يعالج الباحث في مقالته كل من مفهومي "الثقافة" و"الحضارة" من منطلق أفكار المفكر الفرنسي برنارد نادولاك صاحب كتاب "ملحمة الحضارات". وهو تشريح جديد لم يرد في كثير من كتابات الفكر والأدب والحضارة لذلك نجده إضافة هامة في تحليل الغموض الذي كثيراً ما يكتنف المفهومين.

بين الثقافة والحضارة: غوص في المفاهيم

علي بوحامد

نبحث في هذا المقال تشريح كل من مفهومي الثقافة والحضارة من منطلق أفكار المفكر الفرنسي برنارد نادولاك صاحب كتاب ملحمة الحضارات. وهو تشريح جديد لم يرد في كثير من كتابات الفكر والأدب والحضارة لذلك نجده إضافة هامة في تحليل الغموض الذي كثيراً ما يكتنف المفهومين.

مفهوم الثقافة: إن الجدل الذي يثار حول مفهوم الثقافة أكبر من أن تحدد أبعاده بدقة، ولكن يمكن في هذا الاطار إدراج بعض التعريفات المختلفة التي وردت في بعض المصادر فقد ذكرت منظمة اليونيسكو أن "الثقافة، في معناها الواسع، هي تلك الآثار المتميزة، الروحية والمادية والفكرية وكل مؤثراتها والتي تميز مجتمعا أو مجموعة اجتماعية ما؛ وهي تشمل -أكثر من ذلك- الفنون والآداب وأنماط الحياة والقوانين الأساسية للكائن البشري، وكذا نظم القيم والتقاليد والمعتقدات"، ويظهر من خلال هذا التعريف أن المعنى الواسع للثقافة أضاف غموضا للمفهوم نفسه بحيث تداخل مع عدة مفاهيم شبيهة كمفهوم الحضارة ومفهوم العادات والتقاليد إلا أن المفكر برنارد نادولاك (Bernard Nadoulek) يفصل ويشرّح أكثر في معنى الثقافة حيث يقول "إن الثقافة ككلمة مفردة (ثقافة) هي الكلمة التي تدل على نمط الاستشراك؛ أي جعل الشيئ مشتركاً؛ وعملية التناقل والتعلم المميزة لجماعة بشرية ما فكلمة "ثقافة،culture " هي في نفس سياق الفعل "ثقّـف، cultiver" الذي يحيلنا إلى الطريقة التي من خلالها يستطيع شخص ما أن يرفع ويجدد وينقل عملية التعلم بإدماج قيم جديدة ومعارف ومهارات.

وفي نقلة تركيبية للمصطلح يمكن أن نقول أنه على الفرد المثقف أن يمايز ويفصل بين مايلي:

الثقافة الأخلاقية أو الدينية والمؤسسة على القيم.

الثقافة الفكرية والمؤسسة على المعارف.

الثقافة العملية أو التطبيقية والمؤسسة على المهارات والتي تتيح ربط المعارف بالفعل العملي.

ويضيف "نادولاك" أنه بالرغم من عملية الصقل والتلميع الذي تمارسه الثقافة بشكل عام على السلوكات الفردية أو الجماعية فإن ثقافة فكرية ما يمكن أن توجد في ظل غياب ثقافة أخلاقية والعكس؛ ويقول ان كل التركيبات ممكنة بين الأنواع الثلاثة للثقافة.

ويفرق برنارد نادولاك بين الثقافة كمصطلح مفرد وبين الثقافات بصيغة الجمع فيقول أن الأخيرة أي الثقافات تشمل ثلاث مفاهيم تصورية:

كهوية: فالثقافات تجسد المسار الذي من خلاله يتفرد تجمع بشري خاص و يعرّف؛ في مكان معين وفي سياق معين.

كتنوع: فالثقافة مفهوم تجزيئي في الزمان أو المكان.

فبالنسبة للزمان: نأخذ مثلا الثقافة المسيحية فقد اختلفت بين شكلها الأصلي وتلك الأشكال التي أخذتها بتقدم الزمن، منذ الإمبراطورية الرومانية والتي أصبحت فيها الثقافة المسيحية "دين دولة" وتلك التي سادت في أوربا إبان القرون الوسطى، وفي عصر الحروب الدينية وعصر النهضة، وهكذا.

