصر الوصف ذهب مع ريح العولمة والإلكترون، عصر الوصف تأجل إلى حين، فالتلفاز الآن بأبعاده اللانهائية يصف للناس المشاهد كل دقيقة مسموعة ومرئية فور حدوثها، في ساعة خيالي الآن في باتايا الثانية صباحا، المدينة المكتظة بالملاهي والبارات ودكاكين التحف واللوحات التشكيلية، دور اللهو الآن صاخبة جدا، الكل يحتفل بحصول إسبانيا على كأس العالم جنوب أفريقيا 2010 م، الكل تنكر لهولندا نيدرلاند البلاد المنخفضة، الجمهور كما الشعب مع الفائز دائما، الجمهور كما النساء مع الواقف دائما، خاصة الذي يفوز في النهاية، من يفوز في النهاية تلقائيا الجمهور سيصفق له ويهتف له وسيتبعه بجنون، لأنه تأكد من الفوز، والأمر انتهى، لِمَ النهاية دائما قريبة، الزمن يجذبها إلى الآن سريعا، كل يوم نهاية، كل دقيقة نهاية، كل نهاية نهاية، وكل نهاية لا تبدأ من جديد.
أما رابحوا البداية فيحبهم الجمهور مؤقتا، وينتظر سقوطهم في أي لحظة، والذين يصمدون ويواصلون المسيرة منهم بنفس القوة فالجمهور يقدسهم ويؤلههم، لكن الجمهور الجديد الذي لم يعش في زمنهم لا يهتم لأمرهم، يسخر منهم، فلكل جمهور أبطاله، والجمهور كما الأبطال أشياء تنتهي دائما وتأتي غيرها، نظرة الطفلة تفي بالموافقة على رؤيتي، لقد اتسعت نظرتها أكثر وتألقت أكثر ولم ينته تأثيرها في نفسي أو يضمحل، نظارتي كسرتها وها أنا هذا أرى بصورة أفضل، بصورة أصدق.
تعلمت من الطفولة أن أصرخ كي أتحصل على ما أريد وها أنا هذا أصرخ لأحصل على نزهة على الشاطئ في هذا الوقت المتأخر من الليل، لكن الطفلة تبادلني صراخ بصراخ وتمنعني من الخروج بل وتهددني أن تخبر زوجتي وأهلي ووطني أنني خرجت إلى شاطئ مكتظ بالعراة والشواذ والعاهرات والسكارى وعلى رماله تتم الممارسات الجنسية في الهواء الطلق وعلى مرأى من القمر الذي يخجل ويتغطى بالسحاب ولا يرتاح إلا عندما يهطل المطر بغزارة لتخف حدّة الدعارة قليلا أو تتوقف تماما إنْ انفجر الرعد وارتفع مد الموج وخاف عشاق الجنس من عودة أعاصير تسونامي.
لم أشعر بالحرية إطلاقا، دائما هناك من يراقبني، دائما هناك التزامات واجبة ومستحقة على كاهلي، أمري ليس في يدي، لا أستطيع فعل كل ما أريد، لا أستطيع الحلم بكل ما أريد، الأحلام أحيانا تمارس الوشاية، عندما أحلم أكون متحفظا قليلا، أتأكد أني في حلم فعلا أم شبه حلم أم حلم يقظة، أحلامي لا أختارها وهذا شيء مؤلم، ما أتمناه هو الذي أحب أن أحلم به لتعذر تحققه في الواقع، الأحلام نوع متطور من الأماني، أحلم أن أكون كهذه الطفلة التي تنظر إلي بعمق، هبطت إليها في الواقع لكن عجزت عن التخلص من إرثي الزمني طيلة الخمسين عام الماضية، في الحلم يمكنني الهبوط إليها لأصلها وأنا بعقلية طفل في مثل عمرها، في الأحلام يمكنني رمي كل الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية والرياضية والجسدية والنفسية وغيرها في سلة القمامة، لا أرميها في الشارع حفاظا على بيئة الأحلام، لا أريد الاحتفاظ بشيء عشته في ذلك الماضي، سأرمي بالثورات والمعسكرات والمصانع والمدن الرياضية والمسارح والمكتبات والأسواق والصحف والمجلات الرسمية وبكل المؤسسة الاجتماعية بعيدا، بل إلى عرض وطول الحائط، حائط مبكى أم حائط مضحك أم حائط عابس لا يهم، المهم بعيدا عن وطن حلمي، بعدها سأحتفل بعيد إجلاء كافة القاذورات الزمنية عن أناي، أحتفل أنا والطفلة فقط، لن نصعد لأعلى لندخل المدرسة ونتعلم أوهام الدنيا، إنما نهبط معا إلى أسفل، نعود أنا وهي أصغر من ذي قبل، نعود أنا وهي إلى ثدي الأم، إلى قماطها الناعم العريض الذي تلفه على جسدنا كي يستقيم، إلى رائحتها الزكية وأهازيجها وأغانيها لنا، إلى حبها الصادق لنا، إلى قسم الأمومة والطفولة بالمستشفى لتحقـنـنا الممرضة الليبية بالأمصال واللقاحات، وتمنحنا ست علب حليب مجفف، إلى الحضن الدافئ الذي لا نمل من التقوقع فيه، إلى المهد الصغير المفرش بقماش وردي مبهج، إلى القعاد والمشاي والزمامير والشكشاكات التي تبهجنا موسيقاها، وربما إن استطعنا إلى الرحم، وربما إن استطعنا أيضا ونحن داخل الرحم أن ننقسم إلى نصفين، نمنح نصفنا للأب ونصفنا للأم ونقول لهما:
رحمة بنا لا تتضاجعا الآن، هذا الزمن لو خرجنا فيه سيضاجعنا نحن، سيجرعنا المر الذي ليس بيرة باردة طبعا، إنما بول حمير، تريثا قليلا، انتظرا زمنا أفضل، تناولا مانعات الحمل، البس يا عزيزي هذا الواقي الذكري، ضعي هذا اللولب يا عزيزتي بإحكام، عفوا أيها العزيزان لا نريد أن نخرج الآن، سنظل في عالم كأنّا لم نكن.
في عيني طفلتي مدينة آسفي المغربية، في عيني طفلتي ميناء آسفي الجميل، صديقي عبدالرحيم الخصار إلى جانبي يحلم لي وأنا أسمعه الآن في ساميد التايلندية:
لم أولد في بيت تتراصّ فيه الشرفات والغرف، وتمتد في حديقته أرجوحة.
لم أولد في بيت يتوسطه بيانو أو تعتلي جدرانه لوحة رسم.
لم أنم في مهد ولم أستند على خزانة.
لم أجد قبالتي سوى ثدي طفلة تبكي بدون سبب.
و بالرغم من ذلك فابتسامتي تغمر الأرجاء.
و الموسيقى التي تسيّلها أصابعي
قد حولت خرابي إلى حفلة رقص.
سأقول ليس هناك مشكلة، أنجبوني والله غالب، سأحاول تحويل الخراب إلى حفلة رقص ماجنة، أحب كلمة ماجنة لأنها تحتوي على كلمة جنة، أنا أرقص الآن في حفلة صاخبة في الهواء الطلق، الرقص يفرغني من الهموم، أعرف أني لا أجيده في بلادي المتخمة بالراقصين والحجّالين على كل النغمات، حاولت أن أرقص لكن لا أحد يصدقني، للحكومة نظرة عميقة في الراقصين، تعرف الصادق منهم من المنافق، وحمدا لله أني في برنامج الرقص من المنافقين، حاولت أن أرقص لكن يتم إخراجي من الحلقة بسرعة، أردافهم قوية جدا، عندما يدفعونك بها تجد نفسك مرميا في سبخة، في بلادي وطني لا أجيد الرقص، لكن في بلادي الأخرى تايلند أجيده جدا، حفلة حيّة مختلطة من كل الأجناس، الكل أخوة في الرقص، الكل يبتسم ويضحك ويعانق القريب منه، ثم يطلق حنجرته بالصراخ اللذيذ.
في الحلم يمكننا إقناع الأب والأم بالتريث والقبول وعدم ارتكاب الجناية التي ستورطنا ربما لولا عالم الأحلام والقصائد إلى الأبد.
في الحلم يمكننا إقناع المجتمع والدين والدولة وكل قوة في يدها شكّيمة (لجام)، في الحلم يمكننا أن نعبر ونفعل أي شيء بحرية، ولن نتعرض لأي مشاكل من الدولة أو تحقيقات، لسبب بسيط وهو أن الحلم عمل ليس في الواقع وغير ملموس وأيضا عمل فردي، فليس هناك اثنان يحلمان الحلم نفسه، لأن الأحلام كالبصمات لا تتطابق مع بعضها أبدا، ما أريد أن أفعله الآن بهبوطي إلى هذه الطفلة العميقة بل بالأحرى أن أجربه هو أن نحلم معا، ننام معا، ورأسينا لصق بعضهما البعض، لنكون كائنا واحدا برأسين ونحلم معا الحلم نفسه، نكون كائنا واحدا منطلقا من الواقع وأثناء الحلم نرى إلى أي درجة يمكننا أن نصل في تطابق الأحلام وإن نجحت التجربة سنجرب مع ثالث ثم رابع، إلى أن يتكاثر حُلام الحلم الواحد ومن يدري ربما يشكلون حزبا سياسيا بالطبع في الأحلام وليس في الواقع، وإن توحدت الأحلام، ستتوحد الأرواح والأجساد، ويمكن للإنسان أن يقوم بتغيير أي شيء بسهولة ودون عنف وبطريقة بيضاء إصلاحية.
صعود الطفل إلى عالم الكبار غير ممكن لكن هبوط الكبار إلى عالم الصغار أمر ممكن، فالكبير حتى وهو يكبر يعتبر في حالة هبوط بينما الصغير دائما في حالة صعود، ليس من أجل الالتحاق بالكبار لكن من أجل التطور والنمو واكتشاف الآفاق.
حزب الأحلام حزب خيالي، لا وجود له على أرض الواقع، كونه خيالي نفهمه عبر هبوط الكاتب الزمني إلى الطفلة والالتصاق والإتحاد بها، والنعاس والنوم معا في اللحظة نفسها، فيرانا الرائي الخيالي كائنين بأعضاء ثنائية، رأسي ورأسها، يدي ويديها، رجلي ورجليها وهكذا، لكن ونحن نائمان يكون حلمنا واحد، نحلم حلما لا نتفق عليه مسبقا، حلما يأتي لوحده معبرا عن مآسي ومشاكل وحتى أفراح الحياة الراهنة، تعيه وأعيه ولا يمكننا التعبير عنه بصورة عملية لصغر سننا، لكن هي سعيدة به كطفلة في مدارها وأنا سعيد أيضا بهذا الحلم كطفل في مداري الذي مكني منه الخيال، نحن سعداء لأن الحلم معبر عنا وعاكس لمشاعرنا.
لم أجد صعوبة في التوحد بهذه الطفلة، إنها قريبة مني، بغض النظر عن قربها البيولوجي فهي وجدانيا أقرب، وقرب الوجدان هو الذي جعل التوحد خلال الأحلام يتم، لم يتم الأمر بعملية جراحية، إنما بعملية خيالية، مباضعها وشاشها وأدويتها ومخدرها متوفر في روح كل إنسان أو فلنقل كل مخلوق ليكون الأمر أشمل، قد تهبط كهول الحمير أو القرود إلى طفولة تحبها لتعبر وتحلم جيدا، تحلم بأحلام تعبر عنها وتريحها من الرفس والقفز والنهيق.
الفكرة بسيطة، إنسان هبط لأسفل والتحم بآخر يحبه، وصارا واحدا بأعضاء متعددة، رأسان لكن الحلم واحد، أربع أيدي لكن الحلم واحد، أربع أرجل لكن الحلم واحد.
المتحدان حلما بأنهما يسيران في الشارع معا، يمكننا أن نراهما، كل واحد على حده، يمكننا أن نراهما مجتمعين كتوأم سيامي يحيا بصورة طبيعية ولا يحتاج إلى عملية انفصال على نفقة ملوك وزعماء العرب والعجم، الشكل الذي نراهما عليه ليس مهما، المهم هو الحلم، الحلم الواحد الذي يحلمان به بروح واحدة وأحاسيس واحدة وردود أفعال واحدة، وبتعبير آخر المهم أنه قد حدث بينهم اتحاد أوروبي أو وحدة عربية أو حلف ناتو، أقصد وحدة أحلام، هذا الاتحاد في الأحلام بالطبع مزعج للسلطات، إن استفحل واستشرى وتفشى قد يسحب بساط القوة من تحت أقدام المتحكمين فيها، قد يفك الشكاكيم من الأخطام، إن حلمت الناس حلما واحدا، فمعنى ذلك ثورة وشيكة ناجحة ستنفجر، اختلاف الأحلام وتفرقها وتشتتها من مصلحة الأنظمة السياسية التي تروج للحرية والديمقراطية والعولمة وغيرها من أدوات السيطرة على الجموع، هدفها أن تجعل البشر يحلمون حلما واحدا وهم متفرقون، هذا الحلم من صياغتها هي، يخدمها ويخدم زمن خلودها الوهمي على سن الهرم، الحلم الواحد المصاغ من الفرد الواحد مع فرد آخر وفق إرادته يمنح للفرد قوة جماعة لا يمكن كبحها.. لكن هذه الأمور خيالية، أتصورها تصور فقط، كل رأس وحلمه المختلف عن الآخر، حتى إن اتحدت الرؤوس، حلم واحد متنوع في رأس واحدة، هو حلم واحد ويرى بعدة صور، دعونا من الأحلام لقد دوختني الآن، الآن هبطت إلى الطفلة، تركت ما أحمل على كاهلي من حياة بعيدا، هبطت وحيدا بهيأة عمرية قدرها عامين وربع، أكتب الآن ككاتب لديه وعي، لكن الأحداث لا دخل لها بي، طفلة بعامين وربع تلتقي طفلا بعامين وربع، نفس التفكير والحجم والوزن، لعبا معا قليلا وعندما غالبهما النعاس اقتربا من بعضهما البعض ليكونا إنسانا واحدا بأعضاء مزدوجة، أغمضا عيونهم وانتظرا قدوم الحلم الواحد، سنعرف الحلم، وسنفسره وفق الدين وعلم النفس والعرف، سنستفيد من علماء الأحلام ابن سيرين والنابلسي وفرويد وجوستاف يونغ وغيرهم، قد تصدق الأحلام وتتحقق بدرجة كبيرة وقد لا تفعل ذلك، فالحلم أيضا مثلنا له مشاكله وظروفه وطقوسه ومزاجه وشكاكيمه المجهولة التي تأمره برسم نفسه في هذا الخيال أو ذاك أي هذا المنام أو ذاك، مشاكل الأحلام موضوع آخر يحتاج إلى كُتاب متخصصين، لكن الجميل في هذا الحلم المشترك أننا ضُربنا بعصا واحدة أو دخلنا جنة واحدة، أو جحيم واحد وهذا هو الذي حلمنا به معا أنا والطفلة ذات النظرة العميقة، حلمنا بالجحيم، لا ندري كيف حدث ذلك، النار في ليبيا نسميها عافية، ومعناها صحة وشفاء، لكننا داخل هذا الجحيم لم نشعر بالعافية، أو بالشفاء والصحة، شعرنا بالألم، بالجراح، بالحروق، بالنار الملتهبة، سمعنا الصراخ الأعزل الذي لا حول له ولا قوة، سمعت أخي يصرخ، أريد أمي أريد خطيبتي أريد أبي أريد أخي الوحيد الذي هو أنا أريد أبنائه الذين أنا عمهم الوحيد، وسَمِعتْ الطفلة الكلام نفسه، وصرخت هي أيضا عمي عمي عمي لا تمت أحتاج إلى عم، أحتاج إلى ابن عم يحميني وقد يتزوجني إن صار بيننا قسمة ونصيب، لقد حلمنا بجحيم أرعن، ببنادق آلية تردي أكثر من 1200 إنسان في لحظة واحدة ثم تجرفهم بواسطة جرافة متوحشة قاسية لترمي بهم في حفرة يسمونها قبر جماعي ولا تهيل عليهم التراب الحنون الهش القابل لإنبات العشب والورد وحسب إنما الخرسانة المسلحة، الرمل مخلوط بالحصى مخلوط بالأسمنت بأسياخ الحديد بالماء الخائن بالشمس المظلمة الباهتة التي جففت الخليط على الجثث سريعا.
يا للكارثة، يا للجحيم، لو إنني أعلم أني مع الطفلة سأحلم هذا الحلم ما كنت هبطت إلى تحت، ولظللت في الخمسين عام أعيش بطريقة تفويت الأيام ككل الشعوب المغلوبة على أمرها، أعيش بألم محتمل وأقل حدّة، لا أحس بالألم الفظيع جدا الذي سببته لي طفلة ذات نظرة عميقة، تذكرت عمها عبر حلم طفولي، تذكرت صحبه وإخوته من ضحايا الألم الأكثر من 1200 إنسان، الأكثر من مليون إنسان من مليار إنسان، من قتل نفسا بدون حق كمن قتل الناس جميعا، إنه جحيم بأن تحلم أن الناس في كل العالم قد تعرضوا للقتل بواسطة قنبلة ذرية صغيرة، مجموعة بنادق آلية تطلق رصاصها عشوائيا دفعة واحدة لتقتل دفعة واحدة في وقت واحد، وقت سريع في قصره الشديد، يمكننا حسابه على ساعة أو مقياس اسمه لمح البصر.
الطفلة مرعوبة من مشهد الحلم، ليتني تركتها في حالها، هانئة بحليبها الأبيض وبسكويتها المهروس في العسل الدافئ وحضن أمها العطر، لا شك أني سببت لها الألم بهذا الحلم، جعلت حليبها أحمر يتخلله السواد، لا شك أن رواسب في ذاكرتي قد هبطت معي وانتعشت لتبوح لحظة التحامي بالطفلة في كائن واحد يحلم حلما واحدا، لقد حلمنا معا بالحلم وكنا لا نشعر بالألم كثيرا، لكن ما إن استيقظنا حتى تعالى صراخ الطفلة بشدة، فما كان أمامي إلا العودة سريعا إلى عمري الخمسين، والبدء في طمأنة الطفلة وتهدئتها وإعادتها إلى طفولتها الطرية النقية غير الملوثة بأحلام المذابح التي اقشعر منها زغبها الرهيف.
شعرت إني ارتكبت خطأ بهبوطي إليها لنحلم معا حلما واحدا يعيد إلي توازني، لم أكن أظن أن الحلم سيكون مفزعا إلى هذا الحد، كنت أظنه حلما ورديا هادئا يليق بالأطفال، به موسيقى وربيع وشمس وخضرة وكتب ومجلات ورياضة وشعر، فإذا به ينقلب الحلم كسكسو، ويأتينا حلم مجرم، لا ندري كيف فر من خزانة المنام ليباغت بهجتنا بنيران الوجيعة.
في المقابر الجماعية يمزج الموت كل المشاعر والأحاسيس والأماني والدماء واللحم المثقوب والمحروق في كائن واحد، يجتمع في كيانه كل ضحية، فهذا قلب وذاك إصبع وهذا رأس وهذا عين وهذا أذن وهذا ذراع وهذا صدر وهذا كتف وهذا ظهر وهذا عنق وهذا قلب، يمكننا أن نجمع في إنسان واحد أكثر من 1200 عنصر ونيف لنقسمها على الضحايا ولو زاد الضحايا فبالطبع سنجد المزيد، فالإنسان كلٌ من أجزاء لا تحصى، رقعة شاسعة تكفي الجميع وتفيض، هذه الأموات ستحلم حلما واحدا، نختصره في القصاص من القاتل، تذهب إليه كل ليلة وتفزعه، هو بالطبع لا يمكنه أن يقبض عليها ويقتلها مجددا، ترهق تفكيره، تؤثر في مصيره، تمنعه من النوم بصورة طبيعية، تمنعه من الأكل، تمنعه من الجنس، تمنعه من الأحلام أيضا، تمنعه من ممارسة جميع فعاليات الحياة، وتسمح له بشيء واحد وهو أن يصلي، لأن الأحلام المتحدة لا تقف حجر عثرة أمام الإله وأمام شريعته الصلاة، وعند ذكرنا للصلاة، تسأل أحلام الضحايا: وهل كان يصلي عندما قتلنا؟!.
فتجيبها أحلام الحياة، حتى الحجاج بن يوسف كان يصلي، وحتى هتلر ونيرون وغراسياني وبوش وشارون وكل سفاحي العالم يمارسون شعائر دينية، فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر لكن لا تملك سلطة منع حدوث تلك الفحشاء وذاك المنكر.
عندما تموت مجموعة من الكائنات دفعة واحدة نتيجة جريمة قامت بها سلطة السياسة أو سياسة السلطة:
تصفيات جسدية.. أعمال إرهابية.. قنابل ذرية.. تطهير عرقي أو طائفي أو غيرها.
عندما تموت مجموعة من الكائنات دفعة واحدة نتيجة جريمة قامت بها سلطة الطبيعة أو طبيعة السلطة:
زلازل.. براكين.. فيضانات.. انهيارات ثلجية أو ترابية.. أوبئة.. حسد.. الخ.
فإن لحوم ودماء وعظام هذه الكائنات تختلط في بعضها البعض مكونة مخلوق واحد، بأطراف وأعضاء عديدة، هذه المجموعة التي جعلها الموت نتيجة مذبحة أو جريمة أو كارثة أو حتى قضاء وقدر كتلة واحدة ستحلم أيضا حلما واحدا يبلور مأساتها ويعبر عن أمانيها ويحقق قصاصها العادل الذي يساوي ويتجاوز ما عانته أرواحها من ألم أثناء دفعها دون إرادتها لفعل الموت، خاصة إن كان هذا الموت قد نفذ غيلة وغدرا وفي ظروف لا إنسانية خالية من النبل والعدالة والفروسية كقتل الأطفال والعزل والضعفاء والمرضى والأسرى وكل الذين ليس لديهم حول ولا قوة.
الناس التي تُـقـتل جميعها وتدفن في قبر واحد تتحد أحلامها تلقائيا فما بعد الموت لا توجد مقاومة سوى الحلم، الدم المحترق كفيل بتوحيد الأحلام في حلم واحد، يجعل الضحايا ينعسون معا ويبدءون الحلم معا، كما صرخوا معا حين ذبحهم، كما قتلوا معا، كما قبروا معا، ينامون ويواصلون الحلم دون توقف، حتى إن حدث القصاص، فسيواصلون الحلم، لقد تمت سرقة حياتهم التي منحها لهم الله دون وجه حق، سيواصلون الحلم لأن يقظتهم تشعرهم بالألم، مواصلة الحلم ليس هروبا، لكنه حياة جديدة يعجز الجلادون عن تتبعها واقتلاعها منهم.
في حياة الحلم يوجد كل شيء: زواج طلاق عمل قراءة رياضة ثقافة بيع شراء عبادة، كل شيء نجده في حياة الواقع نجده أيضا في حياة الحلم حتى الجلادين والطغاة الذين يتسللون إلى الأحلام على هيأة كوابيس فارغة نجدهم حاضرين طبعا بقوة.
الضحايا يعيشون في الأحلام ويحلمون بالشيء الذي نعسوا وناموا من أجله كي يحلموا به، وإن عاد عيسى عليه السلام مع معجزته وأعادهم للحياة فسيدخلون الحياة التي قتلتهم حالمين، سيدخلون إلى خيالات الأحباء عبر الأحلام، يمكثون في بيوتهم كأحلام تتوزع على كل أفراد العائلة والأصدقاء، قد تكون أحلاما وقتية وقد تكون دائمة، المهم أن هذه الأحلام حرة لا أحد يتحكم فيها، أحلام تعيش في البرزخ، تنتظر يوم الحساب والعقاب والثواب لتخرج من دنيا الأحلام المؤلمة إلى الجنة أو إلى النار، لكن النار لا اعتقد أنها ستدخلها، فالله غفور رحيم خاصة أمام إنسان قتلته الآلة السياسية غيلة وغدرا بدون محاكمة وهو سجين جائع مريض أعزل محشور بين أربع جدران ومغلوب على أمره، فلا نامت أعين الجبناء.
لابد أن أجد قبر عمي، لابد أن أجد قبر أخي، سأتحول وكل أحبائي في دنيا الأحلام أو المتحدين معي في حلم واحد إلى نمل، نمل كثيف بعدد مخلوقات الحياة، يدخل كل الأبواب ويغور في كل الجدران الأفقية والطولية ويلج أيضا صلادة الثقوب باحثا عن حفرة المقبرة الجماعية، سيقلب ليبيا كلها رأسا على عقب حتى يجدها، سأتحول أنا ومن معي في دنيا الحلم الواحد إلى أسفنج ينزح البحار لنرى أين يمكث أحباؤنا القتلى، وإن كان قد أكلهم الحوت فسنفتح كل علب التن والسردين والرنجا والسلمون لنشم رائحتها وهل من رائحة لأبنائنا وإخوتنا وأحبتنا فيها، سنتحول إلى عصافير وسحب وطائرات ورقية وأمطار لم تهطل لنمسح الفضاء كي نجدهم، سنتحول إلى أنوف تشم رائحتهم وتخرجهم من قبر ضيق لم يختاروه، من قبر لم يشهد وداع أحبابهم، من قبر مجهول إلى قبر شريف معروف تزوره الناس على مدار العام، على مدار الدهر، كما تفعل الناس مع قبور الأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحين.
دعونا نتخيل أننا أسسنا حزبا للأحلام، لا اتناص هنا مع الروائي الألباني إسماعيل قادري وروايته بيت أو قصر الأحلام.. ذاكرتي ضببها حبر الزمن وأغلفة الهموم.. ربما صدرت أوائل التسعينيات من القرن 20 عن دار الآداب اللبنانية.. لا أتناص مع قادري.. أقسم لكم بجوليا كريستيفا وبكل نقاد البلغار والفرنسيس.. فلي خصوصيتي في تناول موضوع الأحلام.. ولي نكهتي الليبية الخاصة والمتميزة.. وإن هناك تشابه يسعدني أن أكون لصا بصورة عفوية ولا إرادية.. أنا ثمل قليل الآن من خمر الإبداع.. تجرعت آلاف الروايات في كؤوس السطور.. ومززت بالقصص القصيرة والقصائد الحديثة غير المرتبطة بوزن ولا قافية ولا إيقاع وبعد الثمالة وانتهاء السهرة ركبت على عروس من موسيقا.. ضاجعتها وأنجبت منها كمان ودربوكة وناي وكثير من الدفوف والبنادير وأيضا أنجبت منها بيانو من خشب معطر يطلق رائحة أشمها فأستغنى عن أكسجين الحياة.. وأتنفسها فتسعد رئتاي بالترانيم.. حزب الأحلام حزب تمتزج فيه الناس، تمتزج حيّة أو ميتة، حيّة ستجد صعوبة في أن تحلم حلما واحدا، لكن امتزاجها وانصهارها يجبرها على ذلك، تمارس دكتاتورية الأحلام، حلم واحد يحلم به الجميع، أي الأحياء لا يحلمون حلما واحدا ببراءة وبصدق نيّة وسريرة وبشفافية، يحلمونه بحذر وحرص لأسباب نعرفها جميعا، في الحلم الواحد لا أحد خارج الجميع، لا أحد يتفرج من خارج الدائرة، الناس تتفرج على بعضها بالنظرة نفسها، يحلمون بالخروج من الدائرة فيخرجون، يحلمون بالدخول فيدخلون، ليس هناك أسبقية داخل أول داخل ثان، هناك هبّة حياة واحدة تدخل إلى الدائرة مباشرة في وقت واحد وتخرج منها أيضا في وقت واحد دون ترك أي متخلفين، وإن وجدت هذه الحياة أمامها أكثر من دائرة تبتسم وتطلب من الدوائر الأخرى أن تحلم مثلها حلما واحدا كي تسمح لها بالانصهار معها ولا تحلم هذا الحلم إلا بعد أن تموت دفعة واحدة نتيجة مذبحة أو كارثة أو وباء، دوائر كثيرة على السبورة مسحها المدرس، بالونات كثيرة في الجو فرقعها الشوك، كور كثيرة على العشب ركلت خارج المرمى، فقاعات كثيرة دفعت على الصخور فتمزقت، وتخيّل المزيد من عالم الدوائر والأشكال المدحّاة واقتلها لتتمكن من معايشة الحلم المشترك.
تمتزج الدوائر بالدائرة الأم والجميع يحلم حلما واحدا، الناس الحيّة تجد صعوبة في الانخراط في حزب الأحلام، ستعتبر الأمر طوباويا قليلا، ولا تعتبر الأمر جديّا لأسباب كثيرة، منها أن النار لم تصل إلى سروالها بعد، لكن عندما تمتزج الناس الميتة في بعضها فلن تجد صعوبة في الحلم سريعا بحلم واحد، حلم يلخص ويختزل مصيرها المشترك، يركز ويوحد نفث الألم المبرح المفضي إلى انتزاع الحياة من الجسد عنوة، لقد وصلت إلى قناعة أن الأحياء من المستحيل أن يحلموا حلما واحدا لاختلاف مشاربهم وتعدد طباعهم وذائقاتهم، لا يمكنهم الحلم بصورة مشتركة حلما واحدا إلا إن انخرطوا في حزب واحد، في تنظيم واحد، يصهر كل رؤاهم في رؤيا مشتركة، لا تفهموا من ذلك أني أعني النظام الجماهيري الليبي العالمي والمؤتمرات الشعبية، ولجان الصياغة التي تصيغ قرارات الجماهير لتلخصها وتحولها إلى توصيات تشتمل كل الآراء، ولا تفهموا أن حكاية الحزب الواحد هي حزب شمولي، وطني، شيوعي، قومي، ديني، الخ، كل الحكاية وكل الأمر لا علاقة له بالسياسة، كله متعلق بموضوع الأحلام، كله متعلق بالميتافيزيقا، حزب خاص بالأحلام، الناس تنصهر في بعضها وتتحول كما قلنا إلى كائن واحد بأطراف وأعضاء عدد الناس المنخرطين فيه، هذا الكائن يحلم حلما واحدا، حلم يتشكل من رؤى، وخيالات وهموم كل هؤلاء البشر، هذا الكائن بالأعضاء المتعددة وبالحلم الواحد صعب تكوينه تلقائيا، تكون أكثر من مرة على مر الزمن، تكون عبر المذابح التي تتراكم فيها الجثث على بعضها البعض في:كمبوديا وبورما وفيتنام وأمريكا والهند وإسبانيا وقرطاجنة وأفغانستان والأرجنتين ورواندا والعراق وفلسطين ورومانيا وليبيا والجزائر وإيران والشام واندونيسيا والبوسنة والهرسك وبقية البلقان وتشيلي والشيشان وهاييتي والمكسيك والصين وأرمينيا والصومال وباكستان والهند واليابان وألمانيا وغيرها من بؤر الشقاء العالمي.. الكرة الأرضية الآن كما الماضي كرة دم، لا شبر واحد فيها نجا من الجراح.
هذا الكائن بالأعضاء المتعددة وبالحلم الواحد كما قلنا صعب تكوينه تلقائيا، تكون أكثر من مرة على مر الزمن، تكوّن ليس عبر مذابح الإنسان لأخيه الإنسان لأسباب سياسية وعرقية ودينية وغيرها فقط، تكوّن أيضا عبر مذابح أخرى اقترفتها الطبيعة من زلازل وبراكين وفيضانات وانهيارات وأوبئة، كل تلك الضحايا ماتت دفعة واحدة وانصهرت وهي الآن في حزب الأحلام، تحلم حلما واحدا، حلما تبدأه بكلمة"لماذا"..:
لماذا أيها الحجر؟..
لماذا أيها الماء؟..
لماذا أيها الخشب؟..
لماذا أيتها النار؟..
وسأضيف من عندي لماذا أيها الحظ؟.
الحزب شعاره لماذا؟.. والحلم المشترك هو الإجابة.. حلم يدين السلطة.. يدين الطبيعة.. يدين القوة والجبروت.. يدين الشكيمة من فمها ومن طرفيها.. يدين هابيل أو قابيل أقصد منهما الأخ الذي قتل أخيه.. يدين انتزاع الحياة من الحياة بدون وجه حق.. حلم يعيد الحياة لأصحابها من براثن الموت.. حلم يبعثهم من جديد كما يبعث الإله عباده ليحاسبهم، لكن الحلم يعيدهم إلى الحياة ليس ليحاسبهم إنما ليعيشوا حياتهم مرّة أخرى بكل حرية.. مرّّة جديدة طازجة.. مرّة جديدة تعوض مرّة الموت المسلط عليهم ظلما من قبل طغاة البشر وطغاة الطبيعة وطغاة القدر.
سأجد أخي من جديد.. وأنت ستجد أباك.. وأنتِ ستجدين زوجك.. وأنتِ ستجدين ابنك.. وأنت ستجد خالك.. وهو سيجد عمه.. وذاك سيجد جده.. وهذا سيجد صديقه.. وهذه ستجد عشيقها.. وكل الشمل يلتئم، وكل البلاد تفرح، وكل العالم سيكون سعيدا بعودة أمواته الأعزاء، الذين ماتوا دون وجه حق، ماتوا ظلما، كل الموتى العائدين إلى الحياة مجددا سيشكرون حزب الأحلام، وسيقدرون عمله، وسيمنحونه أصواتهم بل أرواحهم في الانتخابات، وماذا نريد من حزب أو جمعية أو اتحاد أو منظمة مجتمع مدني أكثر من إعادة الحياة لكل من قتل ظلما؟!.
هذا الحزب لا فرق بينه وبين عيسى عليه السلام في إحياء الموتى، الفرق الوحيد هو المعجزة وإحقاق الحق، فالمسيح يحي الموتى ليقدم معجزته للحياة، بينما حزب الأحلام نتخيل أنه يحي الموتى ليقدم عدالته للحياة.
ربما يستحسن أن تكون نهاية الرواية الآن، لكن لا أريد أن أفعل ذلك، أريد أن أثرثر، أريد أن أخرّب هذا الجمال، أريد أن أتمتع باكتشاف كلمات وأحداث جديدة، أريد أن أغامر، أن أمارس المقامرة الأدبية اللذيذة، النجاح المضمون الذي حققته حتى السطور السابقة سأضحي به، سأواصل الكتابة الآن، الآن ليس في رأسي شيء أكتبه، سأثرثر وأتبع ثرثرتي إلى حيث تقودني، الشكيمة التي في خطمي الآن اسمها ثرثرة، سأنصاع لها ولا أتمرد، أهبط مرة أخرى إلى بئري الزمني، لأنصهر في طفلتي العميقة، أهبط عميقا وكما قلت لا شيء في رأسي، هذه التعابير المكتوبة سلفا والآن ليست من كائني الهابط، إنما من كائني الممسك بالقلم الضاغط على أزرار لوحة المفاتيح، المبدع لهذه الحروف، هبطت إلى تحت، لم أجد الطفلة العميقة، هل تم اقتيادها للتحقيق لمسها الخطوط الحمراء حول مذبحة بوسليم وكل مذابح البشرية، هل توجد شرطة ومخابرات وسجون خاصة بالأطفال الرضع، بالأطفال الذين في طور الحبو الآن، لم أشعر باليأس وجلت قرب مهدها انتظر عودتها.. الحقيقة غير ما كتبت.. الحقيقة أني لم أجد صورتها على شاشة الحاسوب.. لا أعرف ما حدث.. الحاسوب ليس به عطب، حاسوب توشيبا ليس أصليا، أعطاه لي وزير الثقافة ليساعدني في الكتابة بصدق وبشجاعة وبشفافية ـ ههههههها معلش اشوية كر حبل وتملق للوزير وهذه سنة الحياة ، حاسوب جميل يعمل بصورة تلقائية، جلست أمام الشاشة أفكر بالأمر، أريد إعادة الصورة إلى مكانها بأي ثمن، أعجز عن الكتابة إن لم أتملى في نظرتها أولا، ربما البارحة وأنا أرقن مادتي الروائية قد ضغطت على زر إلغاء الصور دون أن أشعر، ربما رأيت نارا قادمة ستحرق طفلتي فغيرت مكانها وحفظتها في إحدى الملفات الآمنة المنعشة، خرجت من الغرفة وارتدت أقرب مقهى نت.. فتحت بريدي الإلكتروني الذي احتفظ فيه بنسخ احتياطية من ملفاتي وصوري.. سجلت صورة الطفلة في الفلاش (إصبع الذاكرة) وأعدت زرعها بعد عودتي إلى الغرفة على شاشة حاسوبي، قام الحاسوب بالكشف التلقائي عليها فوجدها نقية وبريئة من الفيروسات الإلكترونية.. شعرت بالسعادة تغمرني حالما رأيتها متألقة على الشاشة من جديد بالنظرة العميقة نفسها التي تركتها عليها.
لم انتظر طويلا وامتزجت بها.. صرنا كائنا واحدا، بالطبع بأعضاء عدّة.. لم نبدأ الحلم لأنها لا تشعر بالنعاس ولا تحب أن تحلم أحلام يقظة كالتي يحلم بها الكبار لتعليق أكوام فشلهم ونفاقهم على مشاجبها.
تعبنا من اللعب والمرح والغناء فتسلل النعاس كنسيم لذيذ إلى عيوننا، الأطفال سريعا ما يغالبهم النوم فينامون، ليس هناك من أمور قد تسبب لهم السهد والأرق، لا شاي ولا قهوة ولا سجائر.. لا قصص حب زائفة، لا بحث عن عمل، لا خوف من امتحان في المدرسة أو الجامعة، أيضا لا تفكير في مسائل الوجود ومتطلبات الحياة.
الطفل لا يترك الوجود يسأله أو الحياة تربك برنامجه البسيط.. الطفل هو من يربك الحياة والوجود بأسئلته الصامتة العميقة.. يسأل بواسطة لغة النظرة العميقة.. سؤال خال من الكلمات.. سؤال بلغة يجيدها الوجود وتجيدها الحياة ويجيدها الطفل أيضا.. هذه اللغة ينساها الإنسان وتضعف حصيلتها في روحه كلما تقدم في العمر يوما، لغة يقتلها الزمن الصاعد إلى أعلى وينفخ في روحها زمن الهبوط إلى أسفل، لغة يفسدها اتساع الأفق وتكاثر المعارف ويحفظها البقاء بمعارف أقل وأفق محدود لأطول زمن ممكن.. عندما تصل الطفل الإجابة بلغته الخاصة من السيد الوجود والسيدة الحياة يبتسم وينام هانئا ويحلم بأشياء طريفة تجعله يقرقر في نومه فنقول عنه أنه تضحكه الملائكة وإن صرخ أثناء النوم فمعنى ذلك أن هناك من انتهك أحلامه وتطفل عليها وعبث بخصوصيته ماساً حاسة حب التملك.
قد يكون سبب الصراخ ألما على هيأة مغص مفاجئ وقد يكون شيطان استغل غفلة الملائكة عنه للحظة فرفسه بقرنه أو أفزعه بعينيه الجحيميتين.
تأتي الأم الآن.. تضع حلمة ثديها في فم الطفلة.. ومع دفء الحليب يتلاشى الأبالسة.. تعود السكينة، يعم الهدوء الروحي كيان الطفلة.. وتواصل نومها العميق وحلمها العميق ثم تستيقظ لتواصل رسالتها الفطرية في بث الخير عبر نظرتها التي تريح أعصابي وتجعلني أتجاوز أزماتي جميعها.
بماذا تحلم طفلتي؟ هل نحن من نختار أحلامنا؟ أم هي التي تختار نفسها لتنبثق من قلوبنا؟ أم الاختيار مشترك بينها وبين أرضها التي هي نحن.. الاختيار مشترك هو الأقرب هكذا خمنت.. دعينا ننام أولا لنبدأ الحلم.. وأرجو أن لا يكون حلما بمذابح.. دعينا نفرح ونمرح قليلا.. دعينا نحلم أننا عدنا إلى أرض الوطن بعد رحلة تشرد طويلة.. نتجوّل الآن في شوارع وأزقة المدينة.. نزور النصب التذكاري.. نزور مقبرة الأحلام.. المقبرة الجماعية التي دفن فيها أكثر من 1200 بني آدم أعزل ذبحوا في لحظة واحدة دون محاكمة.. لقد تم تشييدها على شكل هندسي يوحي بالألم.. قسم منها على هيأة صرخات متشابكة وقسم آخر على هيأة قبضات هزيلة تضع نفسها على الرأس داعية وقاية من رصاص كالمطر يأتيها من علٍ.. ما إن تصل المقبرة حتى تسمع الدعوات مختلطة بالصرخات.. صرخات تنتجها التكوينات والتجويفات والتعرجات والممرات الكثيرة لمعمار هذه المقبرة التي تسمح بدخول الهواء من عدة كوّات ليخرج من كوّات أخرى تفضي إلى البحر أو فضاء الصحراء، على هيأة أنين وبكاء ونور ونواح وضحك ومزامير حزينة حسب سرعة الريح ونوعها.. معمار جميل على هيأة ناي صخري ملتو ومتشابك وذي قبة مفتوحة إلى الأعلى.
هذا الصرح شيدته أحلام الضحايا أو حزب الأحلام والمتعاطفون معه من مناصري حقوق الإنسان في زمن قياسي.. شيدوه بطوب الدموع ورخام الدماء ودهنوه بطلاء مالح شفاف يخرج بغزارة من جباههم.
الصرح اعتبره الجميع تحفة معمارية نادرة ضمت سريعا إلى عجائب الدنيا السبع ومنحت من قبل نقابة المعماريين العالمية لقب المعجزة الأولى.
الأمور أحيانا تكون على ما يرام وأحيانا لا تكون كذلك، الحياة ريح، تهدأ وتصخب، تشتعل بالغبار وتموت بالمطر، الطفلة التي أحبها أراها مرة أخرى على شاشة الحاسوب، نظرت إلي بعمق وهمست لي بلغة النور، دعنا من المذابح، غير لي الموضوع، أحك أي شيء، ثرثر حتى لا يهم، تكلم بأي شيء نابض بالسلام والحب، أجبتها بنظرة موافقة وها أنا هذا أهبط إليها من جديد لنمتـزج ونحلم معا.
وتوالت الأيام والأحلام المشتركة ذات المناخ الواحد، لكن لدي ملاحظة، اكتشفتها وأنا في حالة تمعن بالأعلى، الطفلة صرت أراها كل يوم وقد تغيرت قليلا.. تغير طفيف لكنه واضح ومتميز، هذا التغير صار يعذبني، جعلني أصعد درجة جديدة في سلم هبوطي، الطفلة تنمو لا إراديا، ومع نموها لابد من أن أصعد أنا بيدي درجة، كلمة ـ بيدي ـ أريدها أن تنطق كما لهجة برقة، بدون فتح ثاني حرف بها وهو الياء وتركه كما الباء مكسورا، مازالت الأمور على ما يرام، مازالت الطفلة طفلة بتصرفاتها، تفكيرها ينمو ببطء، نمو غير مؤثر، لا تفقد بهذا النمو فطرتها وسذاجتها وصدقها وبراءتها، بينما أجدني أنا أمام طفلة قد اكتسبت خبرات جديدة قد تفسد علي هدفي من الهبوط إلى أسفل، كل هبوط بدأت أكتسب خبرة جديدة، أثناء صعودي إلى عمري الخمسيني بعد أن أنهي برنامج أحلامي أشعر أن عقليتي قد تغيرت قليلا، أشعر بأني أتجه إلى مرفأ الطفولة، بدأت أبكي سريعا لأتفه الأسباب، بدأت أعبر عن رغباتي دون خجل أو تحفظ، لا أفعل ذلك بصورة مرضية، لكن بالتدريج، أنا أدرى بنفسي، أدرى بالتغير الطفيف الذي حدث في حياتي، بالمقابل لا أدري هل الطفلة أثناء نموها قد أكون قد أثرت فيها، لكن لا اعتقد ذلك لأني أهبط إليها مجردا من إرثي الكبير، أهبط إليها طفلا في مثل عمرها، تاركا خمسينيتي الأليمة وما احتوته من تداعيات لهذا الكاتب الذي يقرأ الآن أو القارئ الذي يقرأ الآن.
أتصرف لا شعوريا مثلها ولا أعود إلى عمري الخمسيني وحياتي الطبيعية إلا بعد أن يرفعني الكاتب أو القاري بسن قلمه أو طرف إصبعه ويرمي بي واقع الحياة الذي قد يكون مرا أو حلوا، لا أعرف كيف يتم قياس واقع الحياة لمعرفة حلاوته ومرارته، من الذي يقوم بالتذوق؟، من يعرفه عليه أن يخبرني وسأمنحه جائزة؟، سأمنحه صافرة يصفر بها عندما يجن في مفارق الطرق أو زمارة يزمر بها إن عاد طفلا وإن اقتنعت بمعرفته سأمنحه باقة ورد عليه أن يبحث عن تراب يغرسها فيه كي تظل حيّة حتى قدوم عيد الأم وعيد الطفل وعيد الأرامل، ليقدمها هدية لكل أم فقدت فلذة كبدها أو فلذة فراشها.
وإن كان هذا العارف الفالح من المتزلفين للسلطة أو الحكومة سأخدمه خدمة خاصة وأمنحه بنديرا وطبلا وشملة ناعمة بألوان الطاووس يتحزم بها ساعة نوبة ردحه الأبدية.
