يرى تودوروف أن النيوليبرالية تتقاطع بشكل من الأشكال المضمرة مع الشيوعية القديمة. وينتابه الشك في جدوى التدخل العسكري بحجة الدفاع عن الديموقراطية أو نجدة الشعوب أو فعل الخير. ويضرب مثلاً بأن حماية الشعب الليبي، لم تتضمن أبداً مساعدة إنسانية، ولم تكن أكثر من استبدال نظام بآخر يوائم مصالح الغرب.

أعداء الديموقراطية الحميمون

لا يمكننا فرض استتباب الخير بالقوة

تزفيتان تودوروف

ترجمة سعيـد بوخليـط

 

فيما مضى، ضمن التوازن بين القوتين العظيمتين توازن الرعب استقراراً نسبياً للعالم. كان، بوسع كليهما "تنظيف بيته" في إطار مجال تأثيره، والسيطرة على أتباعه. لكن، أيضاً، يمثل الواحد منهما، دور الكابح، بالنسبة للثاني. غير، أنه حينما هيمنت على الوضع قوة عظمى أحادية، تجلى خطر اختلال التوازن في صيغة جديدة، ما دام لا شيء سيقف أمام امتداد مجال، تحركها. لقد توخت الولايات المتحدة الأمريكية، أن تصير دركياً للكون، وتفرض إرادتها جبراً، ويدهشنا تفعيلها لذلك عبر تلوينات للخير. يتجند، أنصار هذه الاستراتيجية، مع كل الطيف السياسي الحالي، يميناً أو يساراً. التدخل في كوسوفو، وقع خلال فترة حكم بيل كلينتون، ثم العراق إبان الفترة الرئاسية لجورج بوش. أما باراك أوباما، فقد أشرف على الحروب في أفغانستان وليبيا. لقد بدا معها، أن المصالح العليا للدولة الأمريكية تجرف خلال كل مرة، الآراء والأهداف الخاصة بالرئيس الأمريكي.

على امتداد التاريخ، استندت أغلب التدخلات العسكرية، على هذه الحالة شبه الأخلاقية. لكن، يظهر أنها، ميزت خاصة المسيحية السياسية الغربية. الخطاطة، ذاتها: حين الفعل، يعلنون عن مقاصدهم الكونية والأخلاقية، بحيث يتعلق الأمر، بتحسين قدر الإنسانية أو إحدى جوانبه، مما يؤجج الحماسة، ويدلل بالتالي، كل العراقيل من أجل تنفيذ مضامين مشروعهم (...) فترات بعد ذلك سنة أو قرن، سنلاحظ أن الهدف الذي يزعم الكونية، لم يكن واحداً، بل يناسب بالأحرى المصالح الذاتية، لمن تبنوه. هكذا، يعاهد بعضهم البعض، أنهم لن يقعوا في الفخ، فقط إذا شكلت الوقائع الجديدة استثناء. إجمالاً، تميز الأثر الملموس لهذه المشاريع بالسلبية. وفيما وراء الحالات الخاصة، قد نحدد لها مبرران بنيويان. أولاً، يلغي عنف الوسائل، نبل الغايات، لا توجد أبداً، قنابل إنسانية، ولا حروباً رحيمة. فالمجموعات البشرية التي تطبق عليها، تحصي جثتها ولا تشعر بأي معنى للأهداف السامية (الكرامة! الحرية! حقوق الإنسان! الحضارة!). هكذا، يتفاجأ دعاة هذه التدخلات، لما يكتشفون نتائج صنيعهم مناقضة لأهدافهم المتوخاة. ماداموا، قد اختاروا التصرف انطلاقاً من رغباتهم وحدها، دون اعتبار لما سيترتب عن أفعالهم. أو، أيضاً بناء على حاجتهم المطلقة، لنيل نجاح مباشر، مع عدم اكتراثهم بالإطار الأخلاقي والقانوني، الذي تندرج في إطاره سلوكاتهم (...).

ثانياً، بما، أنه ينبغي أن نفرض على الآخرين، ما هو جيد بالقوة، عوض فقط الالتزام بحدود الاقتراح. نسلم، من البداية بعجزهم عن توجيه ذاتهم، لذا يجدر بهم أولاً الخضوع، قبل التحرر. بيد، أن طرحاً بهذه الصيغة للتباين بينهم وبيننا، يمثل مخالفة للمبدأ الأول للعدالة والأخلاق، أو ما يعتقد أننا نجسده. حصيلة، هذا التعارض الداخلي، مجازفتنا دوماً بالقيم الديمقراطية، التي نعي تشبثنا بها، بحيث تظهر قياساً إلى غنائمها المفترضة، مجرد قناع لتعليلات أخرى سياسية واقتصادية وإيديولوجية.

