ليس كل النتاج الفكري الوجودي ينتمي للفلسفة الوجودية، وليس كل الأدب والفن الذي اعتلى خشبة المسرح الوجودي ينتمي للفلسفة الوجودية، فهنالك ما امتزج منه وخاصة بالفكر الديني حسب بيئة المفكر أو المسرحي، مما يعيق مسار قيام فلسفة خالصة ويمهد لتصحيح مسار فكر ديني خالص، ولدينا في عالمنا العربي من كتاب المسرح المصنفين ضمن كتاب المسرح الوجودي الذين لا ينتمي نتاجهم الإبداعي للفلسفة الوجودية أكثر من انتماءه إلى الفكر الديني الإسلامي، فنرى في مسرحية الباب، للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، اعتماده على قصة وردت في القرآن الكريم، ولدينا من المفكرين المصنفين ضمن فلاسفة الوجودية الذين لا ينتمي نتاجهم الفكري للفلسفة الوجودية أكثر من من انتماءه إلى الفكر الديني المسيحي، فنرى في أن كيركجارد يؤكد من خلال دعوته إلى مسيحية جديدة بأن هذه هي رسالة المسيح.
يعد تأثير الفكر الوجودي محركاً لأغلب التيارات الفنية المسرحية التي توافق ظهورها الملموس على خشبة المسرح العالمي إبان الحربين العالميتين، حتى أنه يعد مضمون مسرح العبث، وعند التعرض لمرجعيات هذا الفكر ضمن دراسة تهدف لتوضيح مديات التأثير التي جعلت منه عند البعض تراثاً فكرياً لا يمت للمسرح المعاصر بصلة وعند البعض الآخر انطلاقة حقيقية نحو مسرح يتخذ من الإنسان محوراً أساسياً في أطروحاته الفنية، ونحو هذا وتلك من الآراء المختلفة حول هذه المرحلة من تاريخ المسرح أدباً وفناً، يبرز الاستفهام حول ارتباط بعض التيارات الفنية المسرحية بالظروف الموضوعية المرافقة لظهورها، وعن جدوى البحث في افتراض عودة تلك التيارات الفنية المسرحية لاعتلاء خشبة المسرح لو توافرت ذات الظروف الموضوعية التي تسببت في أن يتخذ الفنان المسرحي شكلاً فنياً وأدبياً في عرض أطروحاته دون غيره، فلابد إذن من الأخذ بنظر الاعتبار لكل الجهود النقدية والبحثية التي رصدت هذا التحول من تيار إلى آخر بل من فكر إلى آخر في عالم المسرح، حيث أنها حاولت استنباط ما أصبح الحال عليه في مسرحنا المعاصر، والذي اتخذ من طريق الانتقائية لكل ما سبق من تيارات مسرح القرن العشرين، فنجد مسرحية لشكسبير هنا وأخرى لهارولد بنتر هناك، بشكل يثبت أن لا تيار فني معين يسود الخشبة، على أن الظروف الموضوعية الدافعة لبعض التيارات المرافقة لمسرح ما بعد الحرب مثلاً ليست متوفرة في البلدان التي يسودها السلم ومع هذا نجد هذه التيارات تتخذ طريقها للخشبة أسوة بغيرها، مما يجعل الاستفهام يتخذ طريقاً آخر لمحاولة إيجاد إجابة عن دور الفكر في هذه العملية، ولعلنا نجد في الفكر الذي لم يكن مفروضاً على الفنان والجمهور على حد سواء بوصفه يمثل اتجاهاً سياسياً حاكماً لأحداث المشهد الثقافي في وقت ما، بل الفكر الذي يتخذ طريقه عبر الخشبة المسرحية في محاولة لرسم صورة الإنسان المعاصر، مما قد يبرر انتشار الوجودية في المسرح بأنها كانت الطريق الأسهل للفنان ليس فقط لنبذ وهدم ما سبقه من تيارات مسرحية لا يراها تناسب واقعه إنما لأن مضمون الفكر الوجودي يهدف دوما إلى إعادة الصياغة لمفهوم الإنسان، وما أحوج الإنسان الخارج للتو من دمار الحروب إلى إعادة صياغة العالم الذي يعيش فيه، بل ما أحوج الفنان إلى هكذا مضمون يتفق مع هدف التجربة المسرحية ذاتها التي تسعى لإعادة صياغة العالم إنطلاقاً من خشبة المسرح.