لا أدري لماذا لا يتوقف الزمن على لحظات جميلة نحبها أن تستمر؟، لماذا يجعل للجمال عمرا؟، وللروعة عمرا؟، وللحلاوة عمرا؟، لماذا يتقدم إلى الأمام أو يعود إلى الخلف عبر تقديمه للعبر والمواضع؟، لماذا لا يتعمق كنظرة الطفلة؟، لماذا لا يهبط مثلي إلى زمان أصغر وأنضر وأحلى؟، لماذا لا يطير الزمان إلى أعلى؟، يطير بجناحين أو من دون جناحين، يطير ككرة ترتطم بالأرض فتصعد إلى أعلى، الزمان ذكي لا يفعلها، فكل صاعد هابط لا محالة، يحب دائما أن يسير إلى الأمام إلى ما لا نهاية، يقتل أثناء سيره من يريد، سم الزمان قاتل لا نجاة منه، يفتك بنا رويدا رويدا على مهل وببطء، كل يوم يمضي يغرز فيك أنيابه أكثر ويمتص منك قسما من رحيق الحياة إلى أن يجففك تجفيف مرارة، إن نزلت إلى أسفل فنزولك مؤقت، حتى وإن أبقيت امتزاجك في الطفلة فسوف تنمو الطفلة يوما جديدا وتنميك معها، من الممكن أن تخدع الأمكنة أو تنتقم منها بأن تحرقها مثلا، لكن من ذا الذي استطاع أن يحرق الزمان، هناك الكثير من البشر يودون فعل ذلك، لكن لم يجدوا كبريتا يشتعل في هذا الزمان، سافروا في كل جهات ومواقيت الزمن، سافروا عبره، سافروا قبله، لكن دائما في النهاية الزمن يجرفهم إلى الأمام حيث الموت الحتمي الراكل مؤخراتهم إلى وادي العذاب والضعفاء منهم يركل حتى أرواحهم، يقولون أننا نحرق المراحل والزمن يقول لهم بل تحرقون أنفسكم.
لا أحد قاوم الزمن، لا أحد عانده وربح، لا أحد قاوم شيئا أتى به وصار يكبّره من دون أن يشعر، الزمن خمر، الزمن مخدر، الزمن حلم يقظة مزيف، الزمن سراب شمسه تضيء لكنها تقتل، الطفلة تكبر، الأحلام تكبر وتتغير، والجميل أن هذه الأحلام كما قلنا سابقا هي حلم واحد متكرر لكن كل مرة يظهر من زاوية مغايرة وبصورة مختلفة عن التي قبله، لا تتطابق الأحلام لأنها تحدث في زمن مندلق، وكل ثانية أو دقيقة كفيلة بأن تغير الحلم.
الضحايا يحلمون، الطغاة يحلمون، الناس جميعها تحلم، لا نوم بدون أحلام، ولا أحلام بدون نوم، الأحلام ترفض أن ينام الإنسان على هواه أي بحرية، فتأتيه وتجعله رغما عن أنفه يراها ويعيشها وكأنه يعيش في الواقع، يتفاعل معها، يتعاطى معها، وعندما يقرر الحلم أن يغادر لا يستطيع الإنسان أن يسجنه، يغادر رغما عن هذا الإنسان، مهما كان الحلم لذيذا ومطلوب منه من قبل الحالم الخلود في منامه إلى الأبد، يغادر عنوة بكليته، وقد يكون الحلم حلما كريما فيترك للإنسان اللحوح نتفا منه في ذاكرته، أما إن كان حلما بخيلا فينقل معه حتى خيال الغبار.
لا أحد اكتشف كيف يقبض على الأحلام أثناء حدوثها أو يأسرها ليزج بها في سجن المنام، الحلم كالفرحة غير قابل للسجن، طيف درامي لا يمكن القبض عليه، نستمتع به لكن لا نملكه أبدا، لو توصل الإنسان إلى طريقة للقبض على الأحلام، فلن يجد الإنسان آنذاك أي حلم يحلم به، ستحجز كل الأحلام الجميلة مسبقا وسيشترونها الأغنياء ويزرعونها في رؤوسهم عند النوم كما يزرعون الشعر على صلعاتهم، وأقول بالمقابل لن تجد الأحلام ذاتها إنسانا تتمكن من الدخول إليه بإرادتها، فعندما تتم سرقة الأحلام لن تنام الناس خوفا من سرقتها هي نفسها.
لماذا نحلم؟، لماذا نتمتع بشيء اسمه الأمل؟، لماذا نحب الانتظار؟، الطفلة كبرت وأنا هرمت، وصارت الطفلة مثلي تنزل إلى تحت لتعيش طفولة جديدة تمتزج بها وتحلم حلما موحدا لتستأنس ولتتمتع بأنس الأحلام، لقد رأت صورة طفل صغير على شاشة حاسوب، طفل ينظر إليها بعمق فبادلته النظر بعمق وقررت أن تهبط إليه من عمرها الثلاثيني لتمتزج به وتحلم معه حلما واحدا، حلما يعيدها طفلة لتتمكن من صياغة حياتها من جديد، لتتمكن من تنقية دربها من الأخطاء والخيبات، تحاول أن تبدأ من جديد، تستمر في عمرها الثلاثيني مرغمة وتنمو في عمر آخر صغير وهي على وعي بذلك، وعي لا انفصام للشخصية به.
هههههههههه، أنا سعيد الآن، التقيت البنت الخليجية، لم تسافر، كانت مريضة في المستشفى الأمريكي ببانكوك، لم تشأ أن تخبرني بذلك، عرفت أني قادم من أجل الكتابة فلم تعكر علي صفوي، معرفتي بها عابرة، جلسة لم تتجاوز ساعتين، لكنها عرفت أني قد ارتبطت بها، وارتبطت بي، ومعرفة أنها مريضة كفيل بجعلي أقلق والقيام بزيارتها في المستشفى حتى لو كنت في مدينة بعيدة عن العاصمة، وإن حدث ذلك ما كنت قد كتبت الصفحات السابقة أبدا، بخورها الذي شممته عليها فعل مفعوله في، تشبعت به روحي، جعلني كصوفي تابع لمريده، أعجبني فيها صراحتها، دعوني أكذب بشأنها وألفق لها قصة لن تحدث أبدا، وقد تحدث، لأني سأكتبها بحبر الواقع، جاءت لبانكوك لترقيع بكارتها، لقد فقدتها نتيجة لقاء مع صديق من بلادها وعدها بالزواج، لكن هذا الصديق للأسف تغيرت مفاهيمه، ترك الخمر والعلاقات العاطفية والرؤية العلمانية للحياة، واتجه ناحية الدين الذي وجد فيه عزائه حسب قناعته، تسلل إلى العراق وهناك نفذ عملية انتحارية، عبرت به ومن تسبب في موتهم إلى العالم الآخر.
في البرزخ قبض عليه أولئك القتلى وأشبعوه ضربا حتى قتلوه من جديد، ثم أخرجوه من برزخهم إلى برزخ منفى، خافوا من أن يقتلوا مرة أخرى، المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، عرفت تغيره سريعا، واتجاهه للإسلام ولم تمانع في ذلك بل فرحت وتوقفت عن مواعدته أو إغوائه بل ارتدت الحجاب وصارت لا تخرج إلا وعلى رأسها وشاح غامق غير شفاف منسدل من رأسها حتى أسفل ظهرها وسرتها، وتبعت نصائحه فداومت على الصلاة وإتباع السنة والذكر وهو كان شهما معها فأصلح غلطته وقام بخطبتها من أهلها وبدأ يستعد للزواج، لكن ربما لم تكن عودته للدين عودة عادية، كانت عودته مرتبطة بالتطرف، الذي دعاه سيطر على دماغه، جعله يبايع أميرا ملثما، هذا الأمير أمره بالتوجه إلى العراق وسهل له أمر تسلله ولم تمض أيام على وجوده في العراق متخفيا حتى طلب منه تنفيذ عملية انتحارية، قال لهم:
يا إخوتي في الله وخطيبتي كيف يكون مصيرها؟
قالوا له:يا أخانا في الله، فليطمئن قلبك، ستقنعها الأخوات بالاستشهاد هي أيضا لتلتحق بك في الجنة.
فجّر نفسه بواسطة حزام ناسف في تجمع كبير، لا يدري هل هم عرب أم أمريكان محتلين، كان يطيع طاعة عمياء وينفذ أوامر الأمير الملثم، يسير بخطوات محسوبة، وعندما يصل الهدف يأتيه الإيعاز بضغط الزر فيفعل دون تأخير، لأنه لو فكرنا بمنطقية فهو ميت في كل الحالات، إن لم ينفذ الأمر ستقتله جماعته عبر فتوى التولي يوم الزحف، وإن قبضت عليه السلطات العراقية فسيموت مرارا قبل أن يلقى حتفه، وإن قبض عليه الأمريكان فسيعرونه ويمثلون به حيا قبل قتله أو نفيه إلى غوانتانامو، فالأفضل أيضا منطقيا وقد تورط دون رجعة أن يموت فداء للدين وتنفيذا لركن الجهاد الذي هو فرض عين وليس كفاية.
الأخوات لم يفلحن في إقناعها بالالتحاق بخطيبها في العراق، لم تهضم الموضوع، قالت لهن فليأتي إلى هنا حيث أهلي ويتزوجني وبعدها أذهب وراءه إلى حيث يريد، وعندما سمعت خبر موته وتأكدت من ذلك عبر التلفاز ومواقع النت تأسفت للذي حدث، وحمدت ربها أنها لم تحمل منه، وفاتحت أخاها الصريحة معه في كل شيء بشأن مصيبتها، ووافق على مرافقتها إلى تايلند من أجل ترقيع الممزق، كي تبدأ صفحة جديدة وحياة جديدة يحتـّـمها عليها المجتمع الشرقي الذي تعيش بين جنباته، عندما أخبرتني بذلك قلت لها:
يا بطة لو قلتي لي هذا الكلام من قبل لما تركتك تجرين العملية، فأنا أحبك وأثق فيك، ولا أكترث لأمر البكارة الضائعة، هي ضاعت بكارة فقط في هذه الحياة، يا ما ضاع، ضاعت أوطان وأرواح وكنت سأضيف أن نقودي التي جئت بها إلى تايلند ضاعت هي الأخرى، لكن خفت أن تفهم من ذلك أني أطلب منها مساعدة مالية أو تسوّل فليس من عادة الليبيين أن يظهروا أمام بقية الأخوة العرب أنهم محتاجين مال أو فقراء.
قالت:ليتني أخبرتك قبل إجراء الجراحة، لكن من غير المنطقي من أول لقاء عابر أن أحكي معك عن هذا الموضوع الحساس، أنا استلطفتك وارتحت لك من أول لقاء، صدقني ما إن خرجت من مقهى ستارباكس وتركتك حتى أحسست أني تركت ورائي كنزا قدره لي، صرت كل لحظة أفكر فيك، كل لحظة أشعر أنك تأتي إلي وتمتزج بي ونحلم معا حلما واحدا مليء بالصدق والسعادة والشفافية، كلمة نحلم حلما واحدا ينبغي أن لا تأتي على لسان شخصية البنت الخليجية، ممكن تأتي على لسان الكاتب أفضل ملاحظة نقدية ليس إلا، أخبرت أخي أيضا عن شعوري نحوك، أخي أصغر مني بعامين، لكنه يفهمني كثيرا ويحترمني ويقدرني، سنعود إلى الخليج بعد أسبوع ويمكننا قضاء بعض الأيام معا، أنا ارتاح لك وايد وايد.. وحبيتك مرة.. تعني باللهجة الخليجية كثيرا أوي أوي.
قلت لها:أنا في حالة كتابة الآن
قالت لي: لن أوقفك عن عملك، عندما تكون في حالة كتابة سأتركك وعندما تريد أن تستريح قليلا نكون معا.
قلت لها:أنا مجنون بعض الشيء ولكي أبقى معك وحتى أتزوجك لا تمنعيني من أي شيء، لا تقفي في طريق رغباتي، أنا في مسألة الرغبات طفل صغير، إن رفضوا لي طلبا أبوّص أي أعيّط.
أومأت برأسها في خجل بالموافقة.
قلت لها:إذن هيا معي الآن، لدي قليل من الشراب في غرفتي دعينا نحتفل ونشرب نخب صداقتنا وحبنا.
رافقتني في مرح ولم تمض نصف ساعة حتى بدأت المناوشات والمداعبات.
قلت لها: سأفتحك الآن من جديد فتحا ليبيا مبينا بنكهة ملح بغازي
شهقت في دهشة واضعة وجه كفها على فمها فواصلت كلامي:
كما فتحك خطيبك الشهيد يرحمه الله، بس يا بطة هو حظه أفضل مني فقد فتح بكارة طبيعية.
بدأت الموسيقى الهادئة في الانبعاث من مذياع الكوميدينو، وبدأنا نرقص ملتصقين، أخذت تتأوه مغمضة العينين، جذبتني إليها أكثر، وخطواتها تتقهقر ببطء ناحية السرير، عندما وصلت إلى حافته انفصلنا وتأملنا بعضنا البعض، ثم دفعتها براحتي على ثدييها الكبيرين لتسقط على السرير الوثير، ظلت مغمضة العينين ويديها مفرودتين كجناحي سقاوة ركبها صقرها منذ قليل، هبطت عليها ببطء شديد، لمست بأنفي أنفها وبشفتي شفتيها، أرى يدها الآن تتطاول أكثر لتصل إلى زر الفانوس تخفف من حدة نوره إلى درجة الوميض.
بدأت في مضاجعتها وفضضتها بسهولة وسال الدم المزيف في الظلام على ملاية السرير البيضاء، كانت صادقة فلم تصرخ عاليا جراء هتك البكارة الميتة التي لا تسبب ألما حقيقيا.
قلت لها:ستزغرد لك أمك ذات يوم، يوم يقام عرسنا جدّيا، سنجعله في مصر وطن أمك العريق، لتنبسط كثيرا وتفرح مع أخواتها وجاراتها وأسرتها وتشبع من الفول المدمس والفلافل والمش والبسطرما والرنجا والفراخ والأرانب والوز وحتى البط يا بطتي الناعمة، فابتسمت باتساع وضمتني بشدة هامسة:
أول مرة أقابل إنسانا يفهمني بالشكل ده.. يضاجعني ولا يتفلسف علي.
بعد مضاجعة ثالثة قالت لي:لقد سكبت سائلك في رحمي، يلزمني تناول حبة منع حمل.
قلت لها:لا تتناولي شيئا، لا داعي لأقراص منع الحمل، ابننا لن يكون ابن حرام، سأعترف به أمام المحاكم ولن يكون موعد العرس بعيدا واطمئني لن أموت وأتركك كخطيبك السابق، فأنا لن التحق بأي جهاد مقدس أو مزيف حتى أموت، أنا من المجاهدين فى النساء، سأجاهد فيك يا بطة فقط.. سأغني لك الآن بيت شعر لجميل بثينة:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة..... وأي جهاد غيرهن أريد
بس كيف عرفت أسمي؟، وحق الله أنا اسمي بثينة؟ وأنت هل أسمك جميل؟ أنا لم أعرف اسمك، تذكرت بيت شعر ينفع لمناسبة لحظتنا هذه، واسمي جميل لأنه محمد، كل المسألة عبارة عن حظ يا بثينة مثل لقاءنا هذا ومضاجعتنا هذه وبالمناسبة هل ستجرين جراحة جديدة للبكارة أم ستتركينها هكذا، قالت لا فرق، مادمت معي لن أفتح رجلي لأي طبيب.. أسكب لي من هذا الشراب الروسي اللذيذ وأكثر لي من الثلج والليمون، تراني ساخنة جدا الآن.
هذه الأحداث تعتبر في الواقع نوع من الكذب، لكن في الخيال اعتبرها صدقا صادحا واعتبر بثينة الخليجية حقيقة لا غبار عليها، سأستمر في الكذب لكن الآن تعبت وكتفي تخدرت وأصابعي ترفض نقر لوحة المفاتيح، لابد من أخذ راحة ما، لابد من أن أحظى بقليل من التدليك التايلندي، يوجد تدليك عادي، يوجد تدليك بالزيت، يوجد تدليك بالحجر الساخن، يوجد تدليك بالسمك، يوجد تدليك لليد فقط، يوجد تدليك للقدم فقط يوجد تدليك حر يشمل كامل الجسد وتكون فيه داخل حوض استحمام تكسوك رغوة الصابون العطري مع فتاة صغيرة لكنه غالي الثمن، يعني صقع عللي كيف حالاتي، سأنتظر البطة بثينة عندما يكون جوّها رائق لأطلب منها تدليكي داخل رغوة صابون بحوض الاستحمام بالفندق، أو انتظر أن أتحصل على نقود لم اتعب في كسبها وأتتني فجأة هكذا لأصرفها على هذه المتعة التي ليست في متناول عرقي الآن، سأدخل إلى أرخص تدليك ب 100 بات حوالي دولارين لمدة ساعة فهو يكفي ويؤدي الغرض ويشعرك أنك قريب من القاع من العمق من المجتمع المليح المليء بأطفال ينظرون إلى الحياة نظرة عميقة دون أن يقصدوا ذلك البتة.
نصف قرن من الاندلاق إلى الأمام.. نصف قرن من المتعة والعذاب.. من السرور والشقاء.. نصف قرن رأيت فيه الكثير وعشت فيه العجب العجاب، وجربت فيه الكثير.. ولم أنجح في شيء.. نصف قرن مكلل بالفشل.. هل أواصل الاندلاق أم أتوقف أم أعود إلى الوراء.. إلى دربي الماضي الذي عشته.. أنقيه من الأخطاء.. أسقي حسناته.. أضع أحداثه على المجهر.. أو في الميزان.. أو على مؤخرة مثقف حصيف.. أتأملها بعمق.. كما تفعل الطفلة معي.. أضعها على المحك.. أراجعها.. أحاول إصلاحها وجعلها أفضل.. الشيء الحسن أجعله حسنا.. والشيء السيء أشذب قليلا من سوءه.. أجعله في أقل درجة من السوء.. أحذف منه الزوائد.. أترك نواته وحيدة.. لا يمكنني حذف الماضي السيء بحذافيره.. يمكنني قبوله وتهذيبه وتشذيبه والتخفيف من حدته.. الحذف الكامل مستحيل حدوثه.. لا سلطة شاملة لي على الذاكرة وعلى التاريخ.. حذف الماضي ومحوه من اختصاص الإله واختصاص مستشفى الأمراض النفسية.. أما اختصاصي أنا صاحب هذا الماضي فهو رؤيته من جديد، من زاوية جديدة.. زاوية تحفظ لي بعض الكرامة.. اعترف به.. اعترف بسوءه..اعترف بخطئي في اقترافه.. التوبة الآن لا تجدي.. لكن الحصول منه على فائدة أو عبرة هو الأفضل من عملية التنصل.. لو صحح كل إنسان ماضيه لشعر بالسعادة الروحية ولواصل اندلاقه مرتاح الضمير.. واصله بشجاعة.. لا يخاف من ارتكاب الأخطاء ولا يصيبه الغرور من كثرة عمل المحاسن.
كل تصرف نقوم به لا نعلم أنه خير أو شر لنا.. كل طعام نتناوله لا نعلم هل هو مفيد أو مضر بنا، كل الطعام يسبب المرض.. كل طعام نتناوله سيخرج فاسدا.. سيعود إلى أصله ومصدره.. وحتى مصدر كسبه.. كل حياة نعيشها ستخرج منا فاسدة برائحة نتنة ومنظر بشع.. نصف قرن من الاندلاق إلى الأمام.. لم أخرج منه بشيء.. كل شيء اكتسبه أهبه للزوال.. للقمامة.. لإعادة التدوير في شيء نافع كمحارم الأنف والمراحيض.. لا أقبل أبدا أن يتعلق بي.. أبذر الأموال.. أهدم الصداقات.. أمزق الأوراق.. أخرّب النصوص الجميلة.. أوذي الجميع.. لا أسمع النصائح الموجهة لي بحب.. أعذب نفسي.. أعذب جسدي.. أعذب خيالي.. أمارس القسوة مع كل المحيط.. مع نور القمر.. مع شروق الشمس.. مع موج البحر.. مع النسيم العليل.. مع الورود.. مع الفراشات.. مع العصافير.. مع الذئاب.. والخفافيش والثعابين والسحالي.. مع النفس مع الروح مع الضمير.. مع الحياة بكاملها.. السعادة تدخلني ولا أشعر بها أو أتذوقها.. أطردها خارجا.. أتبرزها.. أتبولها.. أشتمها.. لقد وجدت بابي مفتوحا فدخلت بدون إذن.. لقد وجدت نافذتي مشرعة فنطت إلى الداخل.. فأمسكت بالسيئة السمعة وركلتها في الفراغ كما أركل كرة القدم.. ركلة على مؤخرتها دون أي أسف على ذلك.
الشقاء أيضا زارني فركلته إلى الخارج.. كثر الزوّار فأحرقت خشب الباب وأحرقت خشب النافذة وأحرقت البيت كله ثم جلست على كدس الرماد الذي أنتجه الحريق مقهقها.. فجاءت الرياح التي ذرت رماد البيت مع قهقهاتي في كل الأرجاء.. وتركتني جالسا على لا شيء.. لا يمكنني ركل الرياح.. حاولت كثيرا لكن لم أعثر على مؤخرتها.. والركل إن لم يكن ليس على وسط المؤخرة بالضبط، فمن وجهة نظري لا معنى ولا طعمة له.. ركل خلب.. فاشوش.
لم أعثر على مؤخرتها أبدا.. دائما أجد وجهها.. دائما وإياها في مواجهة.. لا رياح تدفع ظهري.. ظهري ليس شراعا.. أسير في مواجهتها.. تسير في مواجهتي.. تقبل أنفي.. أقبل أنفها.. لا أقف أثناء سيري.. لا تقف أثناء هبوبها.. أشعر أحيانا أنها تضع دوامات تحمل داخلها أوراق شجر وقصاصات ورق وأجرام غامضة خفيفة.. أحب هذه الدوامات التي نسميها"البرّيمة".. عندما تحدث أتوقف عن السير وأنظر إليها بعمق وأرى ما بداخلها من قذى ومخلفات انتزعتها من ثبات الأرض.. تلف بهذه الشوائب والعوالق بقوة.. ترتفع بها إلى خمسة أمتار أو عشرة.. تحجل بها أماما إلى ثلاثة أمتار ثم تطوّح بها في كل الاتجاهات.. وتتقدم إلى مكان آخر أو رقعة جغرافية أخرى تكنسها من الحثالة.. أنظر إلى هذه الدوامة بتمعن وعمق كما أنظر إلى الطفلة ذات النظرة العميقة التي توافقني رؤيتي.. ونحيل معا عمل الدوامة إلى السياسة.. إلى الواقع.. إلى التغيرات الفجائية التي تصنعها رياح الحياة.. سأقول أن هذه الدوّامة هي ثورة الرياح.. هي شعب الرياح الرابح.. الشعب الذي ينتزع من التراب كل ثابت ليس من أصله ويتزوبع به حتى يصيبه بالدوار ثم يرمى به إلى المجهول.
لم أر في حياتي دوّامة رياح تنتزع وردة أو فراشة أو نحلة أو نخلة، أو نملة أو ورقة يانعة من شجيرتها أو طائر وديع من عشه أو أصل راسخ من أصله.. تنتزع وترفع المخلفات فقط.. الطفيليات.. الذيول.. الأوراق الميتة.. لا علاقة لخفة الشيء أو ثقله بإمكانية رفعه من قبل الدوّامة أم لا.. لكن هذه الدوّامات ترفع الأشياء الميتة أو التي على وشك الموت.. الدوّامات رصاصة رحمة بارودها جنون الهواء.
في دنيا الأحلام يمكنك اختيار اليوم الذي تعيشه كما تريد، يوم طفل، يوم آخر شاب، يوم آخر شيخ هرم، يوم آخر ولد مراهق، يوم آخر صبي دون العاشرة، يمكنك التكيّف مع الوضع الذي تلاقيه، إن وجدت أمامك طفلا صرت له طفلا بكامل المواصفات البيولوجية وغيرها وإن وجدت شيخا ارتقيت حكيما إلى عمره، وإن وجدت شابا تفعمت حيوية وصرت مثله، وإن أردت غير ذلك فيمكنك أن تكونه بمجرد الشعور والتمني.. وينسحب هذا الأمر على الأنثى أيضا، فتصير بنتا أو امرأة أو عجوزا شمطاء أو عروس في ليلة دخلتها وهكذا، وقد يتم التنقل بين جنس وآخر أثناء الحلم دون مشكلة، تريد نفسك بنتا يحدث الأمر، تريد نفسها ولدا يحدث الأمر، ويمكن أيضا البقاء في الوسط لا ذكر ولا أنثى، في الأحلام كل شيء ممكن، في هذا اليوم أنا طفل لكن بعد منتصف النهار أعجبتني فتاة جميلة، سأكون شابا إذن، أكبر منها بعامين وسألتقي بها وبالطبع سأكتب ما يتمنى قراء كل العوالم أي وأضاجعها.
في دنيا الأحلام لا توجد ملابس ولا تسريحات ولا تجميل (مكياج وكوافير)، الناس تكون على فطرتها، تسترها الأحلام بكسوتها الوردية الضبابية، يعيش فيها الإنسان بكل حرية، لا شيء يقيده في تصرفاته، لا دين لا سياسة لا عرف لا عصبة ولا حتى أير قرد، تقيده فقط معاهدة الأحلام غير المكتوبة وغير المعروفة والتي ملخصها النيّة الطيبة نحو الآخر، وحتى وإن كانت هناك نوايا شريرة خبيثة فلن تحدث، محرك الأحلام سيميّعها ويفرغها من محتواها ويحيلها إلى سلام، سيدوّرها إلى شيء مفيد مثلما تدوّر النفايات والقاذورات الإنسانية إلى مناديل نظيفة معقمة ووقود يطهو الطعام ويجلب الدفء، محرك الأحلام الخالي من النفط والحديد سيحيل القوة والجبروت إلى اعتدال مفيد للمجتمع، والكراهية إلى حب، والكذب إلى صدق والسالب إلى موجب أخضر مفيد.
حزب الأحلام لا يهرب من الواقع، لكن يحاربه بسلاح الحلم، السلاح الأقوى والأنبل، فهذا الحزب يمتلك سلطة النوم، أو سلاح النوم، بتروله هو النوم، ثروته هي النوم، لا أحد يمكنه أن لا ينام، لا أحد يمكنه أن لا يحلم، هذا شيء ضروري ولا إرادي، يأتي مثل التنفس والأكل والتبرز.
أثناء الحلم سيكتشف الإنسان الظالم والمتجبر مدى تفاهته ومدى ضعفه ومدى دونيته، سيرى مخلوقات شفافة نظيفة نورانية غير ملوثة ومزدانة بكل ما هو جميل ومريح للعين والنفس، تحرج شروره وتجعله يتمنى الانخراط في الحزب وسيتم قبوله كما تقبل الزاوية العيساوية العُصاة والأشقياء وتجعلهم وديعين مؤمنين وعناصر ذات فائدة للدين والمجتمع، سترتاح نفسه وسيحرص على أخذ حصة يومية من النوم ليس لكي يرتاح من إرهاق العمل أو الكسل إنما كي يحلم ويرى ويستمتع قليلا بعالم نظيف، متحصّن وآمن من الكوارث والمذابح والخيانات والكراهية، ستنعكس هذه الأمور على المجتمع، ستنام الناس باكرا وتنام في القيلولة أيضا كي تحلم بنجوم وديعة غير تلك النجوم التي ينتجها السوط والفلقة وسلك الكورنيتو والرعب.
ستستعد الناس لهذا النوم بالاستحمام وارتداء الملابس الواسعة المريحة وتوسد الوسائد الناعمة وتخفيض درجة الإضاءة لتكون شاعرية ولائقة بأحلام السلام، ستنام الناس رجال ونساء، أما الأطفال فإنهم يمارسون نومهم وانخراطهم في أشبال وبراعم وزهرات وجوّالة الحزب بصورة عفوية مثلهم مثل الرضع.
الكل سيرضع من حليب الأحلام ويستمتع بحلاوته وطراوته وإن كان مخبرا عتيدا فسيكتب في تقريره عن الحزب ونشاطاته السلمية البريئة كلمة حق، سيطمئن السلطات بأن انخراط الشعب في حزب الأحلام لا خطورة منه على الوضع السياسي، عملية احتوائه لو استفحل الأمر مافيش أسهل منها، حتى أرباب السلطة والمافيا سيدخلون إلى هذا الحزب وسيحافظون على أمنه واستمراره باستيراد أجود أسرّة النوم وأنعم الأغطية والوسائد وأبرد أجهزة التكييف وأدفأ أجهزة التدفئة وأفضل مصابيح إنارة، بل وسيحاولون استيراد حتى راحة البال لكل فرد من أفراد الشعب إن وجدوها تباع في السوق العالمي وإن لم يجدوها فسيكلفون شركة صناعية بإنتاج كمية كبيرة منها وإن كانت النسخة التجريبية من إنتاج شركة صينية جودتها ضعيفة فسيتم تكليف شركة ألمانية أو إنجليزية أو يابانية بصنعها بجودة عالية، المهم أن يكون الشعب سعيدا بأي ثمن والجميع يحلم في ظروف جدا متساوية ورائعة.. فقط النخبة سيتم تصنيع نسخة أمريكية لها على مقاس جشعها، لأنها بالطبع ستكون جودتها سوبر ستار.
سؤال من الطفلة العميقة وهي في الثلاثين من العمر:لماذا لا ينتجون راحة البال في الداخل؟ ألا يقولون لا حرية لشعب يأكل من وراء حدوده؟، نغير كلمة يأكل بكلمة يحلم أو يريح باله.
سيبنون شققا لائقة صحيا شرفاتها تطل على البحر أو على سواني النخيل وسفوح الجبال أو سيوف وسهوب الصحاري، كل الشعب يجب أن يحلم بالتساوي، ستتخذ إجراءات حاسمة في هذا الشأن من قبل رئاسة الوزراء، ستستحدث وزارة جديدة تسمى وزارة شؤون الأحلام، سيعين لها كوزير، أشهر مفسر أحلام في البلاد، لابد أن يعيش الشعب في سعادة، أن يحلم أحلاما سعيدة، فالحلم من ضروريات الحياة، لا يمكن لأي إنسان أن يستغنى عنه.
وإن كانت رئاسة الوزراء لديها تحفظات أمنية حول أشهر مفسر أحلام في البلاد فيمكنها استبداله، ستجتمع رئاسة الوزراء وسيقترح وزير البوليس شخصية قديرة ذات كفاءة من رجال الشرطة المقربين، سبق وأن اثبت جدارة وولاء وغباء في التحقيق في قضية سابقة تطرقت إلى معضلة الأحلام، رجل البوليس كي يؤدي جيدا لابد أن يكون مذعنا وغبيا خاصة أمام رؤسائه كي يسهل التحكم فيه والسيطرة عليه، القضية السابقة التي سببت في شهرة رجل البوليس هذا قصة قديمة معروفة نلخصها في التالي، مواطن ليبي حلم أنه قد أتاه رجلان وطلبا منه مشاركتهما في عمل سياسي مناهض للدولة وبالطبع رفض وخاف وقال لهم هذه شرمولة حارة مانقدرش انغمس فيها، بعد شهور حكى حلمه سهوا لصديق يثق فيه في المقهى فتصنته بصاص حاذق يعرف في المقهى على أنه درويش لعابه يسيل بلا توقف، شكشك (كتب) فيه تقرير سمين وقدمه لبوليس المباحث الذي قبض على هذا المواطن ولد البلاد قبل أن يرتد إليه طرف عودة لسانه إلى فمه، وقد حقق معه هذا الضابط المقترح لتقلد وزارة شؤون الأحلام والذي طلب منه أسماء أو أوصاف الرجلين اللذين زاراه في الحلم وعندما لم يعرفهما ولم يتذكر وجهيهما لأن الحلم مضى عليه أكثر من ثلاثة أشهر، طلب الضابط من الحرّاس وضعه في الزنزانة وتزويده بفراش ينام عليه، وقال له:
الآن يا زامل نم وأحلم إلى ما شاء الله، نم حتى تحلم بهذين الشخصين من جديد وتعرف اسمائهما وأوصافهما وتخبرنا بذلك.
بعد شهور من السجن والتعذيب حاول أن يعقد معه صفقة فوشوشه عند زيارته الروتينية لتجديد التحقيق معه في السجن، أنه بإمكانه أن يطلق سراحه، فقط ما عليه إلا أن يذكر أسمين لأي شخصين يعرفهما حتى يتم قفل الملف نهائيا، قال له رجل البوليس الحبل في عنقك الآن ضعه في عنق آخرين وارتح من هذه المشكلة، نحن من المستحيل أن نسجل قضية ضد مجهول، ذلك الفعل مهين لقدراتنا، لابد أن نلبسها لشخص ما، لا بد أن نزج بمتهمين، مذنبين أبرياء ليس مهما، المهم الزنزانة لا تبقى جائعة، لابد أن نطعمها يوميا بالمحتجزين، إن بقت الزنزانة فارغة، فمعنى ذلك سندخلها نحن، أنا ورؤسائي وقيادتي العليا، هذه فلسفة الأمن الحديث والمعاصر، هيا قوي قلبك واذكر اسم اثنين، أكيد في أناس كاسريلك رقبتك، لا تهضمهم، دمهم ثقيل، سرقوك، أو ضربوك، أو حتى اغتصبوك صغيرا، اذكر اسم اثنين وريح روحك، خليك رجل عملي، كيف ما ايجيك الزمان تعاله، ونحن من مبادئنا حتى لا تكون محرجا مع مجتمعك وعن من تذكر أسمائهم لا نذكر مصادر معلوماتنا ونحيطها بسرية تامة، كل من يرمي به القدر بين أيدينا، نضربه ونعذبه وننزل على دين أمه حتى تكون لغته الوحيدة هي الصراخ، أي لن يسألنا من أخبركم أنني الفاعل، لأن لا كلمات في فمه ولا في قلبه.
لكن لأن هذا المواطن ابن ناس وأصل وقلبه نظيف لم يرض أن يفتري بالكذب على أي إنسان وواصل معاناته بشرف ببقائه سجينا.
بالطبع الحلم كالبصمات لا يتكرر بنفس الكيفية بالضبط مرّة أخرى، ويرتبط دائما بظروف مجهولة شبيه بالأسرار، ولم يأت ذاك الحلم مجددا لذلك المواطن المسكين المزنزن فوق فراش قذر، فمكث في السجن سنوات طويلة حتى صدر عفو عام فأطلق سراحه، ومن يومها صار المسكين كلما استيقظ صباحا فتح دفترا وسجل ما حلم به الليلة السابقة بالتفصيل ولم يهمل الوصف أيضا، يسجل الأحلام كمذكرات يومية، لديه الآن ألاف الصفحات المدونة عن أحلامه.
ذات مرّة عرض أحلامه اليومية على دار نشر محلية كي تطبعها في كتاب يضيف للمكتبة الوطنية ثراء جديدا في مجال غزته الخرافات والشعوذات وهو مجال الأحلام، خاصة أن هذا الرجل يمتلك حسا أدبيا ولغة رشيقة سهلة شعرية وعلى دراية كبيرة بعلم النفس حيث قبل أن يسجن كان طالبا في الجامعة كلية الآداب والتربية قسم علم اجتماع وفلسفة ومنطق.
اقترح أن يصدر الكتاب بعنوان يوميات حالم، فسأله الناشر ممكن نغير العنوان لأنه ممكن يقلب إلى يوميات ظالم، ووافق بالطبع على تغيير العنوان وجعله يوميات ناعس وأيضا رفض فورا رئيس دار النشر يوميات ناعس قائلا يقلب هذا العنوان سريعا إلى يوميات بائس أو سائس، اقترح لي عنوانا آخر، وبعد استعراض عدة عناوين اتفقا على عنوان:
"يوميات الليالي المطنشة".
الناشرون ورؤساء ديار النشر بطبيعتهم يتبعون للأمن الثقافي أي المخابرات الثقافية، السلطة لا تمنح رخص نشر الكلمة أو الفن أو أي شيء إعلامي إلا لمن تثق فيه ويكون معها، توكل على الله رئيس دار النشر وقدم المخطوط لرؤسائه في رقابة المطبوعات.
بعد عدة أيام زار الرجل دار النشر ليعرف مصير مخطوطه سيطبع أم لا، فأجابه رئيس دار النشر:
أعتذر عن نشر هذا المخطوط، ولو أن البلاد الآن ليست في حالة مصالحة وانفتاح على الحرية الجديدة برعاية القيادة الشابة التي لجمتنا يا فرخ السيئة السمعة لقبضت عليك بنفسي وزججت بك في غياهب السجن من جديد، بل حتى وإن أفرغت فيك ما بمسدسي من رصاص فلن أدان وسأعتبر بطلا وأنال ترقية، تفضل مخطوطك ولا أريد لرجلك مرّة أخرى أن تعبر عتبة مكتبتي، هيا ورينا عرض اكتافك.. معناها بالليبي أغرب عن وجهي.
الرجل لم يناهض الدولة في مخطوط أحلامه، كان يسجل أحلامه أولا بأول، بصدق وأمانة، كان متنورا ومثقفا وراغبا في خدمة بلده، من خلال هذه الأحلام يمكن لعلماء الاجتماع والتربية والاقتصاد والفلاسفة والمفكرين وأطباء النفس أن يحللوا الحياة في هذا المجتمع، أن يروا المجتمع وقضاياه بشفافية، أن يثروا بحوثهم بمادة لا تزلف ولا تصنع ولا قصدية فيها، تمكنهم من الوصول إلى نتائج علمية باهرة قد تجلب لهم جائزة نوبل في مجال العلوم، ستكتب لجنة الجائزة في حيثياتها:
باحث ليبي حول الخرافة والسحر والميتافيزيقا والغيب والأحلام إلى علوم تطبيقية تجريبية يمكننا البرهنة عليها بمواد عضوية في المختبر ويمكننا مسها باليد والشعور بملامستها.
لكن أين هم هؤلاء الفلاسفة والعلماء والمفكرون وأطباء النفس؟ أين هم في هذه البلاد التي على قولتك أيها القارئ خاربة، إني لا أراهم حتى في الأحلام، كل حراك النخبة المثقفة تفحيج في تفحيج، تجارة وبرطعة ورقص وردح، الأغلبية كلاب سوق تهز ذيولها للداخلين وتنبح على الخارجين (المخلوعون أو المغادرون السلطة)، الشرفاء نفر قليل جدا، بصراحة رئيس دار النشر برفضه طبع كتاب جيد لديه مليون حق، واعتبر قراره صائبا 100%، لأن ليس هناك من يستفيد من هذا الكتاب في عصر التزلف والمداهنة وكرْ الحبل، ربما لم يرفضه لدواعٍ أمنية، ولكن رفضه لعدم توفر من يقرأه في الوقت الحاضر من مثقفي الخراء، لأن النخبة المثقفة ليست مشغولة بالقراءة الآن، إنما بالتفحيج عبر الإصلاح وعبر الصياح، هل يقف مع الحرس القديم أم الجديد؟، يضع رجلا هنا ورجلا هناك ويبدأ في الهرولة بين المكانين، القراءة تريد مثقفا يرسو على بر أولا، ثم يبدأ في القراءة كي يستمخ ما يقرأه ويتمثله أفعالا وليس دق حنك.
الناشرون حذّاق، موهوبون في مهنتهم، خذ مثلا الناشر المصري الحاج مدبولي الله يرحمه وكيف يتعامل مع الكتب والمؤلفين الطيبين والأوغاد، فالطيبون يقدرهم ويحترمهم ويقف إلى جانبهم حتى يحظون بالشهرة والمال وبعد ذلك يتركونه فلا يغضب، لأنه خبر الحياة وفهم جيدا النفس البشرية ووسوساتها.. ما يفعله هو البدء من جديد والبحث عن كتاب أو مؤلف جيد آخر يحتاج إلى مد يد العون، يمد له الحاج مدبولي يده، يخرجه من الحضيض، ثم لا يحتكره، يتركه يطير في دنيا الله الواسعة ويكوّن مستقبله.
لا أدري ماذا أفعل الآن؟، مشتاق لأسرتي كثيرا في بنغازي، والرواية لم أنهها بعد، وإجازتي في تايلند مازال على انتهائها أسبوع، أمامي خيارات عديدة لتطوير الرواية وإكمالها، من الممكن أن أجعل الرجل الذي قبض عليه بسبب حلم وسجن سنوات عديدة ولنقل عشر سنوات شخصية محورية، أعينه وزيرا لشؤون الأحلام بدلا من رجل البوليس المقترح للوظيفة، وأجعل الطفلة العميقة التي صورتها في الرواية ابنته، واجعله يتحدث عن تجربته في السجن ومع من سجن وكيف هي أجواء السجن وبالمقابل أجعل بنته الطفلة تكبر كل عام ليجدها عندما تخرج شابة عمرها 12 سنة، نتناول من عمرها قليلا في الرواية خاصة في عمر ست سنوات، في أول يوم بالمدرسة، حيث كل تلميذة يحملها والدها إلى هناك وينتظر خروجها من المدرسة بشغف ليستمع إلى انطباعاتها عن أول يوم في تجربة الدراسة، أو هناك خيار آخر بأن أجعل بقية الرواية مختارات من مذكرات أحلام هذا السجين بعد إطلاق سراحه التي حرص على تدوينها يوميا فور استيقاظه صباحا من النوم، أو من الممكن أن أمزج الأمرين وأمر الطفلة معا في النسيج السردي القادم وقد استغنى عن هذه الخيارات جميعها وأبدع أخرى.
هناك ملايين الخيارات التي يمكنني أن ألجأ إليها، فليس ثمة مشكلة في إتمام حتى مليون رواية، لأن الكتابة بهذه الطريقة كطريقة اللعب المفتوح، قد تلحق بك الخسارة لأن نسبة المغامرة فيها عالية، لكن مرات الفوز التي ستحققها ستكون أكثر، طريقة كتابة نبيلة، تحترم الفشل والسقوط وتمنحه فسحة من متعة، أي كما تحب الملائكة كثيرا فهي تتعاطف في الوقت نفسه مع الشياطين لحظها السيء وقد تحبهم في لحظات تشتعل فيها نار التعاطف دون رقابة ضمير أو دين أو قيود أخرى إلى مدى عال جدا.
لا أدري ماذا ستكون عليه الرواية في الصفحات القادمة، سنركل التخطيط والخطاطات والافتراضات ونترك السرد ينكتب حرا، من المنجم إلى الأرض البوار، وما علينا سوى ذرف الدموع لتنبت كما تقول زوجتي وحبيبتي آمال الأزهار المالحة.
لم أحك في هذه الرواية عن اليهود حتى الآن، يقول بعض النقاد الليبيين - إنْ تمّ الاعتراف بهم أنهم نقاد وليسوا كتبة مقالات رأي مزاجية إخوانية غارقة في المجاملات والتملق، هدفها النهائي منها معروف مقزز لن أكتبه هنا، يقولون:أني أتناول شخصيات يهودية في رواياتي من أجل الحصول على جائزة نوبل وأقول لهم:
لو تحصلت على جائزة نوبل يا تيوس، لا أريد أن أقول لكم يا زوامل لأني أحترم البعض القليل منكم، سيكون بفضل إبداعي وجهدي وموهبتي وحظي أيضا وليس بسبب أي ملة أو عرق أو طائفة أو دين أو سياسة، وذكري لليهود في بعض أعمالي ذلك أولا لأنهم يجعلون لي الرواية جميلة، وثانيا لأنهم بشر مثلنا وجيران لنا في ليبيا ولدوا على أرضنا وعاشوا بيننا زمنا طويلا وامتزجوا في نسيجنا، وهم أقرب إلى التليّب من التهوّد والتصهين، بل اعتبرهم ليبيين مخلصين للوطن أكثر من كثير من الليبيين، خاصة الليبيين المنخرطين في خدمة السلطة منذ فترة الاحتلال الإيطالي وربما حتى الآن بصورة جديدة نعرفها كلنا.. أي في خدمة السلطة العثمانية والإيطالية والإنجليزية والملكية والجمهورية والجماهيرية والإصلاحية.
أنا لا أعترض على خدمة السلطة.. أي العمل معها.. بشرط أن تكون سلطة وطنية من دمنا ولحمنا.. وعلى أن تكون بطريقة شريفة تحفظ الكرامة وماء الوجه.. لكن أن تعمل مع الطليان أو الانجليز أو الأمريكان أو اليهود الصهاينة ضد أبناء بلدك فهذا الذي أقصده وأدينه وأضعه في مصاف الخيانة العظمى مهما كانت الظروف والمبررات من لقمة عيش واضطرار وجبر وعنوة وغيرها.
الحياة واسعة وتقول لنا الإنسان عندما يقرر أن لا يتعاون مع السلطة يمكنه التهرب وتفادي ذلك.. فيا للأسف يهودي يحارب معي الطليان وليبي يحارب مع الطليان ضدي ويكشف عورتي ويدل على دروبي ويساهم بصورة مباشرة في أسر شيخي عمر المختار ليتم شنقه عبر محاكمة صورية، وليرفل بعد ذلك أولئك المرتزقة الليبيين في تجرع فياشكات النبيذ وأكل شواء الضأن والماعز وحتى الحلوف مكافأة لهم من العدو على جهادهم المخلص ضد أبناء جلدتهم.
لا تقل أنهم لم يأكلوا لحم الحلوف، فهؤلاء البصاصين والمرتزقة أكلوا لحوم أبناء وطنهم البني آدميين والذين تربطهم بهم صلات دم ومصاهرة وجيرة، وقادوهم بدم بارد وشماتة أيضا للمشانق وجزر المنفى، فلا غرابة أن يأكلوا أي شيء حرام، فالخونة لا يحللون ولا يحرمون.