فيما يتعلق بحالة نوعية، مثل إبادة جماعية تحدث عند أحد جيراننا، فالتدخل العسكري المرفوض، يصير معقولاً. مع ضرورة التذكير حقاً، أن استحضار مفهوم الإبادة، يخلق ردود فعل عنيفة. إذن، سياق كهذا يمكن توظيفه كوسيلة للتحايل، بغاية تبرير الوصول إلى تحقيق أهداف أخرى. لقد، تكلمنا على الموضوع غير ما مرة، فلم تقع إبادة في كوسوفو سنة 1999 أو دارفور سنة 2009. شاهدنا، خلال السنوات الأخيرة، ابتذالاً ملتبساً للمفهوم: إذا حكمنا عليه، وفق تواتره، فبوسعنا الاعتقاد أنه في تاريخ الإنسانية، لم تتبلور فترة زاخرة جداً بالتقتيل الجماعي، أكثر من الحقبة التي أعقبت الحرب الباردة! حتماً، تقع حروب مشروعة: حروب الدفاع الذاتي (كما كانت الحالة خلال الحرب العالمية الثانية بالنسبة للحلفاء، أو التدخل الأمريكي في أفغانستان سنة 2001). ثم حروب، تمنع وقوع إبادة أو مذبحة (التدخل الفيتنامي، من أجل وقف التقتيل الجماعي في كمبوديا سنة 1978-1979، تعتبر من الحالات النادرة). في المقابل، غير شرعية هي الحروب، التي تندرج ضمن منظور الخلاص الإلهي، لأن مبررها، أن تفرض على بلد آخر، نظاماً اجتماعياً أعلى مقاماً أو تنشر فيها حقوق الإنسان.

تماماً، مثلماً لا ينبغي اختزال السياسة العالمية، إلى تطبيق لمبادئ أخلاقية، فلا يمكن إخضاعها لمبادئ القانون. السبب بسيط: كي تصبح العدالة فعالة، تحتاج إلى أداة تنفيذية، والحال، أن الأخيرة بيد الدول. لكن نظراً، لانعدام وجود حكومة عالمية احتمال، لا يغري بشكل كبير! توشك العدالة الدولية، أن تغدو مجرد واجهة في خدمة الأقوياء أكثر. فمنذ 2002، بدأ الحديث عن محكمة جنائية دولية، يوجد مقرها بمدينة لاهاي. هل، ترسم حقاً تقدماً في مسار العدالة الدولية؟ يحق لنا، أن نتحمس بتحفظ. فقاضي هذه المحكمة، يرتبط مباشرة بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي تملك عناصره الخمسة الدائمة، حق الفيتو. إذن، منذ المنطلق، جسدت العدالة الدولية قيم اللامساواة. مبدئياً، لا يمكن توجيه أي اتهام، ضد أي من تلك البلدان أو الحلفاء الذين يبتغون حمايتهم، لذلك، لن ننتظر أبداً إصدار المحكمة الجنائية الدولية، لقرار يدين قصف غزة بالقنابل الإسرائيلية، وما فعلته روسيا في الأراضي الجورجية، أو الولايات المتحدة الأمريكية بالعراق. بالتالي، فالشخصيات الوحيدة التي تسري عليها حالياً متابعة قضائية، تنتمي فقط إلى منظومة البلدان الإفريقية: أوغندا، الكونغو، جهورية إفريقيا الوسطى ثم السودان.