للوقوف على أهم انطلاقه للفكر الوجودي بصبغه دينية، نبدأ من اعتبار الذاتية أساس فلسفة كيركجارد، بحيث كان يرى أن انعدام الذاتية في علاقات موضوعية، أو تلاشيها في ذوات أخرى، يفيد معنى الانسحاب من الوجود، وبالتالي ينهض دليلاً على العدم، فلم يكن فيلسوفاً بالمعنى المفهوم التقليدي من هذه الكلمة، وإنما كان إنساناً، بكل مفهوم هذا اللفظ، تعرض في حياته لأزمات عدة أرهفت من مشاعره وملأت وجدانه بالأيمان الديني الكامل، وكان أول مفكر هاجم الفلسفة الهيجلية في نقد متوال يهدف إلى أن يستبدل بالفكر الموضوعي فكراً خالصاً تنبع فيه الحقيقة من صميم الذات. وهو أول من جعل من الأزمات النفسية والتجارب الشخصية نقطة البداية في الفلسفة الحديثة وإذ كانت حياته مليئة بمثل هذه الأزمات، غنية بالتجارب، فقد انتهت به أفكاره تلك إلى تعمق الوجود وتفهم معناه، في جهد مستمر ليفلسف حياته، ثم يحيا هذه الفلسفة من بعد، وينظر عادة إليه على أنه أبو الوجودية الحديثة وأول فيلسوف أوروبي يحمل لقب المفكر الوجودي، فقد اشتبك في صراع مع مذهب الفلسفة الهيجلية الذي يحوى كل شيء، ذلك لأن النظرة الوجودية تعتقد أنه لا توجد باستمرار حدود حاسمة أو واضحة المعالم فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة ولايمكن أن يعرف العالم ككل إلا عقل يكاد يصل إلى مستوى الإلوهية وحتى أن وجد مثل هذا العقل فسوف تكون هناك فجوات وثغرات في المعرفة التي يحصلها. وأعلن الثورة على مقالة ديكارت: أنا أفكر، إذن أنا موجود، هذه المقالة التي عبرت على أن الفكر هو الذي يضع الوجود، لدرجة أن الفكر صار مضاداً للوجود، وتبعاً لهذا كلما زاد الفكر قل الوجود، وكلما زاد الوجود قل الفكر، حيث أن مبدأه ومنطلقاته الفكرية كانت تهدف لنصرة الإنسان في صراعه مع الفكر المجرد، ومن هنا ظل في حياته يمجد العزلة والصمت باعتبارهما بكارة الحياة، وكل النبل والطهارة، ولما تؤديان إليه من اتصال دائم بالذات الإلهية وشحن مستمر لطاقة الإيمان، وتعد فلسفته تقريراً لما في الحياة من تناقض وتأكيد لقيمة الذاتية في السبيل المؤدي إلى الحق وإيمان كامل بأن الذات المطلقة يمكن أن تتكشف للذات الفردية من خلال الألم والقلق والندم والحصر النفسي، فالحياة في هذه الفلسفة معاناة الذات للوجود في محاولة لتقرير مصيرها، والوجود على هذا المعنى هو الاختيار والانشغال اللامتناهي بالذات، لهذا أكد في الوجودية على عدم اليقين مطلقا لما هو موضوعي، بل فقط القيمة الذاتية الخالصة المستأثرة، وتكمن أصالة وخصوصية وجوديته في كونها الأساس الفكري الذي انطلقت منه الفلسفات الوجودية الأخرى نحو تأسيس خصوصية للذات الإنسانية، وتركزت أطروحاته الوجودية حول تأليه الذات الإنسانية بإعطائها تلك الفردانية الذاتية التي تحقق للإنسان وجوده الخالص، وأصر على استحالة نقل الذاتية إلى الغير.
