لفظ فورانه تماما. الفوران النهائي تم على يدين معروقتين. الهامد الآن أسلم ذروة فوراته، وبخاره تقطر عمودا نديا فوق صناديق متراكبة في المستودع. كانت ذات اليدين المعروقتين قد وصلت لغرفة التجميد تشع بقوة غامضة. بعد أن أفسح لها عساس الجثمان، اختفى، ولم يعد. لم أدرك ما القدر الذي طوح بي قريبا منها. تجعداتها اتسعت، وعلى الأصح مططتها لتفرج عن ابتسامة باردة، بل هي ميتة؛ بها أبلغت فحوى ما أرادت، ثم مصمصت شفتيها. هممت بالمبادرة، لكن ما لبثت أن تواريت إلى الخلف سادرا، وهرقات ماء تتوالى في تقطع. لم أعرف على وجه التدقيق إن انطلق العمل تدليكا، أم تشريحا في برنامج نشاطها السريري الذي ترعاه بمفردها...
- ما بك؟ لم أنت ساكت هكذا؟!.
اجتزعني صوته كمن أوقظ من غفوة في عمق جب. كان لا يزال ينقر المقود بأصبعه، وزفير المحرك رتيبا يتواصل. لهاث أنفاس لا ينقطع، جحيم من قيظ، لهيب خانق، والحياة توقفت خلف المقعد الأمامي. الألواح منطبقة، مركونة وراءنا، مختومة بالشمع، ومؤشر عليها. تم هذا بعد سلسلة إجراءات ممتدة صعودا وهبوطا عبر مصالح مختلفة. المهم الآن هو هذا الشمع، الضامن الوحيد للطمأنة. لقد منحني ضربا من الأمن بعد أن ختم به شرطي مقدمة التابوت، وراح لحاله مزهوا. هذا الشمع دون شك، هو صمام الأمان بيننا...
التفت إليه مجددا، وقد سحقني؛ إذ شرع يغني فجأة. هالتني رنات هادرة ذات نقلات عذبة؛ تصدر عن صوته المبحوح بالسجائر. أتم مقطعا أخيرا بولع متدرج إلى أن اندفن، فقال:
- أنا عاشق صوتها الملائكي أبدا. كلماتها تسري في الروح... ثم باغتنى كمن يمتحن :
- قل لي يا أستاذ : ما الفرق في أغنيتها بين عبر، وعبر، وعبر، وعبر؟؟!.
أطرقت مكظوما كأبكم، ثم عاجلته قائلا:
- لا أذكر شيئا!.
- هل هناك ما يقلقك؟.
كتمت إجهاشي بالمرارة، ورجمته بنظرات مغتاظة. أردت أن أشعره بحنقي، بقرفي منه؛ لعله يتوقف، لكنه زاد على كل ذلك، ورفع صوته صادحا.
- ما هذا – قلت للهيكل الآدمي – أتغني وبصحبتنا تابوت...؟!.
- انتهى عمله يا سيدي. فمن لم يمت بالسيف مات بغيره... نعم ماذا تقول؟ أليس كذلك؟!. لا تهتم لهذا.هذه هي الحال. في الموت خصوبة تجدد الأرض...
صمت برهة، وعاد للتغني. تبدى لي أنه مصاب بالأمنيزيا. أخذت أتقرى أعراض دائه. لم يعد بمقدرتي إخراسه. لقد طوقني صوته قسرا. ترنيمه طروب، وجسور على التشكل حسب تلاوين اللحن ومقامه. صوته رخي، أجش ومبحوح معا. ربما كان حلمه الأول أن يصبح مطربا، فاكتفى من ذلك بالغناء أثناء ملازمته الجثث صباح مساء... خرجت بالكاد من طوق صوته، لأستجلي ما يحدث خلفنا. كنت أطمئن فقط على الصفق الشمعي المدور؛ الذي تركه مدمغ نحاسي تقوست على جنباته كتابة ما، دقيقة كهيروغليفية أولى؛ لم أفقه من أثرها شيئا يذكر. مالك المدمغ كان قد سر بما حصله عن عمله، ومشى إلى الأمام بخطوات رجل وثوقي وهو يتبسم، وتركني عرضة لحشرة اجتماعية تقتات على الرفات، وتغني أيضا.