أما بالنسبة للمكان: فالثقافات الوطنية تنقسم وتتجزأ إلى ثقافات جهوية، ثقافة طبقة اجتماعية ما، وثقافات مهنية. حتى نصل إلى ثقافات فردية.

فمفهوم الثقافة إذن ينطبق على جماعات بشرية متمايزة مدروسة في حقبة زمنية معينة وفي مكان وسياق معينين أيضا.

ج- كمجموعة فواعل سوسيوثقافية: إن الذاتية الثقافية هاته هي التي تتيح لمجموعات صغيرة متجانسة ثقافياً أن تصبح فواعل اجتماعية، اقتصادية وسياسية جد فعالة مثل: الفرق الرياضية، المؤسسات، النقابات،الأحزاب. كما يمكن القول أن السيطرة على أفعال مجموعة ما مرتبط تماما ومتناسب مع تجانسها الثقافي كما هو متناسب ومرتبط مع حجمها.

مفهوم الحضارة: إذا كان مفهوم الثقافة قد عرف جدلاً واسعاً بين الكتاب والمفكرين فالحضارة لم تقل عن هذا الجدل إن لم يكن أكثر حدة، حيث يذكر البروفيسور "ياذ بن عاشور" العضو في معهد القانون الدولي في توصيفه للحضارة أنها "تتألف من الخلاصة الواسعة لجماعة إجتماعية معينة، فهي تشمل الثقافة والفنون والدين والحياة السياسية وحياة الدولة إضافة إلى النمط المدني الغالب والسلوكات والعادات والأخلاق وأنماط الانتاج والنظام القضائي والعلوم وكل المؤلفات الروحانية.

ويضيف بأن الحضارة لا تتماهى لا مع دولة ولا مع إقليم فهي يمكن أن تشمل عدة دول (الحضارة الغربية)، عدة لغات بل عدة ديانات (الحضارة الهندية)، أو على العكس أن تنحصر على لغة واحدة (الحضارة العربية)،أو دين واحد(الحضارة الإسلامية).

ويضيف بأنه في تعريف أي حضارة هناك عامل محدد هو من يحدد المقياس الذي تعرف به أي حضارة، فيمكن أن يكون المقياس اللغوي اللساني، الاقليمي، الدولاني، الديني، العرقي أو الإثني.

وإذا رجعنا إلى "برنارد نادولاك" فإنه كالعادة يفرق بين الحضارة بصيغة المفرد والحضارات بصيغة الجمع.

الحضارة (بصيغة المفرد): civilisation La هاته الكلمة تصف حالة التقدم لمجموع الخصائص الحقيقية للحياة المادية والفكرية لمجتمع ما.

أولاً: الحضارة هي حالة التقنية والتكنولوجيات والعلم، والانجازات المادية التي تتيحها. أي سيطرة الانسان على الطبيعة.

ثانياً: الحضارة هي حالة السلوكات والعادات؛ والضبط الذي تمارسه الأخلاق والقانون والمؤسسات عليهما.

فالحضارة تعرّف المجتمع البشري كله في اتجاه ديناميكي وهو الذي يدل على معنى أو مفهوم "تشكل الحضارة".

إن كلمة حضارة تشير مباشرة إلى فعل "حضّر، civiliser" أو "مدّن" من المدينة. والذي يحيلنا ابتداء إلى عملية جعل تلك السلوكات والعادات أكثر مدنية؛ ويحيلنا في مرتبة ثانية إلى ثقافة المدن؛ وفي الأخير إلى الفعل التمديني الذي يمارسه أقطاب الثقافة المتقدمة على الثقافات الأقل تقدماً. المدن على الأرياف، الدول المتقدمة على الدول المتخلفة، وكلمة حضارة تجمع في طياتها "حُكْمًا" قيمياً والذي يمكن أن يؤدي إلى تراتبية في الحضارات...

