إن تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار البرنامج الاشتراكي وتحلل حلف وارسو كانت ضربات موجعه حقا للروس غير أن كل ذلك كوم، وابتلاء الروس بعد تلك الكوارث الثلاث بتولى بوريس يلتسين رئاسة روسيا الاتحادية كوم آخر.
بوريس يلتسين السكير المدمن وعضو اللجنة المركزية للحزب الماركسي، وهو الحزب الذى كان سائدا في الإتحاد السوفييتي ودول حلف وارسو. استطاع يلتسين أن يقفز إلى سدة الحكم بعد أن أنفلت زمام الأمور من يد غورباتشوف، فتفكك الاتحاد السوفييتي وانهارت الاشتراكية وتشظى حلف وارسو، وأضحى الاتحاد الروسي كمركب تتقاذفه أمواج السوق المفتوحة وما جلبته من مافيات، والديمقراطية التى لم يعهدها منذ أمد بعيد وما جلبته معها من صراع مُخيف على السلطة، وما زاد الطين بِلَه أن المركب المترنح يبدو أن ربانه أكثر ترنحاً بل يكاد أن يقع على سطح المركب تحت وطأة الفودكا وأبواق الدعاية الغربية وضجيجها، وصارت دفة المركب تدور بطريقة عبثية سريعة يميناً وشمالاً أحدٌ لا يقدر على الاقتراب منها للإمساك بها لإنقاذ الموقف وذلك خوفا من الرُبان المثمول الذي يُمسك بيد بعنق زجاجة الفودكا التي يرضعها وباليد الأخرى بدفة المركب الذي يكاد أن يغرق!!
مصير حزين لإمبراطورية كانت كدب عملاق يقتسم مع النسر الأمريكي الكرة الأرضية، بل ويتقاتلا في حرب باردة كل يحاول الحصول على مكاسب من حصة الآخر، كانت حرب باردة لطرفيها غير أن أوارها كان يشعل نيران الحروب في أطراف الدنيا وتسيل دماء الشعوب أنهاراً، وتتداعى الأبنية انهياراً.
غير أنه في نهاية المطاف انهارت امبراطورية "الشر" كما كان يُسميّها الرئيس ريغان، وتشظى حلف وارسو وذهبت الماركسية وأحلامها الشيوعية أدراج الرياح.
وقفز يلتسين إلى السلطة على أكتاف المافيات والإعلام الغربي، وتدهور الاقتصاد وتفشت البطالة والفقر والجوع والتسول والتشرد في دولة كان ممنوع فيها أن يكون المواطن بدون عمل أو سكن أو طعام أو ملبس أو علاج!
انتشرت المخَدِرَاتْ بجميع أنواعها، وأمسى عدد العاهرات في موسكو أكثر منه في مانيلا التي كانت تسمى عاصمة الدعارة!
وكان يلتسين في هذه الأثناء يرقص مترنحاً شبه فاقد للوعي تحت وطأة الفودكا من جهة، وبسبب إيقاع التطبيل الإعلامي الغربي الصاخب، كان يلتسين كضفدعة تنق فرحاً فيما يجرفها التيار إلى مصير مجهول.
الأمم العظيمة تعرف تماماً كيف تنهض من كبوتها وتحول الهزيمة إلى نصر، و تحول الدمار والانكسار إلى بناء إلى صمود، كان هذا دائماً ديدن المانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا والصين واليابان.
هكذا تكون الأمم العظيمة وإلا ما كان ينبغي لها أن تكون عظيمة، بل أمم هزيلة تعيش على هامش الحياة شأنها شأن أمم عديدة متطفلة على الحياة غير فاعلة ولا متفاعلة مع مسيرة الحضارة والنمو والتطور!
كانت الأمور تسير إلى الأسواء لولا أن الأمم العظيمة لا تُعْدَمْ أن يبرز من بين صفوف أبناءها من ينتشلها قبل لحظات الغرق، وهذا ما تم حقا ففي هذه اللحظات المهيبة التي كانت فيها روسيا تبحث عن قشة تتمسك بها درءً للغرق، وإذ بفارس يأتي من الصفوف الخلفية من مكان بعيد، وكأنه لاعب من خط الدفاع في لعبة كرة القدم يتقدم حثيثاً في اتجاه مرمى الخصم دون أن يلاحظه أحد أو يحسب له أحد حساب ليستلم الكرة ويسددها هدفا في الدقائق الحرجة من زمن المبارة.
