هل خفف البحر وطأة الليل عن نفسها العليلة؟
ضوء و ساحل. زرقة وفضاء. نداء رقيق هامس. سحر الشعر ينزل سكينة. سرّ يتسلل من ثنايا الأسطورة يحيط البيوت الواطئة و حقول الذرة الخضراء. نافذة مفتوحة على الحلم. تتسع و تتسع حتى تلامس برزخ فرح طفولي بريء، يقفز متخطيا العثرة الأزلية. هل صرخت احتفالا بشهقة الضوء الأولى ؟
تغفل عنّها الظلال فتنسى ما يشدّها للأرض البوار.
يا لهذه الجاذبية كيف تقذف ببرزخ الأمل نحو الحلم الشاسع! أقف مبهورة، متقطعة الأنفاس أمام توأمي. نتّحد، ننصهر، نتوحّد. يتحقق التّجلّي: فاتن / مفتون.
أغوص في أعماق شيء يشبهني، أعلو إلى التفاصيل العارية المشرئبة على الخلود هناك في الافق البعيد المنفتح على اللاشيء.
أشدو بترانيمي، حواسي متوثبة، أسافر إلى أبعد نقطة فيّ. أحيك من تقاطع الزرقة المتموجة عاصفة تصل الكون بدلالته. أسمع همسي. توأمي فاتن يشير لي بيده: عودي فأنت الآن إنسان!
2 الكرسي
مدّ ذراعه بقوة حتى شعر بعضلاته تكاد تتمزق، سحب الباب الخشبي الثقيل الذي أغلق و هو يحدث صوتا كطلقة نارية مكتومة.
نظر إلى السماء فرأى سربا من اللقالق تحوم في الفضاء قبالة ناظره جذلانة مثله بصفاء الصباح الربيعي. سيغتنم هذا الانفراج الذي وعدت به الأرصاد الجوية كي يقوم بجولة كبيرة ينعم فيها بدفء الشمس التي اشتاق إلى ملامسة خيوطها الدافئة الحنونة.
بقيت لأيام عديدة في البيت دون أن أخرج. البيت دافئ، مرتب وفيه ينعم بوحدته و بانغماسه الكلي في عمله.
الآن مع الحاسوب المتطور الذي اقتنيته أصبح الأمر أسهل: عملي كله في البيت.
أغلق بإحكام سترته الجلدية ذات اللون البني الغامق، رفع رأسه، استنشق عميقا و هو ينفخ صدره ثم سار في الممر الرملي الصغير متجها نحو الشارع الرئيسي الذي يمر بمحاذاة أشجار الدفلى بأزهارها البنفسجية المتلألئة تحت أشعة الشمس.
ابتسم و هو يستقبل ضجيج الشارع. يشعر بفرحة صغيرة تترقرق هذا الصباح في أعماق قلبه الذي أضناه المكوث في البيت و الانحناء صباح مساء على حاسوبه ينقر على الحروف ترتسم فراشات سوداء على صفحته البيضاء.
يدور يمينا ثم يسارا. يتوقف لحظات قرب الحديقة العمومية ثم يقرر استئناف السير.
لن أدخل إلى الحديقة اليوم. يتقدم في الشارع الطويل بمحاذاة سورها الشائك و هو يسترق النظر بين الفينة و الأخرى إلى النباتات وإلى الناس يمشون ساهمين بين ممراتها.
يقفز في مكانه على صوت بوق سيارة ضخمة تمر بسرعة البرق على بعد خطوة واحدة منه، و يشعر بيد ترجعه قليلا إلى الخلف. كما يستيقظ النائم من كابوس، يحملق بذهول في الضوء الأخضر و في السيارات السريعة المتلاحقة فوق الإسفلت. يقفز قلبه بقوة بين ضلوعه.
يا إلهي لم أنتبه إلى أني توجهت دون شعور مني إلى نفس المكان كمجرم يحوم حول مكان جريمته.
كان يوما ماطرا و كان يسرع الخطى كي يلحق بالحافلة على الناصية الأخرى من الشارع. هل شرد كما يقع له أحيانا أم هو صاحب السيارة من كان أرعنا؟ كل ما يتذكره أنه أحس بصدمة قوية و بارتطام جسده على الأرض.
حرّك رأسه يمينا و شمالا و هو يزمّ شفتيه ثم دار بكرسيه المتحرك في الاتجاه المعاكس مبتعدا عن المكان.
3 شرود
ملك و ملكة جالسان فوق مصطبة مزركشة ينظران بإمعان أمامهما... الملك يراقص الملكة... يحيط خصرها النحيل بذراعيه... لباسها الأبيض جميل بذيله الطويل المنساب وراءها... يرقصان و يرقصان... يبدو أن الملك أصيب بوعكة. وعكة شديدة. لا حرس. لا جنود. وحدهما في الساحة. يتمدد على الأرض ببطء . وجهه يتلاشى و جسده كأنه يذوب بين ذراعي زوجته. تنحني عليه برفق زائد... وجهها يكاد يلامس ما تبقى من ملامحه. ثم يبدأ جسدها أيضا في التلاشي. هل ريح عبثت بذيل الثوب؟ لماذا يسبح بعيدا عنها كغيمة شاردة؟ تتحلل الصورة حتى تصبح شكلا هلاميا منفرا.
في الجهة الأخرى من الساحة تتقدم الجيوش. فرسان، خيول، عربات، جعجعة السيوف، حيوانات ضخمة، خرافية، شبه أسطورية. رهيبة هذه المعركة. تتداخل الأجساد، تنصهر فيما بينها، تضمحل شيئا فشيئا. تتوالد منها أشكال جديدة أكثر غرائبية...
هكذا يحلو لها قراءة الغيوم في سماء خريفية من خلف نافذة غرفتها.