في اللحظة التي ينتهي فيها القارئ من قراءة العنوان، يقفز أمامه المسكوت عنه، جوابا على السؤال المفترض بين ثناياه، والذي يفترض أن يكون مشكلا من الصيغتين التاليتين:
أـ وحين يكون الحزن وحده(سيد الزمان والمكان). والقارئ لايتردد في ملء البياض، بعد الإنتهاء من القراءة، بمظاهر الحزن التي ترسبت في الذاكرة والوجدان.
ب. أما الصيغة الثانية، فإنها إقرار لارجعة فيه، بقناعة السارد بسيادة الحزن، وتجلياته، دون غيره. وها كم كتابي دليلا على ذلك. وتتوالى النصوص.
السارد، إذن، محترف للحزن. فالفرح ( ليس بمهنته)، كما جاء على لسان سيد الحزانى "محمد الماغوط" في إحدى قصائده، فضلا عن مواقفه في السياق ذاته.
ولعل هذا ما يفسر انتفاء جدلية الثنائية الضدية التي تحولت، في المجموعة، إلى رؤية واحدة، و وحيدة، يسود فيها السواد، بعد أن غاب البياض- ماديا ودلاليا- أمام زحف السواد.( حولت الذاكرة جهة المهم والأهم، لالشئ سوى لقناعتي بأن الألم، أحد ركائز الحياة الدنيا والآخرة)." أوهام الماء.ص.8".
مرجع ذلك يعود إلى:
1- عدم اعتراف السارد ب( الآن) الذي – الآن- لايتجاوز الفضلة على حد تعبير أهل اللغة والنحو. فالمظاهر الحالية مظاهر كاذبة، تنشر الوهم، والإيهام والزيف والخداع. وبالمقابل ينهض الماضي، ماديا ودلاليا، بكل ما اختزنته الذاكرة من قيم الجمال في الفكر والسلوك، في المرئي والمسموع، في التعايش بين المقيم والظاعن، لغة وتقاليد ومواقف إنسانية.
2- وبالمقابل يصبح الماضى واحة ظلليلة لانتشار القيم، وتعايش اللغات والمسلكيات للمقيم والظاعن، وترسيخ التواصل بين الإنسان وذاته، بين الإنسان والعالم، بشرا و مكانا وعلاقات مختلفة تنتصر ل( الشرط الإنساني) في صراعه اليومي ضد التدمير والتشييئ وكل مظاهر القتل البطيء للمكان الي تحول إلى خراب، وللزمان الذي أصبح روتينا مرضيا، وللإنسان الذي أصبح رقما زائدا.
ماذا يبقى إذن؟ العبث. وهذاالأخير يأخذ بعدا" أنطولوجيا" يمتح – فضلا عن التجربة اليومية- من مرجعيات عديدة تداخل فيها الفلسفي ب"الأمبيريقي"، والأدبي بالتاريخي، والسياسي بالإديولوجي.. ويندر أن يخلو نص من إحالة مرجعية تحمل أسماء عديدة لفنانين وكتاب وفلاسفة ومناضلين ورجال سياسة ..
هكذا يصبح العبث ردا معقلنا على ما يجري، أما م السارد من مظاهر القتل اليومي.( تأكد أن زمن الأسئلة قد انقضى وولى، ولم يعد للسؤال قيمة سوى في مجالات الحكمة والإلهام وتدبير الشأن العام)."الأسئلة.ص.68.
العبث، إذن في هذا السياق، ليس مجانيا، بل هو رد فعل على فشل أطروحات المثقف المتوزع بين أوهام الثورة حينا، وأحلام اليقظة حين آخر.ولهذا ترصعت معظم النصوص بأسماء‘ وإشارات عديدة، للمجاطي والشعراء الصعاليك( الملعونين) والرسل وبوليتزر وديكارت والمنفلوطي... فضلا عن عناوين مؤلفات عديدة ودراسات مختلفة ومواقف متنوعة.. كلها تصب في نهر زمن ولى دون رجعة.
ومن ثم يصبح الكأس( تسعفني الكأس ولاتسعفني العبارة) هي البداية النهاية. وتجدر الإشارة إلى أن الشراب يرادف الماءبدلالات عديدة كما جاء في المقطع التالي(.. ليس المهم صراع اللوغوس مع الميتوس، المهم، صراع الماء والدخان مع الذات. حين نولد نغتسل بالماء، نصيح، نبكي، وندخل المهد، نرتخي ونشعر بالراحة التامة، لقد خرجنا من الماء وسنعود إلى الماء، حين نموت نغتسل بالماء. ويقرأ الفقهاء البسملة، وآيات الذكر الحكيم. ونوضع تحت اللحد، نتوسد التراب).