اصطدم هذا التوجه من قبله بالكنيسة ورسالتها التي انتقدها بمقاله الشهير (ماذا أريد؟) حيث برر فيه دعواته الوجودية بقوله: (أريد الخلاص، أنا لست قسوة مسيحية ضد التساهل المسيحي كما صورني الناس ذوو النية المغرضة، كلا، أنا لست تساهلاً ولا قسوة، أنا إخلاص إنساني). وعلى الرغم من أن وجوديته قد تعتبر إلى حد ما تجديداً ضمن إطار الفكر المسيحي، إلا أن هذا التجديد لم يحظى بالقبول من قبل دعاة (المسيحية) أنفسهم، وقد استقر رأيه أخيرا إلى مهاجمة السلوكيات الكنسية التي اتصف بها الرجال الدين المسيحيين، ولعل مقولته خير مثال على نظرته إلى الكنيسة والدعاة إلى (المسيحية): (أن الكهنة هم آكلة لحوم البشر وبأكبر شكل وحشي، أن الكاهن يستقر آمنا ومسترخيا في مقره الريفي.. وربما بدأنا نشعر بالخجل عندما نجد انه يسمى، تلميذاً مخلصاً للمسيح، ولكن مع كر السنين يعتاد على سماعها حتى انه يعتقد هو نفسه إنها حقيقة، هكذا يموت وقد انحرف كثيراً. ويدفن على أنه – رغم ذلك- شاهداً على الحقيقة). وأكثر من ذلك، فلم يكن يريد أن يدفن بالشكل المسيحي الرسمي، وقد أوصى بأن تنقش على شاهد قبره الكلمات التالية: (لحظة قصيرة، ثم انتصر، ثم أن كل المعاناة، تكون قد ولت في التو، وحينئذ يمكنني أن أستريح، في الوديان الحلوة، بشكل دائم، ومع المسيح أتكلم). يتضح من هذه الكلمات كيف ينظر للإنسان و(المسيحية) والذات التي يقدرها أعلى تقدير، فهو يعتبر أن الخلاص الحقيقي هو الألم أمام الله، وفي هذا القول تقدير كبير للمسيحية التي يراها تمثل المسيح كذات متألمة، اعتبرها نموذجاً يحتذى به من قبل الذوات الأخرى، على الرغم من نقده لسلوكيات رجال الدين المسيحي، كما انتقد الفلسفة والعلم لأنها حسب قوله: (لا يهيئان كلاهما، وليس من معلم آخر يعلم ذلك إلا الألم، والطاعة التي يلقننا إياها، ولو جاز للإنسان أن يتعلم طاعة الله خارج الألم لما احتاج يسوع المسيح بوصفه إنسانا إلى تعلمها بالآلام، أن هذه الآلام قد علمته الطاعة الإنسانية لأن تقيد إرادته الإلهية بإرادة أبيه، ولهذا فأن الطاعة بالنسبة للإنسان أمام الله لا يمكن تعلمها إلا بالألم)، اتخذ من نفسه مصدراً بعد شكه بالعقل، إلا أن هكذا كلمات تصدر منه لا ينبغي أن تفهم بأنه خاضع تمام الخضوع لتعاليم (المسيحية) التي هاجم دعاتها الكنسيين أشد الهجوم، لكن ينبغي أن يستوعب مفهومه الخاص للمسيحية وعلاقتها بالذات الإنسانية، فهو لا يلغي الذات الإنسانية التي يسعى لتحريرها واثبات وجودها، من خلال دعوته إلى مسيحية جديدة يؤكد أن هذه هي رسالة المسيح، في أن يكون نموذجا لتحرر ذات الإنسان لترتقي في وجودها أمام الله، فالطاعة عنده إلى الله باتخاذ نموذج المسيح كإنسان أثبت ذاته واستحق مكانته عند الله، أطلق على هذا التحول الايجابي كما يراه (بالوجود الواقعي) الذي يعني حياتي وأفعالي وأعمالي.
إن الإنسان الفرد الفريد كما يسميه هو الذي يسعى لتحقيق وجوده بالمسيح نفسه فيقول بهذا الصدد: (أن الأنا حيال المسيح هي أنا قد رقت إلى درجة عليا بالتنازل الإلهي الواسع، بالقيمة الكبرى، فكلما نمت فكرة المسيح في ذات المرء زاد رقي أناه). وهنا بين لنا كيف أن علاقة الإنسان بالمسيح لا يجب أن تلغي الذات وخصوصيتها الفردية، فالإنسان والمسيح معاً ساعين لتحقيق وجودهم أمام الله، وان دور المسيح بوصفه نموذجاً جاء من الله في الأصل، بالتالي أن الله يطالب الإنسان بإثبات وجوده بناء على الطاعة، والطاعة مقياس لقدرة الإنسان على تطويع ذاته نحو الرقي بالوجود متخذاً من المسيح ذاته مرشداً لهذا الطريق الإلهي (إن الله وهبنا المسيح مقياساً وأبان لنا إلى أي مدى يمكن أن يمضي واقع الأنا) أن هذه النزعة الفردية بالذات هي التي جعلت منه رائداً في الفكر الفلسفي الوجودي، فالخروج عن سلطة الكنيسة من ناحية وسلطة العقل المتمثلة بالفلسفة الديكارتية والهيجلية التي سادت عصره هو دعوة لإعلاء شأن العاطفة