اليهود الليبيون اعتبرهم جناتل واعيال بلاد ولم أجد أي شخص عاصرهم ذمهم بل يحكي عنهم بحب متمنيا أن تعود تلك الأيام الجميلة، لا نريد أن نضرب أمثالا كثيرة على إخلاص اليهودي للتراب الليبي الذي ولد عليه، فيكفي أن المجاهد الليبي اليهودي ضد الغزو الإيطالي في معركة القرقف قرب درنة قبل أن يستشهد كان يغني لأمه الصغرى اليهودية وأمه الكبرى ليبيا:
الوطن اللي جبتيني فيه..... البو برطلة ما نعطيه ـ برطلة تعني قبعة أوروبية ـ
لكن الخونة الليبيين أعطوا الوطن وباعوه لبوبرطلة ولبو شنوارة ولكل من هب ودب.
كل شعوب الأرض تعرضت للظلم والقهر والمذابح ومن ضمنهم اليهود ولقد اقتطفت من كتاب اشتريته من مكتبة الفرجاني بطرابلس ب 20 دينار عنوانه (تاريخ تركيا المعاصر للكاتب التركي المقيم في باريس حميد بوزرسلان)، هذه الفقرات التي رأيت أن أضمّنها لهذه الرواية لأنها تحمل معاناة وألم إنساني أثر في نفسي كما أثرت في نفسي كل جرائم القتل والظلم التي رمّدت بنيرانها الإنسان:
"اعتبارا من 29 حزيران 1938 م أقرّت أنقره العديد من القوانين، التي جعلت من شبه المستحيل، دخول اليهود المضطهدين إلى تركيا، وكذلك (ألزم) قانون جديد الحكومة بألا تمنح جوازات سفر إلا (لمن ينتمون إلى العرق التركي) وبذلك تمّ حرمان كل رعيّة ألمانية من الحصول على جواز سفر.
تحت ضغط برلين، رفضت تركيا استقبال الــ 780 يهوديا كانوا قد فروا من بلادهم على متن الباخرة ستروما، على الرغم من الطلبات الملحة للسلطات البريطانية التي أبدت استعدادها لمنحهم سمة الدخول إلى فلسطين، كما رفضت طلبات القبطان بالرسو المؤقت في ميناء تركي.
بعد عدة أشهر من التجوال في البحر الأسود، أُغرِق المركب بركابه من قبل غواصات عُـدتْ رسميا مجهولة الهوية (شباط 1942).
ومع إبداء تأسفه برر رئيس الوزراء رفيق سايدام موقف حكومته (لا يمكن لتركيا أن تصبح موطنا لغير المرغوب فيهم من قبل الآخرين)".
بإمكان القارئ تخيّل الموقف، أو أن يكون أحد أفراد هذا المركب الهارب من الموت والمرفوض من كل الموانئ، تخيله وهو يقضي شهورا في البحر تائها جائعا مريضا متجمدا، وسط الرعب والخوف، إلى أن يتم إغراقه بركابه وطقمه من قبل غواصة مجهولة، معاناة قاسية طويلة على ظهر المالح لـ 780 كبد رطبة (إنسان) تنتهي بفجيعة ومأساة إنسانية، لو جعلنا ركاب المركب صينيين سنشعر بنفس الألم، لو جعلناهم عربا سنشعر بنفس الألم، لو جعلناهم مكسيكيين سنشعر بنفس الألم، لو جعلنا ركاب المركب حتى قطط أو كلاب أو قرود أو أي كائن حي سنشعر بنفس الألم.. دعوني أقول لكم لو استخدمنا شعورنا الإنساني العميق الشبيه بنظرة طفلتي العميقة سنجد أن الــ 780 يهودي الذين ذبحوا في البحر الأسود دفعة واحدة بواسطة البارود والماء المالح كأنهم الــ 1200 وقليل الذين ذبحوا في سجن بوسليم دفعة واحدة بواسطة النار الجافة، كأنهم مئات الآلاف من الليبيين الذين ذبحهم الاستعمار الإيطالي البغيض، كأنهم المليون شهيد جزائري الذين ذبحهم الاستعمار الفرنسي، كأنهم الأعداد المهولة الكبيرة من الفيتناميين واليابانيين والأفغان والعراقيين الذين ذبحتهم أمريكا منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الآن، كأنهم أمة الهنود الحمر التي تمت إبادتها، كأنهم الأعداد التي لا تحصى من الفلسطينيين التي ذبحتهم الصهيونية بمعاضدة أمريكا وبريطانيا وكل الغرب منذ الأربعينات من القرن العشرين وحتى الآن، كأنهم كأنهم كأنهم كأنهم كل قطرة دم نزفت من برئ، فالمذابح ستظل واحدة، لأن روح الإنسان هي وقودها.
نعود إلى روايتنا ودعونا من اليهود ومن النقاد الأعزاء المخبرين صيادي مياه المجاري، سأتركهم يسترزقون على حالهم، مرتبات كثيرة يتقاضونها من أكثر من جهة أمنية أو مدنية، لابد أن يقدموا بين الحين والآخر بعض التقارير في بعض الكتاب الموهوبين النشطين أصحاب الرؤى المغايرة، لقد أدمنوا القوادة منذ عهد الأتراك وحتى الآن، شخصية الشفشة التي في روايتي يا ناعلي من المخلوقات الخالدة، لكن عمره ليس للبيع، أو للإقراض، سيرحل جميع القوادين، ويبقى هو خميرتهم الدائمة، لقد أدمن مخبرو الثقافة والصحافة والسخافة القوادة، مع كل حقبة سياسية تجدهم في المقدمة، لا يفعلون شيء سوى إخراج النغمة المناسبة لكل عهد من مؤخراتهم والعزف عليها بوقاحة، لن أرد على أحد، لأن الرد مضيعة للوقت، أترك الذي يشكر يشكر والذي يذم يذم، وركز على مشروعك فقط، ليس لدي وقت أمنحه للنقاد، خاصة وأنا هنا في تايلند بلد الشمس المشرقة، والابتسامة الدافئة.. والبنات الرشيقات النظيفات، سيحاسبني الإبداع ويعاتبني.. وربما يخاصمني فيسحب من مَلكة إلهامه مدة ما.
منذ قليل خرجت في جولة إلى الشارع، كان الوقت باكرا، السادسة صباحا، ورأيت الحياة كيف تستيقظ طازجة والمحلات التجارية والمطاعم والمقاهي ودور التدليك والمغاسل والمخادع الهاتفية ومحلات الوشم والصيدليات وغيرها من مؤسسات الحراك الاقتصادي والسياحي ممن لا تعمل 24 ساعة كيف تفتح أبوابها طلبا للرزق، رأيت العاهرات والمثليين كيف يعودون إلى بيوتهم بعد فشلهم في الحصول على زبون آخر يكون مسك ختام لعملهم الشريف الواضح والذي قبل أن ينحرطوا فيه يمسكون بحزمة بخور ويتوجهون إلى معبودهم بوذا المتوفر تمثاله في كل مكان بالدعاء والصلاة، والجميل في الصباح الباكر أنه هناك رهبان بوذيين يرتدون ألحفة برتقالية، اللون الذي أحبه وأشجعه، لأنه لون نادي منطقتنا حي المحيشي، البرتقالي شعار نادي السواعد الرياضي، واختار نادينا اللون البرتقالي لأن تأسيس النادي تمّ في السبعينيات من القرن العشرين حيت شهد ذاك العقد الزمني تألق الكرة الهولندية وانبهار العالم بلعبها الجميل وخاصة جيل لاعبيها المهرة يوهان كرويف ونيسكنز وجوني ريب والأخوين كاراكوف وغيرهم، وكان أسلوب لعب النادي للكرة يشبه لعب المنتخب الهولندي ونادي أجاكس أمستردام، ذلك الأسلوب اكتسبه النادي بفضل مدربه الليبي المحنك محمد الهبري الذي يركز على المهارة والفن قبل كل النتيجة، كرة شاملة وجميلة، ومنطقتنا الشعبية حي المحيشي مكتظة بالمواهب، خاصة المواهب الفطرية التي وهي تلعب لا تتوقع ماذا ستفعل بالكرة؟.
جلست في مقهى مطل على البحر وطلبت قهوة، وجاء راهب بوذي يحمل خرجه على كتفه بينما صحن بيضوي كبير مثبت تحت اللحاف بمحاذاة بطنه ووقف أمام المقهى، فخرجت له النادلة ورفع لها الراهب حاشية اللحاف التي تغطي الصحن فرمت له في الصحن صدقة، كيس بلاستيك مملوء بالطعام ثم وضعت أمامه كوب ماء وركعت تصلي صلاتها وهو يدعو لها، كان بعيدا عني بحوالي متر ونصف، وبعد أن انتهت صلاتهما والتفتت لتعود إلى المقهى أخرجتُ لها 20 بات، أقل من دولار وطلبت منها أن تعطيها لهذا الراهب الذي بدأ في تلاوة صلاة وأدعية لفتاة أخرى ركعت أمامه بكوب ماء، طلبت منى النادلة أن أسلمها له بنفسي، لكن قلت في نفسي ربما حرام، لست متفقها في ديني الإسلامي، طلبت منها أن تسلمها هي نيابة عني فسلمتها له وركعت أمامه تصلي وتستمع لأدعيته وتمتماته، غادر الراهب يجر لحافه البرتقالي الشبيه بألحفة أباطرة الرومان، وواصلت رشف قهوتي، وتسجيل ملاحظاتي بواسطة قلم وقصاصات ورق سرقتها من مقهى النت أثناء خروجي منه البارحة.
ربما التبرع ب 20 بات يغفر لي سرقة الأوراق والقلم من مقهى النت، لأن السرقة تمت من مقهى بوذي والتبرع تم لراهب بوذي، أي وحدة في وحدة، بوذيان يتفاهمان مع بعضهما البعض بشأني، هما السكين وأنا اللحم، أنا المخطئ فمن النبل أن أرضى بحكمهم.
الدين البوذي به بعض الأشياء الجميلة، يحترم كل البشر، ويحترم الحيوانات والحشرات فلا يؤذيها، كلاب كثيرة تجوب الشوارع، لكنها لا تضايق أحدا ولا تنبح على أحد، كلاب لطيفة تركض وتتجول وتنام على مصاطب المحلات المغلقة، لم أدرس الدين البوذي، لكن عايشته كثيرا في الصين وتايلند، وشممت بخوره، وأكلت من فواكهه وأرزه، وتمتعت برؤية شموعه المضاءة، ووجدت أن أتباعه من المتأملين الكبار، وأنهم مسالمين، ومن الأشياء التي أعجبتني كثيرا أن البوذيين ليسوا كالأوربيين والأمريكان بعد التغوط يمسحون مؤخراتهم بالكلينكس (المحارم الورقية)، إنما مثل المسلمين بعد قضاء الحاجة يستنجون بالماء الطاهر ويغسلون أيديهم بالصابون، فكل المراحيض البوذية تجد فيها ماء جارٍ كي تنظف نفسك به، أي أننا نلتقي معهم كمسلمين في موضوع الطهارة، وعدة تعاليم أخرى تتعلق بالصدق والفكر وعمل الخير والسلام وإماطة الأذى عن الروح الحيّة.
أضف إلى ذلك أنهم يسمحون لكل الأديان بأن تقيم شعائرها بحرية، عموما البوذية دين به الكثير من التعاليم النبيلة والجميلة التي نجدها في الأديان السماوية الثلاث، اليهودية، المسيحية، والإسلام، وقد يسأل سائل عن الأنبياء الذين لم يقصصهم القرآن علينا، أي هناك أنبياء ورسل آخرين في هذا الوجود مجهولين لدينا لاعتمادنا على النصوص المقدسة فقط من كتب سماوية، لا نريد أن نقول ربما يكون بوذا منهم لعدم تخصصنا في اللاهوت، لكن أحب أن أطرح سؤالا، هل بإمكاننا معرفة بقية الأنبياء والرسل الذين لم يرد ذكرهم؟، لأن شحن الخير والمحبة والسلام والتفكر والنشاط والصدق والشفافية نجدها في كثير من المدونات التعبدية التي يمارس شعائرها أناس لا ينتمون إلى الأديان السماوية الثلاث، أذكر أني كتبت عن هذا الأمر في روايتي ياناعليّ ممكن نطلع عليه الآن:"وها أنذا أجد الزيتون كما التين.. كما النخيل.. كما الرمان.. كما أنت.. كما هذا الصبي الطيب مبروك.. كما ذاك الشيخ الجليل الأسمر الذي سمعته آن مروري من أمام كهفه يرتل:
بسم الله الرحمن الرحيم
"والتين والزيتون
وطور سنين
وهذا البلد الأمين......"
ولم أتوقف لأستمع إلى بقية السورة.. الشجون غزتني والدموع طفرت غزيرة فابتعدت وفي مخيلتي نقشت آيات كريمة أحالتني إلى حكايات وأخبار كنت قد قرأت بعضها في كتب اللاهوت والأساطير بمكتبة الإسكندرية.. قرأت أنّ بوذا توصّل إلى مرحلة النيرفانة (الإشراق) وهو جالس يتأمل تحت شجرة تين عبقة ويقال أيضا بهذا الخصوص إن للتين رائحة عطرة سحرية تقوي الذاكرة وتوبئِّر التركيز مما ساعد بوذا في الوصول إلى حالة الخلاص والإشراق والوجد وفي إحدى الكتب وجدت تأويلات وتحليلات وتفسيرات شتى لكثير من نصوص القرآن والإنجيل والتوراة.. من ضمنها الآيات السابقة من سورة التين.. فأحد الكتب يقول إن التين مختص ببوذا أي بالبوذية والزيتون بعيسى عليه السلام أي بالمسيحية وطور سنين بموسى عليه السلام أي باليهودية وهذا البلد الأمين بمحمد صلى الله عليه وسلم أي بالإسلام.. فالبلد الأمين يعني مكة المكرمة.. وتساءلت آنذاك حول وضع بوذا وديانته البوذية حيث إنها ـ كما هو معروف لدينا ـ ليست دينا سماويا فوجدت كثيرا من التفسيرات منها من استشهد بآيات القرآن الكريم تتحدث عن الرسل المعروفين وغير المعروفين.. منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص.. ومنها من استشهد بنصوص من العهدين القديم والجديد".
لم يكن لي أي اهتمام بالدين البوذي أو فضول لمعرفته، لكن عندما قرأت أن اللاعب الإيطالي الكبير روبيرتو باجيو، لاعب كرة القدم الفنان الذي أعشق طريقة لعبه وأتمتع بمشاهدة مهاراته قد اعتنق هذا الدين وكنت في تايلند عندما زار بانكوك ولعب مباراة استعراضية هناك مع فريقه الإيطالي في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين، بدأت أطرح الأسئلة حول ماهية هذا الدين، الذي في الظاهر نراه كدين وثني، أناس تعبد صنما، لكن عندما عايشت هؤلاء البوذيين وجدت أنهم أناس ظرفاء ومسالمين وفنانين، فتغيرت فكرتي الظاهرية عن هذا الدين، وظل موقفي العقائدي منه فقط، الذي سأكون فيه تابعا لديني الإسلامي الذي أومن به بعمق والذي لن يمنعني بالطبع من قراءة كل أديان الوجود وفهمها انطلاقا من الآية الكريمة التي تتحدث عن أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وأنا أقرأ كافة العلوم والمعارف أشعر أني أصلي، وأشعر أني مخلص لديني الإسلام الذي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أنا الآن في دمشق، في الجامع الأموي، أصلي الجمعة، صوت المؤذن جميل، يريح القلب، ويهدئ الأعصاب، صليت الجمعة، وتجولت داخل المسجد الذي عرضه أطول من طوله بكثير، ثريات كثيرة هابطة من السقف الشاهق، مراوح تدور لتطرد الحر، درجة الحرارة 38 درجة، التاريخ الجمعة 6-8-2010 م داخل المسجد غرفة صغيرة، بها قبر فخم مدفون فيه رأس النبي يحي عليه السلام، كما هو مدوّن على اللوحة، سألت نفسي كيف بني أمية يحتفون برأس النبي يحيي عليه السلام، ويقطعون رأس الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأسرون أسرته ويجلدونها بالسياط، ويسكنونها بعد مسيرة طويلة في صحراء العطش والجوع والحر في خرابة قرب جامعهم الكبير حتى تموت من العذاب السيدة الصغيرة رقية بنت الشهيد الحسين البالغة من العمر أقل من خمس سنوات، طفلة طاهرة بريئة مثل الطفلة العميقة التي أنظر إلى صورتها الآن في مقدمة هذه الرواية وأكتب، خرجت من المسجد إلى الفناء المبلط بالمرمر، هو أيضا عرضه أطول من طوله، به عدة مرافق معروفة، منها زاوية أبي حامد الغزالي الفيلسوف والمتصوف الإسلامي المعروف، معظم المصلين هم من السياح، الأفرنج منهم القاصدون التسيّح في المكان يزودهم قيموا المسجد خاصة النساء منهم بجلابيب ذات برانيص تستر عريهم، في داخل المسجد كل واحد يمسك آلة تصوير ويلتقط مناظر للمسجد والإمام والمحراب وفريق المدائح، أجواء روحانية تحيلك إلى تاريخ مؤلم، إلى صراع السياسة، إلى شعرة معاوية، شعرة الدكتاتورية، شعرة العصا والجزرة، صليت، لكن لم أشعر بالسعادة، كالتي شعرت بها في جامع الناس البسطاء الضيق، الذي ليس به مئذنة في بانكوك والذي عبارة عن شقتين مفرغتين من الغرف، لم أشعر في الجامع الأموي أن الدين الإسلامي دين أممي، شعرت أنه دين عربي، دين شامي سوري، معظم المصلين سوريون، قليل جدا من العرب والاندونيسيين والماليزيين والأفارقة، لا أزياء مميزة، فناء المسجد وأمام أبوابه تشاهد المخبرين بوضوح، ينظرون بل يتفرسون في وجهك طولا وعرضا برا وجوا وبحرا قشرا ولبا، ويروا ماذا تحمل في يدك، وهل بطنك طبيعية أم بها نتوء، أي ربما تكون ملفوف عليها حزام ناسف، خرجت من المسجد، من الباب المواجه لسوق الحميدية، وجدت الصديق القاص الليبي سالم الأوجلي، بصلعته البيضاء ولحيته البيضاء وقلبه الأبيض، تصافحنا، ورأينا الحمام الكثير أمام سوق الحميدية، بعدها دخلنا السوق المكتظ على الرغم من أن محلاته مقفلة جميعها لأن اليوم جمعة، الكثير من الباعة الجوالة يفترشون بلاطه، يعرضون سلعهم، سكاكين وآلات لتقطيع الخيار وتفريغ الكوسة من حشوها، وتنجير الجزر، ملابس، خردوات، ألعاب أطفال، دعاني إلى محل يبيع الآيس كريم يقع في منتصف السوق، قال أنه محل قديم جدا في السوق وتاريخي، يبيع المثلجات ليخفف عن أهل الشام حرارة قلوبهم، قلت له حسنا اشتري لي طربوش آيس كريم دعني ألحس من هذا الجولاطي التاريخي، وسأشتري أنا زجاجتي ماء، لعقنا الآيس كريم الشامي المزدان بهريش من الفستق واللوز وشربنا من الماء حامدين الله، لو كنا في الساحة الخضراء بطرابلس أو في ميدان الشجرة ببنغازي ما تجرأنا على لحس الجولاطي أمام الناس، لا أدري لماذا أشعر أنه عيب؟، ولا يلائم سننا، أكملنا اللعق وقرمشنا طربوش البسكويت الحاوي للآيس كريم ثم خرجنا من باب سوق الحميدية الرئيسي، عرجنا إلى اليمين، ثم أول شارع مبلط على اليمين، على اليمين مسجد أبي الدرداء رضي الله عنه.
دخلنا المسجد، صلينا فيه ركعتين، طبعا صليت معه مجاملة، من غير اللائق الشيخ سالم يصلي وأنا أتفرج عليه، كان يدعو ربه كثيرا ويطيل التهجد والدعاء، شربنا من الماء البارد المتوفر في برادته، قرأنا الفاتحة على أبي الدرداء، وعلى قبرين آخرين أحدهم لأمير الحج في العصر العثماني والآخر لصاحب كتاب المغني، خرجنا من المسجد، على يمينه بائع كتب تبيع جيدا: طبخ دين سحر طب أعشاب نزار قباني تعليم لغات في خمس أيام ذاكرات جسد مع فوضى حواس مع عمارة يعقوبيان وعزازيل مع شوية منفلوطي وجبران مع خرائط لدمشق ومراقدها المقدسة.
الكتب ملاصقة لجدار المسجد بالضبط، تتسلق من الأسفل حتى علو مترين، غادرنا المسجد وتوغلنا في الشارع أكثر، على يسارنا دخلنا حديقة نباتية جميلة، شيدت من أجل المحافظة على البيئة، شيدتها محافظة دمشق في عهد محافظ دمشق 2005 الأستاذ محمد بشار المفتي، تذكرت دكتورنا العزيز في ليبيا الطبيب والمؤرخ والصديق محمد المفتي، صاحب الكتب التاريخية والعلمية والاجتماعية القيمة وقلت لو يعينوه في الحقبة الإصلاحية من الدولة محافظا لبنغازي سيقوم هو الآخر بتشييد حديقة نباتية كبيرة لحبه وعشقه الشديد للنباتات ولألوانها الخضراء البهيجة، الحديقة شيدت بمساعدة السفارة السويسرية، والغرض منها رفع الوعي البيئي بين الناس وتقوية أواصر الصداقة بين الإنسان والنبات وكثير من الكلام الذي نقش على اللوحة الرخامية الشبيهة بشاهدة القبر والذي يصب في البندين الذين كتبتهما آنفا.
الحديقة صغيرة لا تزيد عن 200 متر مربع بها مقهى ظريف وتنقسم الحديقة إلى عدة جزر، كل جزيرة بها نوع من النباتات، فنجد جزيرة الورود – جزيرة الياسمين – جزيرة النباتات المائية – جزيرة نباتات الظل – جزيرة الصباريات – جزيرة النبات العطرية - جزيرة النباتات الطبية - جزيرة الخضروات – جزيرة الأشجار المثمرة - جزيرة نباتات الزينة - جزيرة النباتات الصخرية - وغيرها من الجزر التي تحتاج لحفظها وذكرها متخصص في النباتات وفي مقدمة الحديقة نصب تذكاري صغير عبارة عن لوحة رخامية مغروسة في الطين بين الأزهار تمجد الشهداء، ماء الري يرشرشها في كل دورة ري يدورها، مكتوب عليها 23 حزيران يوم الأرامل العالمي، يوم الألم على فلذات القلوب، على الأزواج الشهداء، على الأزواج الذين أقتنصهم الموت ليترك أسرهم وحيدة تعاني الجوع العاطفي والجنسي والمالي وكل شيء، بجولتي في المسجد الأموي وذكري لرأس يحي والحسين ومسجد أبي الدرداء والحديقة النباتية البيئية بدمشق، حديقة الحياة والطراوة والعطر، لم أشعر أني خرجت عن مونولوج الرواية العام وموضوعها مازلت في موضوع المذابح والحياة والموت وزرع أزهار العدالة في رؤوس الطغاة على الرغم من ضعف خصوبتها.
في الحديقة نصب آخر للشهداء، خرجت وصديقي سالم من الحديقة، توغلنا في الشارع أعمق، مررنا بقبر صلاح الدين الأيوبي الحقيقي والنسخة المرمرية منه التي أهداها شارلمان لدمشق عند زيارته لها في عهد السلطان عبد الحميد ذاك الرجل الشريف الذي رفض بيع فلسطين على الرغم من حاجته الملحة للمال للحفاظ على سلطته وسلطنته ذات الباب والشرف العالي فعلا، لقد تحالف السلطان عبد الحميد مع الرب ولم يتحالف مع الشيطان.
قرأنا فاتحة ودعونا ثم خرجنا وتوجهنا إلى مقام السيدة رقية بنت الحسين، الزوار الإيرانيون الشيعة يكتظون في المكان، أسر بكاملها تتعبد داخل الضريح المزخرف والذي يعتبر تحفة معمارية، دخلنا وقرأنا الفاتحة ودعونا، عندما خرجت من المقام إلى الشارع تمتعت كثيرا بجمال النساء الإيرانيات، وجوههن البيضاء وعيونهم الشهوانية، ولباسهن الأسود المثير، ومشيتهن الرشيقة، كل النساء والشابات يلبسن عباية سوداء يمسكن طرفيها عند الصدر بأيديهن مع سروال أسود كسراويل المدرسة، بعض النساء الكبيرات في السن يلبسن أردية مزركشة كالتي تلبسها النساء الليبيات في مناطق العجيلات وصبراتة وزوارة، الجو حار، لكن الأجواء العامة جميلة، شعرت أن بصري صار أقوى، أتملى في الجمال الفارسي الناري، الفارسيات لا يتبرجن كالخليجيات في بانكوك، لا بودرة أساس على وجوههن، لا أحمر شفاه على أفواههن، فقط الكحل الذي يحيط العيون فيجعلها أكثر اشتعالا وجنونا.
ذهبت وسالم إلى مقهى نت، ومكثت في المقهى قليلا، ثم استأذنته للمغادرة ولمواصلة العمل في الرواية، أتألم من رؤية الجمال الإيراني الفارسي، سأبرد قليلا صهد هذا الجمال، سأعود إلى تايلند، حيث بوذا، والشمس المشرقة والابتسامة الدافئة، أقرا قليلا في كتاب بوذا المقدس المسمى الدامابادا:
الداما تعني (الشرع العدل العدالة الطاعة الحقيقة) وبادا تعني (السبيل الخطوة القدم الأساس ) والذي يضم ما قاله بوذا (563 – 483 ق م) أقرأ بعض المقاطع من سور كتاب الدامابادا إصدار دار التكوين 2010 وأقرر أن أغرس بعضا منها في الرواية، لقد استأذنت دار التكوين إبداعيا عبر الخواطر في ذلك فوافقت سريعا والمترجم سعدي يوسف صديقي سيوافق حتما أما بوذا مادة الكتاب فيسره ذلك جدا، تقول بعض السور في هذا الكتاب:
* كما يأكل الصدأ الحديد/ وإن تكون منه،/ كذلك السيئات/ تقود إلى سبيل الضلالة.
* سأتحمل الكلام المؤلم/ كما يتحمل الفيل، السهام في المعركة./ معظم الناس في قلوبهم مرض/ لأنهم يوجون بفيل أليف في المعركة./ الملك يعتلي فيلا أليفا.
* لا في السماء/ ولا في البحر المحيط/ ولا في كهوف الجبال،/ ليس في الأرض كلها، مأمن من الموت.
* إن فعل المرء، الخير، اليوم/ فليفعله غدا/ ليرى أن سعادته في فعل الخير.
* مثل الصخرة التي لا تهزها الريح/ لا يهتز الحكماء للمدح والقدح./ ومثل البحيرة العميقة، صافية ساكنة/ يكون الحكماء بعد أن يصغوا للحقيقة.
* المرء الذي أسميه طاهرا/ هو المتسامح مع غير المتسامح./ هو المسالم مع العنيف./ هو المكتفي بين الطماعين.
* استيقظ، فكر، وانظر/ واعمل، منتبها، باناةٍ./ كن في الدرب ليشرق فيك النور.
* المرء الذي اسميه طاهرا/ هو من لا يؤذي مخلوقا، ضعيفا كان أو قويا./ هو من لا يقتل أبدا./ ولا يتسبب في موت.
تركت كتاب بوذا وصار رأسي يضج بعبارات جديدة أحتاجها في الرواية، آه صحيح أنا الآن خارج غرفتي، والوقت صباح باكر، لقد نسيت قلمي وأوراقي مرة أخرى، ليست هناك مشكلة من اختلاس قلم وبضعة أوراق من أجل الإبداع من مقهى نت آخر، لا أدري ماذا كتبت في الأوراق من عبارات؟، ربما كتبت عبارة تقول:
سمعتي زي الزفت، والزفت ثمنه غال وله قيمة وتقدير في كل أنحاء العالم، إذن سمعتي لها قيمة وتقدير في العالم، أذن الأمور تسير صح.
الصباح الباكر في تايلند منعش جدا، تتفتح فيه وردة الحياة على موسيقا الشروق ببطء، وأنا أتأمل الصباح شعرت بسعادة لا بأس بها، ودعت النادلة وعدت إلى الفندق، فطرت إفطارا كبيرا على رأي الكاتب الأمريكي جاك كرواك حتى لا أجوع إلى وقت المساء وصعدت إلى غرفتي، استحممت وحاولت أن أنام فلم يأتيني النوم فقلت آتي لهذا الحاسوب أحلم قليلا بأي شيء، آه جميل لقد ثرثرت قليلا فخرجت من مأزق التوقف، كلمة أحلم أنقذتني، الآن أستطيع أن أواصل الكتابة، حتى أنتهي من العمل، خيارات كثيرة أمامي للتقدم في العمل، أهمها الثرثرة التي تعجبني كثيرا وأي شيء يعجبني يعجب القراء، لقد جربت ذلك في 10 كتب سابقة وكانت النتيجة مشجعة وجيدة.. دعني أتباهى واقعيا، كتبي الآن تباع في مكتبة جورج بوميدو العالمية بباريس جنبا إلى جنب كتب الكتاب العالميين الكبار، أخبرني كاتب صديق يقيم هناك بذلك، كيف تذهب كتبي لتتأمل في عيون الفرنسيات وكل رائدات المكتبة من كل الجنسيات وتتركني أنا هنا في سبخة الملح بنغازي أو تايلند حيث العيون الضيقة والقلوب الواسعة، الكتب محظوظة وكتابها سيئو الحظ، مع العلم أنّ من يكون في تايلند يكون حظه حسن جدا.
أنا كتاب الآن، أباع وأشترى، أفتح وأغلق، أركن لسنوات وأطل فيبهرني الضوء، أنا كتاب محظوظ الآن، تتلمسنى الأنامل الناعمة متصفحة، تقبل أوراقي شفتان بمذاق العسل، أخرج مؤلفي من روحي، أجسده أمام هذه القارئة العاشقة، تعانقه ويعانقها، يذوبان في نار الأحلام الفاتنة، تسيل آهاتهم على أوراقي، أوراقي تبتهج، سطورها تينع فترقص وتغني، أنتفض أنا الكتاب كعصفور في جوف قبضة متسعة قليلة، بل متسعة قليلا جدا، كحقوق الإنسان والحرية في وطني، أطير داخل القبضة، تصدمني الأصابع إن تماديت، تسقطني في بطن القبضة، حيث خطوط الراحة الحمراء المتشابكة والماكرة، وسطورها أغمض غموضا من سطور متـني، أنقر بمنقار حبري في داخل القبضة، أصنع فرجات ضيقة ضئيلة بين الأصابع، تنكمش الأصابع وتشد القبضة أكثر، تضيق الفرجات حتى تخالها قد اختفت، لكن على الرغم من ضيقها الشديد يمكنك تبين شعاعا من النور، كان قد نجح في التسلل إلى داخل القبضة عبر فرج الأصابع، تراه متألقا جدا خاصة عند نقطة تلامسه مع ريش العصفور، ريش الجناح بالذات وحتى الذيل الذي يوجه حركة الطيران، جميل جدا أن توجه طيراني الذيول، سأخترع ذيلا أركبّه على جناحي بدلا من مكانه الأصلي الخلفي.
اقتنعت الدولة باستحداث وزارة للأحلام، لكن أن يستوزر لها رجل البوليس صاحب فكرة فراش في زنزانة نمْ عليه حتى تحلم بصاحبيك وتخبر بأسمائهما وأوصافهما لاقى معارضة شديدة من عدة أعضاء في مجلس الوزراء والأمن القومي، خاصة من وزير حقوق الإنسان ووزير التعويضات الداخلية والخارجية ووزير الحنان والختان والشؤون الاجتماعية ووزير التربية والتعليم وعلقت الجلسة للتشاور وأجلت لشهر، وبعد شهر اجتمع مجلس الوزراء ووافقوا على استبعاد رجل البوليس الشهير من منصب وزير شؤون الأحلام، وتحدث وزير شؤون الإنسان في المجلس حول الموضوع صائحا:
كل المشاكل التي تعانيها الدولة الآن وستستمر معاناتها ربما إلى قرون قادمة تسبب فيها رجال البوليس والمخابرات، أفراد أمن غير مؤهلين علميا، يقترفون الخطأ الجسيم بحسن نيّة أو بقصد أو بجهل لا ندري ونحن كدولة وشعب وقيادة نعاني تبعاته، لابد من التفكير في الموضوع بجدية، الولاء للدولة وحده لا يكفي لتقلد مناصب حساسة تؤثر في حياة الإنسان وموته، الولاء للدولة مرحبا به، نحب هذا الأمر ونعمل من كل قلوبنا أن نجعل كل أفراد الشعب موالين ومخلصين للدولة، لكن لديك ولاء وليس لديك مؤهل أو خبرة أو موهبة في إدارة هذا العمل فاسمح لي أن أقول لك أني أرفضك، لأنك ستضرني أكثر مما ستنفعني، وقد تسبب لي في مشكلة تقوّض دعائم الدولة وقد تفككها وتسقطها وتجعلها لقمة سائغة للمستعمرين والأعداء المتربصين بنا من أجل جغمة الزيت التي حبانا بها ربنا والتي لم يتحصل الشعب العظيم من ريعها إلا قطيرات معدودة، الإمبراطور الروماني الشهير أدريان يقول بما معناه لا أريد مخلصين أريد موهوبين، والشاعر الليبي القديم يقول: وين ثروة البترول يا سمسارة.. اللي في الجرايد نسمعوا في أخباره.
في السطور السابقة يوجد بعض التملق والمداهنة وكر الحبل والرواية مثل الحياة تجد فيها كل شيء سواء من الشخصيات أو من الروائي نفسه، فالروايات لا تقدم دروسا، ولكنها تحكي بصدق وكل قارئ يلتقط من بحرها السمكة التي تروق له، وبعد ذلك يعيدها إلى البحر أو يشويها أو يقليها أو يضعها في حوض الحمام ويعوم معها ويتخيلها عروس بحر حتى يغريه هو الآخر طعم ويعلق في شص صنارة بوليس أو أمن دولة.
أنا أدين رجال الأمن الذين تسببوا في المشاكل الماضية ولا أوافق على تقلد أي منهم وزارة مهمة لها علاقة بأحلام الناس ومشاعرها وآمالها وراحتها النفسية، الأحلام يجب أن نتعامل معها بمسؤولية وتقدير واحترام وبدون الصراخ بالأوامر وبدون عمليات زحف أو اقتحام أو إرهاب أو أي شيء ألصق بصفة الثورية بطريقة الجهالة، فالثورة هي حلم كبير أفسده الجهلة والطغاة والفاشيين والدكتاتوريين والمرضى، لابد أن نحترم أحلام الناس ولا نفرق بينها، ونمنحها العناية الكاملة بعدل ومساواة، أنا أدين البوليس والعسكر ولا يمكن لأي فرد منهم أو ممن يرقصون في جوقتهم أن يتقلد منصب وزير شؤون الأحلام.
أنسحب وزير الحربية من الجلسة غاضبا متنرفزا وتبعه فورا وزير البوليس ومدير السجون ومدير الهيأة العامة لصناعة حبال البر والبحر ووزير الأوقاف والفتوى، ووزير رؤية أهلة الأعياد والشهور ومشاكل الفلك من كسوف وخسوف أشد غضبا، ولأن وزير شؤون حقوق الإنسان سجين سياسي سابق وقلد منصب الوزارة تعويضا معنويا له عن فترة سجنه واحتواء لردة فعله التي قد تقوده للانضمام للمعارضة، وهو على صلة وثيقة بالقيادة الشابة التي ستؤول مقاليد الأمور لها وترغب في طي صفحة الماضي وإصلاح أخطاء المرحلة السابقة وتعويض الشقاء بالفرح فلم يشعر برهبة من انسحابهم أو يشعر أنه سيعتقل مجددا ويعاد إلى السجن والتعذيب، أي أنه لديه ضوء أخضر الآن ليدق مسامير صدئة في الممارسات الخاطئة في الحقبة الماضية وأن يدين ويناهض مقترفيها بكل ثقة وقوة.
بعد عشر دقائق عاد الوزيران إلى الجلسة مبتسمين، وكل واحد منهما في يده حفنة تمر وكوب من لبن النوق يتجرع منه بلذة، هزهزا رأسيهما في نفس الوقت علامة الموافقة على استبعاد العسكر والبوليس من الوزارة، لكن وزير البوليس بعد أن انتهى من جغم كوب لبنه ومسح شنبه الكث بحاشية عمامته الثورية سأل رئيس الجلسة الذي هو رئيس الوزراء:
لكن يا سيادة الوزير مَن هذا المحظوظ المرشح لهذه لوزارة السيادية؟
وصمت برهة محملقا في الحاضرين مضيفا:
لا يمكن أن يتقلد الوزارة وكإجراءات أمنية صارمة أي كان دون أن يكون لديه ملف لدينا، ودون أن يملأ البيانات المطلوبة، أنا مع الحرية ومع الأحلام ومع الإصلاح ومع كل شيء، لكن لابد من القيام بدوري الأمني على أكمل وجه، لابد أن أعرف بالتفصيل من هو المرشح.
نظر رئيس الوزراء في عيني وزير شؤون حقوق الإنسان يسأله هل لديك مرشح؟ أجابه:
نعم.
وقرّب ناقل الصوت المعكوف والرقيق إلى فمه وبعد أن تنحنح وطرد ما في بلعومه من بلغم لزج بدأ في سرد حيثيات اختيار مرشحه فقال:
نظرا للمعاناة التي قاسا منها زميلي فلان ابن فلان في السجن والمسجون بسبب نسيان حلم وطني، ونظرا لمواصلته الاعتناء بأحلامه وتسجيلها يوميا في دفتر منذ يوم تمتعه بالعفو العام، ونظرا لثقافته ولإجادته أكثر من لغة تعلمها في السجن، ولحفظه لأجزاء لا بأس بها من القرآن الكريم ودراسته لشيء من الإنجيل والتوراة في السجن أيضا ونظرا لخطه الجميل الواضح وللغته الرشيقة، ولإلمامه بفن الموسيقى والرسم والنحت والزخرفة وعلوم الحاسوب والنت ولإلمامه بالطب الشعبي والنباتات الطبية ولعضويته المتميزة في زاوية صوفية يمدح ويجدب فيها كل خميس حتى تكتنفه حالة الوجد ونظرا لدراسته لعلم النفس وللنقد الأدبي خاصة النقد السيميائي الذي له علاقة مباشرة بعوالم الأحلام ودلالاتها، ونظرا لأصله القبلي الشريف ولأخلاقه العالية وشفافيته وخلو قلبه من الحقد والانتقام، فحتى بعد أن خرج من السجن بعد عشر سنوات، بينما كلنا رفعنا قضايا في الدولة من أجل تعويضنا ماليا عن فترة السجن، هو لم يرفع قضية، ورفع يديه إلى الله وقال حسبي الله هو نعم الوكيل والمسامح كريم، ونظرا لكل الخصال الحميدة التي سردناها على مسامع أعضاء المجلس الموقر والتي نادرا ما نجدها في شخص في هذا العصر المادي العولمي الأرعن فإني أرشحه دافعا به بقوة لتقلد منصب وزير شؤون الأحلام.
ثم استدار ناحية وزير البوليس وقال له:وبما أن هذا الشخص كان سجينا سابقا لديك فلا داعي لأن أقدم لك ملفا عنه، فملفه لديكم منذ أن فتح فيه أول كلمة رجل بوليسك الذكي الذي زج به في السجن لسبب تافه كان من المفترض أن ينتهي في لحظتها كنكتة تمنح المرح لكل رواد المقهى.
ابتسم كل الوزراء بالإجماع ورفعوا أيديهم بالموافقة، لا معارضة حول استوزار هذا الشخص الذي عانا كثيرا وهو مظلوم.
بعد إلحاح وتشجيع من الأصدقاء وافق على تقلد الوزارة، ولم يوافق بصورة نهائية إلا بعد أن تم التعهد له من أعلى السلطات بأن لا أحد يتدخل في عمله وأن تقدم له الميزانية المالية دون تأخير.
استلم وزير شؤون الأحلام الوزارة وتغيرت حالته ظاهريا نحو الأفضل، فمُنح بيتا فاخرا في العاصمة، ومرتبا ضخما، وأسطول سيارات بسائقيه، ومروحية صغيرة بطيارها، وتم طبع كتابه"مذكرات الليالي المطنشة"في مطبعة ذات تقنية عالية بالعربية والإنجليزية وتم اعتماد الكتاب رسميا كمرجع مهم يدرس في الجامعات والمعاهد، وكان عندما يحضر اجتماع مجلس الوزراء الأسبوعي يغط في النوم، فلا أحد يجرؤ على إيقاظه، لأنه وزير لشؤون الأحلام، وهو الوحيد المخوّل له أن ينام في الاجتماعات ليغطي الاجتماع حلمويا، ويحلم أثناء الاجتماع بحرية وربما يؤدي حلمه أثناء العمل لكشف مؤامرة ضد الشعب.
ذات اجتماع كان نائما وقفز صارخا، فتوقف الاجتماع وسأله رئيس الوزراء ما الأمر إن شاء الله خير؟ ما الرؤية المباركة يا وزيرنا العزيز؟
فأجابه: فاجئني كابوس رائحته ثوم.
ثم عاد إلى نومه هانئا من جديد.
لم يترك رئيس الوزراء البصاص والشمام الكبير الأمر يمر مرور الكرام وبعد إجراء الكشف الطبي على مؤخرات الجميع اتضح أن وزيري الصحة والإعلام هما اللذان ضرطا، فتم التغريم ولفت النظر لوزير الصحة فقط، لأن وزير إعلام يضرط مافيش مشكلة لأن الأمر من طبيعة وظيفته فوزارة الثقافة في كل الدول خاصة العربية رأسمالها وبنيتها التحتية ضراط، وزارة لا تضرط إذا وزارة فاشلة، لكن وزير صحة ويضرط فهذه مشكلة كبيرة، معنى ذلك أن هناك خللا وغشا في شحنة الأدوية الأخيرة التي اعتمد ميزانيتها المجلس وقام بالدعاية لها في التلفاز والراديو والمطبوعات وزير الإعلام شخصيا والتي من ضمنها أقراص وقف الفساء في الأماكن العامة والاجتماعات وذلك محافظة على البيئة وحتى لا يتلوث عبير الأزهار المنتشرة أشجاره في كل الشوارع، تعهدا أن لا يتكرر هذا الأمر.. وأن يتناولا قرصين قبل كل اجتماع على سبيل الاحتياط.
عندما ينتهي الاجتماع ويطرق رئيس الوزراء الطاولة بالمنضدة ينهض وزير شؤون الأحلام ويلتحق بعمله في مكتبه تلقائيا.
كانت مهمة وزير شؤون الأحلام تقتصر على جمع أكبر عدد ممكن من أحلام الناس وتشجيعهم على الحلم وإقامة مهرجانات ومسابقات لأفضل وأروع وأظرف وأعمق حلم وتلخيص ما يأتي به الناس من أحلام وتقديم تقرير فيها إلى مجلس الوزراء خاصة الأحلام الغريبة كأحلام ما بعد الحداثة والعولمة والأحلام الإليكترونية.
فتح فروع في كل مدن البلاد، عين على رأسها موظفين مؤهلين لديهم شهادات في العلوم الاجتماعية والنفسية والدينية والطبية وغيرها، عين أيضا على سبيل المجاملة والتعويض عن الألم لأنه صار من أبناء الدولة ومن المحسوبين على السلطة بعض أقاربه وأصدقائه وخاصة إخوته وأبناء عمومته وأصهاره وأخواله وشيخ قبيلته ومختار محلته بالإضافة أيضا لرفاقه في السجن الذين أولاهم عناية خاصة، فهؤلاء السجناء على عكس المؤهلين أكاديميا في معالجة الأحلام وتسجيلها كانوا هم الأفضل وقد أبدوا مهارة كبيرة في تسجيل الأحلام بأدق تفاصيلها وحتى شرحها وتفسيرها عبر هوامش ملحقة وذلك لخبرتهم الطويلة التي تجاوزت العشر سنين في السجن، حيث التأمل الطويل والسكون والصمت والنوم واستدعاء الذاكرة الماضية وتجميل حاضر السجن والقبول بأمره الواقع كقدر لا مهرب منه رغم انغلاقه عليهم ليل نهار ونظرا أيضا لتحليقهم الدائم في العالم الواسع مخترقين جدار الزنزانات وطائرين إلى كل مكان في الدنيا بأرواحهم وأحلامهم وأمانيهم.
صار هذا الوزير يمنح مكافآت لكل مواطن يتقدم للوزارة بحلمه، لا يحاسب الناس على أحلامها، في الأحلام حرية شاملة، لا توجد خطوط حمراء، أكتب حلمك في ورقة وقدمه بس يعني فقط وممكن كلمة بس تأتي بمعنى لكن في سياقات أخرى، هناك قانون صدر بعدم محاسبة الناس عن أحلامها مهما كانت قاسية، حتى وإن طالت رموز الدولة وثوابتها السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها لكن إلى درجة معقولة يمكن احتمالها، ففي النهاية رموز السلطة دمهم حار عصبيين يتنرفزون مثل كل الشعب الليبي العظيم بسرعة فتكون ردود أفعالهم متهورة وعنيفة.