إذن، في الوقت الذي تقصف الطائرات الفرنسية والبريطانية طرابلس، أصدر قاضي هذه المحكمة أمراً بمتابعة القذافي وبعض أقربائه بسبب ارتكابه جرائم ضد الإنسانية ... ألا يشبه هذا القرار تحولاً في العدالة، بمساعدة حلف الشمال الأطلسي، كما سبق أن وقع سنة 1999، إبان الحرب ضد الصرب؟ في تلك الفترة، أعلن عن توقيف الجنرال الصربي "راتكو ميلاديك" الذي اعتبر مسؤولاً عن جرائم "سربيرينيكا" في البوسنة سنة 1994، وكذا تحوليه إلى المحكمة الجنائية بلاهاي. هذه الوقائع، أثني عليها هنا وهناك، باعتبارها إشارة عن تطور دال للعدالة الدولية، وكبرهان على امتثال القوة التدريجي للقانون في كل مكان. بعد ذلك، بوسعنا التأكيد، أن كل رؤساء الدول وكبار المسؤولين سيرتعدون خوفاً، حينما يرتكبون أفعالاً دنيئة، لأنهم ذات يوم يلزمهم تأدية الثمن. لكن ثبت، أن الصورة مجرد وهم. وحدهم، من تلقوا تهديداً، زعماء البلدان الضعيفة، الذين يفتقدون لحماية من طرف الأقوياء، كما الحال، مع أغلب البلدان الإفريقية. يستحيل، توجيه المسؤولية الجنائية بسبب أفعال ارتكبها رئيس أو قائد حرب أمريكي، بريطاني، فرنسي، روسي، صيني أو هندي إلخ. ربما في حالة، وقوع حرب ضخمة. إذن، يظل القانون الدولي، خاضعاً للجبروت، شريطة أن يكون حقاً الأخير منيعاً. يوظف الضمير والعدالة، لخدمة سياسة دول أضرت بهما، وجعلتهما مجرد أدوات بين أيادي الكبار، وأظهرتهما بمثابة حجاب من النفاق، يخفي دفاعاً عن مصالحهم. هذه السياسة، المؤمنة بالخلاص الإلهي والمشرعنة لذاتها باسم الخير والعدالة، تتحلل من الأول كما الثانية. ليس، هناك إذن، أفضل من سياقنا لتوضيح صيغة باسكال الشهيرة: "من يتقمص شخصية الملاك، قد يصير حيواناً أيضاً".

* تعليـق فيليـب كـوهـن:
كان تيزفيتان تودوروف، من بين المفكرين القلائل، الذين عارضوا شن الحرب على ليبيا. في مؤلفه الجديد: خصوم حميميون للديمقراطية. الذي، خرج إلى الأسواق يوم 23 يناير، سيتطرق للمبررات الفلسفية، المعارضة لمبدأ التدخل.

أنهت حرب ليبيا، ثلاثين سنة من الانشطار، بين صفوف الأنتلجنسيا الفرنسية. لقد، تحقق التوافق بينهم كلياً: ينبغي، على حملة بنغازي أن تستعيد ثانية زوراً، تخاذلات اتفاقيات ميونيخ ومذابح رواندا! فجأة أضحى "هوبير فيدرين" في انسجام مع "أندريه غلوكسمان"، و"جون بيير شوفينمان" مع "بيير لولوش": من اللازم أن نبعث جيشنا إلى الجبهة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، كي نمنع ديكتاتوراً من تقتيل شعبه، و"حماية المدنيين الليبيين"، وبين طيات ذلك، تعميم الديمقراطية في الصحراء. من بوسعه، الاعتراض على سعي بهذا القدر من النبل؟ من؟ يبقى، تودوروف إلى جانب "روني برومان"، الوحيدان اللذين زرعا بذور الشك في جدوى العملية. تسعة أشهر بعد ذلك، لم يغير الفيلسوف رأيه، بل واستفاض في تأمله. تودوروف الذي أتى إلى فرنسا في سن الرابعة والعشرين، هارباً من الممارسات الخانقة للحريات داخل بلده الأصلي بلغاريا، سيلاحظ، أن النيوليبرالية تتقاطع، أكثر مما يمكننا توقعه، مع الشيوعية (صحيح في جميع الأحوال، لكن ألا توجد شيوعية أخرى؟): مثل الشيوعية، فالليبرالية الجديدة، قابلة أكثر للاختراق من طرف أعدائها الداخليين، مقارنة بتهديدات خارجية لا توجد أبداً أو تقريباً كذلك.

