يبحر الناقد الأردني المقيم في قطر في عوالم قصيدة الشاعرة اللبنانية كاشفا على خباياها، مستقصيا روحانيتها الباذخة في مزج بين الذات والطبيعة، في اندغام بين وحدات الموضوع والجو النفسي ومزج الروح بالطبيعة.

قراءة في قصيدة (نسيم الروح)

أيمن خالد دراوشة

عنوان النص/ نسيم الروح

قد لا نلتقي عاشقين

مَا هَمَّـني..

ابسط جَنَاحَيْك في سمائي

طائراً .. مُغَرِّداً

يَسْكُبُ روحي رُوحاً منك

يَنْحَني
لَها نَجْمُ الصَّباح


نَسيماً يُغَازِلُ السَّحَاب

يُرسِلُهُ زَخَّاتِ عِشْقٍ

عَلى هذي الهِضَاب


كُنْ لي شراعاً ..

يَقْذِفُ جُنُوني في البحر

يَحْملُني حَيْثُ الشَّمس

تَشِّعُ من منارةِ قلبك

تُضيءُ مِن وإلى الأزل

ليلَ الهَوى المَهيب

عَلى مَرافئ المَغيب


كُنْ لَحْظَةَ بوحٍ ..

تَعْبقُ بخوراً ، الرُّوح

رَجّ خلجاتِها الحُبُّ الخارق

كُنْتَ أنتَ الطَّارق

يَكْتُبُ الفَرَحُ قِصَةَ البَدْء


كُنْ
وسادةَ همسٍ ..

تَطوفُ حَوْلَ خيمتي “قيس”

لم تَطَأ أقدامُك خدري

ذراعاك مَا لَفَّتْ خَصْري

ولا غوَى رأسي ، صَدْرُك الداني

ما هَمَّني


إشراقةُ وجهِك صُبْحي

تَنسابُ رقة ً نَحوَ مَرْقدِ العذراء

تـُجللُ صَمْتَ الحَياء

يَبْتسمُ المَدَى الشفافُ حَوْلَنا

” نحن روحان حللنا بدنا”


رجاء..
عَانقيني أيَّتُها السَّمَاء

رَصِّعي قلبي بعقدِ النجوم

حُوريةً أصير ، أطيرُ بساطَ حبٍ

لا ظِلَّ امرأة بين النَّسَاء


كُنْ
ثَغْرَ فَجْرٍ ..


نقبله طَيفَ روحي معاً

على ترانيم أجْواقِ الملائكة

دَعْنَا نهيمُ مع النسيم

أيُّها الفَرَحُ الإلهي

لا تَكْتُبْ قِصَةَ النِّهايَة

من بداية القصيدة حتى نهايتها تهيم فينا ابنة الأرز في عالم العشق الإلهي فتتولد الألفاظ لديها ممزوجة بالطبيعة حيث الجسد ينتعش بالنسيم الذي سيخمد لهيب العشق وهي ألفاظ منتقاة بحرص وعناية شديدين:

قد لا نلتقي عاشقين

ما همّـني..

ابسط جناحيك في سمائي

طائراً .. مغرِّداً

فالألفاظ واضحة، سهلة موحية بالآلام النفسية لكن تحمل معها التفاؤل والفرح (تنساب رقة ً نحو مرقد العذراء ...)

كما نجد ابنة الأرز تستعمل الكلمات التي دلت على العشق والشوق  مثل:( (الروح، القلب، الشراع، الهوى، الصدر الداني، وغيرها من الألفاظ )) ويستمر الجو النفسي الحزين ليمتزج العشق مع الشوق مشكلا لوحة فنية أبدع الفنان في رسمها، ولننظر إلى حسن التقسيم والتنسيق المبهر في قول الشاعرة:

لم تطأ أقدامك خدري

ذراعاك ما لفت خصري

حيث نجد الموسيقى واضحة بإضافة ياء المتكلم؛ للإيحاء بأنه ألم خاص بها ، وما إضافة قول الشاعرة (ولا غوى رأسي ، صدرك الداني) إلا تأكيداً لهذا الشعور والإحساس بالألم.