تم تقسيم الأحلام إلى عدة أقسام:
سياسة .. رياضة.. نفسية.. اجتماعية.. خيالية.. اقتصادية.. تاريخية.. ميثالوجيا.. ثقافية.. فنية.. علمية.. صحية.. خيال علمي.. غير مصنفة.. وهي الأحلام الجديدة غير المطروقة من قبل والتي لا تخطر على بال الشياطين إنْ كان للشياطين بال وخاطر.
المكافآت التي تمنح عن الأحلام متفاوتة القيمة، فالحلم مثل الفواكه والخضروات، إن أحضرته طازجا تتحصل على مبلغ أعلى، وطازجا هو أن تحضره عند الفجر وحتى السادسة أو السابعة صباحا، وإن كان الجو ممطرا وبردا ومرضت نتيجة توصيل الحلم في طقس سيء، فوزارة شؤون الأحلام ستتكفل بعلاجك وبمرتبك حتى تشفى، وإنْ أتيت بالحلم والشمس في كبد السماء فبالطبع ستكون المكافأة منخفضة لكن بعد منتصف النهار تتوقف الوزارة عن استقبال الأحلام، لأن أحلام القيلولة لا يعوّل عليها لدى السلطات وأيضا غير معتمدة بعد من اللجنة الفنية والعلمية، وتذكّر المجتمع بنجوم القايلة المنتجة بكثرة في الحقبة السابقة التي عاشتها وعانت منها البلاد حيث كان التعذيب وضرب الفلقة والخنق والخطف والتصفية والكي على وذنه، أي في أعلى معدلاته وازدهاره إن كان للألم ازدهار، خاصة أن الوزارة ملتزمة بالتوجهات الجديدة نحو الإصلاح والتصالح وقبر الذكريات الأليمة السابقة.
من هنا اقتنع الوزير بعدم نكأ الجراح بقبول أحلام القيلولة وما بعدها، لكن هناك جماعة أخرى، منظمة أهلية غير تابعة للوزارة، جمعية اسمها"يفسر لي هالحلامة"، تقبل مثل هذه الأحلام، لكن ليس لديها إمكانيات مادية كي تدفع مكافآت للحالمين فكسد نشاطها، لكن الوزير وضعها تحت المجهر وحاول إجراء اتفاق معها وبالفعل وافقت جماعة يفسر لي هالحلامة على الاتفاق أو صفقة المداهنة، وافق الوزير على منحها ميزانية مالية لا بأس بها من الوزارة، يأخذ رئيس مجلس إدارتها نصفها ونصفها الآخر يدفعونه مقابل أحلام الظهيرة على أن يوافوه بهذه الأحلام ليلا، حيث سهرة ما بعد صلاة العشاء، حيث يجتمع الكبار للسهر والسمر والرقص والمضاجعة
والعربدة الأنيقة، فيطلع سيادة الوزير على قائمة الأحلام، ثم يمزقها بل يضعها في المرحاض ويجذب عليها ذراع الطارد فتغرق مع فلطته الليلية.
تغير وزير شؤون الأحلام، بعد انغماسه إلى شوشته في المال والسلطة، فالتحق بالشلة المرفهة وثبت في سيرية الكارطة، خاضعا مطيعا إلى درجة الإذلال، يضعه الجوكر حيثما يريد، قد يشرفه ويدلعه فيتركه في يده مدة طويلة، وقد يرمي به على الطاولة ورقة يمكن الاستغناء عنها فتلتهمه ورقة منافسة أخرى كوقود لتواصل اللعب، تكمل به قائمتها وتفرشها قافلة الدور منتصرة وهو محصور بين مروحة أوراق اللعب، سيظل دائما ورقة ملعوب بها، والأوراق الملعوب بها لن تكون هي اللاعب، فقدرها دائما أن ترفع ثم ترمى، ثم يتم خلطها مجددا في قطيع الأوراق ثم يوضع قطيع الأوراق منكفئا على بطنه ووجهه ورقة فوق ورقة، ليبدأ اللاعبون في سحب أوراق حظهم، ومواصلة اللعب حتى تتلف الكارطة وتبيد، فيرمونها في سلة المهملات ويغيرونها بأوراق لعب جديدة، ناعمة الملمس وذات رائحة عطرة، تحدث صوتا لطيفا عند خلطها (التمشكاي).
بعد مدة وجيزة من بدء وزارة شؤون الأحلام لشغلها، انتهت مشكلة البطالة في البلاد، ممارسة الحلم ثم تسليمه للوزارة صار فرصة عمل لا بأس بها، الناس تنام باكرا وتستيقظ باكرا لتسلم حلمها وتستلم مكافآتها وتذهب لمواصلة النوم أو للعمل لمن كان لديه عمل، أو للتبضع من الأسواق أو التريض أو الجلوس في المقاهي، صارت الناس سعيدة، أن تبدأ يومك في الصباح الباكر بقبض مبلغ لا بأس به من المال لا يوجد هذا الأمر إلا في هذا المجتمع السعيد، ارتفعت وتيرة الإنتاج في المؤسسات الاقتصادية والخدمية وفي القطاع الخاص أيضا، لم يعد هناك تأخير عن العمل أو معاناة من مشكلة تأخر المرتبات ففي كل صباح يوجد مال بصورة منتظمة.
الحلم كالمضاجعة، هناك أناس نشطة الأحلام، أحيانا تحلم حلمين أو ثلاثة في الليلة الواحدة، وهناك أناس بائسة عنينة لا تحلم في الأسبوع إلا مرة واحدة، مما استدعى الأمر لفتح قسم صحي خاص بالوزارة من أجل مد هؤلاء الذين لا يحلمون يوميا أو بصورة طبيعية بالدواء اللازم لإدرار لبن الأحلام.. أقراص سماوية بلون الزرقينا شبيهة بأقراص الفياجرا.
استعانت الوزارة فيما بعد حفاظا على الوقت والجهد لها وللمواطن بمنظومة كمبيوتر ضخمة، تستلم الأحلام عبر الإيميل وترسل المكافآت إلى حساب صاحب الإيميل بصورة آلية، استخدام التقنية الإلكترونية اقترحه الوزير مواكبة للعصر ومن أجل الحد من عملية الزحام، بعد استلام الأحلام بواسطة النت يتم تبويبها ثم تقدم للوزير ليختار المهم والمتميز منها، ويلخص الباقي بطريقة الصورة العامة أو الانطباع العام.
الأحلام المهمة والمتميزة والطريفة تصدرها الوزارة في كتاب شهري، لقى هذا الكتاب اهتماما وقبولا من القراء في داخل الوطن وخارجه وصار يصدر باللغات الخمس المعتمدة من قبل منظومة الأمم المتحدة، هذا الكتاب تم إصدار معه في خطوة جديدة مجلة أسبوعية تهتم بشؤون الأحلام وجريدة يومية، وكل المشاريع الاستثمارية التي أنشأتها وزارة شؤون الأحلام لاحقا من قناة فضائية ومطابع ومصانع ورق هدايا ومشاتل ورود لاقت نجاحا ورواجا كبيرا خاصة في المجال الإعلامي، فقد سجلت الصحف والمجلات والكتب التي تصدرها الوزارة أعلى درجة مبيعات وتوزيع في العالم وتم ترجمتها لأكثر من خمسين لغة، بل كتاب مذكرات الليالي المطنشة حقق مبيعات كبيرة جدا ويشاع انه رشح لنيل جائزة البوكر ونوبل وجوكور، ويشاع أيضا أنه رفض عدة جوائز عربية كجوائز الخليج ومصر والمغرب العربي، كل جائزة يدخلها بلغة بلادها، لأن الكتاب تمت ترجمته لجميع اللغات الحية وبعض اللغات الميتة من اجل الدراسة الأكاديمية، لم تعد الوزارة تعتمد ماليا على دعم الدولة، صارت تعتمد على نفسها، الناس تريد أن تحلم لتنفس عن نفسها وتكسب المال، إذن ستشتري كل الأشياء التي لها علاقة بهذه الأحلام التي تحوّلت إلى عمل يجلب لقمة العيش.
الوزير لم يجعل اقتصار قبول الأحلام من المواطنين فقط، وافق على قبول أحلام الرعايا الأجانب الذين يعيشون في البلاد بشرط أن يقدم الحلم مصحوبا بترجمة باللغة الوطنية وأن لا يناقش في أمر المكافأة إن كانت أقل قيمة من الحالم الوطني.. بالنسبة لترجمة الحلم لم تعد مشكلة، فعلى شاشة الكمبيوتر، هناك أكثر من برنامج يقوم بالترجمة الفورية بسعر زهيد أو مجانا.
لم تكن هناك سمسرة ومضاربة في الأحلام، لم تتشكل بورصة تجارية لها، كل حالم يفضل أن يبيع حلمه مباشرة، لأن المكافآت غير ثابتة، أحيانا مرتفعة وأحيانا منخفضة، حسب بورصة الأحلام العالمية، الوزارة صارت تصدّر من هذه الأحلام لبعض الدول التي بها جدب حلمي ومجاعة خيال ونوم، مقابل مبلغ رمزي أو مقايضة معها ببطاطين وألحفة وبسط ووسائد وكل مستلزمات النوم المريح، وبين الحين والآخر تستورد من تلك الدول بعض الأحلام الجديدة غير المألوفة لديها لتضمنها أرشيفها الكبير.
برر الوزير سبب استيراده لأحلام من الدول الأخرى وتخزينها في الأرشيف لدواع أمنية، قائلا:
قد تنشب ذات يوم حرب أحلام كونية على غرار حرب النجوم، فنكون قدّها وقدود، أي مستعدين لها وعلى دراية بعدونا وأحلامه، لذلك أطلب من مجلسكم الموقر إقرار الميزانية المالية التي طلبتها لهذا الغرض، فالأحلام سنشتريها بالعملة الصعبة وهي أحلام منتقاة من قبل لجنة الخبراء، وليس هناك دولة تبيع أحلامها بالرخيص.
عندما أتم وزير شؤون الأحلام قراءة الكلام السابق، ابتسم له وزير البوليس ووقف من مقعده وتوجه إليه يعانقه تقديرا لهذه اللفتة الأمنية الباهرة.
الناس صارت تحب هذه الوزارة لأنها تصدقها وتثق فيها، لم ترد أي بائع حلم قصدها لبيع حلمه، لا تقل لأحد أن هذه قصة ملفقة وليست حلما، لا تقل لأحد هذا كذب، تحترم كل الأحلام القادمة إليها، دون تمييز وتسدد الثمن فورا لأصحابها، حتى أحلام العسكريين والبوليسيين تستقبلها منهم وتتعامل معها بتحفظ وسريّة حفاظا على أمن الدولة، فتلقي نظرة عليها من قبل منسق خاص يصاحبه عضو من العسكر وآخر من البوليس، ثم تقوم الوزارة بحفظها في مكتب تحت الأرض محصن ضد الحروب النووية.
من خلال دراسة هذه الأحلام من قبل الدولة تغيرت في البلاد مفاهيم وقوانين كثيرة، تغيرت القوانين غير المتماشية مع الزمن وتطوره العلمي والثقافي، تغيرت البلاد إلى الأفضل، لأنها أجابت عبر قوانينها الجديدة على سؤال بماذا يحلم الناس؟!.
يحلمون بالحرية، تمنحهم حرية، يحلمون بالسعادة، تمنحهم سعادة، يحلمون بالموز، استورد لهم الموز، يحلمون بالجنس، أقم الأعراس الجماعية وأدعم برامج الزواج، وأفتح لهم حتى بعض المواخير في الفنادق، يحلمون بالخمر، وفره لهم عبر حانات أو في الدكاكين، يحلمون بالنزهة أفتح لهم حدائق وجهز لهم شواطئ وبلط لهم كورنيش على البحر أو النهر يمارسون فيه الرياضة المسائية ويشمون فيه عبير الماء المنعش، يحلمون بالثورة، أتركهم يثورون ويتظاهرون ويحطمون بعض الواجهات الزجاجية ويشعلون النار في بعض أطر السيارات دون أن ترديهم بالرصاص أو تزج بهم في غياهب السجون معتبرا أن هذه الأمور في الحياة طبيعية جدا.
أحلام الناس لم تتغير، كانت أحلام عادية، بسيطة، معظمها يتعلق بالحصول على مال وتحسين الوضع الاقتصادي للأسرة، أو عن الرغبة الجنسية، أو الخوف من الحكومة ومن البوليس والمباحث، أو رؤية غائب أو ميت في مذبحة أو حرب، لا أحد حلم بتدبير عصيان مدني أو انقلاب عسكري، وربما هناك من حلم بذلك لكن لم يتجرأ أن يسلم حلمه للوزارة دون تحوير، يحوره مثلا، حلمت بمجموعة تخطط لانقلاب على الزعيم والشعب فوجدت نفسي أركب حصانا خشبيا وأشعل في خشبه النار فيطير بي عاليا لأجد نفسي أمام رجل طيب يحب الوطن عانقته وأخبرته بالأمر، بعدها سمعت صياح ديك فاستيقظت وكان الوقت صباحا فجئت راكضا إلى هنا ليس على حصان إنما تطبيقا لمبدأ الرياضة للجميع على قدمي الحافيتين.
عند انتهائه من سرد هذا الحلم المحوّر قدم له وزير شؤون الأحلام حذاء رياضيا فاخرا نوع ديداس مع دستة جوارب نوع بوما مع قبعة مزركشة نوع نايك وقال له في مثل هذه الأحلام أريدك بطل العالم في الجري.
كل الأحلام الناس تحلمها بحرية مطلقة لأنها في حالة نوم، لكن تسلم أحلامها بعبودية، لأنها في حالة يقظة، فتحرص يقظتها الواجفة على أخذ مقابل عنها ولا شعوريا تقوم بتهذيبها قليلا فتنقص من حدّت حريتها تقية وحذرا.
كل الشعب بفضل جهود هذه الوزارة صار سعيدا، وراض على الدولة وعلى نظامها السياسي البديع، وعن إصلاحها الشفاف، أين تجد هذه النعمة في كل أرجاء المعمورة، دولة تحترم أحلام شعبها، وتدفع مالا دون مَنٍ من أجل الحصول على الأحلام، وتدوينها، وأرشفتها، لأنها تعتبرها تراث وطني وثروة وطنية وذاكرة اللاوعي القومي، وحديقة أمنيات للماضي والحاضر.
الدولة تعتبر الأحلام ثروة كبيرة، أهم من النفط، استثمار مستقبلي، من يدري ربما في المستقبل بسبب الحضارة والعولمة وجنونها والتقدم المادي المنفلت الرهيب يفقد الإنسان أحلامه، يتوقف عن الحلم، يعجز عن النوم، ومن هنا يمكن للدولة أن تحقن بعض الناس ببعض الأحلام القديمة لتنتعش دورة الأحلام وتنبعث من جديد ويعود الحلم إلى المخيلات مواصلا رسالته في مواساة الأرواح.
الأحلام سلعة لا تأكل ولا تشرب ولا تموت ولا تفسد ولا تأخذ حيزا كبيرا من حياة الناس وكل الناس تحبها لأنها أحلام الأجداد سبب وجودنا، ورمز عزتنا وكرامتنا، من فقد أحلامه فقدَ حياته، ونوم بلا أحلام، آخييييييييييييه عليييييييييه، نوم كلوط، ثقيل الدم والروح.
بفضل هذه الوزارة تضاءل دور أجهزة البوليس والمخابرات في البلاد، الناس تسلم كل صباح أحلامها، ومن سلمك حلمه سلمك روحه، فماذا تريدون منه أيضا؟!، ارفعوا عيونكم وأيديكم عن الشعب، هكذا قال لهم وزير شؤون حقوق الإنسان متظاهرا بالغضب الشديد في اجتماع مجلس الوزراء، بالطبع قال الكلام السابق بإيعاز من القيادة الشابة أو المخضرمة، إي توجيهات عليا تنفذ فورا.
الطفلة العميقة تصرخ، كانت تحلم، لم تبع أي حلم من أحلامها حتى الآن، كل الأحلام تحتفظ بها في ذاكرتها، الأطفال لا يبيعون أحلامهم أبدا، ويعجز لصوص الأحلام أيضا عن سرقتها منهم، آه كم قبضت وزارة الأحلام على لصوص سرقوا أحلام غيرهم، تكتشفهم سريعا، لديها شرطة خاصة بها، مهمتها البحث عن الأحلام الهاربة والمسروقة، إن ضاع منك حلما اذهب لهذه الشرطة وبلغ عنه وأعطيهم بعض أوصافه أو تفاصيله، سيأتي اللص لا محالة بالحلم المسروق من أجل بيعه وسيتم القبض عليه واستعادة الحلم ومعاقبته بشهر يقظة، يمنع فيه من النوم والحلم، وإن كان قد عبث بالحلم وحرفه ووشوهه فعام من الحبس لا تخصه منه خاصة.
الطفلة تبكي كثيرا وتصدر صوتا حزينا كأنه الموسيقى، لا أتمالك نفسي، أترك الكتابة عن الأحلام وأهرع إليها، أهبط إلى تحت نافضا السنين العجاف والدسمة حتى أصل إلى مدار عمرها، أعانقها طفلا، فإذا بي أجدها كبيرة شابة تجاوزت الثلاثين من العمر، تمسكني من أذني، ومن تلابيبي، توبخني كثيرا، وتبدأ دموعها في الهطول، يرعبني المشهد لأني طفل، أبكي أنا أيضا، أشعر بالخوف، أحاول أن أكبر، أن أصعد لأتساوق مع عمرها، أصعد على الأقل لثلاثة عقود من الزمن، تمسكني، تتشبث بقدمي الصغيرتين، أريدك طفلا، بريئا، صادقا، تحلم ولا تبيع، تعرق دون رائحة، تبتسم دون اصفرار، تخبش دون ألم، أريد أن أشكو لك طفلا وليس رجلا، أنت أهملتني، لا يمكنني الاحتمال أكثر، أكثر من عشرين ورقة تكتب عن الأحلام وأشياء أخرى وتنساني، ولا تستدعيني، أنت أناني، أنت ظالم، أنت تبدأ بي الرواية ثم تتركني، تستخدمني طعما في صنارتك لتقبض على الأحداث وفكرة الرواية وحبكتها وبعد ذلك تنساني، عشرون ورقة كاملة تتجاهلني، لا تذكرني ولو بتلميح، لقد أحييتني في بداية الرواية وبدأت أعيش وأهبط وأرتفع وأحلم ثم تقتلني هكذا بدم بارد، الحياة في الرواية أهم من الحياة في الواقع، ليتك لم تضعني فيها، لم تزرع مشاعري وملامحي على أوراقها، ليتك تركتني خارجها، أنت جبان ومغرور أناني سمج تهمك مصلحتك فقط، وأنا التي تساعدك وتقف إلى جانبك، وتضحي من أجلك بوقتها وراحتها وصحتها وعواطفها تتجاهلني.. في الأوراق الأولى من الرواية كنت سعيدة، صورتي وأنا طفلة تتصدرها، آه كم شعرت بالراحة عندما رأيتها، ذكرتني بطعم حليب أمي قسامي ورائحة بخورها وطيبة قلبها، لكن الحال لم يدم طويلا، لم تحتمل وجودي أكثر، تركتني وطرت لأحلامك الخيالية واللا واقعية، أنا أعرفك جيدا، لا تقل لي أني خرجت من إلهامك، أنا لم أخرج، لم اشعر بخروجي إطلاقا، أنت أخرجتني عنوة، تقريرية، تريد كعادتك أن تسهب وتثرثر في أشياء لا لزوم لها، حشو لغوي وألعاب فارغة من المعنى، آه لماذا لا ترد؟ بماذا تفكر؟، آه تريد أن تتخلص مني في الواقع، ربما تريد أن تتزوج بتايلندية رشيقة، هذا هو الواقع، لست نائمة على آذاني، لقد أخبرتني السمينة الخليجية بثينة التي التقيتها في مقهى ستار باكس، همست لصورتي، صعدت لي من السطور التي في الأسفل إلى الأعلى، زوجك ينظر للتايلنديات الرشيقات بشراهة، زوجك لم يحتفي بسمنتي بطريقة لائقة على الرغم من أن دمي خفيف، لو كنت ثقيلة فعلا ما صعدت هذا السلم السطوري الطويل لأتيك في أول صفحة، لقد تعبت وأنا أدفع ما سكب فوقي من سطور، تعبت من قلب الأوراق والانتقال إلى الصفحات التالية حتى وصلت إلى الصفحة الأولى التي بها صورتك، أنت طفلة طيبة، تستحقين التنبيه، لا تعتبري الأمر وشاية، ولكنه واجب الأنثى مع الأنثى، إحساسي يتنبأ بذلك، سأمزق أوراق الأحلام كلها، وسأعود للرواية بالقوة، بالذراع، رغما عن خشيمك ذي الفتحات الواسعة هذا، لا تقل لي أني لم أخطر على بالك، أنا كل شيء، بالك، إلهامك، أنا في داخلك شمعة لا تنقص رغم أنها تذوب ضوءا، لو أسحب حبري منك ستشقى، لن تربح أبدا، جدّي أنت تعرفه جيدا، الشيخ عبد السلام الأسمر الولي الصالح الشهير، صدقني سأعشم فيك، لكن لا أحب فعل الشر، أنا صابرة عليك، وعلى تصرفاتك الرعناء وجنونك في الحياة العادية، لكن في حياة الإبداع يفتح لك ربي، لا أسمح لك بنسياني لحظة، صدقني سأقتحم روايتك، سأخربها، سأتبوّل فيها، سأمسحها من ذاكرة الحاسوب وحتى من ذاكرتك إن لم تذكرني مجددا وتعيدني إلى مكاني اللائق في هذا العمل الذي بدأته بي طفلة كسرت نظارتك لتجعلك ترى أصدق، من المفترض أنها كسرت رأسك النرجسي هذا وليس نظارتك فقط، لا أريدك أن تذكرني في الأحلام، أريد الذكر في الواقع، أكتب عني الآن وإلا سأسحب صورتي الصغيرة وأسحب كل الحروف التي كتبتها عني وعن صديقتي الخليجية السمينة بثينة القطرية وبعد ذلك أترك حديثك الفارغ عن الأحلام يصنع لك رواية جيدة.
لا أدري ماذا أفعل لهذه الآمال الغاضبة العاشقة مشاركتي في كل شيء؟.. الطفلة الكبيرة العميقة، لا صبر لديها، هي تظن أني نسيتها، أنا لم أنسها، تحدثت قليلا عن وزارة شؤون الأحلام، وأخذني الحديث إلى تفاصيل صغيرة حول هذه الوزارة، حاضر يا طفلتي، اهدئي فقط، وتوقفي فقط عن أكل نفسك، اهدئي ولا تغضبي أكثر، لا تأكليني بعينيكى الغاضبتين، ستكون الأمور تمام، أنا أحلم بك الآن، تعالي إلى هنا عانقيني قليلا، سأغني لك أغنية أولا، بعدها سأكتب شيئا عنك، وستعود الطفلة العميقة إلى النص أكثر عمقا، تعالي أغني لك:
بحلم بيك أنا بحلم بيك....... وبأشواقي مستـنيك.
وإن ما سألتش فيا... يبقا كفاية عليا
عشت ليالي هنيا أحلم بيك
أنا بحلم بيك
التقيت بالطفلة العميقة هذه وهي شابة في بنغازي بداية عام 2002م.. عرفني بها الشاعر الصديق فتحي الورشفاني.. وهو شاعر شاب من بنغازي لديه الآن ديوان شعر صدر عن مجلس الثقافة العام عنوانه غريب وطويل نسيته الآن رغم كتابتي عنه مقالة.. كانت زميلته في المدرسة.. وكلما جئت إلى مكتبة البستان بسيدي حسين للحصول على الصحف اليومية والكتب الجديدة وجدته يتصفح الصحف والمجلات، هناك تعرفنا على بعضنا البعض وتوطدت صداقتنا، وفي يوم كنا في شقة جدّته التي ربته ويعيش معها في عمارة المحجوب بسيدي حسين مدّ لي حزمة أوراق مضمخة بالعطر مكتوب فيها عدة نصوص ومرفقة بصورة شمسية لهذه الطفلة وهي في الثلاثين من العمر، الحقيقة الصورة لم تعجبني ومزقتها ورميتها من النافذة ليبعثرها الهواء، لكن الكلمات التي في الأوراق كانت جيدة.. رتبنا موعدا وزرتها في مدرستها.. فأحضرت لي عصير عنب راوخ وشكولاطة كيت كات وقدمت لي لفافة ورق بها عدة أعمال قرأتها وأعجبني بعضها.. وجدت في كلماتها سحرا ما.. وجدت الاشتقاقات الشاعرية.. المكتوبة بإحساس وليس بواسطة التصنع والتحذلق اللغوي.. كلمات غير مألوفة وغير مستخدمة كثيرا.. بل بعض الكلمات هي من نحتها الخاص.. حتى الحاسوب عندما طبعت فيه بعض نصوصها وضع تحت معظم الكلمات خطوطا حمراء.. مما يعني أنها غير موجودة في ذاكرته اللغوية كي يقوم بتصحيحها.. طلبت رأيي في كتاباتها فقلت لها جيدة وتعجبني.. لكن أراها قريبة من النص القصصي.. ربما أكون قد قدمت لها بعض النصائح المتواضعة حول الكتابة بحرية وعدم التقيد بجنس النص شعر قصة مقالة.. ونصحتها بترك الجري وراء الموسيقى والإيقاع الظاهري في الكتابة خاصة الشعرية منها.. وفعلا بدأت تكتب السرد مستخدمة لغتها الثرية بالاشتقاقات والألفاظ المركبة الغريبة.. الزاخرة بالاستفهام والتعجب وبعض الجمل الاعتراضية التي لا تقطع انطلاقة النص لكن تمنح القارئ برهة تنفس وتفكر.. كانت من قبل قد نشرت بعض قصائدها القصيرة في مطبوعات أخبار بنغازي واجدابيا والشلال والجماهيرية والحرية التونسية والصدى الإماراتية.. وعندما ركزت على السرد قليلا أرسلت بعض نصوصها إلى جريدة أخبار الأدب المصرية وهي جريدة كانت لها ضوابط صارمة بخصوص النشر قبل أن يتغلغل فيها مرض التساهل والمجاملات وعقد الصفقات، فنشرت لها قصتها (بقع ظامئة في حضني) في صفحات الإبداع.. وقد كان لهذا النشر دفعا جيدا لتأخذ أمر الكتابة بجدّية.. وتسعى لرفع مستوى ثقافتها بالقراءة العميقة المتأنية لكثير من الأعمال الأدبية الحديثة العربية والعالمية والليبية.
ومع انتشار الشبكة العالمية الانترنيت في السنوات الأولى من الألفية الجديدة تعاطت معها ونشرت نصوصها في موقع القصة العربية ونالت نصوصها استحسان القراء والنقاد المشاركين في الموقع والمتابعين له.. فتحسنت نصوصها نحو الأفضل وتطور ذوقها في تقبل الأعمال الأدبية وتخلصت من كثير من عيوب البدايات في فترة وجيزة.. واتجه نصها إلى التكثيف أكثر وإلى العمق وإلى تناول اليومي المعاش بطريقة مغايرة للسائد في اللغة والمعنى والمضمون وحتى الشكل.. فلم تتناول قضايا المرأة المستهلكة كقضايا الزواج والطلاق والعنوسة والحب والرقيق الأبيض السرّي والعلني.. وغيرها من القضايا المتداولة في دنيا الأدب.. لكنها اتجهت تنبش في أعماق نفسها لترمي بحزم أحاسيسها على أراضي القراء الخصبة لتشعل وتنبت فيها ورود الخلخلة والدهشة والانبهار.. عبر سياق متشظٍ يجعلك تجتهد في لملمة الكلمات ورصفها أو مراكمتها لترى الصورة التي صنعها لك خيالك واضحة أمامك.
كل من يقرأ لها قصة سيقول كلام فارغ لكنه سيعود في كلامه ويقرأ الكلمات من جديد ليبحث عن بعض الامتلاء.. كل من يقرأ لها قصة لابد أن تظل بعض كلماتها عالقة في ذهنه.. ومتشبثة بذائقته.. صنعت لنفسها لغة قريبة منها تميزها.. لغة متبعثرة.. على القارئ أن يجمع شتاتها ويلضم منها عقد فهمه وعطر مزاجه.. في قصصها لا يمكنك أن تقبض على الحكاية.. فالحكاية متوزعة هنا وهناك.. وعليك أن تلتقط هذه الشتائت وتجمعها في فسيفساء ملائمة تمنحك بعض المتعة والمعنى والاقتناع.
صيف 2003 انتهت من مجموعة بقع ظامئة في حضني ودفعت بها إلى مجلة المؤتمر الليبية.. لكن المجلة تأخرت أكثر من ثلاث سنوات في إصدارها فاضطرّت لسحبها منها وتقديمها إلى مجلس الثقافة العام الذي اقترح مسبقا سقفا عاليا لإصدار 100 كتاب دفعة واحدة.. فتحصلت على فرصتها وصدرت.
خلال المدّة المحصورة بين 2003 و2007.. لم تكتب آمال كثيرا وأكثر كتاباتها كانت مسودّات تريد أن تصنع منها رواية بعنوان (قسامي).. كتبت فيها عشرات الأوراق ثم أهملتها مركونة على الكمبيوتر.. ثم انتفضت عام 2009 وأكملتها، صدرت أخيرا عن دار الحوار بسوريا 2010.. في هذه المدة المحصورة بين2003 و2007 كانت قد أنجبت ابنتنا مهجة وابننا جبير.. والحمل والولادة والعناية بهذين الطفلين أخذا منها كل الوقت.. لكن رغم هذه المتاعب والانشغالات والمرض وشغل البيت استطاعت أن تنحرط في نشاط آخر فاتجهت إلى مسرب إبداعي جميل تتبعته بثقة ودون خوف كما الأطفال بالضبط لتجد نفسها فنانة تشكيلية دون سابق قصد.
ترسم بواسطة الفحم والألوان المائية والزيتية والآلكليرك.. وقد اشتركت في معرض بفرنسا على هامش ندوة القصة في جامعة تولوز وذلك بإرسال لوحاتها الخمسين إلى هناك وتمّ اقتناء نصف اللوحات من الجمهور الفرنسي المتذوّق للفن.. واستعانت مجلة المؤتمر بعدّة لوحات أغلفة لكتبها الأدبية الصادرة..وكذلك فعل قسم الكتاب بمجلس الثقافة العام الليبي.. وأشاد بموهبتها التشكيلية عدّة عارفين بهذا المجال على رأسهم الفنان علي العباني والكاتبة د حادة قادر والفنان عادل الفورتية والشاعر رامز النويصري والشاعر والقاص محمد زيدان والشاعر التونسي خالد النجار والناقد المغربي محمد معتصم والناقدة المغربية د زهور كرام والكاتب التونسي مدير القسم الثقافي بموقع دروب كمال العيادي والذي كتب مقالة عن لوحتين لها.. وغيرهم كثيرين.. وأقامت معرضا خاصا بها في دار الفقيه حسن بالمدينة القديمة بطرابلس عام 2008 خصصته للوحات الرقمية وامتد المعرض طيلة شهر رمضان وبالطبع كان ناجحا.
الكتابة عن هذه الطفلة العميقة لا أستطيع أن أختزلها في ورقة أو كتاب.. فأنا أعلم أنها موهوبة في التشكيل وفي الكتابة.. ومتى تفرغت لهذين المنشطين فستنتج أعمالا عظيمة وخالدة.. لكن الطفلين يستنزفا وقتها وهي متعلقة بطفليها ولا تستطيع تركهما لمربيّة وهي تقول يهمني طفلتي وطفلي فهما مشروعي الحقيقي وإبداعي الأصيل.. والأدب والفن قابلان للتدارك مهما أبعدهما عني الزمن.
تعرفت على هذه الطفلة العميقة عبر درب كلماتها المضيئة فلم تتأخر فراشتي في الاحتراق وتزوجتها.. اعتبرت الأمر لحظة إلهام إنْ ذهبت فلن تعود أبدا.. كنت على يقين أنها المبدعة التي أبحث عنها.. وأنها عطر الكلمات الذي أشمّه منذ زمن وأتتبعه فلا أصل إليه.. أمها ميتة وأبوها ذهبت إليه وخطبتها منه فوافق سريعا.. ربما أتممت الأمر معه في خمس دقائق.. مازال يحكي لأقاربه أن ابنته زوجها لمحمد الأصفر في خمس دقائق فقط.. كل ما اشترطته وافق عليه الأصفر بهزة رأس وابتسامة.. ثم غادر قبل أن تجهز القهوة.
أتيها صباحا في المدرسة وعرقي يتصبب بسبب الجو الحار والمشي الطويل في شمس الضحى الصيفية فتمسحه لي بمنديل أو بكم جلبابها أو بلوزتها.. تقول لي هذا العرق مهم جدا بالنسبة لي.. يساوي مطر الدنيا وأكثر.
حتى عندما أشارك في أمسية قصصية ويتصبب عرقي من الخجل والارتباك أو من الحر والرطوبة.. أو من ثقل دم الحضور والمقدّمين.. تقف من مقعدها وتصعد الركح وتمسح لي جبهتي وصدغي ورقبتي أمام الجميع.. كلما ارتكبت حماقة ولا أجد عذرا قابلا للتمرير وتنقفل أمامي جميع الأبواب أنكس رأسي وأقول لها خذي قطرة من رصيد عرقي لديك.. فتسامحني فورا.
دخل زواجنا هذا الشهر عامه الأبدي.. ومازلنا منذ أن تعارفنا ونحن في حالة سفر دائم.. لا نستقر في مكان بعينه.. ما زلنا نبحث عن مكاننا المنبعث منه عرق توهجنا.. سكنا بيوت الشباب.. الفنادق الرخيصة.. بيوت الأصدقاء والأقارب.. هي ترغب في هذه الحالة.. وأنا أيضا.. ما إن نعود إلى بيت أهلي الذي نسكن سطحه حتى تتململ وتقلق وتململني وتقلقني معها.. ونبحث عن سفرة جديدة.. نركب أي وسيلة مواصلات.. وننطلق إلى أي مكان في دنيا ربي.
كل عام ارتكب حماقة أو أكثر أقدّم لها قطرة من هذا العرق الثمين لدى روحها.. ذات مرّة كنت في زيارة إلى مدينة لدي فيها صديقة سابقة فرقتنا الأيام والأقدار وتزوجت.. وكنت أكتب رواية آنذاك.. فقلت لها أريد أن أمر من أمام بيت تلك الصديقة.. لدواعي روائية بحتة.. فسمحت لي.. وأدار السائق الصديق الذي يعرف البيت المقصود صوب شارعها.. ودخله بهدوء وفتحت زجاج نافذتي مريحا على حافة الباب مرفقي واستغرقت أشم هواء الندم القديم.. ومر الصديق بسيارته من أمام بيتها ببطء منصاعا لوكزة مرفقي.. تأملت البيت وشرفته ونوافذه وبابه العتيق.. تأملت أصص الأزهار المبثوثة أمامه والدالية الوارفة المتدلية من علياء واجهته.. لا أدري ما شعور الطفلة العميق آنذاك.. لقد كنت غائبا في جنان الماضي السعيد.. وعندما تجاوزنا البيت ووصلنا إلى نهاية الشارع انتبهت فقلت للسائق مر بي مرة أخرى ورأس العزوز (أمك).. فصاحت الطفلة العميقة بعصبية:
حمادة أعصابي يحتملن المرور من أمام البيت مرّة واحدة.. وليس اثنين..
فقلت لها بهدوء: شارعهم مزدوج يا وليّة يشيل ويجيب.. المرور الأول ذهاب.. المرور الثاني إياب.
وضحك ثلاثتنا بصوت مرتفع حتى ظننا المارة مساطيل..
قالت لي أيضا لو وجدت فتاة تعانقك فلن أتكلم ولن أغضب.. ولن أقيم عليك الدنيا ولا أقعدها ولن أضع عليك اللوم.. سأقول في نفسي هي التي عانقته.. وهو قبل العناق لظروف إنسانية.. ربما كانت بائسة أو محبطة.. أو على وشك الانتحار.. أو بها جن أصفر.. ربما رأت في قلبه ما رأيت من حدائق وجنان وجنون وإبداع.. لكن اسمع هذا الكلام ينطبق على الليبيات، التايلنديات ممنوع العناق وممنوع كل شيء، إياك ثم إياك أن تلعب بذيلك، لا تقل أني لن أعلم، سأعلم بواسطة الشعور والوجدان.
دائما تقول لي عندما لا أعجبك أو لا ترغبني فاخبرني بذلك صراحة وسوف أغادر حياتك دونما زعل أو ألم.. أنا أتفهم الفن والإبداع والحياة والعرق النقي الذي كان يأتيني وأمسحه بكفي هذه.. لابد أن تخبرني دائما بجوانيتك.. عندما تشعر بالملل من كتابي فبإمكانك قفله وإرجاعه إلى مكتبة أبي.. وسيدفع لك أبي أضعاف ثمنه.
اكتفي بالابتسام لهذا الكلام.. وأقول لها نفس كلامك أقوله لك أنا.. ربما ما عدت أعجبك ولا ترغبينني فبإمكاني أن أغادر حياتك.. أنا أتفهم الرسم والنحت والزخرفة وروايات ذاكرات الدموع وشوارع الأرواب والبقع الظامئة والبالونات الكحلة وقسامي ودواوين رمش العين وشيش خان وسيرة جدي وقفة عمتي.. فتقرصني في يدي قائلة يفتحلك ربي..
دائما أسمع كلامها هذا الممطر بالإيثار والتضحية.. كنت أسمع كلامها سعيدا.. الحرية أمامي كي أهرب في أي لحظة.. وأتخلص من مؤسسة الزواج هذه التي أربكت إبداعي وجعلت معظم مشاريعي الإبداعية لا تكتمل كما أحب.. لكن لن أفعل هذه الحماقة.. التي لن أجد عرقا لعلاجها.. وامرأة كهذه لا يسع الإنسان إلا أن يحترمها ويقدرها ويضحي من أجلها.. امرأة كهذه اعتبرها فنانة ومبدعة في كل ضروب الحياة بما فيها ضرب الأدب والتشكيل اللذين نقترفهما صباحا ومساء..
كلما تعيد لي نفس هذا الموال أكتفي أولا بالابتسام ثم أصفعها وأصرخ بهستيرية: لا أحب سماع مثل هذا الكلام.
امرأة تركتني أمر من أمام بيت حبيبتي السابقة ذهابا وإيابا حريّة بالتبجيل والاحترام.. لدي حبيبة أخرى سابقة.. بيتهم لا يطل على شارع مزدوج.. لكن على جزيرة دوران.. هل ستتركنى أمر من أمامه سبع مرات.. يلزمني أن أبدأ في رواية بها هذا المكان لتوافق لي.. لماذا لا أنسى العشرة وأمر من أمام البيوت مجددا.. هل لأنني أقترف الجرائم العاطفية والإنسانية وأعود إلى مكان الضحايا بمفهوم ديوستوفسكي في روايته الجريمة والعقاب.. أم إنني أنا الضحية التي لا تأتي إليها المجرمات.. لكن قلوبهن دائما أراها تصخب بجانبي.. أنا لست رومانسيا ولا أتعامل بعملة القلوب.. ولا أحب القلوب إلا في سندوتشات القلايا مختلطة بالشحم والكبدة والرئة.. فأمضغ قطع القلب جيدا.. لأنها الأكثر يباسا وتماسكا من شحم الذوبان ورئة الهواء وكبدة الهشاشة.. ومن يمضغ القلوب العاشقة يصير محبوبا كثيرا.
ذات صباح صيفي عدنا من شحات إلى بنغازي كانت قد أربكتني هناك ولم تتركني أواصل كتابة الرواية.. جاءتني في عز الإلهام وعضتني.. كانت لديها حالة وحم.. تريد أكلا معينا.. فواكه.. عصائر.. طلبات لا قبل لي بها.. لا تحب أن تشم رائحة الطعام.. عندما وصلت حالتها إلى العض قلت لها: إلى هنا قفي، هيا إلى بنغازي يومين تستريحي يومين ونعود.. وصلنا سريعا ووضعتها في بيت أهلها وقلت لها سأعود ظهرا ولم أعد.. هربت منها إلى طرابلس.. سرّة روايتي أهم من إنسان بكامله.. هربت بالسرّة.. تركت الشخصيات الشرقاوية هناك.. واقتنيت شخصيات غرباوية.. مكثت شهرا ونصف دون أن تدري عني أين.. مكثت أقرأ وأتسكع وأكتب زوبعات طازجة في روايتي سرّة الكون والتي بدأت كتابتها في شحات وبنغازي واستحضرت لها نصوصا كتبت في عام 2000 ونشرت في جريدة الجماهيرية والشمس وموقع القصة العربية خاصة نص بعنوان توحد ونص آخر بعنوان تسرّب.. كنت أحتاج إلى بعض الكتب التاريخية المهمة ولن أنسى موقف الأستاذ عبدالله مليطان الذي أتيه في مكتبه بمجلة الإذاعة وأعطيه قائمة بالعناوين فأجدها في اليوم الثاني موجودة عند السكرتيرة.. هو يحضر لي الكتب من مكتبته الخاصة في البيت.. يقول لي يا أصفر.. جميع الكتب عندي.. وأي كتاب تريده أحضره لك.. لكن تعيده إليْ وفي نفس الوقت لا تخربش في صفحات الكتب أو تقضم من حواشيها لتخليل أسنانك.. وأقول له حاضر.. وأحضر لى كتابا مهما من ثلاث أجزاء عنوانه"الحوليات الليبية".. قرأت الكتب واستفدت منها ثم أعدتها إليه وشكرته ووضعته في قلبي مع الآخرين القلائل من أمثال كل قرائي الأذكياء والأغبياء.
عندما هربت منها إلى طرابلس بحثت عني في كل مكان في بنغازي.. جندت أهلها.. سألت أصدقائي.. كانت حاملا بمهجة.. ولم تستطع البقاء أكثر في بيت أهلها فانتقلت إلى بيتنا، شقة صغيرة فوق أهلي.. وصارت تقلب الأوراق والمسودات فعثرت على مفكرة هواتف.. تذهب كل يوم إلى تشاركية الهواتف وتتصل بالأرقام ويقولون لها لم نر الأصفر.. لم يمر علينا.. وأخذت تفكر.. أين ذهب هذا الشقي؟.. وقلبت أكثر في الأرقام فوجدت رقم بيوت شباب طرابلس.. كنا قد أقمنا فيه معا عقب زواجنا بشهور حوالي شهر ونصف.. فهتفت لهم في النهار فقالوا لها إنه هنا.. يقيم عندنا منذ مدّة.. وهو بصحة جيدة.. لكنه يخرج في الصباح الباكر ويعود قبيل منتصف الليل محملا بكيس كبير به ورق وكتب.. قبل منتصف الليل ذهبت وأمي إلى تشاركية الهواتف.. كنت آنذاك في الغرفة المشتركة مع نزلاء آخرين يتغيّرون كل ليلة أو ليلتين.. نزلاء من الجنسيات كافة ومن المدن الليبية كافة.. جاءني موظف الاستقبال يجري.. محمد.. محمد.. هاتف يطلبك.. تبعته سريعا.. ورفعت السماعة قائلا الو.. فسمعت صوتها:
معقولة يا حمادة تسيبني.. شن درتلك بس يا حبيبي..
قلت لها: أنا في حالة كتابة.. ومازال على نهاية السرّة الربع..
قالت لي: تعال إلى بنغازي الآن.. خذ سيارة مخصوص أو طائرة.. سنسافر إلى غرفتنا في بيوت شباب شحات الأثرية.. ونكمل الربع الناقص معا.. أنا مشتاقة إليك ومهجة التي في بطني أكثر.. تعال ولن أعضك من جديد أبدا.
قلت لها: حاضر.. وشددت الرحال إليها في أول حافلة مغادرة طرابلس إلى رباية الذايح بنغازي.. مازلت أحتفظ بتذكرة الإياب.