ذاك هو بوتين جاء مُسرعاً من هناك من بعيد من صفوف رجال ما كان يعرف بـ(KGB) جهاز المخابرات السوفييتي ذائع الصيت، الرجل خَبِرَ الصراع الإمبراطوري أبان الحرب الباردة، فهو كان في الجبهة الأمامية والأكثر خطورة في المجابهة بين العملاقين الروسي والأمريكي حيث كان متواجداً في المانيا الشرقية، لذا فهو على دراية تامة بطبيعة التحدي، ولا شك إنه قد أصيب بخيبة أمل حادة لما أنتهى إليه الصراع حيث خسرت بلاده الحرب الباردة.
غير أن الرجل المُشبع بتراث الإمبراطورية القيصرية ومن بعدها الإمبراطورية السوفييتية، الرجل الذى عايش بلاده وهي تحكم نصف العالم، لابد وأنه قد تأجج في جوفه الشوق للعودة ببلاده إلى أيام العظمة والآباء والسؤدد، ولا مندوحة من أن يكون بوتين وهو رياضي الجودو أن تفاعل مع خسارة بلاده للحرب الباردة بروح رياضية أكثر برودة ليس من الحرب نفسها بل أكثر برودة من شتاء روسيا القارص.
جاء بوتين وأعلن حرباً شعواء على الفساد، وشرع في استرداد أملاك الدولة التى باعها يلتسين بأبخس الأثمان حيث أعاد لمن اشتروها رؤوس أموالهم ومن رفض زج به في السجن، وعمل على تخفيض نسبة البطالة، وعدل مرتبات العاملين، ووضع حطة طويلة الأمد لمكافحة المُخَدِرَات والدعارة والتشرد والتسول، وأعاد بناء القوات المسلحة ماديا ومعنويا، وضرب بيد من حديد تمرد الشيشان، والأهم من كل هذا هو أنه أعاد للمواطن الروسي شعوره بأنه مواطن في دولة عظمى فاعلة ومتفاعلة في العالم.
كما طفق بوتين يلملم بقايا دول الإتحاد السوفييتي في تجمعات اقتصادية وأمنيه، مُشعرا إياها بأن ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم، واعدا بتعاون روسيا معهم اقتصاديا وأمنيا، وربط تلك الدول المنتجة للغاز والنفط باتفاقيات مكنت روسيا من التربع على أكبر مخزون للغاز في العالم وبذلك تحكم في دفء أوروبا في شتاءها الطويل.
ثم التفت بوتين نحو الشرق مُفَعِلًا البعد الآسيوي لروسيا باتجاه التنين الأصفر الصين الشعبية حيث تمكن من جرها إلى لتوقيع على معاهدة شنغهاي، وهي معاهدة عسكرية تضم الصين وروسيا وعدد من دول وسط آسيا هدفها الإستراتيجي الأول مواجهة توسع الغرب لاسيما حلف شمال الأطلسي في آسيا، بعد أن خسرت روسيا حلفاءها القدماء في حلف وارسو الذين انضووا تحت لواء حلف شمال الأطلسي.
وبعد أن أمتلئت خزانة روسيا بالعملات الصعبة أثر الارتفاع الفلكى لأسعار النفط، وبعد أن تمكن بقدراته الإستخباراتية من السيطرة على المشهد السياسي الروسي برمته.
طفق بوتين في مغازلة الأعداء التاريخيين لروسيا، المانيا وفرنسا عارضاً عليهم غاز روسيا لتدفئتهم في صقيع الشتاء وفاتحا أمامهم أبوب الاقتصاد الروسي للاستثمار، ومد خط غاز "السيل الجنوبي" تحت مياه البحر الأسود بالإضافة إلى خط " السيل الشمالي " الذي يمر عبر أوكرانيا.
وبعد الغزل بدأ بوتين التناوش من بعيد حيث عمل على الحؤول دون انضمام كل من اوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي وأعتبر ذلك خطر يهدد الأمن القومي الروسي لا يجوز بأي حال من الأحوال الموافقة عليه، حتى إنه في نهاية المطاف وَلج في حرب مع جورجيا وكاد أن يُسقط نظام "ساكاشفيلي" رجل الغرب المدلل في جورجيا، لا بل تم فصل جمهورية "أوستيا" عن جورجيا رغم أنف الغرب والشرق.