الماء، إذن، هو:
- الوجود والعدم.
- الثلوث والطهر.
-الوعي واللاوعي.
-الهدوء والصخب.
- الوشم والمحو.
- المقدس والمدنس.
- الإبليسية والتعميد.
والعناصر الأربعة المكونة للعالم، عند الفلاسفة القدامي، تؤكد على دور الماء- بدلالالته المختلفة- في خلق الكائن ذاته، وما يحيط به من عوالم مختلفة لعب فيها الماء دورا محوريا، تحكم في قدر الإنسان ومصيره.
ترين على هذه النصوص مسحة " نوستالجية" ظاهرة، أحيانا، خفية، أحيانا أخرى، من خلال المستويات التالية:
1- مستوى "البورتريه" عبر ملامح نماذج إنسانية تميزت بطيبوبتها، وعلاقاتها الإنسانية المتعددة، فضلا عن دورها الحاسم في تفتح الوعي والجسد في آن واحد.( سلبادور/موت الطيب بنسالم/روزانا..)
2- مستوى الأمكنة من خلال إصرار السارد على تقديم أمكنة أثيرة لديه، عبر علامات محددة. فالخيانة لاتقتصر على الإنسان، بل إن ( المدن تخون أيضا).
3- ومن الطبيعي ألا ينفصل المكان عن الزمان الذي توقف، بالسارد، عند نقطة محددة، كان فيها الإنسان إنسانا، قبل أن يتحول إلى كائن مفترس، يفترس ذاته والذوات الأخرى.
من أهم خصائص الكتابة، في هذه المجموعة، نجد الآتي:
&- الانطلاق من الداخل نحوالخارح، والعودة- من ناحية أخرى- من الخارج نحوالداخل.ومن ثم يصبح الداخل، سواء تجسد في مكان ملموس- وأغلب الأحيان حانة من الحانات- أو تجسد في أدغال النفس، فإن السارد يظل مرابطا داخل هذه الحدود التي قد تضيق إلى أن تصبح في حجم حبة عدس، وتتسع لتصبح مرادفة للعالم، بكل دلالاته.
&-خصيصة التوليد التي تجعل من النص نصا متحركا في كل الإتجاهات، ينغل بالأسئلة، والموقف والموقف المضاد، والوصف والتعليق، والتقسير والتأويل، والنقد والتقرير، والسخرية والهجاء..
( -الحياة لاتحتاج إلى مواعيظ.
-الحانة قبر لايحتاج إلى ورود.
-الحزن كيمياء الجسد.) سلبادور.ص,6.2.
( - ماهو الفقر؟
- ماهي المرأة؟
-ماعلاقة المرأة بالكتابة والحب؟
-ماعلاقة القتل بالورد؟
-ماعلاقة السيدا بالإيمان؟
-ماهلاقة الغولف بالشعر؟
- ماعلاقة طيور الليل بالأسبيرين؟) الأسئلة.ص.64/65.س
&- ونتيجة للخصيصتين السابقتين يتحول جسد النص إلى قطعة شطرنج يمارس، من خلالها السارد لعبا كالهزل، وهزلا كاللعب. إنها لعبة الكلمات التي قد تستقل بوجودها النصي، بعيدا عن سلطة السارد، الذي يتحول، بدوره، إلى متأمل لهذه اللعبة المتحركة فوق بساط الشطرنج.
& الحس الساخر المغلف بإهاب مأساوي يعكس انهيارا متواصلا للسا رد والعالم في آن واحد. والسخرية، في معظم هذه النصوص، سخرية سوداء، ترتفع أحيانا، إلى أعلى مراحلها لتصير هجاء. وتنزل إلى، أسفل درجاتها، لتصير دعابة تقطر أسى. فهي- كما جاء على لسان المتنبي- ضحك كالبكاء. في المستوى الأول نقرأ التالي: ( هناك أشياء جميلة ينبغي أن تتكرر.. مثلا.ا انفتاح الشهية، انفتاح الساقين، انفتاح الصدغين...انفتاح الفخذين، انفتاح العالم المتخلف على العلم، انفتاح العيون وسط اليم.) أوهام الماء.ص7.
وفي المستوى الثاني نقرأ ( الصمت حكمة ومن أوتي الصمت، أوتي خيرا كثيرا. ومن أوتي صمتا أكثر، أوتي منصبا أكبر) حانة النحل.ص.\"30.
& التوليف بين اللغة العالمة واللغة الشعبية، بين الفصيح واللهجي، بين النثر المنحط- بلغة لوكاتش- والنفس الشعري- على ضآلته- المخفف من حرارة المآسي المتلاحقة.