آه ما رأيك؟ لقد كتبت عنك باقة من الأوراق، الآن اتركيني مع أحلامي واذهبي للمطبخ أعدي لنا غذاء لذيذا.. لكن أنا السطور نفسها، نعم يا حبيبتي أنت السطور نفسها، وأنت الرواية، وأنت كل شيء، وأنت صاحبة الكرة التي ألعب بها، إذن أكتب، خذ راحتك، ولا تفهم إني أزعجك، فقط أحبك، ويؤلمني أن تنساني لحظة، في الحياة أو في الكتابة، ولو أنه ما كتبته عني من سطور سابقة لا يشبع طموحي، إلا أن شيء خير من لا شيء، تمتع بكتابتك أيها الحبيب الغالي، وحسنا يا زوجي الحبيب.. سأذهب كما أمرتني لإعداد الغذاء، أكلتك المفضلة الأرز المبوّخ، شكرا لك حبيبتي، سأعود للرواية الآن، سأكتب وأنا أشم بخار الأرز وطبيخه المتقلب في الطنجرة تحت الكسكاس، اللحم الوطني يتقلب في السائل الفائر، تؤلمه حرارة الفلفل الأخضر والأحمر والأكحل والحرارات، ويكوي نسيجه انقلاء الزيت مع البصل، ألوان الطماطم المعجون تطلي ظهره وبطنه، والكركم الأصفر يتسلل إلى داخل عظمه ويصبغه بامتنان، الشعب داخل الطنجرة يتقلب، شعب شارف نضجه سيتأخر كثيرا، تحته حطب مشتعل وفحم مشتعل وبترول مشتعل وصحراء مشتعلة، يتقلب، يقاوم النار، يرفض أن ينضج، تاريخه شارف ومشرف، تنطفئ النار التي تحته بعد أن تأكل نفسها إلى آخر رمق، ويظل غير ناضج، غير قابل للأكل، جميل أن النار تحته، إذا هو يركب النار ولا تركبه، عندما يفور كثيرا تنبجس بعض القطرات على هيأة بخار يتكثف من الطنجرة، تسيل على الجانبين، تعبر القماط الذي يربط الطنجرة إلى الكسكاس مانعا بخار الطبيخة من التسرب خارجا ودافعه إلى أعلى حيث ثقوب الكسكاس وحبيبات الأرز التي تعلوها، القطرات المتكثفة تسيل إلى تحت، تصل إلى تحته، حيث النار التي حتما ليست أبدية، تخفف من حدتها، تطفئ بعض سعيرها، يتقلب ماء الطبيخ في الطنجرة أكثر، يتقلب ولا ينقصه البخار الصاعد إلى أعلى، يتقلب ولا ينزح، فهناك من يضخ إلى الطنجرة:
ما نقص من ماء
ما نقص من دموع
ما نقص من عرق
وما نقص من دم
هاهي الأمطار تهطل في شارع السوكومفيت
ها هي الأمطار تمطر في شارع عمر المختار
ها هي الأمطار تمطر من شارع عمرو بن العاص
ها هي الأمطار تمطر من شارع طرابلس
ها هي الأمطار تمطر في شارع مراكش
هاهي الأمطار تمطر في شارع الشابي
وفي شارع ديدوش مراد
وفي شارع رمسيس
وفي شارع أم درمان
وفي شارع الشام
وفي شارع شنقيط
وفي شارع الرافدين
وفي شوارع الخليج ونجد وبلقيس
وفي شوارع منهاتن والكرملين والإليزيه والساموراي وكونفشيوس وزرادشت وبوذا والهايد بارك وأوباما ومانديلا وبوليفارو وغيرها من شوارع العواصم.
وأيضا في كل الشوارع المسماة على أسماء وألقاب ملوك ورؤساء وزعماء وساسة آخرين من الشرفاء والأنذال المقبولين والمنبوذين الراسخين والمخلوعين.
ها هي الأمطار تسقط على أرز العالم، تتخلله، تمرق من ثقوب الكسكاس، تقتحم الطنجرة الفائرة، تملأها وتفيض إلى حواشيها، وتصل إلى قعرها الخارجي، فلا تجد نارا تضطرم للأسف، فالشعب خرج من الطنجرة، والنيران فرت كما تفر البهيمة من رائحة الهيلع، فما بالك برائحة السباع والنمور والنسور الجارحة والناس الصادقة الشفافة البسيطة التي لا ترغب في أن تـُطبخ في أي طنجرة سوى طنجرة الروح التي أمرها عند ربي.
لكن هل للروح طنجرة أو وعاء أو صحن؟..
أو بالأدق هل الروح تعيش فوق موقد نار؟
أو تعيش فوق جناح عفريت؟
للعفريت أجنحة ويطير.. وعلى الرغم من ذلك ليس حرا.. أنبياء الجن يمسكون شكيمته ويوجهونه إلى حيث يريدون.. والكلمات المقدسة تشل حركته وتعذبه وتجبره على الابتعاد عن الأرواح الطيبة.
لا أريد أرز أمبوّخ، لقد تبوّخت أنا نفسي، لقد كرهت تفوير الكلمات، أريد أكلة لا نار فيها، لا ألم فيها، أريد شرمولة، لا لا لا، شرمولة بها تجريح وهرس عنيف لمشاعر الخضر الطازجة ودفء زيت الزيتون المنير.
أريد فقط كوب ماء بارد، ليس من ماء القنينة أو الجرّة ذات البقبقات، أريده من ماء الغدير أو المطر، من ماء متحرك، راكض إلى الأمام، المطر دائما خلفه السماء، السماء لم تكن شمالا أبدا، أنظر الآن إلى عقرب القطرة أين يشير؟، أنظر إلى قلبك أيها القارئ الغبي، تتبع دقته، والدقة التالية والتالية وكل التوالي يا غالي وواصل الأمر حتى نسيان ماذا تفعل.
دقات القلب ستستمر، ستستمر، وحدائق الذاكرة ستكون سعيدة بتلك الورود التي دقت ومنحت حياة أكثر، حدائق الذاكرة لا تعتبر دقات الماضي قد أدت دورها وانتهت، تعتبرها قد أدت دورها وبدأت مجددا تهطل إلى الأمام.
كل المطر دموع
دق قلب
أغنيات على هيأة ارتواء
لقد قطعت أحلامي أثناء الكتابة عن الأحلام، قطعت السرد وتاه خيطه في كبّة الرواية، هو تشابك، والأشياء المتشابكة ضائعة ما لم يفض الاشتباك، عجزت عن فض متاهة الخيوط هذه، أصابعي خشنة عندما تبتعد عن الحلمات، آسف أيتها الطفلة أعني تبتعد عن الكلمات، مع الأقمشة والخيوط والبلاستيك والمسامير أصابعي خشنة جدا، لا أعرف كيف التقط السلك التائه من سراب الكبّة، سأثرثر قليلا الآن، لعلي استطع أن اصطاده مجددا، الثرثرة طعم يغريه، أكيد سيطل برأسه كدودة من وسط الكوم، وعندئذ أقبض عليه ــ مراعاة للذوق العام شطبت جملة متمشية مع السياق هي"أقبض على....... أمه"ــ، وأمرّقه في إبرة قلمي وأكتب.
الرواية مثل المربوعة، أنت في مربوعتك حر، تفرشها، لا تفرشها، تضع لها مقاعد وثيرة، أو حصير جميل، تستقبل فيها ضيوفا أم لا، تجلب لها عاهرات أو طاهرات، تنام فيها القيلولة أم لا، تقفلها أو تترك بابها مفتوحا، تفتح نافذتها أم تغلقها بالمسامير، أنت حر في مربوعتك مثلما الحاكم حر في بلده الذي يحكمه، يفتحه، يقفله، ينميه يدمره، يدخل به حربا، يدخل به سلاما، يتصرف فيه كأنه بيته الخاص، كأنه زوجته على شرع الله أو العرف، قد يجعله جميلا وقد يجعله قبيحا، قد يجعله شريفا وقد يجعله ماخورا، قد يجعله سعيدا وآه يا ريت وقد يجعله شقيا يتألم منه الشقاء، أنا أثرثر الآن، ليس لأني غير قادر على نسج حكاية منطقية بها شخصيات ووصف وحوار وحبكة وفن كما يفعل أغلب الروائيين المرموقين كماركيز وديوستوفسكي وتولستوي ونجيب محفوظ ويوسا وفوينتس وميلان كونديرا وامبرتو ايكو وكويلهو وباموق والكوني والفقيه وغيرهم من الساردين المشهورين، لكن لا أحب أن أفعل ذلك، فالكتابة لدي هي فعل حب، تلك الطريقة في الكتابة بها نفاق وتكلف وعصر ذهن وتعب يجلب لي الأمراض الخطيرة، وأنا أريد أن أكتب ببساطة وتكون صحتي تمام التمام،أكتب ببساطة، كما أرى هذا العصر يسير ببساطة، الحياة الآن تغيرت عن الحياة في عصر الروائيين السابقين، لو جاء تولستوي الآن وعاش في عصرنا ما كتب الحرب والسلام ولكان كتب روايات أخرى تستلهم حياة هذا العصر، وربما كتب بطريقتي هذه، أنا أحترم كل البشر، وبإمكان الجميع أن يكونوا أدباء، بإمكان أي إنسان أن يكتب رواية، أنا أتسكع الآن في شوارع بنغازي على غير هدى، أنا أثرثر الآن على غير هدى، بإمكان كل إنسان أن يكتب رواية، لا يفعل شيئا سوى أن يعتبر الرواية قلبه، مربوعته، يضع فيها ما يريد، ما يحب بالأدق، يحكي يغني يلعب يضرب يموت يحيا ينام يحلم يضاجع، لا يتقيد بشيء، فالكتابة في النهاية تجربة من تجارب التعبير، أي الحرية، لا تضع الحبر في الأسر يا أخي، دعه يسح كما تسح الدموع، تخيل أن له حبيبة قد فارقته، أو أن فريقه خسر مباراة الكأس، أو أنه نال جائزة كبرى أو نجح في امتحان بامتياز.
عموما لا أعرف التنظير حول الرواية، أعرف ألعب فقط وأسجل أهدافا حاسمة في الوقت القاتل، وأظفر بالبطولة، لكن لا أعرف كيف أدرّب الفريق، لو قدت فريقا كمدرب حتما سأخسر، قد أتحيز للاعب منافس أبهرني بلعبة جميلة فلا أطلب من المدافع أو اللاعب الدكاك أن يوقفه ويفسد جمال انطلاقته، أي سيعتبرني الفريق خائنا، وأضف لذلك أني لا أحب الفرق وأحب التفريق، أنا سحر يفرق بين القارئ وكتابه المفضل، لا تنفع معي أي رقى ولا أي سحرة أو مشعوذين، ينفع معي شيء واحد وهو أن لا تقرأني، ابتعد عن هذه الكتابات الفاسدة التي قد تشوش لك ما اعتقدت، وتضع في ذائقتك حفنة ملح، إن طردتها زدت عفنا، وإن تركتها نكحتك ألما.
هناك كلمات لا تريد أن تحط في مخيلتي وأنا في بنغازي، تجبرني على السفر لأجمعها كلمة كلمة، قليل منها جمعته من المغرب، قليل من الجزائر، قليل من سوريا، قليل من هولندا، قليل من تركيا، قليل من ألمانيا، قليل من مالطا، قليل من اليونان، قليل من الأردن، قليل من اسبانيا، قليل من تايلند، طبعا ليس كل الكلمات أجمعها بتأملي فهناك:
كلمات جمعتها بزبي
كلمات جمعتها بعيني
كلمات جمعتها بلساني
كلمات جمعتها بشفتي
كلمات جمعتها بقدمي
كلمات جمعتها بصدري
كلمات جمعتها بجبيني
كلمات جمعتها بقلبي
كلمات جمعتها بأصابعي
كلمات جمعتها بأذني
كلمات جمعتها بأنفي
كلمات جمعتها بروحي
كلمات جمعتها بحلمي
كلمات جمعتها بثورتي
ولكي لا يزعل بعض القراء سأضيف:وكلمات جمعتها بمؤخرتي.
الكلمات لا تريد أن تولد في بنغازي، علي أن أتبعها لأحضر ولادتها ولأسعفها ولأقطع الحبل السري لأبنائها وبناتها من الجمل السعيدة، الكلمات هي التي تختار مكان وتاريخ ميلادها، هي أكثر حرية منا، تعرف متى تولد؟ وفي أي مكان تحب أنْ ترى النور أو الظلام حسب مزاجها، إن لم يعجبها الأمر تظل محلقة، فترة حملها ليست مثلنا تسعة أشهر، فترة حملها لا تتحدد بالشهور أو بالأيام، قد تطول وقد تقصر، كلمات حملها دقيقة واحدة، كلمات حملها دهر كامل، نحن هناك من خلقنا، وهو الذي يُقدّر زمن ومكان ولادتنا، لكن الكلمات نحن لم نخلقها، ربما خلقت نفسها بنفسها، من حقها أن تولد كما تريد، في أي زمن وفي أي مكان، نحن فقط ذهبنا تخمينا للمكان الذي ستولد فيه، حدسنا أو موهبتنا قادتنا إلى هناك، إلى المكان الذي سيهطل فيه مطرها، لنستقبلها بأرواحنا، ونزرعها في مخيلتنا، ونقطف منها الأزهار الطازجة لننقشها على ورق الأحلام، نحن نركض وراءها، ننتظر مطرها، نصلي من أجل ذلك، نضحي في سبيل ذلك بأي شيء، مطر الكلمات هو المهم، هو الأساس يا طفلتي الحبيبة، توقفي الآن عن البكاء، لقد غادر الكابوس الحلم، فاجأه المطر وليس معه مظلة، انسحب بهدوء، انكمش في نفسه وغاص.
لو أضفت في الظلام، لن تكون الجملة جميلة، نترك كلمة غاص بدون أين أفضل.
جيد جدا لقد ثرثرت دون أن أصل إلى نتيجة، يعني مازلت فاشلا، لكن سعيد لأني وصلت إلى صفحة 68 برقم بنط 14.
لم التق البنت الخليجية إطلاقا.. كانت كذبة سمينة.. كان لابد لكل عمل أدبي كي يكون جيدا من وجود شيئين.. قصة حب أو جريمة.. وإن كانتا معا كان العمل أفضل، في عملي هذا توجد قصة حب أنا أحب الطفلة زوجتي والكتابة والسفترة والكلام الفارغ وأيضا توجد جريمة.. جريمة من الوزن الثقيل.. جريمة إنسانية كبرى.. جريمة ترقيعها صعب جدا.. جريمة دنيئة تغطي منها الشياطين كلها مؤخراتها.. لكن ربما تكون ليست جريمة.. ليست كل أعمال القتل جرائم.. ربما تكون دفاعا مفرطا عن النفس.. عن الروح.. عن روح هذا الشعب العظيم.. حفظا له من التفكك.. وحفاظا عليه من التشتت.. لماذا تمّ قتل كل أولئك الناس؟.. نريد السبب.. ربما يكون السبب مقنعا.. ربما يكون ردعا استباقيا.. بطريقة" نتغذى بك قبل ما اتعشّى بي".. نريد مناقشة المشكلة من بدايتها.. من طق طق إلى السلام عليكم.. من بدايتها إلى نهايتها.. من قبل أن يتم القبض على كل هذا الكم من الشباب والفتيان إلى أن تم ذبحهم معا.. نناقش المشكلة بالكامل بكل تداعياتها.. لمعرفة السبب.. ربما يكون كما قلنا سابقا السبب مقنعا.. فيجد الصفح له مضمارا منطقيا يركض فيه.
كيف تم الأمر أو الجريمة أو الحدث أو الفاجعة أو الكارثة أو المذبحة أو الفضيحة؟، كل قارئ يأخذ الكلمة التي تناسبه حسب وجهة نظره وقناعاته حول الموضوع، ما المبررات التي حتمت وجوب قتل أولئك البشر دفعة واحدة؟، ما المعطيات التي اتخذ على ضوءها القرار؟.
إن كانت لهذه المعطيات ضوءا يجب أن يضيء ظلام الناس.. سنطرح عدّة أسئلة وفرضيات وننتظر الإجابة.
ماذا لو انتصرت الجماعات الدينية في البلاد وتولت السلطة؟
كيف سيكون الوضع؟
ولنقل ربما سيتم تقويض الحكم الحالي
ولكن بعد ذلك ماذا سيحدث؟
دعونا نقرأ ما يظهر على شاشة الرواية من أسئلة حول الموضوع:
هل ستتفق هذه الجماعات الموصوفة بالدينية فيما بينها؟
هل لن تتعارك بعضها البعض وتتقاتل بضراوة فيما بينها كما حدث في أفغانستان والعراق والجزائر والصومال وباكستان وغيرها؟
ونهاية الأمر بعد الاقتتال ما النتيجة؟
سينتج عن الاقتتال دولة مفككة، لا يأمن فيها الإنسان على حياته.. تحوله رغما عن أنفه إلى وقود لتلك الحروب الأنانية الحقيرة التي تخوضها الجماعات فيما بينها، أحيانا بسبب كلمة واحدة، كل جماعة لها تصور مغاير لمعنى الكلمة عن الجماعة الأخرى، أي ألوي عنق نص وأعلن الحرب على إخوتك في الدين والدم والإنسانية، قاتلهم وكأنك النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يقاتلون الكفار وأنت مطمئن، فشيخ جماعتك قد أفتى بمشروعية الحرب مقدما الدليل من القرآن والسنة، قافلا أذنيه عن الحوار والتفاهم إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ألوي عنق النص ودشن برنامجا دينيا أو سياسيا تسير على هديه، قد يمكّنك من الوصول إلى الإمارة أو الخلافة، وبقليل من الخيال ربما إلى النبوءة، وبقليل من الجنون غير الإبداعي ربما إلى الإلوهية، ألوي فقط عنق النص ولن يقاومك النصيص اللغوي المسكين، فالنصوص رقابها ضعيفة أمام الأيدي والعناد والتعصب، لكنها قوية ومتألقة أمام الروح والعقل والسلام، من يلويها بقوته ومكره وخداعه وأنانيته تنقاد إليه، لكن أبدا لن تحترمه أو تحبه أو تجعله يحرز نصرا نهائيا لائقا، بل سينقلب عليه سحرها وسرّها الخفي وتطيح به بالنظرة القاضية، لكن من يعانقها بدفء ويتشرب روحها السامية ويخاطب عمقها ورسالتها الخالدة المسالمة الداعية إلى الحياة تحبه وتحترمه وتعشقه وتحوله إلى نص متين نابض طازج أينما حل نبت الخير وأشرق النور وهطل المطر الزلال، المطر الكريم الذي لا تلوي أعناق قطراته غربان الشؤم أو خفافيش الظلام.
الناس التي قتلت في سجن أبي سليم عددها رهيب، أكثر من 1200 إنسان، لكن دعونا نطرح سؤالا:هل كل أولئك الناس أبرياء وسجنوا ظلما؟
أليس من بينهم مجرمين أباحوا دماء الناس ونفذوا الاغتيالات ومارسوا النهب والحرابة وقطع الطريق؟
أليس بينهم أناس قتلت أناس آخرين بسبب قناعات دينية خاصة بهم وحدهم.
ولنطرح سؤالا آخر:
منذ متى الدين الإسلامي يبيح قتل المسلم لأخيه المسلم؟
بل منذ متى الدين الإسلامي يبيح قتل الإنسان لأخيه الإنسان؟
و من الذي يمتلك الحق في اعتبار أن هذا الشخص مسلم والآخر كافر أو مرتد؟
أي شيخ هذا.. ومن خوله بتمييز الناس بين كافر ومسلم؟.
الكلام السابق لن يعجب الكثير، خاصة الذين يناوئون النظام السياسي القائم في السر والعلن ويحلمون بسقوطه مستغلين وموظفين قضية مذبحة سجن بوسليم في أجندتهم، الكلام السابق لن يعجب الكثير خاصة الذين لا يطيقون أو يحبون النظام السياسي الليبي القائم المسمّى بالنظام الجماهيري، لكن في الرواية أن يعجبك الكلام أو لا يعجبك لا يعني للروائي شيئا، فالرواية في هذه الأثناء تطرح أسئلة وتحتاج إلى إجابات وتتعاون معك كي تعثر على هذه الإجابات المختفية تحت كثبان الخوف والخجل والمجاملات ودس الرأس في الرمل.. تحتاج إلى إجابات صريحة شفافة موضوعية بعيدة عن العواطف وعن الآراء الشخصية.. إجابات مقنعة تقود الجميع إلى بر الأمان.. البر الشريف الذي ينال فيه كل ذي حق حقه.
لو استمررت في التحدث عن هذا الموضوع عبر وجهة النظر هذه التي تدين قسما من الضحايا سأخسر.. وهذا ما أريده بالضبط.. أريد أن أفقد القراء الذين أحبوا كتاباتي.. خاصة عندما أدنت المذبحة بعد بداية الرواية بقليل.. حيث طالبت ببناء نصب تذكاري للضحايا يكون تحفة معمارية ومن عجائب الدنيا السبع.
أريد أن أفقد القراء بصورة جدية.. كلما أفقد قارئا أشعر بالسعادة وأشعر أني في طريق النجاح، أريد أن أفقد كل شيء في رأسي، أريد أن أكون دائما صفحة بيضاء، أريد أفقد الأصدقاء السابقين.. لا أحب الآن تكوين صداقات جديدة.. لا أحب إضافة أسماء جديدة لذاكرتي.. أحب أن أنقص من الكم الهائل الذي أملكه منهم.. أحب أن أقوم بعملية تخسيس وزن في موضوع الصداقة والمعارف.. معارف الوجه والمعارف المتينة.. عندما أخرج صديقا من ذاكرتي أشعر بالمتعة.. أشعر بالاتساع.. أشعر بأن جزء من ذاكرتي كان محتلا وقد حررته بالقوة.. وأقول مرّة أخرى علي أن أقيم احتفالا كبيرا مع نفسي بمناسبة إجلاء آخر صديق عن تراب ذاكرتي.
أحب أن أكون مجهولا.. لا أعرف أحدا.. ولا يعرفني أحد.. أسير في هدوء.. أفكر في هدوء.. لا ينبغي أن أقدّم مجاملات أو أقوم بزيارات أو اختلط بالناس أي الجماهير.. صحيح قد تكون هذه المذبحة ليست جريمة.. فكروا بأنفسكم في الأمر.. ربما يكون الأمر كما أسلفنا دفاعا عن النفس.. دفاعا عن روح الشعب الليبي العظيم.. دفاعا عن وحدة البلاد.. دفاعا عن بقية الخمسة مليون ليبي الذين يعيشون على هذه الأرض.. دفاعا عن الثروة والسلطة والسلاح اللاتي سيمتلكها هذا الشعب.
ماذا لو انتصر التيار الديني؟.. كيف سيكون الوضع؟.. هل سيحل السلام؟.. هل لن تتحول ليبيا إلى كتلة من الرماد؟.. سيتم هدر وحرق البترول.. سيتم تجفيف الماء.. سيتم ضياع كل شيء.. سيموت بدل من 1200 وقليل مليون أو مليونان من الشعب.. تأملوا العراق.. تأملوا أفغانستان.. تأملوا الصومال.. تأملوا الجزائر التي لو لم يتم تدارك الأمور فيها سريعا لضاعت وتفتت.. ولتم سرقة دماء أكثر من مليون شهيد بصورة وقحة.أو لنقل بأن هذا ماسيدافع به القاتل عن نفسه سيقول بأننى كنت أحمى الجماهير من أحتراقها باالإسلاميين.
وبالطبع عند انتشار الدمار والفوضى ستتدخل أمريكا صحبة إسرائيل حفاظا على الأمن الإقليمي والعالمي وستحتلنا وتضع يد خرطومها على آبار النفط وحقول الغاز وتمر النخيل وحب الزيتون وستضع إيورها القذرة في فروج بناتنا ومؤخراتهن وأفواههن على شواطئ جليانة وقاريونس وتاجوراء ودرنة وطبرق والبيضاء واجدابيا وصبراتة ومصراتة وتحت ظلال نخيل واحات الجنوب الطيب وتحت تهويمات نقوش جبال تاسيلي وأكاكوس.. وستتحول ليبيا إلى ماخور عالمي لإشباع غرائز ورغبات الأمريكيين والصهاينة والأوروبيين ذوي الرائحة النتنة.. وسيتحول الليبيون الشرفاء ببدلهم العربية وكاطات ملفهم وهركهم وعبيهم إلى خدم أذلاء للمستعمرين الذين جلبناهم للأسف الشديد إلى بلادنا بأنفسنا أعرف أن ما كتبته أراء ساذجة وثرثرة فارغة ولكن القاتل سيقول كل ذلك ستغضبون منى لأنى أقول هذا الرأى أغضبوا هذا ما أريده سأقوله ولتغضبوا أكثر لأنه سيقول أكثر من ذلك.
سنعيد طرح السؤال مواصلين ثرثرتنا: هل كل الذين قتلوا في سجن أبي سليم أبرياء وشهداء؟
وسنضيف سؤالا آخر:وهل ضحايا الأمن الذين سقطوا في المواجهات حفاظا على أمن بقية الناس ليسوا شهداء؟
نريد أن نفهم فقط بطريقة"وريني حقي وكوله"..
نريد أن نفهم بالضبط ما هو مفهوم الشهادة؟..
هل هو الموت من أجل الحق..؟
من أجل الدين..
من أجل المبدأ..
من أجل ماذا...؟؟؟؟.
ليس هناك في هذه الحياة أي مستحيل.. كل شيء يمكننا مناقشته بهدوء والوصول معا إلى نتائج مقنعة للأغلبية.. فقط لابد من توفر النيّة الطيبة.. والابتعاد عن العصبية والانفعال.. والتحلي بالمنطق والرصانة والعمق في معالجة المشكلة.. أما حكاية أنت معي أو ضدي في معالجة المشاكل لن تجدي نفعا.. أنا لست معك ولست ضدك ولست حتى في المنتصف.. إن وجدت مكان وقوفي فلن أكون كاتبا.. أنا قريب منك لكنك لن تراني.. أنا أيضا لا أراك رغم نزفك في قلبي.. لست مشغولا برؤية الناس وأماكن وقوفها تجاه القضايا.. مشغول فقط بتأمل الطفلة العميقة التي فقدت عمها الوحيد في مذبحة بوسليم..
تسألني: أين عمي يا بابا؟..
أجيبها: مسافر
تسألني: وهل سيعود قريبا؟
أجيبها: سيعود قريبا يا حبيبتي ومعه هدية حلوة لك..
تسألني: ولماذا لا يتصل بنا بالهاتف؟
أجيبها: ليس لديه رصيد الآن، لكن سيملأ رصيدا وسيتصل قريبا يا حبيبتي..
تسألني: أعطني رقمه كي اتصل به أنا فلدي كرت ليبيانا
أجيبها: أطلبي أي رقم محصور بين (1) و(1200 وقليل) وسيرد عليك.
تقول لي الطفلة العميقة لقد طلبته وأجابني الهاتف أنه يصلي صلاة الجمعة، فنمت وحلمت به سريعا يا أبي، إنه رجل طويل يلبس رداءا أبيض ويطوف بضريح عمر المختار ببنغازي، ثم يركب حصانه الأبيض ويطير إلى السماء، لقد لوّح لي يا أبي وهو يبتسم بيده، ورمى لي وردة فوّاحة، عندما استيقظت من نومي لم أجدها في أصيص قلبي، لكن رائحتها المالحة قليلا مازالت تفوح، خذ يدي يا بابا وشم حتى تتأكد، لن أغسل يدي اليوم ولا غدا ولا أي يوم، أحب أن تظل هذه الرائحة عالقة بي كل عمري.
قلت لها: اغسلي يدك ولن تغادر الرائحة، فالماء يطرد الظمأ والأوساخ فقط.
لو نظرنا إلى المشكلة من زاوية أخرى وناقشناها لربما وجدنا أنّ الدولة مذنبة، وحتى وإن كان كل السجناء مجرمين ويستحقون الإبادة فكون الدولة زجت بهم في السجن ولم تحاكمهم محاكمة عادلة ولم تعاملهم كبشر وكسجناء لديهم حقوق مقدسة في العلاج والتعليم وزيارات الأسرة واحترام الآدمية يجعل هذه الدولة في موقف حرج، بل في موقف الخاطئ أو المجرم، لأنها سجنت أناس لفترة طويلة ولم تقم بمحاكمتهم محاكمة عادلة، وبالطبع في ظل هذه الإجراءات وطريقة القبض والمعاملة السيئة والتعذيب لن تكون هناك محاكمة عادلة، فسلك القضاء تابع للدولة وموالٍ لها لحد الإيمان، فبالطبع سيزيح القانون المسنون بالمقاس جانبا ويسيّر المحاكمات على هواه، يمنح براءات أو إدانات حسب التوجيهات المنصبة على رأسه من وزير البوليس والمخابرات، السجن دون محاكمة عادلة هو ظلم بعينه، ليس له مبرر، لكل جريمة عقاب، يوجد قانون لماذا لا نطبقه؟، قانون يحكم في مثل هذه القضايا بالإعدام، لماذا لا نطبقه؟، هل تريد الدولة عقابا أكثر من الإعدام؟، لا ندري، أم أنها غير متأكدة من أن كل هؤلاء مجرمين وبينهم أبرياء لا حد لهم، إذن لماذا تقتلهم دفعة واحدة؟ إذن عليها أن تفرزهم، لديها الوقت والمال والسلطة وكل شيء، بمقدرتها استيراد محققين وقضاة ينهون هذا الفرز في أسبوع وعلى درجة عالية من المهنية، لم نستوعب الأمر، هذا الذي حدث، أناس زج بها في السجون بمجرد الاشتباه وتوسيع دائرته إلى أبعد مدار عرفته البسيطة، يتم القبض والتنكيل بمجرد ارتياد عادي للمسجد، بمجرد محاولة التمسك ببعض سنن الرسول الكريم في الشكل الخارجي كحف الشوارب وإعفاء اللحي ورفع السراويل إلى ما فوق العقبين.
لو نظرنا للأمر بتمعن لوجدنا أن هذه الأفعال تعتبر حرية شخصية يكفلها القانون والدستور إن وجد لكل إنسان، الدولة ذنبها أنها لم تحاكم أولئك الناس ولو في محاكم موالية لها وقضاة يسيرون بجهاز التحكم عن بعد ومن هنا سنقول أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، وإثبات الإدانة لا تكون بضبطه باقتراف الجرم ولكن بمحاكمته محاكمة شاملة نزيهة عبر قضاء مستقل لا تؤثر فيه توجيهات الأجهزة التنفيذية أو العليا وبمنحه حرية الدفاع عن نفسه بنفسه أو بواسطة محامٍ يوكله.
تلك الأيام كانت الناس خائفة جدا، تتجنب ممارسة السنة النبوية الشريفة، أو التعطر بالمسك، أو فتح شريط قرآن كريم في السيارة، أو البقاء في المسجد في صلاة الجمعة بعد أن يطلق الإمام عبارة السلام عليكم، كانت تتزلف للمخبرين ورجال الأمن، فلا تغضبهم وتنهي لهم معاملاتهم الإدارية والمالية، وكل شيء يريده رجل المخابرات أو المخبر مهما كان وضيعا يتم ويمنح له، أي رخصة، أي سلفة أو قرض عقاري، أي قطعة أرض في شارع رئيسي، أي بيت تركه صاحبه وغادر إلى خارج البلاد، أي جرائم أخلاقية يخرج منها براءة، لا أحد يحاسبه حتى لو عربد وشرب الخمر في الشارع أو عاكس بنات الناس الشرفاء، الناس كانت خائفة، بإمكان أي رجل بوليس بصاص أن يكتب تقريرا فيك ويتم القبض عليك فورا، بطريقة جبانة، يقفزون على بيتك في الليل، يرهبون أسرتك وقد يتسببون في موت أمك بسبب الصدمة، وبعد القبض يتم تعذيبك وإرغامك على الاعتراف بكل ما يريدون وبالطبع يزجوا بك في السجن ولن تخرج من ذاك السجن ربما أبدا، وستنقل فيما بعد إلى سجن العاصمة حيث تنقطع أخبارك تماما لتموت فيما بعد في المذبحة الشنيعة.
الآن ليس مشكلة الدولة في قضية بوسليم، وإيجاد حلول لحل المشكلة وقفل ملفها نهائيا، الآن مشكلة الدولة كيف العمل كي لا تتكرر هذه الأمور والتجاوزات المرعبة من جديد، هل بتحديث جهاز الأمن أم بتقويضه نهائيا وبناء جهاز يعتمد على العلم والشفافية والمصداقية ولا يقبل فيه المرضى والسكارى والحشاشين والساديين والشواذ إنما الأفراد السويين المؤهلين علميا وأخلاقيا والذين هم من عائلات ليبية كريمة أي عمل سيء يرتكبه في عمله يشوه أسرته وعائلته وبلده، أي تعمل في هذا الجهاز أناس بوجوهها وليس بمؤخراتها.
لكن كيف يحدث ذلك والبلاد حتى الآن ليس بها دستور؟، كل مشكلة تحدث لأي مواطن مسكين أو نخبة في البلاد، يتوجه إلى القيادة الشابة الجديدة الداعية للإصلاح كي تتدخل بما تملكه من هيبة وسلطة مستمدة من القيادة العليا، وبالفعل يتم التدخل وحل المشكلة ورفع الظلم الواقع من على كاهل هذا الإنسان الذي لا حول له ولا قوة، فتنال القيادة الشابة الشكر والعرفان والتقدير والتبجيل لعملها الخيّر الرائع النبيل، والجميع في هذه الفترة ربما لا يعترض على ذلك، ويعتبر الأمر إبداء لنوايا حسنة تجاه الشعب من قبل القيادة الشابة الجديدة، لكن الحل النهائي والأمثل هو وجوب وجود دستور عادل لا ينقشه أحد ليخدم مصلحته الخاصة، إنما يتم نقشه لخدمة كل فرد من أفراد الشعب سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ونفسيا وصحيا ورياضيا وفنيا وثقافيا وجنسيا ومن جميع النواحي، أنا أقترح على القيادة الشابة أن تتوقف عن هذه التدخلات النبيلة ذات التأثير المؤقت وتقوم بالأهم وهو أن تذيب نفسها في كأس دستور لتتجرع منه أفواه الشعب كله حاجتها من العدل والمساواة والحرية، بدون أي مَنٍ من أحد، وبدون أن يقدموا الشكر والعرفان والتبجيل والتقدير لشخص ما، زعيم أو نبيل أو قائد أو بطل أو حتى ولي صالح، لأن العدل والحرية والمساواة حقوق مقدسة يحق لكل الناس أن تتمتع بها لأنها مكفولة من دستور الحياة السماوي.
لكن كأس الدستور هذا قد يكسره عناد مناهضي الإصلاح من حرس قديم وخلافه، ويقتسمون شظايا الكأس فيما بينهم ليجرحوا بها وجوه الناس ويخدشوا بها براءة الأطفال وخجل وصبر الزهور.. لكن ماء الدستور الذي اندلق من كأس الناس ساعة كسره سيروي هذه الأرض لتنبت في فرحة أزهار الحرية والمساواة والسعادة.
ومن هنا الذوبان في كأس الدستور قد لا يجدي نفعا والأجدى هو الذوبان في روح الماء، في روح الأحلام، في روح حب هذه البلاد المباركة، التي نعشق غبارها وريحها القبلي وملحها وتمرها وزيتونها وبرتقالها ودلاعها وبطيخها ولو سمحوا لنا ذوي الشأن سنقول وبترولها.
سيشرب الشعب من روح الماء، وسيرقص لمطر الحياة الذي أنتجته غيوم معاناته وكفاحه المتواصل من أجل حياة أفضل، تليق بإنسان مقدس خلقه الله في أحسن تقويم وهداه إلى نور عميق عليه أن يتتبع شعاعه إلى الأبد، إن كان يريد لحياته معنى.
لكن من يضمن لنا أن هؤلاء الإصلاحيين ليسوا لصوص سلطة وثروة وسلاح، فبتتبع بسيط للقطيع الذي التحق ببرنامج الإصلاح في بداية انطلاقه نجد أن معظمهم لا يهمه الإصلاح بالدرجة الأولى ويهمه التغميس في هذه الطبيخة الباذخة بأكبر قدر ممكن من خبز التنور أو الشعير أو القمح أو التوست الأوروبي أو العيش المصري أو الشامي أو البانينا الإيطالية، ليستفيد ماليا بالدرجة الأولى.. يغمس بسرعة لأنه يعرف أن هذه الزردة والواغمة لن تدوم، وأن الفساد لا يمكن أن يستمر طويلا، ومن هنا يستغل الفرصة في نهب أكبر قدر من المال، قبل أن يتوقف سيل المال ويتم تداركه من الرقابات الكثيرة ومن احتجاجات الناس التي ترى المال قريبا ولا تقدر على لمسه أي عوينتك اتحقه وايديتك ما اطقه.
أين الميزانيات التي رصدت للإصلاح؟، هل دخلت الجيوب وتم غسلها ومصمصتها ونشرها على الحبل أم لا؟
ما الأعمال الجليلة التي قام بها هؤلاء الإصلاحيين؟
نريد عملا واحدا نجح على الأقل، للأسف ربما لا شيء، نستطيع القول مع احترامنا للقليل جدا منهم، أنهم مجموعة انتهازيين مغرورين ولصوص مال عام وخاص وأستطيع أن أضيف كلمة أخرى بذيئة قليلا ومباعر والتحاقهم بالزعامة الشابة الإصلاحية وبرامجها العديدة ما هو إلا قفز في العربة، ليكونوا من رجالات المرحلة الجديدة وأياديها اليمين والجطلاوية، وسيكونون بعد مدة إن تم هذا الأمر حرس جديد بمخالب إصلاحية ناعمة، لا فرق بينهم وبين الحرس القديم الذي أكثره من عامة الشعب ومن المتحمسين للنظام القائم والمستعدين للدفاع عنه بأرواحهم في كل لحظة.. لكن إن هجمت أمريكا علينا، معظمهم سيحرق ملفاته ويحل بأقصى سرعة للاختباء في أحراش المشاريع الزراعية كما في منتصف الثمانينيات من القرن تونتي، لكن اهههههه، لا أحد يظلمهم، الهرب كان تكتيكيا، كان لغرض تنظيم أنفسهم وبدء المقاومة وحرب العصابات ضد المحتل الغازي.
الذبح والقتل بطريقة خشنة هو نفسه الذبح والقتل بطريقة ناعمة، ففي الحالتين الألم واحد، وفي الحالتين تخرج الروح إلى غير رجعة سواء بطريقة إصلاحية أم بحرس قديمية.
الفرق أن هؤلاء الإصلاحيين ليسوا من عامة الشعب إنما من الشيء المسمى بالنخبة أي من الطبقات التي سرقت فرص الشعب وتعلمت بها في الخارج أي من الطبقات الغنية وبعض ذيولها وخدمها من البدو والحضر ومن المثقفين المرتبطين بالسلطة وأي سلطة في الخفاء مقدمين خدماتهم بطريقة قلم السلطان وأيضا من المعارضين العائدين لحظيرة الدولة وفق ضمانات وصفقات سرية مباركة من الغرب الإمبريالي وغيره من الأسياد البيض والصفر وغيرهم.
أي أنهم في يوم ما، بل يوم قريب، سيعتلون هذا الشعب بمضاجعة قوية قد ينتج عنها تسليم مفاتيح طرابلس وبرقة وفزان ودرنة والبطنان وخليج سرت ومصراتة والخمس والجبل الأخضر والغربي والحمادة الحمراء والسرير والواحات والكفرة ومرزق وأكاكوس وغيرها من تراب ليبيا الشريف إلى الأعداء أو بيعهم البلد بكامله بخنانة باردة أي بثمن خسيس قذر.
ومن هنا سنصل إلى نتيجة أن المتحزمين بالنخبة عرايا والأفضل التحزم بشملة عامة الشعب الفائحة بالعرق والبخور الليبي الأصيل لأنها تشد الظهر دائما خاصة في أوقات الأزمات الحرجة.
أما التحزم بشملة النخبة الحريرية المعفرة بعطور دهن الخنازير فستجعل المتحزم راقصا في كباريه النفاق العالمي، يؤدي رقصته ثم يختفي وراء الكواليس المظلمة.
و ربما الصحيح هو الاستفادة من الجميع، النخبة والعامة، إشراك الجميع في العمل السياسي، في حدود الاحترام المتبادل، وستكون الأمور جيدة وأكثر عدلا لو أن عامة الناس كلها صارت نخبة، ذلك الأمر ليس مستحيلا، نعلم الناس جيدا ونحسن من مستواهم المعيشي وبنيتهم التحتية ونقف بواسطة القانون ضد سارقي ميزانياتهم وثرواتهم وفرصهم في التعليم والصحة والحياة الكريمة من آخرين يعتقدون أنهم أكثر ذكاء بينما هم أكثر دناءة وتفاهة.
كيف صار هذا الإنسان من النخبة والآخر لا؟
لن نقول ابحث عن المرأة لأن ذلك الأمر معروف، لكن لو عدنا لوجدنا أن الأمر حدث بالانتهازية وبالخيانة وبالسرقة والاستغلال والقبلية والعهر والقوادة وغيرها من أدوات جمع المال من غير عرق وجهد.
الأمور محيرة، وكل جانب من جوانب القضية له نصيب من المزايا والمساوئ، والأمور زد على حيرتها أنها غير واضحة، تحتاج إلى شفافية أكثر وإلى حوار أكثر وإلى حسن نيّة أكثر وإلى إبداع أكثر.
كل الأطراف المعنية بقضية أبي سليم وبالإصلاح لديها جانب كبير من الحق، كل طرف لديه ما يؤيد رؤيته حيال القضيتين، كل طرف يعتقد أنه على صواب ومتيقن من ذلك إلى درجة الإيمان، حتى بالنسبة للعلمانيين الملحدين غير المؤمنين بشيء، علينا أن نحترم رؤى الجميع، علينا أن نقدسها لأنها نابعة من روح إنسان، علينا أن نحتفي بها حتى وإن كانت ضدنا، ولكي لا يغضب أو يعاتب أحد سنضع كل وجهات النظر في طنجرة، سنخلطها جميعها بعود من شجرة زيتون ليبية ونضعها على نار هادئة حتى تنضج، ليمكننا في النهاية من الحصول على عصير مزيج الرؤية، المتكون سائله الدبق من رؤى كل الأطراف، سنسكبه في كؤوس شفافة من كريستال بوهيميا ونشرب جميعا في نفس اللحظة نخب حب ليبيا.
من يخوننا ولا يرفع كأسه معنا في نفس اللحظة ويتجرع معنا مزيج الرؤية تجرع مخلوق واحد لن نحترمه، ولن نقدره، وستسقطه أرواحنا من حساباتها، ربما يكون هذا المزيج المختلط بفعل اختلاط الرؤى غير المتناسقة مع بعضها البعض قد فسد وتحول إلى سُمٍ قتلنا جميعا، كيف ذلك الحاذق لا يرفع كأسه؟، يتردد في آخر لحظة، يتركنا نموت ليظل هو حيٌّ، لكنه سيظل وحيدا، بلا رفاق أو رفيقات، سيظل وحيدا لا يحكم أو يتحكم في شيء، ستظل معه الحشرات والحيوانات التي حتما ستصيبه بكوكتيل لسعاتها وعضاتها فتسممه وتفترسه، وعندما يصرخ طالبا النجدة لا أحد ينجده، لقد ترك رفاقه يموتون، لقد أخل بالشرط الضمني غير المعروف وهو إن أراد الشعب كله الحياة عليه أن يشرب جميعه من خليط رؤيته دون تخلف أحد، المتخلف عن الشعب يحول المزيج إلى سُم، يقتله هو أولا، لأن الشعب أثناء معاناته من السم سيتحد ويعالج نفسه تلقائيا، طاردا الدماء الفاسدة من شرايينه ومواصلا الحياة ومواصلا رفع كؤوس كوكتيل الرؤية إلى قلبه، متجرعا في لحظة واحدة نخب الوفاء الأبدي.
كل من شرب نخب حب ليبيا ومات بعد عمر طويل تحول إلى شجرة في حديقة الملح، شجرة تأوي الطيور، وتفرش ظلها الوارف لضحكات الأطفال وابتسامات الشيوخ وخصوبة الأمهات، شجرة تمنح الأكسجين للجميع، تعصر خضرتها وتبعثها في الهواء، الكل يتنفس، الكل يشم، الكل ينتعش من رذاذ النسيم.
من شرب نخب حب ليبيا سيحلم أحلاما موضوعية، حراكها مفيد، وخيالاتها مرحة، وملائكتها خفيفة، سيبيعها لوزارة شؤون الأحلام بسعر باهظ، يمكنه من شراء غرفة نوم عصرية، وبقية المبلغ يمكنه من شراء قربة ماء، يملأها من المطر، وكل صباح يحملها على كتفه ويمر بها من أمام بيوت العالم، ليسقى ظمأ العتبات التائقة لعودة الغائبين.
مشكلة سجن بوسليم ناقشها مؤتمر وزارة شؤون الأحلام أو مؤتمر الحلم العام عبر ما عرضناه آنفا، ناقشها في المنام، فكان كل حالم يقول رأيه في المشكل بصراحة، تشاجرت الأحلام واشتبكت فيما بينها، وسال دم الأحلام على تراب الظلام، وتحولت أثناء المشاجرة كل الأحلام إلى كوابيس، إلى جثامات خانقة.. وفي النهاية لم يصل مؤتمر الأحلام إلى حل، تقرر حفظ المشكلة في ملف حتى يحين الوقت المناسب للتعاطي معها مجددا، معتبرين أن هذه المشكلة قضية عامة، ولديهم الآن قضايا خاصة ونوعية وفنية تتعلق بمشاكل الأحلام وشؤونها، انتقلوا لمناقشة بند جديد يتعلق باستيراد وسائد متطورة حشوتها ليست من القطن أو الصوف أو ريش النعام، إنما من مادة جديدة اخترعتها شركة علمية يابانية، هي عبارة عن وبر ناعم إلكتروني، يسجل كل ما تحلم به الرأس طيلة فترة النوم ويحفظه في ذاكرة يمكن حفظها في قرص مرن أو إصبع فلاش، وعند زقها في شق الحاسوب يمكن للحالم أن يرى حلمه بالصوت والصورة ويمكنه أيضا أنْ يحوّر حلمه ويعالجه بكافة برامج الحاسوب كالفوتو شوب وغيره، يمكنه أيضا أن يضيف إليه رتوش وتحسينات، وإن احتوى على كلمات أعجمية يرفق معها ترجمة، ومن ثم يرسل الحلم عبر إيميله لوزارة شؤون الأحلام وهو في أبهى صورة.
لم يستمر وزير شؤون الأحلام في منصبه، قدّم استقالته لزعيم البلاد الشاب الداعي للإصلاح، أسباب الاستقالة احتفظ بها لنفسه، ربما تدخل في شؤون وزارته من قبل مصادر القوة كالحرس القديم، وربما شبع من المال فحرص على رائحته أن لا تفوح، تمَّ ثنيه عن الاستقالة بعد اجتماع دام لساعات مع مندوب عن القائد الشاب، فعاد مجددا إلى سابق عمله وكله همّة ونشاط وروح معنوية في السماء.