كانت تلك قفزة نوعية أرعبت الغرب، لم يتوان بوتين قي استثمارها مطالبا الغرب بتفكيك قواعده الصاروخيه والرادارية في كل من بولندا وتشيكيا، مهدداً بأن روسيا ستقوم بنصب صواريخ بعيدة المدى قادرة على حمل رؤوس نووية في الجيب الجغرافي الروسي المعروف باسم كالينينجراد والذي يقع على مرمى حجر من بولندا وتشيكيا، ورُغم أن الغرب دأب على ترديد أن تلك القواعد الصاروخية والرادارية في وارسو وبراغ هي لصد أي عدوان صاروخي إيراني على أوروبا غير أنه رضخ في نهاية المطاف وفكك تلك القواعد ونصبها في تركيا، غير أن الروس لا يزالون يرون في تلك الصواريخ خطراً يهدد أمنهم القومي ولم يفتئوا يطلبون من الغرب وحلف شمال الأطلسي تفكيكها إذا كان يسعون لسلام حقيقي.
ثم جاء محك آخر بين روسيا والصين من جهة، وأمريكا وحلف شمال الأطلسي من جهة أخرى، وذلك بعد أن اندلعت ثورات الربيع العربي فقد أستطاع الغرب تنفيذ استراتيجيته في بداية المطاف عندما مرر القرار 1973 بشأن فرض حظر جوي على ليبيا حيث تمكنت دول الغرب من اقناع روسيا والصين بلإمتناع عن التصويت على القرار المشار إليه، وكان ذلك نجاحاً باهراً للدبلوماسية الغربية، غير أن الغرب لم يتأت له تمرير نفس الأمر فيما يتعلق بسوريا فقد سارعت كل من الصين وروسيا إلى استعمال حق الفيتو ضد أي قرار قد يُشابه القرار 1973.
وهو الأمر الذي أدى إلى تصعيد يُماثل ما كان سائداً أبان الحرب الباردة، لأول مرة تعلن روسيا معارضتها بهذا الشكل العلني والحاد والمتواتر ضد المشروع الغربي في سوريا رُغم أنها تعرف أنها تراهن على الحصان الخاسر إلا إن مصالح الدول العظمى قد تدفعها أحيانا للمُخاطرة لكي لا تحسر كل شيء دفعة واحدة، ثم أنها قد تتاح لها المساومة على موقع بديل لما لا؟
بوتين منذ أن شرع في إعادة الروح للإتحاد الروسي، وطفق يتحسس مشاعر المواطن الروسي ويتفهم حاجاته، أستولى بذلك على ألباب مواطنيه الذين أعطوه أصواتهم لدورتين رئاسيتين، غير أن القيصر لازال خياله حافلاً بأحلام المجد والعظمة للأمة الروسية.
لما كان ذلك وكان الدستور الروسي لا يبيح له أن يتولى أكثر من دورتين رئاسيتين متواليتين، لذا فإن بوتين استطاع أن يستنسخ بوتين آخر، أو قل وكأن بوتين كان مدعواً إلى حفل تنكري فارتدى قناع بوجه آخر هو وجه "ميدفيديف" ليكون رئيساً فعليا للدولة، ويظل بوجهه الطبيعي رئيساً للحكومة.
كان بوتين رئيساً للإتحاد الروسي، كان هو الرجل الأول حتى وإن كان يتولى منصب رئيس الوزراء أو الرجل الثاني، فذلك تمظهر فقط أما الحقيقة فهو الرجل الأول بامتياز.
كان الكل يعرف ذلك الشعب الروسي وشعوب العالم ورؤساء الدول في الشرق والغرب وكذلك بوتين وميدفيديف. وقبل أن يعود بوتين إلى سدة الرئاسة عدل الدستور حيث أصبحت مدة الدورة الرئاسية ستة أعوام وليس خمسة فقط، بوتين يجهز للبقاء لدورتين أي إلى سنة 2024 وبعدها إن كان حياً سيستنسخ "ميدفيديف" آخر ويتراجع خطوة إلى الوراء كرئيس للوزراء ليعاود الكرة مرة أخرى لدورتين وربما يُعَدِلْ الدستور ليتيح له تولى السلطة لثلاث دورات.
إنه "فلاديمير بوتين" أول القياصرة الروس في الألفية الثالثة، إن الأمم لا تتخلى عن تراثها ببساطة، القياصرة الروس في الماضي يظلون قياصرة حتى الموت، وبعد الثورة البلشفية الأمين العام للحزب يظل في منصبه حتى الموت، وإذا ما استثنينا "خورتشيف" فإن غورباتشوف وحده من تنحى أو نُحيّ وحيث أنه لم يمت فقد مات عوضا عنه الإتحاد السوفييتي. أما يلتسين فقد فقد القدرة ليس على الحكم فحسب بل فقد القدرة على الوقوف والكلام وأشياء أخرى عديدة!!