معظم الاستقلالات المحصل عليها في شمال افريقيا جاءت عرجاء لكونها أتت مبنية مسبقا على ايديولجية الوحدة التي ستلغي التعدد والتنوع الذي يميز بلدان حوض المتوسط عامة، وليس بلدان شمال إفريقيا وحدها، فترتب عن ذلك سنّ سياسة إقصائية في حق شعوب وثقافات أخرى اعتنقت من بين ديانات أخرى الإسلام، إن لم تظل وثنية في أخرى وتتكلم طبعاً لغة غير العربية، إلا أن نهج سياسة التعريب سواء بجعلها لغة رسمية للبلاد كما في حالة المغرب أو فرضها في جزائر بومدين، فالعملية كانت موجهة ضد الأمازيغية وبالتالي ضدا على قيم الديمقراطية واللائكية التي تشبعت بهما منطقة المغرب الكبير في سبيل ترويج لغة، عربية، وترويج نسخة دين سياسوي بات مفتقراً لكل بعد روحي مميز للدين أصيل غير ملوث بالابتزاز.
فإزاء هذا القهر تعين القيام بشيء، فكانت الأصوات الحية تخرج للاحتجاج عليه، فوجدنا كاتب ياسين يلفظ قوله الأثير: لست عربياً ولا مسلماً وإنما جزائري، مدشناً بذلك لوحدة تحترم التنوع والاختلاف، عكس وحدة الإبادة التي أطلقها الدعوي عبد الجابري.
روح كاتب تحولت معركة معتوب لونيس الذي انتهى إلى القول "لم أحس أبداً العربية كلغتي ولأنهم يرمون إلى فرضها علي رميتها في الحال"(ص40). وهذا خيار أصعب، لماذا؟ لأنه فردي يتطلب ماكينة وعي وتحد عظيمة لن نعثر عليها عند المجتمع كي يشغلها في العصيان لفرض إرادته وإبلاغ صوته، وهنا تدخل دور المدرسة بكل ثقله على الخط، فهي لا تقوم إلا بعكس ما جاءت لأجله أي تكثيف تعليم الطاعة؛ لم يحاول المدرسون كشف المزية التي يمكن نيلها بتعلم العربية، وأمام فرض نكران الأمازيغية والتخلي عن الفرنسية وجد الحل في تجميد دروس العربية بالتغيب، وبقدر "حصادي الأصفار أقبض على طرف حريتي على طريقتي بالمقاومة"
قيم الانفتاح والتفكير الحر جاءت عبر بوابة التعليم بالفرنسية التي ارتد عليها جلّ حكام شمال إفريقيا، وفي جزائر بومدين سيتم نهج أسلوب الريبة من النخب، التي تخرجت من هذه المدرسة ودفعهم بالتالي للسكوت، ومن لم يطاوع تكون قسمته القتل، كما أخذه مولود فرعون سنة 1962، متناسين أنه إن عبر بالفرنسية فلأنه وجدها طبيعية؛ لكن لماذا لم تنتج العربية نخبة جديرة بهذا الاسم؟ أي لماذا لم تعمل سوى على قمع وخنق المجتمع الذي تحاول أن تلبسه ما ليس له كي توغل في تزييفه، وبدلاً من الأخذ بيده أوكلته للتخبط؛ وبقدر تعاظم نكران اللغة التي تمنحنه الحياة من قبل مؤسسات الدولة انتهى إلى اعتبار مجرد الحديث بها يعتبر فعل مقاومة، مع مواصلة الحذر من المراجع التي تبدو غريبة عنا؛ المعركة من أجل الهوية ستكون أساسية بالنسبة لليوم لأنها تمنحنا قوة الاتقاء والاحتماء من الاستناد على مراجع لا تمثل طموح الاستقلال والتحرر من الوصاية المغشوشة ولا تدعم سوى استئصال المغفلين.
لم يحدث أبداً نكران دين الإسلام بسب ميزة تكيفه مع العادات التي وجدها أمامه وتعايشه معها؛ في بلاد لقبايل تجد الذي يعتقد والذي لا يعتقد ونود الاحتفاظ بحرية الاختيار هذه، وليس الاجبار الذي يشيع التشويه، وهذا هو الرهان المركزي اليوم.