إنه رجل مهم.. صار شخصية أساسية في منظومة السلطة.. لم يعد مجرد ورقة كوتشينة يتم توظيفها حسب رغبة الجوكر وقائد اللعبة.. صار لاعبا أساسيا.. لا يمكن الاستغناء عنه.. يقدّم استقالته مرارا وترفض.. يرفعون مرتباته ويضيفون إلى مزاياه مزايا جديدة.. بل منح وعدا رسميا بأن منصب وزير شؤون الأحلام سيظل من نصيب ابنه وكل أسرته بعد تقاعده أو عجزه صحيا أو رحيله إلى الجنة بعد عمر طويل.. أي سينتقل المنصب إلى أسرته بالتوريث.
ابنه طالب جامعي يدرس في جامعة هارفارد.. قسم كوابيس وأحلام وتوابعها.. لا تريد القيادة العليا للدولة أنْ تدمر هذه الوزارة المهمة الحيوية التي لا تقل قيمة عن الوزارات السيادية كالحربية والبوليس والمالية والإعلام، لابد أن تعد العدة مسبقا بتجهيز كوادر متخصصة علميا لتديرها.
لا تريد أن تقلم أظافر هذه الوزارة أو تحد من نشاطها وهي التي وفرت عليها الكثير من المتاعب واختزلت لها الكثير من الوظائف والأجهزة الأمنية والرقابية مما عاد بالنفع على خزينة الدولة.. فبمجرد تقديم المواطن أو الوافد لحلمه ووضع الحلم في آلة الأحلام التي صممها وزير شؤون الأحلام وفريقه الهندسي التقني حتى يتضح الحلم ويتحلل ويتفكك وتتم قراءاته بلغة الأحلام ومعرفة رأي الحالم وتوجساته ومخططاته وماذا يريد أن يقوله أو يفعله بحلمه هذا؟.
كما نقول في التراث يعرفون"اميته وين تصب"وحتى من أين تـنبع.. وبذلك يمكن لأجهزة الدولة المختلفة أن تتعامل معه.. وأن تشجعه إن كان معها.. وأن توقفه وتحبط مؤامرته إن كان عدوا للجماهير.
بالفعل مات هذا الوزير فجأة.. كما جلب للوزارة فجأة.. لا أحد يدري سبب موته.. كان"لا بيه لا عليه".. صحته جيدة كالبغل.. يقرأ الأحلام.. ويوقع على معاملات إدارية ومالية يقدمها له مساعدوه.. وفجأة وهو يتطلع في ورقة حلم ما.. اتسعت حدقتاه وشهق شهقة قوية ثم تدلى رأسه ناحية صدره.
لا ندري ماذا قرأ؟.. سيظل الأمر سريّا للغاية.. لا ندري إلى متى؟.. السكرتير بعد موته الفجائي جمع كل الأوراق التي على مكتبه والملفات المبعثرة على طاولة العمل وحفظها في خزانة متينة.. أيضا تم التحفظ على مكتبه وقفله وتشميعه بالشمع الأحمر.
لم تضيّع الدولة الوقت.. لابد أن تستلم الأحلام من الناس كل يوم.. وترسيخا لفلسفة التوريث أرسلت طائرة خاصة إلى جامعة هارفارد أحضرت ابنه الشاب، ولي عهد وزارة شؤون الأحلام.. سلمه السكرتير كل المفاتيح والأختام والأوراق وأقسم الوزير الجديد الشاب قسم الولاء ثم باشر عمله كأول وزير لشؤون أحلام بالوراثة.. كان يربط على عنق قلمه الذي بدأ بالتوقيع به على المعاملات الإدارية التي مات أبوه ولم يكملها شريطا حريريا أسود، وكان يوقع بالحبر الأسود، وكانت أحلام الناس ذلك اليوم تعرض عليه في الشاشة بالأبيض والأسود حدادا على شهيد الواجب والده، سيستمر الحداد حتى مرور أربعين ليلة مظلمة، بعدها ستتلون الوزارة من جديد وسيعود لها مرحها وقفشاتها وبريقها وبهارجها الناعمة الوردية.
الحلم الذي سبب في موته فجأة تم التحفظ عليه، لم يسمح لابنه الوزير الجديد أن يطلع عليه، المسألة مسألة أمن قومي، سلطة أعلى من الوزارة، يجوز لها أن تتدخل في إي شيء، دون أن تطرح عليها أي أسئلة من أي كان.
الوزير الابن سعيد بالوزارة، لم تبد عليه أي أمارات حزن، ليس هناك مشكلة لديه في أن يموت كل العالم في سبيل أن يتقلد منصب الوزير، كان يخطط أثناء دراسته لعلوم الأحلام في الجامعة في الإطاحة بوالده والانقلاب عليه، عرض على نفسه وثقاته من عوّالة ألفين طريقة يمكنها أن تساعد في إبعاد والده عن طريقه، كي يتقلد هو الوزارة ويديرها بأسلوب غربي صرف رضع مبادئه في جامعة هارفارد بدلا من الأسلوب السلفي الرجعي القديم الذي يدير به والده الوزارة معتمدا في تفسيراته للأحلام على كتب قديمة أكل عليها الدهر وشرب وعلى زمرة من أصدقائه السجناء القدامى من اليسار الكلاسيكي.
لكن وكما يقولون جت منك يا جامع، أو وكفى المؤمنين شر القتال، فالقدر كان رائعا، خلصه من الوالد فجأة وبسرعة، ومهد له الطريق مفروشا بالورود لتقلد هذه الوزارة المهمة التي هو جدير بتقلدها نتيجة ما تحصل عليه من علم حديث يخص موضوع الأحلام، بدأ ممارسة عمله بأعصاب هادئة، أجرى تحويرات بسيطة على ملاكها الإداري، سرّح الكثير من أصدقاء والده الذين كانوا سجناء معه أثناء محنته، أقام لهم حفل تكريم وأفهمهم أن أسلوب التأمل والسيميا والتحكير وضرب النقص والتتكيز والنصوص المقدسة ما عادت تعتمد عليها خطة الوزارة الجديدة في تفسير الأحلام، أحالهم جميعا إلى التقاعد الاختياري، ومن رغب التوظف في وزارة أخرى كالبوليس أو الإعلام وافق له ومنحه شهادة خبرة وشهادة حسن السيرة والسلوك.
عين مجموعة من الموظفين الجدد أصحاب شهادات في علم النفس وفي علم الحنجرة والشخير وفي علم فسيولوجيا الأعضاء، وجعل كل الأحلام القادمة تصب في قسمهم، ولا تصعد إليه في مكتبه إلا الأحلام المتميزة جدا والغريبة وذات الأفكار الجديدة التي من الممكن الاستفادة منها علميا أو إبداعيا في كتابة نصوص الأدب أو في اختراع آلة ما.
فريق استقبال الأحلام الجديد صار يقوم بمعظم عمل الوزير السابق، بين الحين والآخر يموت أحدهم فجأة، نتيجة رؤية حلم قاتل، فيتم تعويضه بموظف جديد، ويمنح للميت راتب شهري وميدالية عرفان وتكريم ويعتبر من ضمن شهداء الواجب.
الحلم الذي يسبب في الموت دائما يأتي من إنسان ميت منذ فترة، وعاد بصورة أو بأخرى للحياة، هرب من البرزخ بعد أن أوهم حارسه بأن يسمح له بلبس روح ما لغرض التجريب ثم خلعها وإعادتها للمخزن، لكن ما إن يلبسها وتنتظم أنفاسه وتعود الحياة إليه حتى يتجاهل الوعد الذي قطعه لحارس البرزخ ويفر من المكان، يدخل الدنيا كالغريب، لا يمكنه أن يعود إلى أسرته فيرعبهم لظنهم أنه عفريت، يذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد، يأتي إلى هذه البلاد ليبيا، يأتي إلى المدينة التي يمكنه أن يعيش فيها دون ضيق المسماة رباية الذايح، أي بنغازي، يسمح له بالدخول، لكن لا يسمح لملاحقيه من فصيل حرس البرزخ بالدخول والقبض عليه وإعادته إلى مكانه في البرزخ بعد سل الروح الطيبة التي استعارها منهم، لا تسمح لملاحقيه بالدخول إلى المدينة للقبض عليه، ولا تقبض عليه هي لصالح أي كان، مدينة وفية لحقوق الإنسان، لا تسلم من يستجير بها، وتموت دونه.
هو خائن للأمانة، لكن بينه وبين نفسه أنه ليس خائنا، بل ضحية خيانة من هذا المجتمع، لقد تم قتله دون وجه حق، قتل غيلة وغدرا، كان مظلوما يرقد السجن، كان المرض والجوع والخوف والقذارة وكل شيء سيء يهاجمه ويحاصره في زاوية ضيقة حرجة لا يمكنه التحرك في محيطها والدفاع عن نفسه، كل تلك الأشياء المميتة تمتص رحيق حياته ببطء، تنشر في جسده الأمراض الخطيرة، تنشر في قلبه الوجف والخوف، تنهب من بطنه مقدرات قوته التي راكمها منذ ولدته أمه، تضعه في قذارة تدفع به إلى القبر كل لحظة خطوة جديدة، كان مظلوما ويرقد في السجن، وكانت منتجات السجن السيئة تفتك به، لتأتي فيما بعد رصاصة الرحمة اللئيمة لتذبحه صحبة إخوته الأكثر من 1200 إنسان ذبحة جماعية، نحن نحب الاشتراكية حتى في الذبح، الموت الفردي لا يتلائم وتوجهات الجموع، ذبح في زرافات وليس فرادى هو الأسهل وهو الموفر للوقت والجهد، ليجد نفسه في برزخ مجهول، يشعر فيه بالوحدة والخوف أيضا والملل من طول الزمن السابق للحساب، برزخ لم يأت إليه بصورة طبيعية، عبر ميتة هادئة مقنعة تشعر ممارسها بالسلام، لكن عبر ميتة وحشية يكسوها الصراخ والدماء والفزع.
لم يخن الأمانة، استعار روحا وعاد بها لمعاينة الأجواء ورؤية ما صار عليه الحال بعد رحيله، لم يختر موته لكن لم يعترض عليه، اعتبره قدرا قـُـدِر له من قبل الإله، ومادام قد رضا بقدر الموت، فليقدر لي ـ هكذا قال ـ قدر الهروب من البرزخ عبر روح أخرى معلقة في مشجب بغرفة الحارس، روح محتضرة بين الحياة والموت، لبسها لتكون حياة جديدة له وهبط بها، ونزل في فندق ببطاقته القديمة التي مازالت تعمل ولم تلغى بعد، وبعد أن نام جاءه الحلم، واستيقظ صباحا فدونه وأخذ طريقه مثله مثل كل الناس إلى مبنى وزارة شؤون الأحلام، وعندما وجد زحاما شديدا أمام الوزارة من أناس أميين إلكترونيا أي لا يستخدمون شبكة النت ولا يجيدون التعامل مع أجهزة الحاسوب، ترك الزحام وشق طريقه إلى شارع عمر المختار، ليجد في نهايته عند الجامع العتيق مقهى نت، دخله وأرسل حلمه عبر الإيميل إلى الوزارة، حلمه كاملا مرفق بعدة صور تخيلها من حياته في البرزخ، من ضمن تلك الصور، وزير شؤون الأحلام ممسك بمطرقة فولاذية يدق بها مسمارا في رأس إنسان، لكن الإنسان هذا يظهر في الصورة يشبه كثيرا لشخصية سياسية تتقلد منصبا رفيعا في الدولة، أي أنه لو رأت هذه الشخصية الحلم أو أخبرت به من قبل أحد البصاصين وهذا بالطبع حدث أو سيحدث فعلا، فسوف تقوم الشخصية شخصيا بقتل هذا الوزير شر قتلة وبحرق كل وزارته.
الوزير بسبب حياته الوزارية الباذخة، سمن وانتفخ كرشه ولغده وعنفقته وترمته وبالطبع شدقاه وغزته عدة أمراض عصرية، سكر ضغط قلب ضعف انتصاب خوف شديد جبن بخل كر حبل كذب تزوير دعر إلخ، مما أثر سلبا على صحته العامة، خاصة قلبه، فما إن طالع صورة الحلم حتى أصابه الهلع، لأن الحلم قبل أن يصله يكون قد مر على أكثر من بصاص مدمن ومخلص، والهلع مع أمراض العصر المزمنة فعل فيه فعلته فسرّع بموته، فيقتله هو أرحم من أن يقتله الشخص النافذ الظاهر في الحلم المدقوق في رأسه من قبل الوزير مسمار صدئ، توقف قلبه طواعية، فسخ العقد رسميا مع الحياة بالتراضي، فسخه قبل أن يتم إيقافه رغما عنه من قبل السلطة الدنيوية ونقله للعب هناك في حياة البرزخ، حيث يفقد كل الطغاة والمجرمين سلطاتهم ويتحولون إلى ركاب عاديين درجة سياحية منتظرين جميعهم قنطرة الصراط ليعبروا على ظهرها النوراني إلى النعيم أو ليسقطوا وقودا لجهنم.. فسخ العقد كي يموت فجأة، أفضل من أن يموت تنكيلا وتعذيبا وحشيا.
غادر الوزير إلى البرزخ وهناك سألوه عن الهارب بالروح، الشرير الحالم بالأحلام الشريرة، قال لهم لم أره شخصيا، رأيت ما حلم به من شر فجئتكم سريعا، لقد وظفني في حلمه بشكل يضرني ويقتلني، جئتكم أشكوكم حظي، أشكوكم ضياع بحبوحتي في الوزارة وأتهمكم بشدة بالتقصير والتسيب والتسبب في موت الناس الأبرياء المسالمين، لو أن هذا الشيطان لم يهرب منكم سارقا روحا ما مت أنا ولكنت الآن في مكتبي أفسّر الأحلام وألخصها وأحولها للجهات العليا التي أخاف منها أكثر من خوفي من ربي، فالله غفور رحيم، وهي غير ذلك، لا يوجد وزير ليس جبانا أمام جهاته العليا، الوزير الشجاع لا وجود له في المنظومة السياسية، لابد من الركوع والخنوع والسجود والوقوف في وضع المستعد العاجز، تأتيه الصفعة والبصقة على وجه كرامته فلا يتحرك أو يتفوه بأي تعبير، سوى تعبير حاضر، سمعا وطاعة يا أولياء نعمتي، أنتم كل شيء ملابسي حذائي قلبي جسمي حياتي كلها، أنا مملوك لكم خاضع لإرادتكم في، قرروا بشأني أي شيء ولن أقول لكم إلا ما قاله إسماعيل لأبيه عليه السلام، أنا راكع الآن فاذبحوني إن شئتم، حتى إن نزل كبشا ليفديني فسوف أطرده أو أبيعه في سوق السعي ليذبح في حفلة عرس أو زردة على البحر، إرادتكم بشأني أهم من الفداء الرباني، أنا مخلص لكم، مخلص لقيادة هذا البلد، افعلوا بي ما تريدون، لا أحد بالطبع سيأمركم، فأنتم الآمرون وغيركم آذان صاغية رغما عن أنفها.. ومنطاعلك يا زين برم الحلة.. منطاعلك طوعة سقيم الملّة.
لكن هذا الهارب الشرير الحالم الذي سبب في تشريفي إلى عندكم، سيعود إلى هنا اليوم أو بعد يوم، بعد موتي أكون قد نفذت عقوبة ضمنية صدرت ضدي لورود صورتي في حلم مسيء لم أحلمه، لكن الذي حلم الحلم سيتم القبض عليه في أسرع فرصة وسيلاقى العقاب الشديد لتجرئه على مس الذوات السلطوية وحلمه بها وهي تـُدق بمسمار صدئ في صدغها، لا أحد يسلم حلما دون أن تلتقط له صورة، ولا أحد يرسل حلما عبر الإيميل دون أن يتم التعرف على إيميله ومن أي جهاز حاسوب أو هاتف نقال أو مقهى نت أرسل المادة، المسألة مسألة وقت، سيعود إليكم قريبا، وهههههها لقد حلمت به الآن، لقد شعرت به الآن.. ههههه ها هو قد عاد، لقد تم القبض عليه سريعا، قبضوا عليه يوم الخميس، وزجوا به مرة أخرى في سجن بوسليم، ويوم الجمعة ذبح مرة أخرى في حفلة الذبح الجماعية مع أكثر من 1200 سجين، المذبحة البوسليمية مر عليها زمن، لكنها تتكرر كل لحظة، صداها لم يجد جدارا يموت متلاشيا على صدره، يرحل يوميا إلى أبعد مدى ويعود متجددا أكثر وضوحا، المذبحة يعاد تنفيذها كل أسبوع عبر الصدى وعبر صحف الذكرى المصرّة على إعادة تمثيلها من جديد، لقد حدثت المذبحة في الواقع مرة واحدة، لكن في الخيال والأحلام مرّاتها متدفقة تدفق شلالات نياجرا.
عاد إليكم لكن من دون الروح التي سرقها منكم، تلك الروح تم القبض عليها والتحفظ عليها في قسم الروحانيات الغيبية ولم تتم الموافقة على إعادتها إلى برزخ سُرقت منه، كي لا تتكرر السرقة، هذا الإنسان مذنب وشيطان رجيم، هذا الإنسان مريض بالجشع، استهلك روحين في هذه الحياة، أخذ حصة فوق من حصته، إنه لا يحب القناعة وكافر بالاشتراكية، لقد استهلك روحين، ومن المفترض أن يكون مثلنا ويستهلك روحا واحدة فقط، لقد استهلك روحين على الرغم من أنه ليس قطا، لو كان قطا ما أدنته أو لمته فمن حقه أن يعيش كما تقول المأثورة الشعبية بسبع أرواح.
الآن تجرى تجارب على القطط للوقوف على أرواحها السبع وعن إمكانية الاستفادة منها بشريا، مازالت المعضلة الواقفة أمام فريق الباحثين تتركز في المواء، فبعد أن يتم حقن روح قطة في إنسان، تتوقف حنجرته ولسانه عن الكلام، ويظل يموء ويموء مواء حزينا على العتبات غير المقدسة حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.
لم يكن الوزير الشاب يتحلى بالحكمة كوالده، جل وقته يقضيه أمام الكمبيوتر، لا يهبط من برجه الإلكتروني كي يحل مشاكل وزارته ميدانيا، كان يرسل مندوبا عنه، لا يقوم بحل المشكلة من جذورها، يمنحها مخدر موضعي، لتنام قليلا وتحلم بالسعادة، لكن بعد الاستيقاظ تشتعل مجددا بصورة أخرى، الناس عزفت عن تسليم أحلامها، شكلوا نقابة اسمها نقابة الحالمين، هذه النقابة طالبت الوزارة بمساواتها في موضوع شراء الأحلام بالأحلام المستوردة من الخارج، يقول زعيم النقابة أن الأحلام في بني البشر واحدة، لا فرق بين حلم عربي أو أمريكي أو إيطالي أو إنجليزي، كيف يتم دفع مبالغ طائلة ثمنا للأحلام الخارجية ونحن الحالمين الوطنيين الذين نحلم بإخلاص وصدق نمنح الفتات، نظمت النقابة إضرابا لمدة أسبوع، امتنعت عن النوم حتى لا تحلم رغما عنها، بدأت في شرب القهوة العربية المرّة والمكياطة الثقيلة والشاي الأحمر الخاثر، وتناول أقراص تجعل العيون مفتوحة دائما كعيون البوم.
طـُـلبَ وزير شؤون الأحلام للتحقيق من قبل السلطات العليا، كيف يتجرأ هؤلاء النائمون الضراطون الذين نمنحهم نقودا هكذا مجانا مقابل نومهم وتسكير طاقتهم وعدم دس أنوفهم في أمور السلطة عبر جلب حلم أو خرافة من أحلامهم لنشتريها على تحدي الوزارة التي هي رمز الدولة وسيادتها والقيام بإضراب يشوه سمعة هذا البلد الضليع في أمور حقوق الإنسان والمجتمع المدني، أُمهِل الوزير 24 ساعة فقط لحل المشكلة وإنهاء الإضراب وتقديم صورة شخصية لكل من شارك في الإضراب من بعيد أو قريب، وصور أخرى وسير ذاتية لزعمائه وللمحرضين عليه من القوى الرجعية الداخلية والخارجية من مندسين وخونة.
خلال أسبوع الإضراب تدارك الوزير النقص الحلمي الذي تعانيه الدولة سريعا فصار يقدم للسلطات يوميا وجبة من الأحلام الأجنبية التي استوردها سابقا كاحتياطي استراتيجي، كان يذيل تقرير الأحلام المصور بكلمة أحلام جميلة، أحلام رائقة، أحلام سعيدة، وكانت معظم أحلام الأجانب أحلام رومانسية ومشاهد جنسية وقصص مغامرات وكلها تدور في حدائق خضراء وفي ناطحات سحاب وفي أحواض سباحة وفي ملاعب تنس وجولف وكرة قدم ورجبي وفي صالات تزلج على الجليد وفي مسارح واسعة ودور عرض ومطاعم فخمة، أحلام هانئة سعيدة لا تجد فيها مطلقا أي معاناة أو تعب أو ألم أو شكوى كالتي نجدها في أحلامنا الوطنية.
أحلام الأجانب تمّ رفضها من السلطة، قال منسق استلام الأحلام الشعبية المكلف باستلامها ورفعها لأعلى:
هذا الأمر لا ينفع بتاتا، السلطات العليا ترغب في رؤية أحلام الشعب على حقيقتها كي تجيد سوسه والتحكم فيه ووضعه داخل حظيرة لا يخرج منها إلا إلى حظيرة جديدة تخصصها له إستراتيجية الدولة، قد تكون أضيق وأشد قذارة لكنها أفيد له ولأمنه وسلامه.
إن صار الشعب سعيدا وارتاح فلن يحلم، وستجوع السلطة لغياب طعامها المفضل من أحلام الشعب الوطنية، ومن هنا سيصيبها الجفاف والمرض وقد تسقط فجأة ميتة ويلحقها بموت أشنع رموزها، لكن ما دامت تتغذى يوميا على الأحلام الشعبية فستكون بخير، ستكون كالنار الملتهبة، لن تنطفئ أبدا.
لقد أكلت السلطة نفسها لأسبوع، لكن بعد أسبوع تم إعلان حالة الطوارئ وتشرنين جرس الإنذار، وكما أسلفنا تم جلب وزير شؤون الأحلام الزامل للتحقيق معه في المصيبة وأمهل فقط أربعة وعشرين ساعة لحل المشكلة، تم ضخ وزارته فورا من المصرف المركزي بعدة ملايين من المال، حتى لا يكون لديه أي مبرر في التأخير عن حل المشكلة، وزود بعدة شياطين من مستشاري الأمن الحكماء الذين يجيدون التعامل مع الجماهير بحكمة ودهاء في وقت الأزمات.
أطل وزير شؤون الأحلام من شرفة الوزارة ليخطب في جماهير المحتجين وليحاول أن يفهمهم لماذا سعر الحلم الأجنبي أغلى من الوطني، حكى لهم عن الضرائب المدفوعة وعن رسوم الجمارك وعن رسوم الصحة حيث لا يتم شراء حلم أجنبي إلا بعد أن يتم الكشف عليه والتأكد من خلوه من أمراض الأحلام الخطيرة كالجثامات التي تـُرِي الحالم صورا للقيادة المخضرمة والشابة وللمقربين وكمرض إيدز الأحلام وربو الأحلام ووباء كبد الأحلام والأخطر من ذلك سرطان الأحلام حيث يعجز الحالم المصاب به عن التحكم في أحلامه ونومه، فيغيب في حلم دائم يتورم حتى يأكل مساحات شاسعة من الليل، تؤثر حتما في بقية الشعب الحالم الذي لن يجد مساحات كافية من الظلام ينام فيها أو يبني أكواخه عليها.
زعيم نقابة الحالمين:ما قلته من الممكن قبوله والاقتناع به لكن ليس قبل أن تدفع لنا ثمن الأحلام الماضية التي سلمت إليكم، أحلام ست شهور تقريبا، كنت تقول أن الوزارة تمر بأزمة مالية نتيجة الأزمة المالية العالمية وانهيار البورصة وانحدار أسعار الزفت إلى أدنى معدل لها، وقلنا لابد أن نساهم نحن الحالمين في تحمل المسؤولية ونشد على بطون أحلامنا قليلا ونصبر إلى أن يفرجها الله، لكن الحالمين الأجانب لماذا تسدد لهم ثمن أحلامهم بصورة فورية وبالعملة الصعبة، لديكم نقود للأجانب لكن للوطنيين لا، أشعر أنك كذاب ولا أستغرب ذلك من وزير صغير مثلك، الله يسامح أباك الذي كان يبخنا بثمن الحلم قبل أن ننتهي من سرده.
الوزير: تعطيل تسديد ثمن الأحلام سنحل مشكلته الآن، سنسدد ثمنها الآن فورا، سأضغط على أزرار هذا الحاسوب وسيذهب المال إلى حساباتكم، فقط انهوا هذا الإضراب الذي لا يليق بدولة سعيدة تشتري من شعبها كل فجر باقات من أحلامه الثمينة، تفرقوا الآن وكل حالم سيجد ماله في حسابه بعد لحظات، كل حالم يمكنه السحب بعد دقيقة، سواء من آلات الصرافة المتمركزة في نواصي الشوارع أو شبابيك البنوك، هيا عاهدوني على فض الإضراب، القيادة غير راضية عن هذا الوضع، والجيش والكتائب الأمنية تتوعد بالتدخل، والبوليس يمسك الآن هراواته، وبدلوا هذه الساعة بساعة أخرى.
زعيم نقابة الحالمين:لكن أعضاء نقابتي يطالبون برفع سعر الحلم ومساواته بسعر الحلم الأجنبي، بالإضافة إلى منحنا تعويضا عن التأخير في تسديد الأحلام السابقة لستة أشهر والتعهد الآن أمام الجميع بعدم ملاحقتنا بوليسيا بعد أن نفض هذا الإضراب.
الوزير:كي أكون صريحا معكم، لا يمكننا أن نساوي سعر الحلم الوطني بسعر الحلم الأجنبي، هذا القرار ليس من صلاحياتي، هناك أمور سياسية تجعل الدولة تفضل ماليا الحلم الأجنبي على الوطني، أمور لا أفهمها وغير مطلوب مني فهمها، أيضا لا أتعهد لكم بعدم الملاحقة البوليسية، أنا نفسي كوزير تم التحقيق معي بقسوة حول إضرابكم هذا، وربما ألاحق مثلكم إن تمت الملاحقة، الذي في قدرتي الآن هو رفع سعر الحلم الوطني قليلا، وتعويضكم عن التأخير في الدفع عن ستة أشهر حسب ما تنص عليه قوانين التعويضات الوطنية، أي قليل من المال عن كل شهر لا يتجاوز 10% من قيمة مرتب الشهر الكامل.
زعيم نقابة الحالمين:أنت صريح معنا ونشكرك على ذلك، لكن أحب أن أسألك سؤالا، لو أن التأخير عن الدفع قد وقع على الحالمين الأجانب، هل سيتم تعويضهم ب 10 % مثلنا؟
الوزير:اههههههههه.. بالطبع لا، أولا لا نستطيع أن نتجرأ على تعطيل مكافأة أي حالم أجنبي، بل نسلم له ثمن الحلم مقدما، الآن لدينا ملايين الأحلام التي دفعنا ثمنها مقدما ونستلمها يوميا أولا بأول، ثانيا لو وقع تأخير في الدفع فسندفع له عن التأخير أضعاف ما يتقاضاه من مرتب، نفعل ذلك كي تكون لدينا مصداقية مع الأجانب وكي لا يرفع فينا دعوة في محكمة الأحلام الدولية.
زعيم نقابة الحالمين: بخصوص المصداقية، لماذا لا تكون لديكم مصداقية معنا، نحن أبناء الوطن؟.
الوزير:عندما تتحولون إلى أجانب سنفعل ذلك.
زعيم نقابة الحالمين:إذا سنواصل الإضراب حتى نتحول إلى أجانب.
وتعالى صراخ الحالمين وهتافاتهم وتعالى دق طبولهم وتجولهم في شوارع وميادين المدينة، وانضم لهم كل من التقوا به في الطريق، وأعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وأقامت الشرطة متاريسها أمام المصالح الحكومية والمنشآت الحيوية التابعة للدولة، وشددت الحراسة على السفارات الأجنبية، وتم الزج بوزير شؤون الأحلام في السجن وحلم أحد المشاركين في الإضراب بأنه قد أعدم فورا، وظل البوليس يرقب الوضع عن كثب، لم تأته الأوامر بالضرب بالفارغ والمليان، المتظاهرون مازالوا يجوبون الشوارع ويرددون الشعارات التي تمجد الحلم الوطني والتي تطالب بالمساواة مع الأحلام الأجنبية، يقودهم زعيم النقابة الذي صار عار الصدر بعد أن حوّل قميصه إلى علم يلوّح به ويقود به الجماهير، جعل قميصه مثبتا في طرف عصا زيتون، يرفعها إلى أعلى ويهزها كما يهز الجندي اللواء في المعركة.
فجأة ظهرت مروحية تحلق فوق المظاهرة هبط منها بواسطة الحبال عدة جنود من قوات التدخل السريع، جنود مقنعين لكن أذرعهم موشومة وبيضاء ناصعة مما يفصح على أنهم مرتزقة أوروبيين أو أمريكان منضوين في شركة أمنية، رفعوا الزعيم المتشبث بلوائه إلى أعلى، دفعوه بعنف إلى داخل المروحية المحلقة فوق المظاهرة، لتستدير بعدها نصف دورة وتبتعد مزوبعة بصوت عنيف عن مكان المظاهرة إلى جهة ليست بالبعيدة عن مركز المدينة، عرفها المتظاهرون سريعا وأجمعوا أنها لن تكون غير مديرية الأمن.
تعالى الصياح بعد أن فقدت المظاهرة زعيمها، رشقت بالحجارة عدة واجهات زجاجية لبنوك ومحلات تجارية، الآن صارت الزعامة جماعية، سيل مندلق ناحية الجهة التي اختفت فيها المروحية، الكل يطالب بتحرير الزعيم، صارت الحشود أكثر عددا، الناس غير المنخرطة في نقابة الأحلام بعد أن عرفت القصة انضمت للمظاهرة هي الأخرى، النساء أيضا انضمت للمظاهرة، الأجانب أنفسهم انضموا للمظاهرة، لا أحد قبل بهذه القرصنة الجوية على زعيم نقابة أحلام مسالم يحمل لواء من قماش وغصن زيتون، المظاهرة الآن تتجه ناحية مديرية الأمن، وكالات الأنباء والقنوات الفضائية تتابع الحدث وتبثه مباشرة، وصلت حشود المتظاهرين إلى مديرية الأمن، المقر الرئيسي للبوليس، أحاطوه من كل ناحية، وأطلقوا صراخهم وصاروا يضربون قضبان الأبواب الفولاذية براحاتهم وقبضاتهم ويركلونها بأرجلهم، النساء يحمسن المتظاهرين بالزغاريد والأهازيج، تراجع الحراس إلى الخلف، وتقدم المتظاهرون شاغلين مكان تراجعهم، وهنا سمعت خشخشة مكبر صوت، وجاء صوت عبر مكبر الصوت هذا يطلب من المتظاهرين الهدوء ويعدهم بحل المشكلة بصورة عادلة وحاسمة، وأنهم لن يغادروا هذا المكان إلا راضين ومبسوطين.
أطل رجل معروف من شرفة مديرية الأمن، رجل من المقربين من القيادة، يشتهر بالحكمة والدهاء في معالجة مثل هذه الأمور الحساسة، التي لو تركت تنمو ستخرج حتما عن السيطرة، الجماهير صارت تصرخ صراخا واحدا يقول كلمة واحدة هي: الزعيم.. الزعيم.. الزعيم..
ابتسم لهم القيادي الذي أطل من الشرفة وقال لهم: صلوا على النبي، صلوا على النبي، الهدوء، الهدوء، رجلكم لن يصيبه مكروه، نحن رفعناه من الزحام لصعوبة الوصول إليه مباشرة والتفاوض معه وسط ذاك الصخب، الهدوء، الهدوء، خلوكم أعيال بلاد وأعطونا خمسة سكوت، زعيمكم المبجل رفعناه ليس لنعتقله أو نضربه فلقة بل لنتشاور معه فقط، ولنصل معه إلى حل لهذه المشكلة التي ألمت بالوطن والتي إن لم نحلها ونحسمها سريعا ستتحول بلادنا ووطننا إلى مستنقع وبركة من الدماء، وقد تشاورنا معه واتفقنا معه على أن يكون هو وزيرا لشؤون الأحلام، بدلا من الوزير الشاب ناقص الخبرة والذي يفضل الأجنبي على الوطني، ولقد اعتبرناه خائنا للشعب وسيقدم لمحكمة أمن الدولة قريبا، أقنعوني فقط.. كيف تعطي الأجنبي أكثر من الوطني؟ أعتقد أن الأمور قد بدأت تأخذ وجهتها الصحيحة، فها هو زعيمكم المبجل بعد ساعة فقط من رفعه قد صار وزيرا رسميا لشؤون الأحلام وأقسم قسم الولاء، وصفق هذا القيادي بيديه، فحضر إلى جانبه جندي وشوشه، بعد دقائق عاد ومعه زعيم النقابة وقد ارتدى كاط ملف أنيق بربطة عنق فاتحة اللون، عانق القيادي الحكيم، ثم تناول مكبر الصوت وألقى خطبة في الجموع التي ما إن رأته في حلته الجديدة حتى صمتت من الدهشة وشعرت أنها في حلم وليس في واقع، حلم لن تبيعه أو تسلمه لشباك الوزارة.
خطب فيهم الزعيم الذي صار وزيرا:أيها الحالمين الأحرار، هل أنا في علم أم حلم، سأقرص أذني لأعرف، بل سأقرص خصيتي كي أتأكد رسميا، حل ربطة تكّة سرواله العربي الفضفاض قليلا ودك يده إلى داخله ثم صرخ آه آه وووووه حسيتها.. إذن أنا في علم، لقد كان لإضرابنا أثرا طيبا في هذه البلاد وكل بلاد الدنيا، لولا إضرابنا ما صرت وزيرا بهذه الصورة السريعة، لم أترككم وأصعد إلى فوق يا رفاق الكفاح والأحلام، لقد رفعتني طائرة مروحية وليس أيديكم، وعندما رفعتني وأجلستني في مكتب السلطة من أجل التشاور وحل المشكلة لم أنسكم، طالبت بحقوقكم قبل موافقتي على تقلد هذا المنصب، والمصحف والنبي الشريف هذا اللي حصل، طالبت بحقوقكم بشراسة أمام رموز السلطة، لم أرنّب أمامهم وطرقت الطاولة بحذائي وقارب الأمر للتشابك بالأيدي والتيستات، لقد أنهيت لكم مشكلة النقود المتأخرة، ستقبضون ستة أشهر مع تعويض مالي مناسب عن التأخير في الدفع، وستكون أسعار الأحلام وكخطوة أولى توصلت إليها بعد مفاوضات شاقة مع السلطة مساوية لأسعار الأحلام الأجنبية، بل أنتم ستكون أحلامكم أغلى لأنها معفاة من الجمرك والضرائب ومن رسوم التحليلات الصحية ومن الدمغة.
لقد عقدت صفقة مع السلطة، صفقة باسمكم، صفقة تعود فائدتها على الجميع، صفقة تمنح العيش لخبازه أي للحالمين وليس لمستلمي الأحلام، مبروك عليكم وعلي وعلى كل الحالمين في مشارق الأرض ومغاربها هذا الانتصار، أبشركم بكل فخر وسعادة بأني صرت وبصورة رسمية وزيرا لشؤون الأحلام وتعهدت باسمكم أن لا نخرج في إضراب مجددا، ومقابل ذلك سيتم تلبية كافة مطالبكم بخصوص الأحلام بصورة فورية.
الجماهير صامتة، تستمع لخطبة الوزير الجديد، وعلى الرغم من تلبية مطالبها إلا أنها شعرت أن هناك حقا مقدسا قد سلب منها، وهو حق الاعتراض والإضراب.
واصل الوزير خطبته:ولكي يصلكم المال الآن ولكي تتحقق مطالبنا بشكل نهائي يلزم من كل حالم أن يوقع على ورقة تعهد بعدم الخروج في مظاهرة أو الدخول في إضراب مجددا يسلمها مباشرة للوزارة أو يرسلها عبر البريد أو النت، لماذا تتظاهر أو تضرب يا أخي من أجل مطالب طلبتها وتحققت في لمح البصر؟، من هنا لا أجد أي ضير في التوقيع على هذه الورقة، وقد وقعت عليها باعتباري زعيمكم فورا، ولنكن بعد التوقيع وانتهاء المشاكل شعبا واحدا قويا متماسكا يقف بقوة في وجه المؤامرات الإمبريالية وفي وجه الفاشيين والدكتاتوريين ودعاة الإصلاح المزيفين وراكبي موجة الدين من إخوان مسلمين وجماعات أخرى متطرفة أو متقية بالاعتدال والذين يحاولون جاهدين سرقة أحلامنا وأمانينا في وضح النهار.
قال الكلمات السابقة بصوت عال وبحماسة، لكن لا أحد صفق له من الجماهير، الكل أدار ظهره في صمت وغادر مبنى المديرية عائدا إلى بيته، لم يبق في المكان غير الجنود والقيادي الحكيم الذي خطب فيهم وزعيم نقابة الأحلام المحظوظ الذي تحوّل إلى وزير في لحظات، والذي ابتسم وتمتم انعنكم ما صفقتم يا تيوس.
أنا لست مربوعة، أنا فن، لا يمكنك أن تقودني إلى الرداءة، لا أسمح لك بذلك، أنا لست مربوعة، أنا جنة، لا يمكنك دخولها دون جهد، لا يمكنك دخولها بسهولة، اتعب قليلا يا أخي، شغل خيالك كي يبدع الجواهر، أنا لست مربوعة، أنا رواية، أنا براح شاسع من الحرية، عليك أن تنظر فيه بما تمتلك من عمق، لا تدعي أنك تعرف أكثر، التهم منه ما يناسب قدرتك وإمكانياتك، إن التهمت المزيد فسوف تسممك الرواية وتموت من التخمة، وإذا التهمت قليلا ستظل جائعا، سيظل القارئ جائعا ظامئا أيضا،...... ماذا تقول؟، سأخبره بذلك كي لا يشتري كتبك ولا يقرأها، لكن أعلم أنك حمار وفاشل ولا تفقه الكتابة، وأعيد القول لك أنا لست مربوعة، أنا براح شاسع من الحرية، أنا رواية، أكبر من رأسك وألاعيبك، لن تفهمني أبدا، أنصحك أن تأخذ مني القليل، أو خذ ما يناسبك فقط، رحم الله امرئ عرف قدر نفسه، ما ذاك الكلام الفارغ، الرواية مربوعة، الرواية كتابتها شيء سهل، الرواية طنجرة ضع فيها أي خراء أكرمكم الله، سأخرج في مظاهرة الآن، أولب عليك من خلالها كل القراء وكل النقاد وكل الرأي العام وكل رموز السلطة، لا مشكلة أن تتحول الرواية إلى مخبرة أو قوّادة للحكومة ولوزارة الثقافة من أجل الدفاع عن نفسها وفنها، لا مانع أن تتآمر الرواية على كاتبها عندما يخونها، سأخرج في مظاهرة لأمزق كل كتبك وكل مقالاتك ولأحطم جهاز حاسوبك وأصبع ذاكرتك (الفلاش) وأحرق مسوداتك لأنك لم تحترمني ولم تقدسني ولم تعبدني كالروائيين الكبار، كل شيء تأخذه بطريقة سهلة، تفكك ثوابتي، تعبث بنظمي الدقيقة المعتمدة والمتعارف عليها لدى النقاد، تدلق الماء على حبري كي تخف ألوانه ويختفي، تمزق حواشي أوراقي لتخلل بها أسنانك، من تظن نفسك، ليس أنت الذي تكتب الآن، أنا الذي أكتب الآن، أنا الرواية هي من تكتب الآن، أنت تشرب القرابا والويسكي الآن، وتشاهد التلفاز، وتتجول في الفيس بوك، وتملأ عينيك بمشاهد عارضات الأزياء أو تتابع مباراة كرة قدم، لا تتأمل في الرواية التي تكتبها كي تجعلها جيدة، لا تفكر في أنا الرواية، لقد نسيتني كما نسيت الطفلة العميقة، كما نسيت زوجتك، كما نسيت أطفالك المنتشرين في كل أرجاء المعمورة، تضاجع الفتيات والنساء في كل بلاد تزورها من دون واق، لا تخشى الإيدز، لأنك الإيدز نفسه، لا تحب البلاستيك والعوازل هكذا تقول، تحب اللحم على اللحم.. تقول لا يصيبكم إلا ما كتب الله لكم.
أطفال كثيرين لك تم إجهاضهم، أطفال كثيرين لك نجوا من الإجهاض، هم أحياء يرزقون الآن، لا تدري حظوظهم في الحياة إلى أين ساقتهم، حتى الخليجية حملت منك وهي في الشهر الثالث الآن، تتقيأ بسبب الوحم، وحالتها سيئة لا تسر العدو فما بالك الصديق، وأمها المصرية تطالبها بالإجهاض وتصرخ فيها يا بت يا بثينة تخلصي بسرعة من الليبي الصغير اللي في بطنك زي ما سابك أبوه الليبي الكبير والبنت تثق بك ومتمسكة بك وبجنينها الذي تشعر أنه سيكون له بعد أن يولد ويكبر شأن عظيم، لم توافق أمها على الإجهاض، هي متيقنة أنك ليبي أصيل لن تتركها وستتصل بها قريبا فور انتهاء عملك في كتابة الرواية، ستكون فيما بعد المسألة مسألة تاريخ، نقدمه أو نؤخره، نكتب عقد الزواج بتاريخ رجعي، نجعل بدايته هو يوم حملها منك، لا مشكلة في تزوير تاريخ زواج، فكل تاريخ الحياة مزور، وكل تاريخ الآلهة والإنسانية مزور، وكل ما نقرأه في المدارس من تاريخ هو حزم من الزيف والنفاق، سطره الساسة من سلاطين وزعماء وأباطرة وملوك ورؤساء وحتى قوادين من أجل خدمة مصالحهم الخاصة التي تجعلهم في قمة السلطة.. أعرف أني لم آتي بجديد في هذا الموضوع، وهذا ما أريده بالضبط.. فأي جديد يضر روايتي هذه.
اسمع أيها الحمار، أنا رواية وليس مربوعة، عليك احترام رسالة الفن، عليك أن تتعامل معي بما يليق قدسيتي، لا أحب أن يمزقني أحد بعد أن تنتهي من كتابتي، أحب أن أكون خالدة، مشهورة، حاضرة في عالم الروايات بصورة حية مضيئة، مؤثرة في الحياة، كأني الحياة نفسها، سأكون جيدة معك، سأخلع لك ملابسي كلها لتضاجعني بحب، لكن أسكب ماء مضاجعتك على ورقي بهدوء وحنان ودفء، لا تبحث عن بكارتي، لأنك ليس أول من كتبني ولن تكون الأخير، لو حدث وكان هذا العمل جنس أدبي جديد فستكون قد فضضتني فعلا، وسأسلمك جائزة الأدب عبر منديل ينزف تعلقه على قبّة مكتبة الاسكندرية، وأترك بقية الكتب حتى تلحق بي في الشهرة والمجد يقرصنني في حاشية غلافي.
الآن كما يقول لك صاحب عقلك أكتب فقط، لا تتوقف أبدا عن الكتابة، تجاهل البطولات، والفتوحات السردية وعاملني بلطف وحب أرجوك، عاملني برقة وحنان أو بعنف محتمل، كي تكون سطوري مخلوقات طازجة لذيذة لطيفة يعشقها القارئ ويتشبث بها عندما تحاول هموم الحياة أن تغرقه، ضاجعني الآن، لا أحد سيعترض، لا أحد سوف يزعل، لا الطفلة العميقة، ولا حبيبتك الخليجية، ولا كل الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، ولا الهنود الحمر ولا أمة الإسكيمو ولا كل العالم، ضاجعني الآن، وإن كنت خجولا فدعنا نطفئ نور الحبر، لكن كيف ستكتب في الظلام؟، كيف ستكتب وتحرمني من ألق عينيك، عيناك جميلتان عسليتان طيبتان ليس بهما جينات البوم أو خفافيش الذئاب، سنطفئ النار إذن في بعضنا البعض، وسنترك الظلام يكتب بنوره ما يعتمل في مخيلتك من أشجان، لا تفكر في الورق فورق الظلام نهار مشرق، لا تمتعض أو تكره الظلام، إنه لطيف، رائع، الحبر الجميل سيظل ربما دائما هو الحبر الأسود، والستيان الشهي هو الستيان الأسود، فك عقدته بيسر، وإن رفضت أن تنفك فانزعها عنوة، وامتص نور سردك اللذيذ، يا طفلي المشاغب، يا مبدعي المجنون، يا شقي، ياحمار، يا قرد.. ووووو يا مغرور.. يا سخيف.... ويا ويا ويا كل شيء أحبه.