1 مسيحية السياسة:
إذن، من هؤلاء الأعداء الداخليين للديمقراطية، الذين يرصدهم تودوروف؟ أولهم، سياسة المملكة الإلهية، التي يعود منبعها في الغرب إلى واعظ عاش في القرن الخامس يدعى
«Pélage» اعتبرته الكنيسة في زمنه ملحداً. أين يكمن خطأ، هذا الرجل؟ لقد اعتقد، أن الله لا يختلق كلياً مصير الأفراد، وكل ما يحدث لهم على الأرض، يتأتى أيضاً نتيجة إرادتهم وفعلهم. لقد كان "بيلاج" إذن، الرائد الأول لديكارت وفلاسفة الأنوار، الذين ألهموا قروناً بعد ذلك الثورة الفرنسية. وندرك بأي طريقة توخت الأخيرة، تصدير نفسها عن طريق حروب نابوليون. وتودوروف، يستعيد بكيفية ذات جدوى جملة لـ"سان جوست" Saint- Just، ويعطيها تضمينات معاصرة جداً: "إن الشعب الفرنسي، يصوت على حرية العالم". لذا، ينبغي الاعتقاد، بأنها أبعد من فوهات المدافع. يكتب تودوروف: "تتموضع المعطيات الكبرى للمسيحية السياسية، في: مخطط طموح، توزيع غير متماثل للأدوار، ذات فاعلة من جهة، تستثمر منتفعة عبر سلبيات ذات أخرى بحيث لا تهتم برأيها، ثم وسائل عسكرية توضع رهن إشارة المخطط". لقد استعاد ثانية المشروع الشيوعي المشعل، وصار خلال القرن العشرين، تجسيداً للتقدم البشري ومعنى للتاريخ. لكن، مع موت ستالين، بدأ تراجعه، واكتمل أفوله إبان سقوط جدار برلين. منذئذ، فانتصار الديمقراطية الليبرالية، ألهم نموذجاً جديداً، يظهر لنا تودوروف، إلى أي حد يواصل القوالب الإمبريالية ـ الثورية والشيوعية. لقد، توخت هذه الديمقراطية فرض أنوارها على العالم قاطبة، بما في ذلك، الالتجاء إلى استعمال أساليب الاضطهاد. جوهرياً، كوشنر، الذي برر حق التدخل لا يختلف كثيراً، كما نتخيل عن كوشنر، رئيس تحرير المجلة الشيوعية: Clarté. فالشخص نفسه يعتقد أن مبادرة أشخاص، يمكنها الإسراع بمسار الإنسانية نحو الأحسن.

2 تعليلات مضطربة:
استند، الإجماع الذي صاحب التدخل في ليبيا، على منطق أن نجدة شعب يعاني خطراً، أكثر شرعية من "حق التدخل". بينما يؤكد تودوروف، أنهما من نفس النوع. فحماية الشعب الليبي، لم تتضمن أبداً مساعدة إنسانية، بل دعماً عسكرياً. والحالة هذه، وقف تودوروف عند محفزات، بعيدة على وصفها بالإنسانية: "تعويض رئيس دولة يباشر وظيفته، بآخر أكثر تسامحاً، ووداعة في نظر الغرب".

ينتقل الكاتب بعد ذلك، كي يستعرض الأعداء الداخليين للديمقراطية: ديكتاتورية الفرد والسوق، التي توطدها الليبرالية الجديدة كقيم عليا لحرية الشعوب السياسية. إن إنسان الليبرالية الجديدة، كائن اجتماعي "يعيش في حقيقة الأمر منعزلاً". أيضاً منذ مدة بعيدة، أهينت المبادئ المؤسسة لليبرالية الأصلية في مجتمعاتنا، لاسيما حتمية السلط المضادة. لم تواجه تودوروف أية صعوبة، من أجل تبيان كيف انتهى مسار الليبرالية إلى تقويض دقيق لهذه السلط المضادة التي تشكلها وسائل الإعلام، فقد تآكلت بالمال والروابط المحرمة التي تجمع السياسيين برؤساء الإعلام (مثلاً ضجة موردوخ في بريطانيا). الإطارات النقابية، أبادها التنظيم الجديد للعمل، وتدبيره الإداري الذي أزال عنه الصفة الإنسانية، منذ تطبيقاته الأولى سنوات التسعينات. إجمالاً، أدت آفاق الليبرالية الجديدة، إلى إثارة ردود فعل لدى الحركات الشعبية، التي شرعت تتمرد باسم الدفاع عن حرية الشعوب والهويات الوطنية.

هكذا، نغلق كتاب تودوروف باقتناع، لكن ينتابنا أيضاً شيء من الاضطراب. وأن، لا نعتمد عليه في الواقع، كي يسلمنا خريطة طريق ديموقراطية ستسقط في نفس أخاديد، التبرير اللاهوتي، الذي كشفه. تشاؤمية تيزفيتان تودوروف ذكية، كما لو أنه التقط رسالة، الصياغة الغرامشية: "ينبغي مزاوجة تشاؤمية الذكاء بتفاؤلية الإرادة"، لكنه يداعب أحياناً "العدمية" التي يبطلها بين فقرات دراسته.

فمن يبدع يوماً، عقلاً يؤمن بتحرير حقيقي للإنسانية، بعيداً عن تضليلات الشيوعيين والليبرالية المتوحشة؟

 

المصدر: مجلة ماريان. يناير 2012، ص 69-71. هذه المقالة، مقتطف من الإصدار الجديد لتزفيتان تودوروف: [Les ennemis intimes de la démocratie] عن منشورات روبير لافون.

 

boukhlet10@gmail.com

مراكش/ المغرب