في نقطة ما تناهى صوت المكابح مرتجا؛ إذ حصرت السيارة على الفور أمام دركيين، وجوقة تتجمهر. كان طفل في عمر زهرة تتفتح؛ قد طحنته عجلات رهيبة على الطريق السيار. التوقيف المفاجئ تم بسبب تعريف أخضر على الباب الأيسر: نقل الموتى. وعلى الباب الأيمن: لا إله إلا الله محمد رسول الله. جحظت عينا الرجل. ودون أن يسأل، قال على الفور وبحسم: سأنقله أنا. ليس هناك آخر الآن. سأعود حالا.
ضغط على الدواسة، وها السرعة الخامسة تلتهم الطريق. لا أحد يمكن أن يهرب من قدره. إنه مأتم سيار. الألم في تفادي الخطر فات أوانه. وحتفي وشيك عند أي منعرج أو تجاوز. لكن الألطاف كانت رحيمة بنا. نجونا أخيرا. بالتحديد هو الذي نجا. إنه هيكل متكلس ناج دوما كما قال. لقد نجا، ونجوت برفقته. لا شيء يدعو للعجلة. أعنته على إنزال التابوت أرضا. لحظتئذ تبين أنه أحدب. نعم أحدب مسكوب من صخر. وعلى عدائه الغريزي، فهو ذو تقنية خفيفة، سريعة، ومضبوطة. ساعدته؛ بينما لجة من أصوات كانت تنتظر، فانطلقت دفعة واحدة. نحيب، صراخ، ندب، عويل، لطم، ولغط، وأنين مؤلم. لم يمهلني الأحدب ما يكفي لتقديم العزاء لأقارب الفقيد. أصر على مبلغ باهظ، ولا درهم نقصان، ثم أولجني بقوة مشوبة بشبه أدب إلى مقعدي الواطئ، وتقافز يمتطي مقعده العالي. أغلق الباب. تسارع نبضي. غادرنا على عجل. اندلقت حنجرته بالغناء على أزير السرعة الخامسة، وقد انطلقت على توها. غنى هذه المرة بنبرة مرح زائد. وما هي إلا دقائق حتى كنا وسط الحشود. لم يبق هناك من أثر للدرك. فك السرير من رباطه، وسلمه إلي فيما أخذ يسوي مدرجاته. ولما وضعته؛ قال بصوت الأمر:
- لفه بالغطاء. ضعه هنا. هيا. يا الله.
استدار جهة المتجمهرين آمرا في خبث بين:
- تفرقوا. اتركونا نعمل. يا...
لففته في ثوب أبيض، واليدان مرتعشتان. كان الجسد الطري في أفظع حالة لتشوه الكائن. وضعته على مهل...أواه بقيت أسنانه الحليبية مدكوكة. لقد سوتها العجلات الملعونة على وجه الإسفلت الأسود. حملنا السرير معا، ووضعنا مدرجاته على السكة، ثم دفعه هو إلى الأمام، إلى أن استقر في مكانه، وأوصد الباب الخلفي.
انطلق بنا المأتم السيار من جديد، والأحدب يلتهم المعي الإسفلتي بدواسة إثر أخرى. دواسات من موت خيمت علينا. كان علي أن أقول خيمت علي. ورأيتني مت عصرا شاهدا على ميتات لا عد لها. أجسام تمزقها قذائف على اختلافها، وثانية يسفك دمها خلسة، وثالثة تفجر شظايا، ورابعة تطحنها آلات الموت على الإسفلت الأفعواني، وخامسة وسادسة... رميم رميم... همجية همجية بلا نهاية. أواه يا عالم !. هل أصبحنا منذورين لكل هذه الفظاعات ؟! أواه، ثم أواه يا متعهد المآتم السيارة دون أن يرف له جفن. (أراك أيها الأحدب اللعين تغدو سائق عربة النار).
إنه حطام إنسان. بالتأكيد سكنت قمقمه المحدب روح شريرة... أصبعه أخذ في نشوة ينقر المقود، ويرتكس آليا مخللا اللحية....
- لا إله إلا الله – قال الأحدب – لقد وصلنا. هناك موتى جدد ينتظرون. هاك رقم هاتفي. أنا موجود. متى شئت اطلبني. أنا في الخدمة متى ناديت علي. الله يلاقينا في ساعة خير أخرى.
والمساء ساجي النور نزلت من عربة الجحيم سادما، عديم الكنه، والسبل تشابكت اتجاهاتها... إلى أين تفضي بنا؟... أين أنا؟... من أنا؟... من هؤلاء؟!... أأطلبه توا؟!... احتقن صهريج الدمع، وغدا حبيسا... كسيرا سرت كمن يسيرون من حولي... لا يهم إلى أين... لا بد أن من يسير يحذوه أمـل مـا.