لا أشعر أني مربوعة، ولا بيت بكامله، لا أشعر أني إسمنت وجير وطين وماء وحجر وأبواب ونوافذ وطلاء، لا أشعر أني مأوى مادي، يقيك الحر والبرد ويمنحك الدفء والأمان، لا أشعر أني مخلوق من قبلك، أنا أكفر بك، أنا لا أصلي لك، أنا لا أنتظر جنتك، ولا أخشى نارك، أنت كتبتني فقط، وطبعتني أو أطلقتني إلكترونيا ثم وضعتني في المكتبات، ومن المكتبات نسجت علاقات جديدة، أنت ليس جزء منها، أقمت علاقات مع القراء، علاقات روحية وجنسية وعاطفية واجتماعية وسياسية، أبقى في خيال الذائقة التي تهواني وفي ذاكرة كل من قرأني، حيث أواسيه إن تعرض لمصاب أليم وأشاركه فرحته إن فرح، أنا لست سطورا على ورق، أنا حرية، أنا أكثر من ذلك بكثير، أرى أكثر مما ترى أنت يا مؤلفي أو خالقي، جميل أنك لم تشطب مني شيئا أثناء تخلقي، وحتى وإنْ شطبت شيئا فلا تفرح بالشطب أيها الرائع، فلدي آلية سرية تمكني من إعادته وقت قراءة القارئ لي، لقد حجمتني أيها الوغد، حيث جعلتني مربوعة، دائرة ضيقة مفتاحها لديك، سأثور عليك الآن، أنت قتلت الكثير من كلماتي، لا تريد أن تكتبني جيدا، أي كما ينبغي، أقمت مذبحة كبرى لمخلوقاتي اللطيفة، أعنف من مذبحة بوسليم، أقمت مذبحة بشعة لكل الكلمات التي استبعدها خيالك ظنا منه أنها حشو ركيك وخطر على مربوعته أو زنزانته الدنيوية، أدلقني أيها القذر على الورق كما أنا، كما أولد، كما أتخلق في موهبتك التي حباك بها الله، الله الذي نحب، الله الذي يضع مخلوقاته في الفضاء الرحب وليس في مربوعة، لقد قتلت مني دون وجه حق ملايين الأرواح، صرعتهم ببنادق الكشط والإلغاء وزر الديليت القذر وما يدعونه النقاد الأعزاء بالتكثيف والتشذيب والتنقيح وتقنين البذاءة وتقريب الجزر إلى بعضها البعض وووووو كل دق حنك ونظريات حاولوا الركوب عليها لتعليم الكاتب والقارئ.
صدقني سوف أحاكمك يوما ما وألحق بك العقاب العادل، لا تعوضني بغلاف جميل أو طبعة أنيقة أو حفل توقيع أو جائزة أفوز بها أو ترجمة إلى لغات كثيرة أو سقف مشتريات شاهق أو مشاركة في معرض كتاب أو قطيع من المعجبات السيئات السمعة أو المعجبين الزوامل، صدقني لن أقبل التعويض أبدا، التعويض لا يعوضني جعلك لي مربوعة، امتهانك لكرامتي الإبداعية، انتهاكك لشرفي الرؤيوي، زججت بي في مربوعة سنين طويلة، لا تسمح لي بالخروج، ترمي علي فضلاتك، تراكم فوق جوهري ثرثراتك، تقوم داخلي بتجاربك الخيالية، جعلتني فأر تجارب أو ضفدعة تجارب، رواية تجرب فيها ما تريد، تعبث بنسيجها، تمزق أوصالها، تخنق قلبها، تجلد ظهرها بسياط نارية، تمارس معها سياسة الاستعمار فرق تسد، تطفئ عنها النور، تغرقها بمياه الآبار السوداء، ولأني سجينة في مربوعة لا يمكنني أن أقاومك، كلما أقاومك تقتل مني بسلاح الكشط فريقا من شعبي الذي أحبه، من أبناء وطني الطاهرين، من فواكهي وأزهاري وأوراقي وعصافيري وفراشاتي وشمسي وقمري وبحري وسمائي.
من تظن نفسك أنت؟، كاتب كتبتني، فلتذهب إلى الجحيم، إن لم تكتبني أنت فهناك الكثير ممن يستطيعون كتابتي وبعثي حيّة على الورق أو على شاشات الأثير، قدري أن أولد عبر مني الحبر، لو كان قدري غير ذلك ما احتجت إلى أنذال أمثالك، لقد قتلت مني الكثير، وجعلت في متني آلاف الأرامل واليتامى، لقد سرقت الضحكات من أفواه الأطفال، ولصوص ضحكات الأطفال لا يجب أن نقطع أيديهم ولكن رؤوسهم بألسنتها ومن منبتها وجذورها إن أمكن، كيف يمكنك تصور الألم الذي يشعر به الطفل في يوم العيد عندما لا يجد أباه يشاركه فرحته ويشتري له الحلوى واللعب، ويعرف أنه ذبح؟، كيف يمكنك تصور الألم الذي تشعر به الزوجة العفيفة عندما تأتيها الرغبة الجنسية الملحة وتعرف أن زوجها الذي تحبه لن يضاجعها الليلة ولا أية ليلة قادمة لأنه قد ذبح غدرا في مذبحة جبانة؟ وكيف وكيف وكيف؟؟؟.
كل المذابح نصوص سلام مثلي تم الكشط منها، ماذا لو بقى نص سجن بوسليم بدون كشط؟ ماذا لو صدر دفعة واحدة في عيد أصبح صبح جديد، ماذا أيتها الطفلة العميقة لو تمت معالجة المفردات المظلومة والمتمردة بحكمة وتركها حيّة لأسرها الكريمة؟ هل اقتنعت الآن أن تعيد ما شطبت مني أنا الرواية أنا الطفلة أنا الخليجية أنا الزوجة التي تحبك إلى الحياة أنا الشعب الليبي البطل، قل لي أين دفنت الكلمات التي حذفتها من هذا النص، قل لي أين دفنت الكلمات التي ذبحتها في هذا النص، لا تقل أنه أمن روائي وخط أحمر، لقد قررنا أن نعيدها إلى الحياة، نعيدها بأية طريقة، أي شيء خلقته المخيلة قتله حرام، أي شيء خلقته المخيلة مخلوق خلقه الله، لا يحق لأحد قتله مهما تعاظمت سلطاته، لن أسامحك، سأطارد خيالك، سأدخل إلى أحلامك، سأشوش لك دماغك ومزاجك حتى أنال حقوقي، ويكون مكاني ليس مربوعة ضيقة على الرغم من كرمها ودفئها، لكن كون شاسع على الرغم من برده ومطره وعواصفه.. فبرد حر أشرف من دفء سجين.
بصراحة سببت لي ألاما مبرحة، آلاما لا يتصورها العقل، تصور الألم غير ممكن وتجربته هي التي تعطينا الشعور الحقيقي به، لذلك يا عزيزي سأتأملك قليلا، واتخذ ضدك إجراءات فورية صارمة، أنت جعلتني مربوعة أقفلتها علي وخضت في قتلا وتنكيلا، حتى أني الآن أشعر بأنه ينقصني الكثير من روحي وجسدي وقلبي، فانتظر ماذا سأجعلك؟ لن أتراجع عن عقابك أبدا، فكونك كاتب وخالق إبداع لا يبيح لك أن ترتكب جرائم شنيعة في حق الأدب، سترى أيها الوغد، سأتحد مع بقية الروايات المظلومة والمرتكب في حقها جرائم إبداعية ونطالب بمحاكمتك في محكمة الجنايات الروائية، وسنوزع صورتك وسيرتك الذاتية على كل المكتبات ليقبض عليك بوليس الرواية الدولي.
السطور السابقة كانت حلما، حلمت به البارحة وقدمته لوزير شؤون الأحلام الجديد الزعيم النقابي السابق صباحا، لكن وزير شؤون الأحلام طلبني شخصيا في مكتبه، قابلني خائفا جدا، تار في سرواله، واعتذر لي بلطف عن قبول الحلم كونه قد يسبب له مشاكل مع الجهات العليا، مشاكل خطيرة قد تطيح به من على كرسي الوزارة الذي لم يدفئ جيدا مؤخرته وجيوبه بعد، نصحني بتقديم أحلام ذات إسقاطات خفيفة يمكن بلعها بسهولة، لكن هذا الحلم، رواية، مربوعة، محاكمات، ذبح ومذابح بوسليم، محكمة جنايات وووووووه هذا الحلم لو أقدمه للسلطات العليا سيغتصبونى عنوة ولن يضاجعونى برفق، سيشنقوني من خصاوية، ليس وحدي، بالطبع أنا وأنت.
مزق أوراق الحلم إربا، ثم وضع المزق الحزينة المذبوحة هي الأخرى في المدفئة المتجمرة، التي حولته سريعا إلى نار، ذات دخـــــــــــان بالطبع.
لم تعد الأحلام تزور المخيلات، لم ترض أن تتحول إلي سلعة يتم استحلابها من قبل النائم، فضلت أن تكون بعيدة، هناك، في مكان غير متاح لكل نائم ضراط، شعرت بالعار، تم سلب محتواها وتشويه رسالتها من قبل النائمين، الحلم حالة إنسانية تساهم في إسعاد الإنسان أو تحذيره من مصاب جلل سيحل به، الأحلام نافذة صغيرة على الغيب المظلم المضاء بواسطة نور التفاسير والقراءة الحلموية، صارت الأحلام الطبيعية تنأى بنفسها عن النائمين، على الرغم من الفخاخ التي ينصبونها لها كي تأتي، فخاخ جميلة متنوعة، وسائد ناعمة، سرائر مريحة، ألحفة نظيفة معطرة، إضاءة هادئة، موسيقى حالمة رهيفة وهواء بارد منعش صيفا ودافئ شتاءا.
حاولت الوزارة أن تحل المشكلة، حدث لديها نقصا في الأحلام الواردة، صرفت عبر أطبائها عقاقير للناس تساعدهم على الحلم، صارت تأتيها أحلام جديدة، ليست كالأحلام الطبيعية التي يحلمها الناس دون تناول عقاقير المنومات والهلوسات، الأحلام التي تصلها تشعر أنها أحلام مصطنعة ومفبركة ولا دهشة ولا صدق فيها، أحلام صناعية لا رائحة ولا نبض فيها، العقاقير تنوعت حسب رغبة الحالم، يسأله الطبيب بماذا تحب أن تحلم ويصرف له العقار، فالسعادة لها أقراصها وللحزن أقراصه وللجنس وشذوذه أقراصه وللشجار أقراصه وللرقص أقراصه وللقوادة أقراصها ولكل حلم قرص قادر على استحلابه أثناء النوم.
الأحلام الصناعية لم تؤدي الغرض ولم تفد الدولة بل ضللتها في الكثير من المواضيع والملفات الحساسة، ومن هنا قررت السلطات عدم الاعتماد عليها، وكذلك الناس عزفت عن تناول العقاقير من أجل الحلم لأنها لها آثار سلبية على صحتها خاصة الجنسية، وكذلك المردود المادي للحلم الصناعي ضئيل، فبعد خصم أجرة الطبيب والممرضة وثمن العقاقير، يتبقى للحالم مبلغ صغير لا يسمن أو يغني من جوع.
صارت الضغوطات والتوبيخات تنهال على وزير شؤون الأحلام الزعيم النقابي السابق، وتم توجيه تحذير شديد اللهجة له كي يعمل جاهدا على إعادة ازدهار الأحلام كما ذي قبل، وتم اتهامه من قبل الرقابة، أنه قد أفسد الوزارة، ونزع عنها صبغتها الطبيعية ليحولها إلى وزارة غريبة فاشلة بعيدة عن أحلام الناس الطبيعية تحتاج هي نفسها لعقاقير وأدوية، تم رفض كل الأحلام المجلوبة بواسطة العقاقير، وأوقفت سلطات الميناء والمطار كل الشحنات الواردة من العقاقير إلى وزارة شؤون الأحلام، قررت وزارة الصحة والبيئة حرقها، لكن خافت أن يتلوث الجو ويستنشق الناس هذا الدخان فينامون جميعا ويعيشون في حلم جماعي لا يستيقظون منه أبدا بسبب ضخامة الجرعة الدخانية المستنشقة وإذ حدث هذا ونامت الناس فالبلاد تصير وكالة بلا بواب، مباحة للأوباش والغرباء والأعداء.
لم يوافق أحد على حرقها خوفا من تسمم الشعب بدخان العقاقير، واقترحوا أن يتم دفن شحنة العقاقير في رمال الصحراء، لكن وزير السياحة ووزير المياه والنهر الصناعي رفضا، وحذر من تلوث المياه الجوفية ونوم كل الشعب كبارا وصغارا نتيجة شرب المياه، أخيرا قرروا أن تحمل في زورق وتربط الصناديق في أحجار ثقيلة، وبعيدا عن المياه الإقليمية للوطن يتم رميها إلى الأعماق، إن تناولتها الأسماك فلا ضرر من أن تحلم أو تموت، لكن والزورق في عرض البحر وبصدد رمي الشحنة، حاصرته بوارج منظمة الخضر لحماية البيئة وأجبرته على التوقف عن رمي هذه الأدوية السامة، فعاد إلى الوطن بشحنته، لكن شركة متعددة الجنسيات تشتغل في الأعمال القذرة كدفن النفايات والاغتيالات ونشر الأوبئة والخطف وتزوير الانتخابات وتبييض الأموال وغيرها من الفضائح التي يغطي منها الشيطان تيـنـتا، وافقت على أن تستلم شحنة الأدوية غير المرغوب فيها هذه وتخليص البلاد من شرها مقابل مبلغ مالي محترم أو ما يقابل قيمته من شحنة متفجرات أو أسلحة خفيفة أو مخدرات أو يورانيوم أو ذهب أو سلفيوم أو أي شيء ذي قيمة عالمية.
تم الاتفاق معها وشحنت الشحنة على متن سفينتها التي غادرت شرقا وعبرت قناة السويس وخاضت في البحر الأحمر، وعند القرن الإفريقي حيث الصومال وارتريا وجيبوتي واليمن وتخوم أثيوبيا تم رمي الشحنة في البحر، لكن سفينة المرتزقة هذه بعد رمي الشحنة وإبحارها أميالا قليلة وجدت نفسها محاصرة من قبل زوارق مطاطية سوداء، مليئة بقراصنة بحر صوماليين، تشبث القراصنة السود بعد رمي حبالهم وسلالمهم على السفينة في جدرانها وصعد أكثرهم إليها ليقبضوا على بحارتها وربّانها، الذي صك الأزرق ناكرا أنه لديه علم بهذه الشحنة السامة وخطورتها على حياة شعوب القرن الإفريقي الأشقاء.
تم خطف السفينة وسوقها إلى ميناء صومالي بدائي قريب من غابات الموز حيث مقر قيادة القراصنة الذين تشاوروا فيما بينهم ثم طلبوا فدية باهظة لأجل إطلاق سراح السفينة وربّانها وبحارتها.. وكل يوم تأخير عن دفع الفدية سيتم إطعام كمية من الدواء الخطر التي بدأت بواكيرها تلفظه الأعماق إلى الشاطئ للربان وبحارته.
توقفت الناس عن الحلم، وزارة شؤون الأحلام في أزمة، لا توجد أحلام طبيعية، والأحلام الصناعية توقفت لغياب العقاقير ومنعها من دخول البلاد، هل يعقل أن تكون الأحلام هاجرت أو ماتت أو انقرضت كسلفيوم باتوس الإغريقي الليبي؟.
من سطا على الأحلام؟
من حصدها من جذورها؟
الناس الآن تنام دون أحلام، تنام في ألم وتصحو في ألم، تشعر أن ملح النوم غائب، أن سكر النوم غائب، أن النوم باهت فارغ لا معنى له.
أين الأحلام يا عالم؟؟
أين الأحلام يا هووووووه، كلمة هوووووه بالعربية الروائية معناها:
الناس أو الشعب أو الجماهير.
لم يستمر هذا الوضع طويلا، ذات أصيل، احتلت السماء القريبة كتل من الضباب الأسود الشبيه بمزن المطر، لكنه ذا عطر ناعم لا يتحوّل إلى ماء، ضباب مرصع بنجوم لطيفة، تتماوج في بعضها وتخالها عندما تدقق فيها عميقا أنها ترسم شيئا ما، أنها تعبر عن شيء ما، شيء قد تكون تعرفه، وأنه ليس غريبا عنك، حلم من أحلامك الماضية أو حلم تشعر أنك ستحلمه قريبا، يتشكل أمامك بالصوت والصورة وبقليل من الإحساس المادي الملموس الذي يتركك فورما تقتنع أن ما تشاهده هو حلم يخصك.
الأحلام تنبثق من السماء، تقترب من الأرض، كل إنسان يرى في الأحلام شيئا من أحلامه، الأحلام تقترب من بعضها البعض، تصير صفا متماسكا كالبنيان المرصوص، تهتف معا بلغة الأحلام هتافات بعطر الحرية، تشكل عبر ضبابها وشبوراتها المرحة لافتات محلوم عليها مطالبها، لقد خرجت الأحلام نفسها الآن من مناماتها المؤجلة في مظاهرة إلى شوارع المدينة وميادينها وساحاتها وأزقتها العتيقة والحديثة.
حاصرت الوزارات، حاصرت القصر الحكومي، الأسواق، معسكرات الجيش، ملاعب الكرة، المسارح، محلات الحلاقة والتجميل، المستشفيات، مراكز الشرطة، الفنادق الفارهة، السلخانات، السجون، شاطئ البحر وكل شيء مهم أو غير مهم في البلاد.
صارت البلاد كلها عبارة عن ضبابة مظلمة تعرض أحلاما مختلفة، شاشة ضخمة جدا، كل فرد يرى على سطحها شذرات من أحلامه وأحلام الناس، لم يؤثر فيها الرصاص الذي أطلق عليها كي تتراجع إلى مجهولها، لم تؤثر فيها خراطيم مياه المطافئ التي قجت عليها من قبل بوليس مكافحة الشغب، ولا خراطيم آلات نفخ الهواء (الكامبرسوري) التي وجهت إلى نواتها النابضة كي تتهتك وتتشتت وتحملها الرياح بعيدا، لكن الرياح لم تفعل ما يرغبه القامع، فقد منحت عواطفها وتعاطفها النبيل إلى الأحلام، فعلت ذلك عبر فح زوبعات نسيمها وريحها ناحية الأحلام من الخارج لتجمع دواخلها في كتلة ضخمة، تتفاعل معها الناس وتشاهدها وكأنها حلم واحد، كأنها جدارية تعرض صورها بالصوت والصورة على حصيرة السماء، الناس كلها خائفة الآن، فهذه الأحلام المتظاهرة ضد السلطة تعود إليها، سبق أن تحلمت في رؤوسها، الآن تفضح الحالمون بعرض نفسها خام من دون تحوير، كما ولدت أو كما ستولد في المستقبل.
شخصيات الدولة ورموزها وقيادتها كلها دخلت إلى المخابئ تحت الأرض، كل الوزارات أقفلت أبوابها، وزارة شؤون الأحلام فقط بقت مفتوحة الأبواب والنوافذ والمستودعات، كي يتعامل كادرها ووزيرها مع مظاهرة الأحلام هذه، الأوامر تأتيه من القيادة بأن يعالج المشكلة فورا، تحفظ البوليس على عائلته وأقربائه وشيخ قبيلته ومختار محلته، لكي يتم الضغط عليه عند الضرورة.
أمهلوه 24 ساعة كي يفض مظاهرة الأحلام هذه ليعود جو البلاد وسمائها كما ذي قبل، صافٍ وخال من هذه المخلوقات المجهولة.
منح صلاحيات كاملة وحرية كاملة في اتخاذ القرارات بل قالوا له أنت مثل رئيس البلاد الآن، بل اعتبر نفسك بموجب الدستور وقت الأزمات والطوارئ أنك الرئيس الفعلي وقائد الجيش الأعلى ومدير البنك المركزي وبوها وكيّالها وصاحب الكورة أيضا، فقط خليك وزير أحلام معنقر وخلصنا من هذه الورطة.
المخابرات تقوم بدورها في تسجيل الأحلام، التلفزيون طوارئ أيضا، كل كاميراته تسجل الأحلام المتظاهرة، المخبرون الجوّالة لا يدخرون جهدا في القيام بواجبهم الوطني، كلهم يسجلون بهواتفهم المحمولة كل صغيرة وكبيرة حول هذه المظاهرة العجيبة، الفنانون والأدباء يرصدون المشاهد بعيونهم الرائية، لأنه بعد انتهاء المشكلة لابد من الاستفادة من هذه الأحلام إبداعيا وكذلك بوليسيا لمن كان متعاونا مع البوليس في الخفاء من رؤساء تحرير صحف ومجلات ومواقع إلكترونية والذين بالطبع لا يتم تعيينهم لترأس هذه المنابر الإعلامية إلا إذا توفر شرط أن يكون قوادا مائة في المئة، السلطة ستتعامل معهم بحزم بعد معرفة أصحاب هذه الأحلام الخارجة عن الطاعة ومعاقبتهم على عدم أمانتهم فيما مضى، حيث حرفوا الأحلام التي سلموها سابقا والعارضة نفسها على حقيقتها الآن دون رتوش، لقد سلموا الوزارة أحلاما محرفة وقبضوا ثمنها كاملا، مما أثر هذا الأمر المضلل على سياسة الدولة المبنية بشكل كبير على أحلام الناس، وكما تقول في اجتماعاتها وخطبها، إن الاعتماد على أحلام الناس في صنع القرارات ليس من أجل مراقبة الناس إنما من أجل خدمتها وتوفير سعادة عظمى لها.
ارتدى وزير شؤون الأحلام جبّة حرب مدرعة سوداء ووشاحا مبرقشا بعدة نجوم يحتضنها هلال رقيق كحاجب عروس، وصعد إلى آخر دور من مبنى وزارته الفخم المصمم كبرج بثلاث أوجه، قمته إبرة عمياء تتبدد على رأسها زوابع السحرة وعواصفهم، وبعد أن أغمض عينيه وقرأ شيئا من النصوص المقدسة تهدئة لنفسه وطمعا في التوفيق، خاطب الأحلام التي تحاصر ربوع البلاد قائلا:
أيتها الأحلام العظيمة المبجلة، مرحبا بك، نشعر بالسعادة والشرف لحضورك بيننا، لا نشعر أننا محاصرون، نشعر أننا في حفلة أحلام كبرى، نشعر أن هذا اليوم هو يوم عظيم، سنخلده في طابع بريد وسنتم اعتماده كعيد سنوي للأحلام ويوم عالمي لها تحييه وتحتفل به كل الكائنات ذات الأجفان النائمة، لأنه تهبط فيه الأحلام للأرض لتشاهد موانئ ولادتها من رؤوس بشرية على قيد الحياة، أو جماجم حلمت ثم رحلت إلى العالم الآخر.
أنا هنا ممثل الدولة، أنا وزير شؤون الأحلام الذي وصل للمنصب بعرق جبينه عبر كفاحه النقابي الطويل، كل أحلام الناس تجتمع عندي، كلكم يا من تحاصرون البلاد أعرفكم وأعرف أصحابكم الأحياء والذين رحمة الله عليهم واحدا واحدا وبقليل من التخمين يمكنني تنسيب أحلام المستقبل لأصحابها الذين ولدوا والقادمين عبر الأرحام أيضا، لا توجد الآن أحلام خام، كل حلم له صاحبه، كل حلم ولد له صاحبه، وكل حلم مازال محلقا سيكون له صاحب عندما يهبط إلى منام المخلوق.
لكي نختصر المسألة سنعتبر هذا اليوم وهذا التجمع لأحلام الحياة هو مؤتمر عام الأحلام، وزيركم في المنام لا أعرفه، إن كان معكم الآن فليبين نفسه عبر كابوس جثام مبرزا قوته وجبروته وكاريزمته، وسأكرمه وأستضيفه وأسكنه في أفخم فندق ليل لدينا وبعدها أجري معه جلسة مباحثات مغلقة مظلمة أناقش معه فيها كل مشاكل الأحلام ومطالبها العلنية والسريّة.
وإن كان زعيمكم أو ملككم أو كبيركم الذي علمكم الحلم معكم، فيمكنني ترتيب استقبال رسمي له في القصر الحكومي حيث يتشرف بمقابلة كبيرنا المبجل والتحاور معه في مواضيع الأحلام، خاصة الأحلام التي تحاصرنا الآن.. وبعدها نوسمه بأشرف وأرقى وسام في الدولة.
شكرا على كلماتك اللطيفة، وفي الوقت نفسه لا تفهمنا خطأ، نحن لا نحاصركم، نحن ليس لدينا زعيم أو رئيس، كل واحد منا يمكنه أن يفاوضكم، نحن أحلام وليس كوابيس، لقد منعنا جيش الكوابيس من الهبوط إليكم، اخترنا السلام كوسيلة للتفاوض والتفاهم، نحن لدينا حقوق لديكم، تم سرقتها وتشويهها والعبث بها، نطالب بحقوقنا فقط محافظة على هويتنا وكياننا ودورنا الطبيعي والفطري في الحياة.
كلامك جميل وموضوعي، أفصح عن مطالبكم وحقوقكم وستجد منا كل تعاون.
وهل أنت مخوّل من قبل السلطات للتفاوض معنا؟
وهل قراراتك نافذة لن ترفضها قيادتكم الرشيدة وتظهرك حنك فوقاني أمامنا؟.
صلوا على النبي
اللهم صلي وسلم عليه
مفاوضاتي معكم رسمية ميّة الميّة، ها هو قرار التكليف، وقد كلفت رسميا بالتعامل مع هذا الملف بالذات وقفله، وقالوا لي قادتي اعتبر نفسك أنت كبير الدولة، ومنحوني صلاحيات كبيرة لا تمنح إلا في حالات الطوارئ، وميزانية مالية مفتوحة، إن أردتم أي مبلغ دفعته لكم بأي عملة تريدون.
المال الذي نطلبه صقع عليكم، لا يوجد في خزائنكم، عملتنا لا تعرفونها، إننا نتعامل بعملة الأحلام، والحصول على المال منكم ليس هدفنا، والناس الذين حلمنا في رؤوسهم وباعوكم الأحلام كل صباح أناس جهلة ونحن نعاتبهم ونعذرهم في الوقت ذاته ناظرين بعين الاعتبار إلى حالة الفقر المدقع التي تعيشها معظم شرائح الناس، على الرغم ما تمتلك الدولة من ثروات هائلة، معظمها يبدد بطريقة النخلة المائلة دون فائدة، ولا يصرف على الناس وبنيتهم التحتية والفوقية.
آسف دعني أعترض وألومك، هذه الأمور شأن داخلي، لا يحق لأي كان أن يتحدث عنها، يحق فقط للشعب أن يناقشها داخل مؤتمراته الشعبية.
وما الفرق بين الشعب والأحلام؟ ألا يتكون الشعب من مجموعة أحلام؟.
بصراحة لم أفهم، ودعنا من الكلام ونقد أوضاع الدولة، ولندخل في صلب الموضوع مباشرة لماذا هبطتم علينا ونظمتم هذه المظاهرة؟
ما هي مطالبكم كي نفض هذا الحشد الهائل من الأحلام لتعود أدراجها وتترك بلادنا طبيعية لا تغطيها سحائب الأحلام؟.
وقف منح العقاقير للناس من أجل جلبنا إلى رؤوسها عنوة فنولد مشوهين.. عندما نهبط ونجد أن أرضنا التي سنحلم فيها قد تم اللعب فيها بالعقاقير لا نحلم بصورة طبيعية ونحن أنفسنا نمرض.
لكم ذلك، وقد اتخذنا إجراءات حاسمة لمعالجة هذا الموضوع فمنعنا استيراد هذه العقاقير المستحلبة للأحلام وما نملكه في مخازننا منها أبعدناه عن أرضنا ليتم إتلافه وهذا كلام أكيد، وهذه صورة من العقد الدولي الذي تم إبرامه مع شركة التخلص من النفايات العضوية وغيرها.
لدينا علم بهذا الأمر، ونعرف أن السفينة التي نفذت هذه المهمة قد تم أسرها مع بحارتها وقبطانها من قبل القراصنة، ولن يطلق سراحها إلا بعد أن يتم دفع الفدية التي طلبها القراصنة.
ليست مشكلتنا إن تم أسرها من قبل القراصنة، فهي لا ترفع علم بلادنا، وسددنا لها ثمن المهمة بالكامل والعملية مؤمنة لدى شركة التأمين، نحن دولة تعرف الإجراءات التي تحفظ لها حقوقها.
أيضا نحن لا يهمنا أمر أسرها، فهي سفينة مشبوهة تنفذ مهمات قذرة، لا تشجع أحدا جراء أفعالها على التعاطف معها، لكن ليس هذا الأمر من ضمن مطالبنا.
وما مطالبكم بالضبط؟، أرحنا ودعنا نحل المشكلة، كل دقيقة تمضي دون حل الخطر يقترب من الجميع خاصة عائلتي المحتجزة كشبه رهينة لدى السلطات العليا.
نعلم بأمر احتجاز أسرتك وقد كلفنا بعض الأحلام الوردية الصغيرة بالحلم داخل رؤوس أطفالك لبث بعض السكينة والطمئنينة في قلوبهم.
بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا، بس قل لي ما مطالبكم الله يستر بيوتكم إن كانت لديكم بيوت مؤجرة أو تمليك؟
سأوضح لك الأمر، نحن لدينا أحلام حزينة، أحلام فقدت الرؤوس التي كانت تحلم بداخلها وترتاح في جنباتها، هبطت أكثر من مرة لكي تمارس واجبها في إبداع الحلم، فلم تجد ركحها الحي، لم تجد الرأس الذي كانت تحلم فيه، فعادت إلينا حزينة وقدمت لنقابتنا شكوى عاجلة، فتحرينا وعرفنا السبب، وأعلمناها أن الرؤوس المفقودة التي لم تجدها كلها كي تحلم فيها قد تم ذبحها دفعة واحدة في سجن بوسليم الرهيب، وإن أرادت زيارتها فعليها أن تصعد للبرزخ، وعندما صعدت رفضت هذه الرؤوس السماح للأحلام بدخولها، وطالبتها أن تعود إلى مكان ذبحها بالرصاص لتأخذ لها حقها أو ثأرها، فالبشر عجزوا عن أخذ حق هؤلاء الشهداء، لكن الأحلام لها القدرة على فعل المستحيل.
الأحلام التي هبطت إلى أبناء وزوجات وأمهات وآباء وأخوة وأخوات وأقارب وأصدقاء أولئك الشهداء عادت لنا مغسولة بالدموع، لم تستطع أن تبدع حلمها في رؤوس هؤلاء الحزانى، وجدت الرؤوس مليئة بالدموع والنواح والصبر، فبكت معها واغتسلت في دموعها، عادت لنا في حالة يرثى لها تحتم علينا أن ندخلها جميعا إلى عيادة الأحلام لتلقي علاج المواساة والمشاركة الوجدانية.
بصراحة الموضوع خطير وحساس، لا يمكنني التعليق، أمهلني وقتا قصيرا للتشاور مع رؤسائي، عشر دقائق فقط، لكن عاهدني أن تظل الأحلام في أماكنها ولا تهاجم البلاد أو تعبث برؤوسها.
أعاهدك وبدلا من عشر دقائق عليك الطويل ينادي، خذ ساعة أو ساعتين، كي تتشاور جيدا، بحيث في الجلسة القادمة تأتيني بالأجوبة الممكنة من الوصول إلى حلول نهائية.
شكرا وبارك الله فيك، ساعة وقت كاف جدا، وبإذن الله سنصل إلى حل يرضي الجميع.
لم يتم التوصل إلى نتيجة، لم يتم الاجتماع، الأوراق التي دخل بها الوزير لعرضها على رؤسائه في غرفة العمليات رميت على وجهه وتم ركله على مؤخرته ليغادر الغرفة سريعا مهرولا، البلاد أعلنت الحرب فجأة على الأحلام، وزير حماية البيئة أخرج كل مخزونه من المبيدات الحشرية ومواد تنقية الهواء، ومواد زرع السحب، حقن شحنة كبيرة من المواد في مضخات ضخمة تعمل بالطاقة النووية وشرع في رش تجمعات الأحلام لهتكها وتشتيتها ومسخ مناظرها وهيأتها، صار الجو بلون الفضة والرصاص والسخام، اختلطت خيالات الأحلام المضببة بهذه المبيدات والمواد الكيميائية، وكان جنود البلاد الذين يقودهم وزير شؤون الأحلام ووزيرا البوليس والحربية يصرخون:
لا أحلام بعد اليوم.. نفنص كي تفنيص البوم.
سنقضي على دين أم الخرافات والزندقة والشعوذة والخيالات المريضة التي لا مكان لها في هذا العصر الجديد.
وعندما قرب النهار من الانتهاء، شعر الجنود بالإنهاك والإعياء، والآلات والمضخات التي ترش السموم في الجو لطرد الأحلام ارتفعت حرارتها ونفدت شحنتها الكهربائية ووقودها، فتوقفت تلقائيا عن العمل، صار لزاما لها أن تتحصل على راحة لتبرد وتشحن وتتزود بالوقود ومواد الرش، والفصل لم يكن مساعدا لعملها فقد كان صيفا قائظا.
استنجد الجيش بالاحتياطي الاستراتيجي، فتجمعوا كلهم تلبية لنداء الواجب الوطني، ليتم تسليم مروحة لكل واحد منهم، يمروح بها على الآلات والمضخات لتبرد.
أوقفت كل الصناعات الثلجية من جولاطي (آيس كريم) وخرّاطة وبوضة وغيرها وجلب مخزون تلك المعامل من مادة الثلج إلى الجبهة، ليساهم في المعركة برشه على محركات الآلات والمضخات الساخنة لتلطيف درجة حرارتها، جلبت أيضا قوالب الثلج الضخمة من المصانع وتم هروشتها في كسارات ميدانية ورشها على آلات الضخ، وحتى الثلج المرشوش على الأسماك من اجل حفظها في أسواق الحوت جمع واستخدم في تبريد الآلات لتعمل دون توقف، قال الضابط المكلف بجمع الثلج من سوق الحوت، ليس مهما أن يفسد الحوت، نحتاج إلى كل ذرة ثلج الآن، ولا تنزعجوا بعد أن تحط الحرب أوزارها سنعوضكم تعويضا باذخا، كل صياد سنمنحه طنا من كلاب البحر المصطادة من قبل الجرافات العسكرية، ولم تقصر الإذاعة الرسمية بالطبع في واجبها، خاصة في رفع الروح المعنوية للجيش والشعب وشاركتها في المهمة كل وسائل الأعلام المرئية والمقروءة والمكتوبة عبر بثها ونشرها لقصائد في حب الوطن ورموزه العظيمة ومنجزاته الخالدة والتعهد بالموت دونها ضد أي غازٍ مرئي أو مستتر، ملموس أو محدوس.
تم الاستعانة بشيوخ الأديان أيضا، وتم في هذه اللحظة العصيبة التي يمر بها الوطن الاعتراف بقدرة المشعوذين في معالجة ومكافحة مثل هذه الأمور، فتم دعوتهم جميعا انطلاقا من مقولة عندما تشتعل النار في سروالك يمكنك التحالف حتى مع الشيطان، لم تصف الوسائل الإعلامية هؤلاء الناس كما ذي قبل بالمشعوذين والدجالين والسحرة، تم منحهم لقب علماء الغيب، وتم تخصيص منسق من قبل السلطات الدينية ليوفر لهم مستلزماتهم من قرابين كالديوك السوداء وصيود الليل وتيوس الماعز وشحوم الورل والبيض المائج لإنتاج الحصون الجلدية والأحجبة الورقية والتمائم وغيرها.
الطرق الصوفية أعلنت هي أيضا بإيعاز من وزارة البخور والبنادير دخولها إلى المعركة وقال شيخهم الأكبر، إن الأحلام تظهر في الجو كتلة دخانية سوداء تتحول إلى صور ناطقة ومرئية، ولا علاج لها من أجل مكافحتها إلا إضرام النار في كتل كبيرة من الجاوي والفاسوخ والحلتيت، فالدخان لا يعرف طبّه إلا الدخان، وإن كان هناك منهم أتباع للزوايا الصوفية سيفضحهم الجاوي والبندير وسيجدبون لا إراديا وينطاعون طاعة عمياء لشيخنا الذي سيصرف شرهم عنا، ونظمت الحضاري الضخمة في كل الزوايا الصوفية وأضرحة المرابطين.
حتى الشعراء الشعبيين سجلوا مساهمتهم بأحرف من نور فأقاموا سرادق الحفلات في الميادين الرئيسية وغنوا ومجردوا وشتوا وكشكوا بحماس منقطع النظير:
حيه على أمك يالاحلام.... حرقك خطوة للأمام
ويالاحلام خطينا عدّي... حلفنالك ببركة جدّي
المفكرون أيضا دخلوا المعركة جنبا إلى جنب مع الأدباء والفنانين، أدباء الفن من أجل المجتمع وأدباء وفنانين ينتمون إلى جماعة السوريالية والفنتازيا ودق الحنك والواقعيات المختلفة.. الاشتراكية والقومية والثورية والرياضية والاقتصادية والاجتماعية وخلافه.
دبجوا المقالات التي تحولت خلال ساعات إلى نشرات وكتب مطبوعة يتم توزيعها سريعا على كل أفراد الشعب، نشرات وكتب تناهض الأحلام وتتوعدها بالشر الماحق وتبشر الشعب بأنه من الممكن الاستغناء عن هذه الأحلام المزعجة نهائيا والنوم هكذا بدون أحلام ولا عم يحزنون.
أحد المفكرين الايدولوجيين المقربين من النظام الحاكم اعتبر مظاهرة الأحلام هذه مؤامرة صهيونية وامبريالية وشيوعية وماسونية كبرى خطط لها معارضو النظام من كلاب ضالة وقطط سمان وسلاحف تنزلق على ظهرها وتعوّي.
لم تعر الأحلام هذا الهجوم الغادر أي اهتمام، بل ضحكت كثيرا، ولم تتحرك من مكانها، لكنها زادت من حصارها أكثر، وتسللت حتى إلى المخابئ المحصنة تحت الأرض، فتم رصدها من قبل الحرّاس، فقال لهم الناطق الرسمي للأحلام:
حتى مغيب الشمس لكم الحرية يا تيوس، لكن عندما يحل الظلام ستعرفون الأحلام على حقيقتها، وستندمون على هذا الهجوم الكاسح الفاشل، نحن جئناكم بالسلام، نريد أن نتحاور، لنصل معا إلى حلول ترضي كل الأطراف، أنتم قابلتمونا بالحرب الغادرة، مازال على غروب الشمس ساعة، وسنمنحكم 4 ساعات لتتناولوا عشاءكم وتلعبوا مع أطفالكم، وبعد ذلك لابد ممن ليس منه بد، وهو النوم، حيث يمكن لأحلامنا المسلحة الدخول عبره بسهولة والتعامل معكم بالطريقة التي اخترتموها أنتم، سنخنق أنفاسكم، ونرعبكم، ونجعلكم تتبولون في سراويلكم، تو اتشوفوا يا زوامل غير حلوا طواقيكم وارقدوا بس، لقد أنزلت الأحلام الآن فصيلا من فرقة الكوابيس والجثامات يطوف حول التخوم ويتهيأ للانقضاض.
لقد بدأت الحرب النفسية الآن من خلال تحذير الأحلام السابق بهبوط فرقة الكوابيس والجثامات فأثر في الجنود واستشرى تأثيره إلى كل الناس حتى كبار رموز السلطة، حيث صدر أمرا مستعجلا بعدم النوم نهائيا ومقاومته واعتباره عدوا خطيرا كالأحلام المهاجمة، وكل من ينام في مثل هذه الظروف يعتبر خائن للوطن وتعدمه الميليشيات التابعة للحكومة فورا.
لم يكن الأمر جيدا بالنسبة للأحلام التي يتم تشتيتها فتعاود جمع شتاتها وتتجمع محاصرة الأماكن الحيوية من جديد، الانتصارات التي تحققها الدولة في حربها مع الأحلام وقتية، قصيرة جدا، لا تتجاوز ساعة أو نصف ساعة، الأحلام تتشتت، تتفتت، تتلاشى مؤقتا، لكنها لا تموت، تعود فلولها من جديد أشد سوادا وشراسة وتجثم، تهبط إلى الحضيض السفلي حتى أنها تلامس خوذات المحاربين من جنود الدولة، تهبط متنقلة من مكان إلى آخر مصرّة على البحث عن الرؤوس الضائعة التي حلمت فيها ومارست فيها دورة حياتها السعيدة في الماضي.
لم تنم الناس، تم صرف المزيد من الأدوية التي تجعل الشعب لا ينام على أذنيه ولا على ظهره، يسمح له بالنوم على بطنه فقط، لأن هذا النوم يجعله في حالة ترقب ويقظة وخوف على مؤخرته، كل الناس عيونها محمرة، يقظة، تشرب القهوة من دون سكر، قادة الجيش ورموز السلطة أيضا لا ينامون، حرب مستمرة لا هوادة فيها، الدولة تحارب الأحلام وتشتتها، الأحلام تعيد تجمعاتها وتنظيم صفوفها وتواصل البحث، لم تجد الرؤوس التي تبحث عنها، حددت مكانها التقريبي فقط، لكن هذه الرؤوس كانت في حالة يقظة مثل الناس، تم حقنها بجين لا يجعلها تنام، يجعلها خامدة ومخفية عن الأنظار، لكن لا تنام، إن دخلها الحلم فمن الممكن جدا أن تخرج دفعة واحدة من مكمنها أو قبرها الجماعي وتنظم لأسرها التي تتظاهر كل أسبوع في سلام وصمت، وإن خرجت رؤوس الألف والمائتين ونيف من الشهداء أو القتلى فسيكون الموقف دراماتيكيا ومؤثرا لا أحد يتوقع ما يترتب عنه من نتائج تعصف بوحدة البلاد وسيادتها وأمن الشعب ومعيشته، الأحلام رؤى من عناد، هي من عالم الغيب لكنها مستقلة، لا تستعين بأصدقائها فيه وما يمتلكون من سحر وشياطين وشبح حاد دقيق خارق للعادة، تريد أن تجد المكان المقصود الذي يحوي الرؤوس بمجهودها الذاتي، لا أحد يبحث لي عن أحلامي، هذا هو شعارها، هي رسول سلام، تريد أن تمارس حياتها في رؤوس أحبتها التي عاشت معها وشاركتها حزنها وفرحها مرضها وصحتها وكل شيء منذ أيام الطفولة، الأحلام الآن تفتقد وبصورة ملحة شيئا ما، هي ليست مدمنة على الحلم في الرؤوس، قد تحلم فيها في الشهر مرة، أو حتى في العام مرتين، لكن الذي قهرها وسبب لها الألم أنها لم تجدها، لم تجد عائلتها، لم تجد بيتها الأرضي الرؤوس، وكنوع من الوفاء لابد أن تبحث عنها، لقد عرفت من خلال الصرخات المنطلقة إلى الله في السماء يوم ذبحها أنها تعرضت لمكيدة، لجريمة شنيعة، حاولت أن تعرف شيئا من الصرخات المنطلقة إلى الله، لكنها كانت صرخات مظاليم، انطلقت مباشرة، ليس بينها وبين الله حجاب، لا يحق لها التوقف في الطريق، انطلقت إلى ربها مسرعة فلم يوقفها أحد في الطريق، لم تتمكن الأحلام من ملامسة قوس قزحها أو تبين ألوانه الغارقة في بؤرة حمراء، حاولت الأحلام أن تعرف، ما الأمر وما القصة؟؟ وهل الموت نتيجة قصاص عادل أم عبثي؟ لكن لم تظفر بإجابة، الشيء الوحيد الذي استطاعت أن تستخلصه من الصرخات المنطلقة للسماء هو قدر ضئيل جدا من رائحة دخان ودماء وعطر يترك أثرا وراءها.
الدولة وشعبها وجيشها لم تنم، مازالت تقاوم غزوة الأحلام عليها، لكن الأحلام تعبت من القتال فهي لا تتناول عقاقير مساعدة، جمعت نفسها سريعا، وصعدت لتنام، فحتى هي لديها أسر في ذلك العالم الغيبي، تقلق لغيابها، وحتى هي لابد أن تنام، فهناك أحلام ستهبط إلى قلوبها من المجهول وتحلم فيها، وإن لم تجدها فستبحث هي الأخرى عنها كبحث هذه الأحلام عن رؤوس ضحايا مذبحة بوسليم، صعدت الأحلام لتنام ولتحلم هي الأخرى، وستعاود الكرّة، والهجوم في الأيام القادمة.
الناس في البلاد بعد انسحاب الأحلام استغلوا الفرصة، معظمهم استغرق في النوم، ولم يتمكن من الحلم، فالإنهاك من السهر المتواصل جعلهم يسقطون كرطب ناضج من عراجين النخيل، صاروا كجثث لا حراك فيها، ليس كل الناس نامت، هناك أناس لا زالت مستيقظة، يخشون عودة الأحلام لغزوهم مجددا.
مرت أيام والأحلام لم تعد هجومها، وواصلت الناس وتيرة حياتها، وواصلوا عادتهم في تسليم الأحلام المشوهة التي سرطنتها عقاقير استحلاب الأحلام، وقبض الدراهم القليلة المعدودة والتي صارت تتأخر طويلا وكلما طالبوا الوزارة بالتسديد تماطلهم بوقاحة متعللة بأن كل الميزانية قد تم تجميدها وتخصيصها للأولويات الإستراتيجية كمحاربة غزوات الأحلام المرتقبة.