المدرسة مع لونيس لن تزيد عن ضجر إن لم تكن حلبة للشجار المتكرر واللامنتهي وبدلاً من أن يلتحق بمعهد لمتابعة الدراسة والحصول على شهادة كان يقضي شهراً في إصلاحية جراء اندفاعه في رد خصم أكبر وأعتى منه
شاهد استبداد: التحق بالخدمة العسكرية في 1975، وبومدين يتربع على كرسي الجمهورية منذ 10 سنوات؛ الكل متوتر والعلاقة مع جاره المغرب غير سوية، وهو خلاف سيمس مجموعات بشرية من المغرب، استقرت منذ زمن بعيد في بلاد الجزائر فتم رميها عند حدود البلدين، مشكلتها تنازع نظامين وليس عدم قدرتها على الاندماج أو تكشف تسخيرها لأعمال تخريبية نحو التجسس بل لمنع التواصل بين مهاجرين يشتركون مع لقبايل في الجذور يقصد أنهم أمازيغ من الأطلس الكبير وذنبهم أنهم مغاربة وربما كونهم يتكلمون نفس لغة لقبايل(ص53) أي تمازيغت، اللغة التي لم تلق غير التجاهل والنكران منذ وصلت أول نسخة قرآن بلادهم إذ لن نعثر ولا على واحد ممن حملوه إلى بلاد المغرب الكبير أخذ عناء نقل نصه إلى لغة من حل بين ظهرانيهم، ليتواصل نفس السلوك مع الحفدة الجاحدين الكافرين إلى حد اتهام الأمازيغ المطالبين بحق التعلم بلغتهم أنهم نتاج استعمار، حتى يسهل القفز على كرامتهم بمعاملتهم دواباً عند باب وجدة بعد رميهم عند الحدود؛ فيما موقف من يقضي خدمته العسكرية أنه لن يطلق رصاصة إن وضع في الجبهة عن أي مغربي مادام يجد نفسه عاجزاً عن القيام بذلك كنوع من الالتزام تجاه أبناء جلدته.
الغربة: تكون مزدوجة حين تحدث داخل البلد، فوصول قبايلي إلى مدينة وهران تبدو جحيماً، لأن الذين سيحيطونه من أبناء المدينة سيذيقونه الإهانة والسخرية باعتقادهم انهم أكثر تحضراً، دون أن ينتبهوا أنهم أنفسهم قبايليين فقط الأمر مجهول من قبلهم، كما سيعقب الفنان الساخر فلاغ في أحد عروضه، عكس النازحين الجدد الذين لا يزالون يقيمون في لسانهم الأم واليومي؛ إنها الوضعية ذاتها التي تتكرر، لتجعله يقتنع أن اللاتواصل جعل منه فرداً مقتلعاً من غير وجهه، الغربة هنا مع معتوب ليست قرينة الوحدة، وإنما سبيل للمضايقة التي تقوده إلى عقوبة الحبس الانفرادي بسبب مناصرته لفريق JSK، أي شبيبة لقبايل لاعتباره تجسيداً لمعركة الهوية التي يتحد عليها كل لقبايليين، وهذه ظاهرة فريدة في منطقة شمال إفريقيا إلى حد أن محاولة استنساخ التجربة في المغرب مع فريق من اكادير باءت بالفشل
الاحتماء بالشعر: الشعر سيكون نعمة وملاذاً من جهالة الحاكمين وخستهم، فكان أن وجد ضالته في القريض الذي شرع في تقطيع أوزانه قبل أن تطارده الخدمة العسكرية، التي وقف معها على فساد المؤسسة العسكرية بفعل النهب الذي ينهش ميزانيتها، التي تذهب لصالح كبار المسئولين؛ المتعة غير مفصولة عن الالتزام، فهو يمارس النظم للمتعة لا غير وما يتهيأ له من نصوص يطرحه في المناسبات الخاصة، وأما ميزة الالتزام فآتية من كونها تتجه للتعبير عن وعي من سيصبح فناناً مقتدراً، وحين عزم على الهجرة لم يكن في حوزته غير أشعاره وكان الشاعر يتمرد.
لن يجد الوقت لدراسة الموسيقى أو النغم وحده تعاطيه مع مندوله بعشق عصامي جعله يجد نفسه في بحر الأعراس التي تعبره كل يوم مادام كل شيء في بلاد لقبايل يغني، فكيف له أن يكون الاستثناء، لقد كان تأكيد القاعدة وكان الغناء حرفته "لم نكن نغني الله نتكلم البؤس الاجتماعي والحياة والموت"(ص73).