وقد نوعَّتْ الشاعرة بين الأسلوب الخبري والإنشائي مما كان له أبلغ الأثر في نفس المتلقي، ومن الأساليب الإنشائية ((ابسط جناحيك في سمائي-  كن لحظة بوح.. حيث أفاد الأمر هنا معنى الالتماس)) ومن الأساليب الخبرية قولها: ((تطوف حول خيمتي “قيس” – يبتسم المدى الشفاف حولنا..))

وإذا ذكرنا الخيال عند الشاعره لوجدناه يشيع في الكثير من الأبيات (ينحني
لها نجم الصباح – يبتسم المدى الشفاف حولنا - يكتب الفرح قصة البدء)

فالأولى استعارة مكنية حيث تم تصوير نجم الصباح بإنسان ينحني وهو إيحاء بالتقدير ورفعة المكانة، اما الجملة الثانية هي استعارة مكنية وفيها تصوير للمدى الشفاف بإنسان متفائل يبتسم، وهو إيحاء بالفرح، وكذلك الجملة الثالثة حيث الاستعارة المكنية أوحت بالفرح والسعادة وفيها توضيح للفكرة.

انعكست الحالة النفسية الحزينة للشاعرة على الطبيعة حولها فرسمت ْصورة كلية لموقفها حينما قالت:

نسيماً يغازلُ السَّحاب

يرسلُه زخاتِ عشق

على هذي الهضاب


 كُنْ لي شراعاً ..

يقذفُ جنوني في البحر

يحملني حيثُ الشمس

تشع من منارة قلبك

تُضئُ ليل الهوى المهيب

على مرافئ المغيب

مِن وإلى الأزل

وقد امتزجت فيها الأفكار بالمشاعر فاكتملت أجزاؤها وعناصرها وهي ((الشاعرة والبحر، نسيم وزخات، والهضاب، والشراع والشمس، وليل الهوى، ومرافئ المغيب، والأزل))  وتتجلى فيها خطوط اللون، والصوت، والحركة. فاللون نراه في البحر والهضاب، والصوت نسمعه من رجاء والتماس الشاعرة نفسها، وزخات عشق، ويقذفُ جنوني...

ومن خلال تلك الصورة الكلية جاءت صور جزئية كقولها: نسيماً يغازلُ السحاب فهنا استعارة مكنية، حيث تصور النسيم عاشقاً يغازلُ السحاب ، وفيها تشخيص وإيحاء بامتزاج نفس الشاعرة بالطبيعة... ولعلنا نلاحظ  من خلال تلك الصور الامتزاج القوي بين الشاعر والطبيعة وبث الحركة فيها، وتتخذ منها متكأً تنعكس عليها المشاعر الفائضة كالبحر.

 وهي كما نرى أجزاء مؤتلفة تعكس حالة العشق والهيام لدى الشاعرة.

ومن المحسنات البديعية الجناس الناقص وسر جمالة الموسيقي وتحريكه للذهن ((المغيب/ المهيب/ الخارق/ الطارق/ الروح/ البوح))

لقد عبرت ابنة الأرز عن أحاسيسها ومشاعرها وانفعالاتها مع امتزاج بالطبيعة وتشخيص لها وبث الحياة والحركة فيها، وجعل الإنسان عنصراً من عناصرها، كما جاءت الافكار واضحة، مرتبة، عميقة، جديدة، فالقصيدة مترابطة الأفكار والمعاني، وكل فكرة تسلمك إلى ما بعدها في تسلسل قوي وإحكام بنائي بارز. وقد جمعت الشاعرة بين التصوير الكلي القائم على الصوت واللون والحركة، والخيال الجزئي من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، ومعظمها صور جديدة تعتمد على التشخيص...

برزت شخصية الشاعرة كما تبدو لنا من خلال النص رقيقة الشعور، مرهفة الإحساس، عميقة الفكر، رائعة في التعبير والتصوير إضافة إلى وحدة الموضوع ووحدة الجو النفسي ومزج الروح بالطبيعة...

وختاماً بقي أن نعلم ان الشاعرة ابنة الأرز قد نالت لَقب السفيرة الروحية للشعر اللبناني.