على العقلانية المفرطة التي يراها تحرف الذات الإنسانية عن ما أراد الله لها من رقي، وذلك من خلال التأكيد على صحة الأيمان عن طريق العاطفة آملآ في انعكاس الحق في الواقع، فيقول: (أن النتائج التي نتوصل إليها بالعاطفة هي وحدها الجديرة بالثقة، وهي وحدها الكافية في البرهنة)، وتساءل كثيراً عن ماهية الحقيقة ذاتية أم موضوعية، وعن مصدر الأخلاق والقيم، (أن التصور المحوري في النسق الفلسفي لديه يتمثل في الذات، والذات هنا ليست هي الذات الجماعية كما هو الأمر عند الاجتماعيين، أن الذات التي تحدث عنها وجعلها محور أفكاره هي الذات الفردية العينية الشخصية، بكل ما تعنيه من يأس وقلق وبكل ما يعتريها من انفعالات وعواطف، وبكل ما يرتبط بها من اتخاذ مخاطرة القرار ورهبة الاختيار)، لقد ظهرت أفكاره ضد الفلسفة العقلية والموضوعية، تلك التي تلغي الفرد وتركز على الكل فبينما لا حياة للفرد إلا عن طريق علاقته بالكل وفق مبدأ الموضوعية، فأنه بالمقابل يرفض أن ينظر إلى نفسه كجزء من كل، ويرفض أن القوانين الموضوعية تتضمن فقدان الحرية الذاتية، (أن أول خصائص الفلسفة الوجودية إنها تبدأ من الإنسان ولا تبدأ من الطبيعة، إنها فلسفة الذات أكثر منها فلسفة الموضوع، فالذات هي التي توجد أولاً، والذات التي يهتم بها الوجوديون ليست الذات المفكرة بل الذات الفاعلة، (ولأجل أن يضع أطروحاته الوجودية في سياق يسهل من خلاله الوصول إلى ما يدعوا إليه الإنسان، فقد قسم مراحل الوجود وبين خصائص كل مرحلة أن تكون مستوى معين للوجود الإنساني، فأكد على وجود مراحل لابد اجتيازها في الطريق الذي يقطعه المرء خلال شعوره بعلاقات ذاته بحياته، آملآ في تحقيق ذاته أخيراً أمام الله.
إلا أن هذه المراحل لم تأتي بجديد في فكرة الوجود لديه، فنرى في المرحلة الجمالية أن فكره ما زال يركز على الألم، يقول: (أليس أسعد الأفراد المشغوفين بطلب اللذة هو ذاك الذي يعتبر أشقاهم، إنه المعتزل الذي لم يعش حقاً، والذي اقتصرت حياته على إسقاط هذه الإمكانات المختلفة، انه على الأقل يرتدي قيمة أسطورة شاعرية) أن تأكيده على مسألة كون المسيح لا يمكن الاستدلال عليه من خلال البراهين بل من خلال الأيمان يبين كيف صاغ هذه المراحل التي يعدها طريق الإنسان لوجوده الذاتي، فهو يقول: (يجب أن يجعل المرء نفسه معاصراً مع المسيح). وفي المرحلة الأخلاقية يبين أنه لابد على الأقل من اجل أن تمضي حياة الأسرة على أحسن وجه، من أن يرضى الرجل بالبطولة الأخلاقية في الحياة اليومية من جانبه، (وهي الوسيلة الوحيدة لصرف امرأته عن الخطر بالإسراف بين الاستمتاع الجمالي وبين العزوف الديني). وهنا تأتي المرحلة الدينية كما يراها لتعصم الإنسان عن خطاياه الجمالية والأخلاقية محققا بذلك وجودا يرتقي به لمستوى وقوفه أمام الله، لأن الوجودية الدينية عنده تتلخص في كون (المسيحية) لا تنتمي إلى مجال الموضوعية بل إلى مجال الذاتية، ودليل ذلك نظرته إلى من عاصروا المسيح: (عندما يكون جماع حياته عوناً على الخيال حينئذ يمكن تبين أن الإنسان يؤمن بهذا). وهو بهذا يقر بأن تحقيق الوجود الذاتي للإنسان المعاصر للمسيح أصعب منه عند من لم يعاصره لكنه أسهل في كون من عاصره تبعه خطوة بخطوة واخذ يحاكي النموذج عقليا، لهذا فهو يعلي من شأن العاطفة في الرقي بالإيمان المسيحي إلى مستوى الوجودية الدينية، لكي تتحقق ذات الإنسان أمام الله، وأخيراً، يرى كيركجارد حول علاقة الإنسان بذاته (الأنا هو الوجود الأصيل، هو الأصل الذي أصدر عنه كل أفكاري وأفعالي)، وحول علاقة الإنسان بالآخرين (ففي سبيل إقامة علاقة مع الله يحكم على الآخر بأنه عقبة في طريقنا إلى الله)، وحول علاقته بالله (أن الله له وجود مستقل).
للمزيد ينظر: سرمد السرمدي، تفكيك المسرح الوجودي، رؤية نقدية، المركز الثقافي للطباعة والنشر(بابل)، مسجل لدى دار الكتب والوثائق العراقية، بغداد، رقم الإيداع 250 - السنة 2011م.