استقلال ثان: 20 ابريل 1980 بالرغم من التمزق الذي خلفته كان تاريخ ميلاد استقلال حقيقي تقريباً على غرار الذي تم تسلمه في 54، قبل أن يتم تهريبه لصالح العسكر، وهذا التاريخ هو ما سيعرف في أدبيات الحركة الأمازيغية بالربيع الأمازيغي، إلا أنه فصل أسود جراء الدماء التي مرغت فيها ساكنة لقبايل برصاص النظام لتصبح [تافسوت تابركانت] أي الربيع الأسود؛ وهذه الثورة وجدت شرارتها في الاحتجاج على منع محاضرة كان سيلقيها الروائي والكاتب الجامعي مولود معمري حول الشعر الأمازيغي بمنطقة لقبايل على عهد شاذ-لي بنجديد، وبالرغم من القمع كان الاحتجاج انتصاراً لكونه شكل أول خروج الى الشارع منذ استقلال البلاد، الأمر الذي عد خروجاً عن المحرم لحمل النظام على الاعتراف بالحقوق الثقافية للأمازيغ أي بهويتهم؛ 20 أبريل نقطة تحول عميقة في وعي الأمازيغ ببلاد تامازغا، يقول معتوب "قيامة تاريخ المغرب هو ما دشناه"(ص88).
يصف المتمرد نفسه بالديمقراطي بتحمله مسؤولية عدم منح الحق لأي أحد كي يترجل على القيم التي تغذى بها هو أو سواه، واضعاً لنفسه ثلاث مهمات تتعلق جميعها بمقاومة: السلطة والأصولة والمرابطية، فهي ثلاثتها تتفق على إنكار المكون الأمازيغي كي لا تعود له إلا لاستخلاص الضرائب أو دعوتهم للذهاب لصناديق الاقتراع؛ المسألة هي أن الفئات المتسلطة لا تتغذى إلا بسواعد الذين هؤلاء الذين يتم نكرانهم علنيا كل يوم في وسائل الإعلام، التي تمول من عرق جبينهم، إذا تهددت حياة المواطن في منطقة لقبايل هبوا لإنشاء لجن يقظة لتفادي خطر الأصولية GIA مع تكشف عجز النظام عن حماية أرواحهم.
الشاعر المتمرد غير معزول واقعه وهو واضح مع ذاته إذ يشهد أنه لم يسرق ثمن التذاكر، وحين يحصل الأمر، يذهب كمساهمة ودعم لعمل يحتاج ذلك الدعم ليرى النور، وباستثناء ذلك فهو يقدم عروضه عن حب لمن يتماهى معهم ويقيم فيهم وبينهم، والذي يقوده لهذه الممارسات هو حرية روحه، التي اتخذها طريقة علاج لنفسه وللآخرين؛ فهو لن يتردد في الحديث عن دخوله السجن وإذ يقوم بالأمر، فلكي يحذر من سهولة الانسياق إلى الهاوية؛ الحياة يلزم أخذها في بساطتها، لكن ليس بقدرية ما حتى لا تشل تحرره ولو تم في نوع من التراتبية، التي لا تنفي التقدير لمن هم في وضعية أدنى، فداخل درجة ما توجد دائماً مستويات تفاهم ترد المقهور اعتباره، أثناء وضعه تحت الحراسة النظرية جراء مبارزة بالسكاكين، تم إعفاؤه من القيام بأعمال التنظيف داخل الزنزانة، فحين دخل تم التعرف عليه بسرعة، لينشأ تواصل حار بين المجموعة، مادام يستدعي الحديث عن حياة لقبايل
أغانيه: تطرق باب الحب والحياة حتى الموت، هكذا لن يتورع في التنديد بالنظام الذي ينكره، ولأنه يزعجهم اختطفوه كما رموه بالرصاص(ص101)؛ كمغني ملتزم يعتبر نفسه ناطقاً رسمياً للناس البسطاء الذين يعرفونه ويعرفهم، لذا يأخذ الكلمة في الأماكن العامة وحتى في مقهى، ولن يتحفظ في التطرق للخمر "لا أرى لماذا سأكف عن الشراب بحجة أن بعض متعصبي الإسلام يريدون فرض الشريعة" لقد كان الدين المغلق على الدوام حاجزاً للتقدم وللمعرفة عموماً؛ صاع الحرج الذي منحه للنظام، بوضع أغنية عن الرئيس، لن يتأخر في أخذه بدوره، بإذاعة وشاية تجعله عميلاً للنظام مادام أن أعضاء عصبة حقوق الإنسان وضعوا في السجن، وأما هو فحر طليق وينتقد، فهذه الدعاية نالت منه لاستحالة وجود طريقة لتعطيل مفعولها، والخروج من الارتباك الذي انتشر عند السذج ممن تقبلوا النميمة وأخذوها الحقيقة والواقع؛ النظام حين يتحرك يكون بكل ترسانته القمعية، إنه مجتمع مسوق، المرء المنعزل حصاة يسهل التلاعب بها بل وسحقها؛ فحين ندد بلقاء بنبلة وابن أحمد الذي توج بتحالف في مدة لم تجف فيها بعد دماء الضحايا الذين سقطوا في المواجهات، ألف أغنية تنديد بالحادث، فلم تتأخر الإجابة بمحاولة تصفيته فضلا عن التهجم عليه ونعته بالفاشي على صفحات لبيراسيون الفرنسية، ولم تتكشف الحيلة إلا بعد مدة، غير أن الذي ينتظره أهول، إذ سيستقبل جسمه خمس رصاصات من قبل دركي، أقعدته 6 أشهر في المستشفى في انتظار أن يقضي بصمت، مع ما استتبع ذلك من آلام وعذابات وكذا بصيص فرح حد البكاء، ابتداء من تلقيم عظم بعظم عن خطأ، بات معه أعرجاً، وانتهاء بالزيارة التي قامت بها بضعة طالبات غنين له فيها أغنية: تعال، تعال؛ لقد تمت مباغتته وهو يوزع مناشير للتضامن مع متظاهرين بالعاصمة في 1988؛ غير أنه كان للعمر وقت آخر بالرغم من تواصل التماطل ليدخل في إضراب عن الطعام، قبل أن يتنازل المخزن في الجزائر وتتم الموافقة على نقله لفرنسا، وبدلاً من 6 أشهر صار معها مدمناً على مهدئ المورفين وحصد ما لا يحصى من الأمراض المعدية، لم يقم أكثر من 6 أسابيع كي يتعافى.
إذا كنا سنقيس عمل المتمرد بشيء، سيكون بمتوالية تكررت على الأقل مرتين، واحدة حين إطلاق الدعاية ضده، واتهامه أنه ممخزن، والثانية حين وضعت المجموعة المسلحة يدها عليه، هذه المتوالية هي: أعتقد أني سأجن؛ لدخوله في دوامة التراسل الداخلي بانعدام مع من سيتكلم وبالتالي كسر حلقة الخوف التي اجتاحته، من تم حاجة خلق قرين للخروج من القنط والقلق، ومع ذلك تواصل توتره أسبوعين قبل إخلاء سبيله.
لقد انهارت قواه من جهة وقوعه ضحية ابتزاز أثناء محاكمته لحد أن تراجع عن التزاماته وسلوكه لغلبة قطب الحياة عنده وليس الشهادة، على نحو ما قال شكري الذي كان يتأبط بدوره سكينا لعدم استعداده "الذهاب وحيداً الى المقبرة" إن باغته مجنون متشدد دينياً (القدس العربي العدد 7123 الخميس 19مايو 2012 )؛ وخلال وقت محنته كانت MCB – ح ث أ بالقبايل تتحرك للضغط على المعنيين لفك الحجز الذي يطاله من طرف المسلحين؛ عملية الاختطاف هذه أورثته قلقاً نفسياً، إذ سيتعرف على لونيس غريب عن الذي كانه قبل الحجز؛ ثمة مفارقة تنهشه بسبب الاعترافات المنزوعة منه نزعاً، والتي تفيد تخليه عن الغناء مستقبلاً من بين أمور أخرى؛ الخوف كمعطى له قوة خلط الأوراق بمنح تلك المنسية والمهملة مناسبة الانبثاق من نومها كوحش على غرار ما عبر عنه غويا مرة، الإستثناء أنه كان مهدداً ولا يحب الشهادة، لكن حتى خلف الانسياق الحر يكمن خوف ما لينتهي التحرر، ولا يكون التراجع ممكناً؛ مع لونيس الحياة هي من نادت، مادام يتشبث بكونه شاعراً مسكوناً بالعدالة والحرية والمقاومة حتى تحقيق أمازيغيته، التي باتت معادلة نكران أبدي يريده أن يمكث من غير ذاكرة أو مستقبل.
أفق لونيس معتوب ديمقراطي علماني ويوجد على طرف نقيض لدعامات الظلاميين، وهو أفق مفتوح على المقاومة بما هي حق في الدفاع عن النفس، دون أن يحب الشهادة أو يسعى لحجز تذكرة الدخول لجنة تسيل بما هو محظور عليه كل يوم، حتى يعيش الواحد وفقا لقيمه، وأما في حالة الحرب فيرى ما رآه هولدرلين مرة، بالحسم أنه أثناء الحرب نضع الأقلام تحت القماطر لحمل السلاح، لونيس من جهته يقول إذا كان لي أن أقتل من أجل الدفاع عن ذاتي وقيمي فلن أتردد (ص 279) لكن سخرية التاريخ جعلته هو من سيلقى حتفه باغتياله في 25 يونيو 1998.