الحضارات (بصيغة الجمع):

كهوية: تتشكل الحضارات -كمعنى هوياتي- عبر عوامل ثقافية مشتركة لشعوب يمكن أن تتطور وتتقدم على الصعيد التاريخي وتتفرق وتنتشر على الصعيد الجغرافي، فمثلاً الحضارة الانجلوساكسونية تحوي العديد من الفروقات في ثقافاتها الوطنية، الاسكندنافيين، الأنجليز، الأمريكان، الكنديين، الأستراليين والنيوزيلنديين؛ ولكن -وعلى الرغم من هاته الفروقات- فمن جهة، توارثوا كلهم الثقافات القديمة للجرمان والإسكندنافيين، ومن جهة ثانية فهم يتشاركون هوية ثقافية مشتركة أو يمتزجون بالأساطير الجرمانية وبالمسيحية البروتستانتية، اللبرالية، إضافة إلى رؤية مشتركة لديمقراطية مؤسسة على تقاليد خاصة جدا للحريات المدنية.

كمصفوفة ثقافية: عن طريق التعاون؛ فلضمان بقائه، غذائه، ملبسه،صناعة أدواته وأسلحته وحتى لغته وأعرافه وتقاليده يراكم الإنسان طبقات من الثقافات والتي تتحول تدريجياً إلى حضارة ضمن تطور الأجيال وتعاقبها.

وعبر التاريخ؛ كل حضارة تتهيكل حول قيم وعقائد متميزة، مما يخلق نوعاً من "المصفوفة الثقافية" التي لها تأثير شامل على نظرة العالم وعلى السلوكات الجماعية لأعضائها.

ج- كسلوكات جماعية: نظرا للتنوع الداخلي لتركيبة أي حضارة كالشعوب واللغات والثقافات، فالحضارات ليست وحدات عملياتية أو فواعل عالمية، حيث يقول المفكر "نادولاك" أن الحضارات عمياء بكماء صماء؛ فالحضارة لا تتمظهر أبداً إلا بذلك المظهر الافتراضي "par defaut" عن طريق نقاط التقارب والالتقاء لتلك السلوكات الجماعية في مختلف الوحدات التي تكونها استراتيجيات المجموعات الاجتماعية أو المؤسسات السياسية أو دبلوماسية الدول.

بين الثقافة والحضارة: يقول " برنارد نادولاك" إن المعنى المشترك لمفهومي الحضارة والثقافة يفضي بنا إلى مفهومين مختلفين آخرين:

الأول: التكيف (L’adaptation) مع المكان أو الوسط، والمعرفة العملية أو الدراية savoir faire.

الثاني: الهوية (L’identité)، وكذا تعليم المعرفة faire-savoir.

هذين المفهومين (التكيف والهوية) متفاعلين مع بعضهما ولكن لكل واحد منهما وظيفة مختلفة عن الآخر، فالتكيف يضم كل العناصر التي تساعد وتتيح السيطرة وضبط الوسط الجيو-مناخي، وكل الموارد المتاحة وكل وسائل استخدامها، على عكس مفهوم الهوية والذي يشمل كل العناصر التي تساعد وتسهم في الاعتراف بالعضو داخل المجموعة وتفضيله وتمييزه عن الأجنبي، حتى يمكن تكييف سلوكاته ضمن ديناميكية التعاون والصراع التي تهيمن على المجموعات داخليا وفيما بينها، فلكل من الحضارات والثقافات تأثير مباشر على السلوكات اليومية للتكيف أو على السلوكات المنتظمة للاعتراف بين الأفراد أو المجموعات.

أما عن الاختلاف بين الثقافة والحضارة فيقول المفكر "برنارد نادولاك" بأن الاختلاف الرئيسي بين الثقافة والحضارة يكمن في ظاهرة السلّم الزمكاني؛ فمفهوم الحضارة يُجمِع ويُشمِل ومفهوم الثقافة يمايز ويفاضل، فالحضارة عامل وحدة وهوية مشتركة بين شعوب والتي من الممكن أن تتشتت وتفنى في سبيل الحفاظ على تقاليد ونظم عقدية وسلوكات مشتركة،على عكس فكرة الثقافة والتي تنطبق على مجموعات بشرية متمايزة منظورة في حقبة زمنية معينة وفي مكان وسياق معينين.

 

أستاذ العلاقات الدولية بجامعة قاصدي مرباح - ورقلة- الجزائر