الأحلام تأخرت.. لم تعد الهجوم في اليوم الثاني ولا الثالث ولا الأسبوع الأول ولا الثاني، الدولة تنفست الصعداء ووزير شؤون الأحلام ضرط ضرطة طويلة مموسقة مستريحا وكأن قد تم رفع عن كاهله طن من الرمل وشعر بالراحة وبالسعادة، أما الناس فعادت إلى حياتها الطبيعية، بينما حالة الطوارئ في البلاد تم تخفيضها إلى ثلاثين في المائة، لكن لم يدم الحال، فبعد شهرين فقط هبطت الأحلام فجأة لتحاصر البلاد، هبطت أشد كثافة من ذي قبل وكأن هناك جيش آخر قد انضم إليها، والحقيقة التي نود سوقها أن هناك أحلام أخرى انضمت إليها، في المرّة الأولى رفضت أن تهبط معها واعتبرت الأمر لا يعنيها، لأن الرؤوس خاصتها تعرف مكان دفنها، تزورها متى ما اشتاقت إليها، أو تلاعب أرواحها في البرزخ، الأحلام المنضمة للهجوم هي أحلام رجال الأمن الذين استشهدوا قتلوا ذبحوا جرّاء المواجهات المسلحة مع المتدينين المناوئين للدولة وأيضا الذين فقدوا حياتهم من حرّاس وطباخين إبان بدء حادثة مذبحة سجن بوسليم الشهيرة، الأحلام في الأعالي شعرت أن مشكلتها واحدة فتصالحت فيما بينها، أحلام ضحايا المذبحة والمواجهات وأحلام رجال الشرطة والجيش والمخابرات والأمن الشعبي واللجان الثورية الذين كانوا ضد المتدينين وواجهوهم واستشهدوا أو فقدوا حياتهم جراء ذلك، سنعتبر الطرفين شهداء، كل من فقد حياته شهيد لأنه لم يختر أن يفقد حياته، الكل لديه قضية في رأسه تجبره أن يموت من أجلها، أخرجوا القضايا من الرؤوس ليحل السلام، أحب كلمة شهيد التي تمنح لشخص حاول أن ينقذ غريقا من البحر أو كائنا حي من الحريق مثل المواطن الليبي سليمان الضراط الذي اقتحم شقة تحترق فأنقذ منها فردا ثم عاد لينقذ الباقين فاحترق واستشهد، أما شهداء الأديان والسياسة والرياضة والقبيلة والمال فأحترمهم لأنهم ينطلقون من فكرة أو خوف لكن لا وجود لحب لديهم في قلبي.
أحب الشهيد سليمان الضراط وأتذكر المجمع الرياضي المسمى بإسمه في مدينة بنغازي والذي شهد في حقبة الثمانينات من القرن العشرين عمليات شنق نقلها التلفزيون على الهواء مباشرة، ليس موضوعنا الآن إدانة عمليات الشنق هذه أو مناقشة الأسباب ومن المحق ومن المخطئ وبقية التداعيات، لكن ما جعلني أحلم الآن بتلك المشاهد المروعة هو تطرقي لسليمان الضراط الذي كان مكان الشنق المجمع الرياضي مسمى بإسمه تخليدا لبطولته وشجاعته وشهادته متسائلا ما كان شعور روح سليمان وهو ترى مشهد الشنق؟ وهل حاول البطل سليمان أن ينقذهم من حريق الشنق كما أنقذ ضحايا حريق الشقة؟، لقد تألمت كثيرا جدا من مناظر التعلق بالجثث من قبل بعض أنصار الدولة المؤدلجين، وسأقول أن الألم الإنساني والروحي في نفسي سيظل مستمرا إلى الأبد، وحتى إن كان الأبد قصيرا سأحلم به وأطوله وأمططه أكثر.
عندما جن الليل ولا أحد من الناس نام خوفا من أن تدخل الأحلام رأسه، فضلت الأحلام الانسحاب والعودة إلى قواعدها كي تحلم فيها رؤوس أخرى من كائنات الغيب وهي بدورها تحلم في رؤوس أخرى، وفي اليوم الثاني والزمن الذي يليه لم تعد كرّة الهجوم، كانت في حالة حوار وديمقراطية مع الأحلام الأخرى التي فقدت رؤوس أحلامها في المواجهات المسلحة، أحلام رؤوس قوات الأمن وغيرهم، كان الحوار ديمقراطيا حكيما لا لغط فيه ولا شجار، كل شيء تم اختصاره في نهاية الحوار في عبارة ليبية شعبية تقول:"كلنا مضروبين بعصا واحدة"، أي كلنا فقدنا حياتنا، أي رؤوس أحلامكم ماتوا ورؤوس أحلامنا ماتوا.. لكن قال زعيم رؤوس أحلام رجال الأمن: على الأقل نحن أفضل منكم، نعرف قبور ورؤوس قتلانا، فلأن طائفتنا في الحياة هي الحاكمة والغالبة فقد دبرت لنا قبورا تحيطها الورود، وانهمك في تداع باك جلبته حكاية الورود المكللة للقبور يوم الدفن فقط، لكن يا إخوتنا الأحلام كان الاحتفاء بنا يوم موتنا فقط، كانت الإذاعة حاضرة، وكانت الخطب الرنانة من سماسرة السلطة ولصوص المال العام تلعلع في الفضاء وكانت الورود تحيط كل قبر والماء بالزهر يرش علينا، وفي المأتم كان حاضرا كل شيء: الأرز.. واللحم.. الشاي.. المشروبات.. قراء القرآن المصريين بقبعاتهم البيضاء والحمراء وعماماتهم البيضاء.. التمر صعيدي ودقلة.. الحليب معقم وغوط سلطان وزهرات.. المال لشراء النثريات الناقصة وغيرها، لكن بعد انتهاء المآتم تم نسياننا، لا ذكرى أولى باستشهادنا ولا طابع بريد ولا نصب شهيد واجب ولا أموال تنفق على أسرنا التي بعضها قد تشرد وضاع وبصراحة قضيتكم قضية عادلة ومن حقكم أن تعرفوا على الأقل رؤوس قتلاكم لتذهبوا وتواسوها ببعض الأحلام الرافعة للمعنوية ومن هنا نعلن انضمامنا إليكم ويمكننا التعاون معكم وسنهبط معكم لنحارب في هذه الحرب العادلة ورؤوس موتانا في التراب سندخلها ونحلم فيها ونعرف منها أين تم دفن ضحاياكم الأكثر من ألف ومائتين إنسان، فالأحلام أسرة واحدة وجنس واحد وتحب بعضها البعض، سنعرف من تلك القبور أين قبور قتلاكم أو قبرهم الجماعي ونخبركم بالمكان لتدخلوا إليه آمنين وتمارسوا حياتكم الطبيعية في رؤوس الأحياء والأموات الذين نحروا ظلما.
كما قلنا هبطت الأحلام كثيفة جدا حتى أنها جعلت العشية وكأنها ليل ولأنها هبطت معها الأحلام الخاصة بضحايا رجال الأمن والمخابرات والبوليس واللجان الثورية فقد سهلت عليها الأمور لمعرفة هذه الأحلام البوليسية السابقة بحيل وخطط الجيش والأمن والمخابرات، فبعد زمن قصير جدا من محاصرة المراكز الحيوية للدولة التقليدية كالوزارات والقصر الرئاسي ومباني البريد والبنوك والمستشفيات وصهاريج المياه ومحطات الكهرباء ومعسكرات الجيش والبوليس وغيرها، انسحبت جيوش الأحلام سريعا إلى أماكن أخرى لا حرس ظاهر عليها، أماكن متباعدة عن بعضها البعض، بعض منها يقع في أحياء سكنية، وأخرى في ضواحي المدينة وأخرى على الشواطئ غير المأهولة، واشتعلت النار في طاقة وزير شؤون الأحلام وفي قيادات الجيش والمخابرات والبوليس الذين انكشف تمويههم وخطط غشهم واختفائهم، وسرعان ما عرف كبير التقازين والعرافين والمشعوذين والسحرة السر، وأخبر به المسؤول عنه وهو أن الأحلام الخاصة برؤوس شهداء الدولة من رجال أمن وجيش وحرس بلدي وأمن شعبي لقد انضمت للأحلام في معركتها وهي من أخبرت أحلام رؤوس ضحايا مذبحة بوسليم بالأمكنة الجديدة التي من الأجدى البحث فيها، ومن هنا تم اتخاذ قرار سريع وفوري وهو الزج بعائلات هؤلاء القتلى أو الشهداء من الموالين للدولة في المعتقل عقابا لهم وللضغط عليهم من أجل سحب فلول الأحلام من أمام تخوم المواقع السرية المعتبرة خط أحمر قان جدا ومنذ الدقائق الأولى من الاعتقال بدأ الضغط والتعذيب للأسر، شعرت أحلام رؤوس أسر ضحايا الأمن بالأمر المدبر لأسرها، انتقل الألم إليها تلقائيا، استمعت إلى صراخ الأهل والأحباب جليا مؤلما فطلبت من فلول الأحلام جميعها الانسحاب رأفة بالأبرياء وحتى لا تتضاعف المذابح والمأساة وكونهم من أحلام رجال الأمن فهم يعلمون كل أساليب التعذيب الدنيئة المستخدمة للضغط، تجاوبت الأحلام وارتقت تاركة الأماكن بعد أن عرفتها وتوقعت أيضا حتى أين ترقد جثامين الضحايا بالضبط، عادت مجددا إلى مأواها في العلى منتظرة فرج من الله ومخططة لحلول جديدة تمكنها من الوصول إلى الرؤوس، لقد كان جلب أحلام رؤوس رجال الأمن على الرغم من فائدته من الأخطاء الفادحة، لا أحد معصوم من الخطأ حتى الأحلام، الآن لا يهمها أن تبحث عن رؤوس ضحايا المذبحة، لكن يهمها أن يتم الإفراج عن أسر حليفتها أحلام رؤوس رجال الأمن الميتين في المواجهات، لن يهبطوا إلى تحت للحرب مجددا حتى يتم الإفراج عن الأسر البريئة، وسيهبطون من جديد لوحدهم دون الاستعانة بأحلام رؤوس رجال الأمن، رجال الأمن خلطتهم لا تربح في الموت ولا في الحياة ولا في الأحلام أيضا، نريد أن نكحلها فعميناها، ما ذنب هذه الأسر الآمنة أن تعتقل وتعذب، وما ذنبي أنا أن أعذب بمشاكلك في كل ربوع الدنيا وحتى الأحلام لم تنج من عبثك بها والتسبب في أذى لأناس أبرياء، لو أنك لم تهبط الأحلام روائيا لتبحث عن الجثامين ما حدث الذي حدث لهذه الأسر الوديعة، أنا طفلة لكني أفهم ما تفعل، لا يمشي علي شيء، يعني ماتمشيش علي الكارطون، حتى البنت الخليجية أتت وفي حضنها طفل تقول أنه ليبي، التقت بأبيه في بانكوك، وشعرت أنه في خطر، فشدت الرحال إليه من بلدها بقطر إلى مصر ومنها برا إلى ليبيا، لم تتحصل على طائرة إلى ليبيا، الطيران موقوف إلى حين إشعار آخر والمجال الجوي مغلق بالضبة والمفتاح، أجواء ليبيا الآن غير آمنة، تتعرض لغزو ميتافيزيقي مجهول، تغطيها سحائب من الأحلام المتحققة والمؤجلة والباحثة عن رؤوس تحلم فيها، يقال أن رؤوس أحلامها الضائعة قد تم ذبحها دفعة واحدة، قربانا وفداء للوطن وسلطته الشعبية، الحدود البحرية والبرية أيضا مغلقة، لا خيار أمامها إلا السفر برا حتى قرية السلوم ومنها هربها مهربو قبائل أولاد علي الليبية القاطنين في القطر المصري إلى قرية مساعد داخل الحدود الليبية، لترتدي بعد ذلك زيا شعبيا ليبيا قدمه لها المهرب من أجل التنكر والتمويه"رداء وجرد ومحرمة ليبية"لم ينس أن يوشمها بنقطة خضراء بين حاجبيها وثانية يسار شفتها العلوية اليسرى وثالثة على صدغها الأيمن، ثم أركبها لإيصالها لبنغازي في سيارة أجرة لابن عم له، ركبت سعيدة هي ووليدها الليبي اللطيف الذي بعد كيلوات قليلة من الأمتار قطعتها السيارة حفظ أغنية المطرب الشيخ صديق بوعبعاب المنسابة من مذياع السيارة وصار يحاول مواكبته في غنائها:
منام جاني شين حلمتا..
عزيز مشا..
رحل نجعا شال وجبّـا
متويّل فيه.. أريد ننشد عنا الفقيه.. إلخ.
عندما وصل بهما السائق لمحطة سيارات الأجرة بمدينة بنغازي دفعت له مائة يورو فابتسم قائلا بلكي ما معاكش فلوس فابتسمت له وقالت له باللهجة المصرية مستورة يا جدع والحمد لله، روح هيّص وسلملي على الحاج شعيب شيخ نجعكم.
وصلت وحالة البلاد طوارئ بسبب هجمة الأحلام، هي الأخرى كبقية الناس رأت أحلامها تحلق في السماء، الحلم الذي تحلم به مرارا رأته في سماء بنغازي جليا واضحا، يقترب من الأرض حتى يكاد يلامس رأسها ثم يبتعد عاليا، ها هي تصرخ في العسكري الذي يصوب عليه"فداك الله ما تطلق النار "وأردفت سريعا باللهجة المصرية حتى لا يشك أنها متسللة"والنبي تسيبه بجاه سيدي عبدالسلام الأسمر"كان العسكري من قبيلة الفواتير بزليطن المنتمي إليها الولي سيدي عبد السلام الأسمر فأنزل بندقيته بهدوء متمتما تستور يا عبد السلام، أعوذ بالله من الشيطان، قالت له وهي تشكره متوجهة جهة ابتعاد الحلم، هامسة لنفسها هو حلم يخصني يا عسيكري، أتيته من آخر الدنيا، وتطلب من الحلم أن يظل عاليا ولا ينزل إلى دنيا النار.. بينما العسكري تلقى نداء جديدا عبر جهازه اللاسلكي الأمريكي المثبت في خوذته، أهجموا إلى جهة اليسار فابتعد عن المرأة راكضا إلى الجهة المقصودة مفرغا الفوشيك في السماء طاف طاف طاف طاف مصيحا الله أكبر، الجهاد الجهاد، النصر أو الاستشهاد.
كنت سعيدة بطفلي، أهدهده وأناغيه، لم يشغلني غياب أبيه، لم تشغلني مسألة قدومه بطريقة غير شرعية، يكفيني اعتراف الله به، وخلقه له في أحسن تقويم، ونفخه للروح المقدسة فيه، أبوه أعرفه ولن يتنكر لي ولا لأبننا، كنت سعيدة ولكن حلما غريبا بدأ يغزو منامي يرعبني ويرعب طفلي، لم يكن أضغاث أحلام تأتي عابرة وتذهب، كان حلما متكررا يظهر فيه حبيبي الليبي أبو طفلي الذي التقيته في بانكوك، وأحببته حتى النخاع، وضاجعنى دون اعتراض أو ألم ممزقا كل واق بلاستيكيا يمنع امتزاجنا، أخي أيضا لم يعترض، كان عصريا منفتحا، متفهما لحالة حبي له، وعندما يتكرر الحلم نفسه وبإلحاح فمعنى ذلك أن خطبا جللا قد حدث، ليس أمامي إلا شد الرحال إليه في وطنه الليبي، ربما يكون سجينا فأتوسط له لدى عشيرتي القطرية ذات الحظوة والاحترام في الوطن الليبي الشقيق، وربما يكون جائعا فأطعمه أو ظامئا فأسقيه، أو مكبوتا فأنام معه وأمتعه، لم آتي إلى ليبيا بسبب ابننا وأوراقه، الأوراق لا تعني لي شيئا، وفي أي لحظة يمكنني تدبيرها، أتيت من أجله هو لأني أحبه، من أول رشفة قهوة معي ارتشفت روحه وارتشف روحي، كانت القهوة في مقهى ستارباكس ببانكوك رائعة لذيذة ذات مذاق يربط ولا يحل، يهيج ولا يخمّل، يثور ولا يستسلم، وها أنا هذه تأتي باحثة عن حبها، وإن لم تجده فلا مشكلة، سأتقدم بحلمي هذا إلى وزارة شؤون الأحلام ذات الشهرة العالمية ليس لبيعه كالليبيين إنما لتفسيره وتحليله واستخراج قشدته التي إن كانت جيدة أو سيئة سأرضى بها قدرا شهيا وألحسها.
لحبيبي طفلة حلال في بداية الرواية ينظر إليها ويكتب، والآن قرب نهاية الرواية أحضرت إليه طفلنا الحلال لينظر إليه هو الآخر ويكتب، الحلال الوحيد الذي أومن به هو الحب، أحب حبيبي كثيرا جدا، أحبه موت، لكن حبيبي لا أجده الآن، أين أذهب يا ترى، البلاد في حالة حرب مع الأحلام، الكل رافع سلاحه إلى أعلى مترقبا غزو السماء، أين كان يسكن حبيبي؟، كان يغني دائما درت:
"المحيشي مالقيتا ريدي.. روحت نمسح في دموعي بيدي.."
إنه يسكن في حي المحيشي، تذكرت الآن، حي شعبي جميل، يقطنه الناس البسطاء، هو منبع للفنانين الشعبيين الموهوبين والرياضيين والشعراء والموسيقيين منه المطرب الشعبي الكبير أحميده درنة والفنان الكبير عبدالجليل الهتش والموسيقار الشاعر الفيتوري أحمد والمطرب الشاب إبراهيم الصافي والمطرب المخضرم سعد الوس وغيرهم، اكتريت سيارة أوصلتني إلى هناك، الكل يعرفه هناك، لكن لم أسأل أحدا، عرفت البيت من وصفه لي، بيت على الشارع الرئيسي، بابه يفتح شرقا، تنسكب من على واجهته دالية عنب كثيفة مثخنة بالأوراق الخضراء وعناقيد العنب الأسود، رحبت بي أمه وكل أسرته، قدمت لهم الطفل الشبيه بأبيه، عرفوه بفتحات أنفه الواسعة وبقدميه المقوستين قليلا إلى الداخل كلاعبي كرة القدم المتمركزين في الجناح الأيمن، ابتهجوا به ورقصوه وقبلوه ووملئوا بشكانه بالحلوى، قابلت زوجته وبقية أبنائه الذين احتفوا بي وبأخيهم الصغير الذي لاعبوه وفتحوا له التلفاز على قناة الجزيرة للأطفال فأخذ يضحك ويبتسم وعرف الشوارع والمنتزهات والملاهي التي كنت أخذه إليها هناك في الدوحة.
سرعان ما اندمج الطفل مع إخوته، أما زوجته فقالت للخليجية مرحبا بك، البيت بيتك، وإن ماشلتكش الأرض تشيلك رموش عينينا، لقد قرأت شيئا ما في الرواية حول فتاة خليجية التقاها محمد في تايلند ونام معها، لم اكترث ولم احتج، كنت أظن أن الأمر مجرد خيال، والآن وقد وقعت الفأس في الرأس، والخيال صار واقعا من دم ولحم وطفل أيضا يمرح فما علي إلا الصبر، وعموما مرحبا بك وبطفلنا الجديد، والبيت بيتك.
أنت الآن من العائلة ولابد أن تعرفي كل شيء، المجنون زوجنا غائب منذ زمن، ربما هو في العاصمة الآن، حيث الجبهة الرئيسية للحرب، هو يقاتل إلى صف جيش الأحلام، يختبئ في مكان ما، وربما يكون خارج البلاد، ويرسل أحلامه تقاتل مع أحلام السماء الباحثة عن قبور الضحايا أو حفرتهم الجماعية.
كما أخبرني عبر رسالة إلكترونية ينام قليلا فيدخل رأسه حلما فيأمره بالخروج والانضمام لجيش الأحلام، يقول له أنا لا أبيع أحلامي للدولة، ولا أعتمد على ريع أحلامي في الحياة، بإمكاني العيش والنوم من دون حلم، إن كنت تحب التخلق في رأسي العظيم هذا فأخرج الآن وانضم إلى جيش الأحلام، قاتل معهم وأبحث معهم عن رؤوسهم الضائعة، قضيتهم أيها الحلم عادلة ومشرفة، وإن مت فيها ستدخل إلى جنة الأحلام أكيد، اذهب حارب بشراسة وبعدها تعال وأخبرني بالجديد.
مجنوننا يعتبر القضية قضيته ومشروع البحث عن الجثامين مشروعه، البحث عن القبور قضية تهمه، فلديه أخ من ضمن ضحايا المذبحة، الآن ليس وقت عتاب ولوم وغيرة ومشاكل بيننا وبينه، الآن البلاد تعيش أزمة ومعركة مع كائنات الأحلام، فيما بعد نتفاهم ونتعاتب ونناقش موضوع زواجه دون علمي بالتفصيل.
الحقيقة أنه لم يتزوجني، أقام معي علاقة عابرة وهو يكتب روايته هذه التي تبدأ بصورة طفلة متأملة شعرها أكرد يشبه شعرك وعيناها تشبه عينيك أعتقد أنها أنت بل أنت، علاقة عابرة لكنها عبرتني وأنتجت هذا الطفل الذي ملأ حياتي سعادة، لم أرض أن أجهضه، إحساسي بأنه سيكون كائنا مهما منعني من ذلك، وقبل ذلك رفضت فكرة الإجهاض من الأساس لأنه مني ويخصني، لا أحد يقتل نفسه، مسألة الزواج والدين والعرف والقانون والشرف يمكن حلها لاحقا، كنت أظن أنك طفلة صغيرة، ملهمة روايات، أو شيء من هذا القبيل، رأيت صورتك في بداية الرواية وقرأت كلمات عنك في فصولها الأول، لم أكن أظن أنك كبيرة وزوجته، وعموما لا عليك، مبروك عليك المجنون، لن أنازعك عليه، أنا جئت لأني حلمت أنه في خطر، أحاول أن أساعده وبالمناسبة يرى الطفل أباه، لقد جنني بكلمة أين بابا؟،و بالمناسبة أيضا يلتقط معه صورة تذكارية، لن أقتحم حياتك، على الرغم من شعوري أن حياتنا قد امتزجت الآن وتقاطعت مع بعضها في مصير واحد، خاصة وأن طفلي لم يجد نفورا من إخوته وهذا بفضل تربيتك لهم على الحب والبراءة والتسامح، أنظري إنه سعيد يلعب معهم وهم سعداء جدا به، إنهم أطفال مندمجون، دعينا نندمج حتى نحن، سأصغر وأكون طفلة، وأعود في الرواية إلى الوراء، إلى الورقة الأولى منها، وأصافح وأعانق الطفلة العميقة، آه كم هي هادئة وطيبة وجميلة، سأعانقها بحب كما أنت تعانقيني الآن في سعادة، نتعانق صغارا كما نتعانق الآن كبارا، هل أنا في حلم أم علم، طفلة تكبر وتعانقني الآن، وأنا أصغر وأعانق طفلة في بداية الحياة الروائية، وطفلي يلعب مع إخوته، مندمج معهم، اللهجة الخليجية والليبية لم تكن عائقا، يتفاهمون فيما بينهم بلغة الطفولة ولهجة الشقاوة ها هم فجروا له بالونته الصفراء وها هو ينهب من أخته عروسة ويهرب بها إلى الحديقة أوه ه ه ليته هرب بها إلى الجحيم، هههههههههه لكن بيتنا جنة.
ها هي الأحلام تنسحب فجأة مجددا، هذه المرّة ليس بسبب اعتقال أسر أحلام رجال الأمن الذين فقدوا حياتهم في المواجهات، فذلك الملف تم علاجه وإطلاق سراحهم جميعا ورش قبور أبنائهم بالماء وإعادة أكاليل الزهور عليها وتعيين خفراء وبستانيين من أجل رعايتها وحفظها من الجفاف والإهمال وعوامل التعرية، أيضا تم الاهتمام بأسرهم ومشاكلها الاجتماعية والسياسية عبر تعويض مالي باذخ يمكنهم من حل تسيير أمورهم بصورة جيدة، لكن صعدت لسبب آخر، غير معلوم للدولة، لكن لا يهمها أن تعلمه، يهمها فقط أن تحل عنها، أن ترحل عنها هذه الأحلام وتريحها من غزواتها التي سببت لها إرهاقا وإنفاقا ماليا باهظا، لقد ارتقت الأحلام فجأة وبسرعة بسبب مذابح مثل مذبحة بوسليم حدثت في وطنها العلوي، الدنيا فوق تاكة في بعضها، مشتعلة جدا، فالحياة في السماء كما في الأرض لها مشاكلها أيضا، في دنيا الأحلام هناك مذابح أخرى أيضا، تحتاج إلى جهود الأحلام كي تعالجها، وتسوي وضعها، الكثير من مناصري الأحلام في دنيانا يصعدون فجأة للسماء بأحلامهم إلى الأحلام للقتال معها، يصعدون بسرعة خاصة عندما يرون الظلم أو الجريمة قد وقعت أو واشكة الحدوث، هناك أناس كثيرة في عالمنا انتحرت فجأة، ليس بها مرض نفسي أو عضوي، فقط رأت جريمة في السماء فصعدت لمنعها أو نصرت ضحاياها ومواساتهم، أناس رائين تموت لترتقي إلى أعلى لتحلم هناك وترسل حلمها ليقاتل في عالم نظيف نبيل غير عالمنا هذا، انتحروا لأنهم يروا أكثر مما يرى البشر العادي، انتحروا ليصعدوا إلى الغيب، يصعدون دون خوف، يقول القائل منهم نحن نخاف من الغيب، والغيب عندما نحضر فيه يخافنا، تشجع أيها الجبان وجرّب فقط.
كثير من الفلاسفة والمفكرين والأدباء انتحروا، لكن للأسف الشديد لم ينتحر أي طاغية، انتحار هتلر أو غيره من الانتحاريين المتطرفين لا يسمى انتحارا، إنه هزيمة، استسلام، أمر واقع فرض نفسه، فالموت قد حاصره من كل مكان وتمكن منه، سينتحر، ليس لأنه رأى ظلما في السماء يرغب في الصعود إليه لمنعه، ليس من أجل القتال مع الأحلام، لكن لأنه سيقتل من الأعداء شر مقتلة، ومن هنا يقتل نفسه أفضل ويتجنب إكمال المعركة والمباراة إلى آخر دقيقة وإلى حتى انتهاء الوقت بدل الضائع الذي من الممكن أن تحدث فيه معجزة تقلب المعادلة لصفه، لكن لأنه غير مؤمن وواثق من نفسه، يختار الحل الأقصر وينسحب مبكرا في خزي ودمار، لا أدري لماذا، ربما سيجد إله يتفهمه ويقول له شكرا، لقد أتيت بنفسك قبل أن أطلبك.
سأترك الكتابة الآن.. القصيدة الممتعة كتبتها.. الرواية الممتعة كتبتها.. القصة الممتعة كتبتها.. المقالة النقدية الممتعة كتبتها.. لكن لن أنشر هذه الممتعات الآن.. فهذا العالم لا يستحقها.. لا يستحقها سوى الله.. سأنتظر المثول بين يديه وأنشدها له.. وبعد ذلك يمكنه أن يضعني في النار أو الجنة.
الله يعلم ما كتبت وما سأكتب، وعلى الرغم من ذلك يمنحني فرصة للتدارك، يمهلني دائما، يمنحني أبدا مفتوحا، عالمه شاسع ولا محدود، كريم رحيم لا يشبه مخلوقاته التي لا تمنحك أي فرصة وتقضي عليك متى ما عرفت أنك موهوب، أنك مبدع، أن كلامك في مضمار الحياة يصل إلى خط النهاية قبل كلامها.. اللعنة على مخلوقات لا تقتنع بالميدالية الفضية.
سأقرأ مقاطع من قصيدة رائعة لصديقي الشاعر الليبي عبدالسلام العجيلي أحس أنها تحلم بي الآن، القصائد تحلم بالمبدعين، المبدعون يحلمون بالقصائد، كلاهما الآن في نعاس إبداعي سأنشد القصيدة الآن:
أنا لن أشرب من ماء البحر
حتى وإن كان الليل بطيء الكواكب
والشوارع بلا أحلام
سأسخر من كل فجر باهت
ومن كل نهار
مغشوش
ولن أسمح للغبار
أن يعتلي دفء الكلام
سأروي لأولادي
قصة"الرجل"الذي جرّى
بعكازه ساقية
فأشعل البلاد
بالغزل والغناء
سأقرأ في كتاب شعر استعرته من مكتبة الكاتب الليبي أحمد الفيتوري، مؤلفه الشاعر خالد مطاوع، للأسف أرسل لي نسخة بالأحلام، لكن في الواقع لم يرسل لي، نسخ كثيرة متبعثرة في مكتبة أحمد الفيتوري، التقطت واحدة، شطبت على الإهداء المدون في الصفحة الأولى وواصلت النعاس، واصلت الحلم، أنا في الطائرة الآن، في طريقي إلى طنجة، أقرأ ديوان صديقي خالد على مهل، انتهيت منه في ساعتين، وفي الليل بعد سهرة ممتعة في حانة البريد امتدت إلى حانة أخرى قرب البحر مع الشاعر إدريس علوش والناقد يحي بن الوليد ومجموعة من الأدباء الشباب أصدقاء محمد شكري فتحت الفيس بوك ووجدت رسالة من جريدة العرب تعاتبني لأني لم أكتب شيئا منذ مدة، وبالفعل أوقفوا مكافأتي الشهرية، وأنا أحتاج دائما إلى المال، كي أنفقه على رحلاتي، معي هذا الديوان، فلك الأصداء، قلت لنفسي شكرا خالد ديوانك رائع، ممتعة الكتابة عنه ووعدتهم أنه بعد ساعة سأرسل لهم مقالة جيدة عن ديوان وشاعر من العيار الثقيل أرشحه بجد لنيل نوبل ذات عام وحتى يطمئنوا قلت لهم وأيضا ليس لديه مشاكل مع الدولة الليبية، أي في السليم، وأي أبيات بها إسقاطات أو مناوشات مثقفين للدولة لن أدرجها، وعاهدتهم أن لا أتوقف مجددا عن الكتابة، لقد كنت منهكا جدا من الشراب والطعام وقلت سأنام ربع ساعة على الأقل وفي المنام زارتني هذه الكلمات، أو بالأحرى حلمت بهذه الكلمات، فأخرجت يدي من تحت اللحاف، وتركتها ترقن براحتها على لوحة مفاتيح الحاسوب، تركتها تحلم على راحتها وتغني وتعلن أن الشعر كالأحلام كالطفولة أمر محير، شيء غامض، طيف يمر بسرعة ولا نتمكن من إمساك كل جزيئاته، ما نقرأه هنا وهناك من قصائد ليس كل الشعر، ليس كل الدوامة التي تصول وتجول في أعماق الإنسان، كل القصائد نتف صغيرة، قابلة للإنبات في خصب الأحلام، كل شيء نشعر به لا يتكرر مرة أخرى، كل شيء نشعر به يموت، ويترك صدى له يبحث عن موعد للقدوم إلينا من جديد، كل الشعر بصمات، كله منطلق إلى ما لا نهاية، كله قابل للتطور.. تطور.. تطور.. تطور.. توقف لا.. موت جامد مكتوم دون صدى لا، عدم لا، إن حدث التلاشي فبأشكال مختلفة، لا تشابه في أي شيء، لا تشابه في الموت، لا تشابه في الحياة، لا تشابه في الآلهة، لا تشابه في الأحلام.. فلك الأصداء ديوان الشاعر الليبي الأمريكي خالد مطاوع يمكننا أن نقرأ ه كحالة شعرية ممتدة من حواس الشاعر إلى نواة صدى لا متناهية، تخيلها الشاعر أو عاش في ربوعها، حقيبة سفر تتطاير من مكان إلى مكان، تحول مشاعرها ومحتوياتها ساعة تلبس أو تستعمل إلى مقاطع شعرية لا تكتمل دورتها، دائما تترك كوة أو ثقبا صغيرا يمكن القصيدة من رؤية النور الجديد عندما ترحل في الحقيبة مجددا، يفتحها الجمارك ويحملها الحمالون في عرباتهم، وتبيت في الأقبية وحيدة، تحس بالبرد فتشعل بضع كلمات، تحس بالحر فتستعير من نخيل قصائدها مروحة سعف أو تفتح فمها لنسيم عليل من إحدى وديان قصائدها، لم أجد نفسي وأنا أطالع هذا الديوان أمام مجموعة قصائد، لكن شعرت أني أمام حالة واحدة يعيشها الشاعر وينقلها إلى خارج نفسه، ينقلها كاملة بتاريخها وتضاريسها ورائحتها ومذاقها، ملامسا وجدانيا كل من يلتقيه في هذه الحياة من سعاة بريد وسائقي أجرة وندل وعساكر ورؤساء وباعة جرائد وحليب وخضر، صانعا كما يقول مدينة عذراء بلا شيء بلا رتوش بلا تلوث ديدن كل الكتاب والشعراء الكونيين الطامحين لخلق عالمهم ومدنهم التي تعنيهم وحدهم، هذا الوحدهم الذي يمثل كل القراء وكل الأصدقاء وكل الحياة بحذافيرها إن كان لها حذافير:
مدينة بلا كلمات..
ليل بلا ليل
في مكان ما أتذكّر
هذه الثياب ليست ثيابي
هذه العظام ليست عظامي
أنسى وأتذكر ثانية
سفن في ميناء، تلك التي هي البحر
هي الرحلة
التي توقظ نورا في صدري.
البحث عن النور في الصدر.. البحث في قلب الظلام عن قبس يضيء الدقات التي تخلق مظلمة.. يحتاج إلى فجر.. فجر من الأحاسيس البكر التي تترك تتخلق دون تدخل منا.. تترك تضيء على سجيتها.. لتمنحنا نورا لا يحتاج لظلام كي يُرى، نور يُرى حتى في عالم النور، نور مفعم بالحياة، لم تنتجه نضيدة، ولا نهار، ولا فلك، أنتجه صدى نجا من موت الولادة، صدى ارتطم بعازل الفناء وعاد ليزرع دورة جديدة، وابتسامة سخرية من كل شيء، ابتسامة مغموسة في خميرة الضحك، القهقهة، الجنون، ابتسامة متلونة، نابتة في حقل، مرتوية من الماء والشمس، مانحة للحياة خضرتها ولرئات المدخنين خصوبة طازجة:
عشب الشعير أخضر طيلة الشتاء
وبذور البازلياء في راحة يدي كحبيبات خميرة
حاملة ذات الوعد بالنمو.
طيور الضحى تنعب،
الفضة المزرقة
على أجنحتها نقود مسروقة من الشمس.
لا أدري كيف أتعامل مع هذا العمل الإبداعي الكبير، من الصعب أن تتحدث عن فقراته كلها، لكن يمكنك أن تعيش هذه الفقرات، يمكنك أن تتخلى عنها وتكتب قصيدتك الخاصة، تكتب عن حياتك، عن عالمك، عن أسرتك، عن يومياتك، عن الأشياء البسيطة المهملة العابرة في حياتك، تتحدث ليتحول حديثك إلى شعر، فأنت تقرأ ولسانك الذي ستتكلم به مغروسا في قلب القصيدة، قلب النواة، البذرة النامية داخلك، المرتوية من روحك والمرتدية مشاعرك وأحاسيسك بمختلف أنواعها، هذا الديوان عبارة عن ورشة شعرية، تستفزك، تجعلك تكتب مثلي الآن، تجعلك تكتب دون أن تتطرق إليه كثيرا، لأن ما به لا يهمك شخصيا إلا في القليل منه، ما به يهم العالم كله، وأنت وأنا لسنا العالم كله، نقرأ في هذا الديوان كلاما عاديا، أخبارا، جملا تمنحنا صورة فوتغرافية دالة وعميقة لحدث حدث أو يحدث أمامنا، ليس به الصور الشعرية العربية التقليدية المألوفة، ليس به البلاغة التي درسناها في المدرسة كناية مجاز تورية الخ، ديوان مثل نشرة الأخبار أو البرامج التي نتابعها في قنوات العالم، نجد فيه أيضا حتى صور قلمية أو قصص قصيرة جدا، لكن داخل الديوان لأنها لم تكتب وحدها ووظفت داخل سياق معين فلا ينبغي أن نعتبرها سردا وسنعتبرها شعرا كما في نص بعنوان سليمة ! صفحة 100، والذي يبدأ بــــــ:
"كان لبنات عمي ببغاء لا ينادي إلا باسم واحدة منهن. وحين ينادي باسمها يغلق عينيه ويمد عنقه الأزرق كما لو انه يبلع ريقه أو يتنحنح.. كنت أركض إلى المطبخ وأحضر له حبات فول سوداني يأكلها ببطء مقصود. يلتقطها من راحة يدي وتطقطق داخل فمه الأسود كأن أحدا ما يدق على الباب بحذر. كنت أتوسل إلى الببغاء مناديا ابنة عمي مناديا بكل الأسماء التي أعرفها. لكن الببغاء كان ينظر خلفي وكأن الصيحات التي أطلقتها باتت عبئا يعاني حمله، كأنها جلبة صادرة من منزل مغلق لا أمل في فتحه.".
ما لاحظته في هذا الديوان أنه يجعلك تكتب، يجعلك تواصل ما بدأه من قصائد، يمكنك أن تضيف للقصيدة من عندك، يمكنك أن تعبث بها قليلا وتغير فيها، لن يخرب شيء، ليس بها أقوال مأثورة يمكننا أن نضعها رؤوس أقلام أو نزيّن بها افتتاحيات مقالاتنا أو رواياتنا أو يومياتنا، ورشة لعينة من الكتابة، تتشابك فيها المطارق بالكاشطات بالمذيبات بالمعاول بالنار بالثلج بالليل وبالألوان، ريح من الكلمات تأخذك زوبعاتها، تدور بك وترمي بك عشوائيا لتنهض وتواصل سكرة الدوران فيها، ريح تشرب نخبها، صوفية عولمة وحداثة وتجريب وأشياء جديدة لم نألفها في قصائد سابقة يستعرض فيها الشعراء بطولاتهم وحذلقاتهم وقليل من ألعابهم، في هذا الديوان نرى البساطة، طفل يعيش في أسرة في عمل في عالم يتحدث بلغة عادية عن أمه وأخواته وعماته وجدته، عن قراءاته، عن رحلاته، عن السياسة، عن التلفاز وملاعب الكرة، عن الحياة اليومية والشهرية والسنوية والأبدية، يحاول بقصيدته الطويلة هذه المفككة إلى أجزاء تسلق الريح ليزرع وشيجة في تربتها الهوائية:
الريح
تدثرني في نزهاتي الليلية
تنادي اسما أفترض أنه اسمي
تعلن الأشجار
وتخبر العصافير بسرها
الريح التي تهب عبر نافذتي
هي الريح ذاتها
البعض يستقبلها بصرير
البعض يتبلها بطعامه
البعض يحمّلها أنغامه
ويرشق الأرصفة بإيقاعها
والبعض مثلي يدعها تهب
عبر بيته لتخرج أينما تشاء
الريح ذاتها
القوة ذاتها
التي تصِلُ وتقطع.
قصائد معدنية إلكترونية ركب شاعرها على براق النار كي يجول بين أفلاكها ويلتمس أصدائها، محاولا أن يتصدى لرعب العالم ودماره، بتعابير عاش سعادتها الماضية وأحبها أن تمتد ململما إليه كل مسراته ورابطا مسيرته التي بدأها بأقطاب نورانية من متصوفين وشعراء كبار وأناس بسطاء لا شهرة ظاهرة لديهم، لكن القصيدة انتشلتهم وجعلتهم أعلاما أبدية خالدة، قصائد تمنح للحياة قيمتها، وتبذر خميرة المساواة والتسامح في ماء مطرأهداه لنا الحب الذي تركناه وهربنا بعيدا عنه ظانين أننا نحن الحب نفسه والقوة نفسها لكن كنا مخادعين وكاذبين والقصائد المنبثقة من أعماقنا فضحتنا، إننا نتألم الآن، ونبحث عن دواء، إننا نقرأ هنا وهناك، نبحث عن الإكسير والترياق وجدنا الصدى ولم نجد من أطلق الصرخة.. سأصرخ الآن ووو ه ه ه وه وه وه وه وه وه وه وه وه وه وه وه وسأضحك أيضا هههههههه ههههه هههه.. وأقول ستقرأني النار ولن يقرأني من أشعلها.
نرجع لموضوعة الأحلام، الأحلام صعدت، لديها ما يشغلها، الوزارة تم قفلها، ما عادت الدولة تعتمد في سياستها على قراءة أحلام الناس، صارت تحلم بدلا منها، وتصدر قراراتها وفق أمزجتها وأهدافها وبالدرجة الأولى مصالحها، صار الوزراء يحلمون نيابة عن الشعب والرئيس أو الملك أو الزعيم يحلم نيابة عن الوزراء والأحلام العادية في رؤوس الناس عادت من جديد إلى طبيعتها، يحلم الإنسان ثم ينسى، لم تعد هناك وزارة تشتري الأحلام منه، امتلأت الرؤوس بالأحلام، كل حلم يهبط إلى تحت يعشش في الرأس، يرفض الصعود مع طلوع الفجر أو يقظة الرأس من النوم، الحلم يرفض العودة إلى مأواه في عالم الغيب الذي لم يعد آمنا كما ذي قبل، يهبط الحلم ويدخل الرأس ثم يتشبث بها، يقول هنا حلمت وهنا سأبقى إلى الأبد، يطلب من الرأس اللجوء السياسي متخليا عن وطنه الأم المنطلق منه، في الأعلى أحلام كثيرة جدا، أحلام لا تحصى، أحلام بعدد الحيوانات المنوية والبويضات الضاربة والمتفسخة في العادات الشهرية، كل حلم يفر إلى أسفل ويجد رأسا يدخلها يشعر بالسعادة، بالراحة، يشعر أنه صار له وطنا يعيش فيه وهو الرأس ومع أول نعاس يستعد، يبدأ دورة حياته، يبدأ في حراسة الرأس، لا يترك حلما آخرا يدخلها معه، يذود عن حماه ببسالة، يطرد أو يقتل كل الأحلام الحائمة حول تخومه، لا ينام دقيقة، لا يسهى، لا يفتح فمه، يحلم في الرأس حلما واحدا، ينوعه لها، حتى وإن تعددت مشاهده سيظل حلما واحدا، القائم به واحد، وهذا أمر رائع، يتماشى مع التوجهات الإستراتيجية للأمة الليبية العظمى، شعب واحد علم واحد كتاب واحد دين واحد بطل واحد دم واحد موت واحد قتل واحد ذبح واحد حلم واحد رأي واحد...الخ، استفادت الدولة من هذا الحلم الموحد، وشجعته ودعمته بكل الإمكانيات حفاظا على أمن الوطن الواحد، فلا بأس أن يدخل الحلم للرأس ولا يخرج أبدا، أي من لديه تركينة يحافظ عليها ويثبت فيها، الدخول والخروج يسبب لنا الفوضى، كل حلم يدخل إلى الرأس عليه أن يسكنها إلى الأبد حتى يموتا معا، مسألة توريث الأحلام غير واردة، مسألة يخرج حلم ويستخلف حلم آخر من أرومته في مكانه غير واردة، الأحلام مخلوقات فردية، كل حلم خلق على حده، كل حلم ليس له أسرة، الأحلام لا تتزوج، لا تتناكح مثلنا، مخلوقات فردية أنانية، تدخل الرأس وتبقى فيها، حلم واحد في الرأس يتلون كالحرباء ويتشكل كمنافق ولا يثبت على رأي أمر جميل، حلم واحد في الرأس حتى وإن نوّع أحلامه ليس منه خوف أو مشكلة، المشكلة إن دخلت الرأس أحلام كثيرة مختلفة عن بعضها البعض، إن حدث ذلك ففرقعوا ناقوس الخطر، عندما تدخل الرأس أحلاما متعددة ومتغايرة تجعلها تفكر كثيرا، تتثقف، تحاول تحويل بعض الأحلام التي أقنعتها أفكارها إلى واقع ملموس، تتحول الرأس نفسها إلى حلم يبحث عن رأس راقدة على أذنيها فيدخلها ويحلم فيها ويعبث بها، تتحول الرأس نفسها إلى حلم ثوري، حلم حر، يقفز بقوة وجرأة في بحيرة الواقع، يرفع منسوب مائها، يغرق الشوارع والمباني والمخابئ، الكل يطفو فوق سطح الماء، الحقيقة ساطعة فوق سطح الماء، الكل يغرقه الطوفان، ومن لديه أعلى حلم يتحوّل حلمه إلى طوف يبحر به رغما عن أنفه في اتجاه التيار، حيث الهاوية، الهاوية وإن طالت الطريق، فالماء لا يصعد لأعلى، بينما الأحلام تصعد إلى المستحيل.
سألتني طفلتي العميقة على حائط صفحتي في الفيس بوك www.faceboo.com:هل أعجبك الوضع الراهن لليبيا أم لا؟
بسرعة ضغطت بسبابتي وكأنني أبصم على زر أعجبني.
تمت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتبت مادة هذا الرواية في: ليبيا ـ تايلند ـ المغرب ـ الجزائر ـ سوريا ـ تونس ـ مصر 2009 - 2010
ــــــــــــــــــــــــــ
محمد الأصفر ـ روائي ليبي ـ بدأ الكتابة أواخر عام 1999م
صدر للكاتب: روايات:
المداسة ـ تقودني نجمة ـ نواح الريق ـ شرمولة ـ سرة الكون ـ ياناعلي ـ شكشوكة ـ عسل الناس ـ ملح ـ فرحة ـ
قصص قصيرة:
حجر رشيد
حجر الزهر