ساهم الأدب فى مصر فى ازدراء موظف الأرشيف، وعد قسم الأرشيف نفيًا لهذا الموظف، هذا الإسهام الأدبي كان جزءًا من حالة من عدم الوعي سادت الدولة المصرية فى أعقاب ثورة يوليو 1952، بأهمية أرشيف الدولة كمرجع لكل شئونها، وهكذا رأينا قانون للوثائق غير إلزامي لكافة جهات الدولة بتسليم أرشيفها لدار الوثائق الوطنية، بل رأينا ازدواج فى أداة الدولة لحفظ أرشيفها بين دار المحفوظات التي تتبع وزارة المالية ودار الوثائق التي تتبع وزارة الثقافة.
هذا ما يفسر لنا ببعثرة آلاف الوثائق من أرشيف الدولة هنا وهناك، بل حتى جهل لدى موظفي الدولة بأهمية هذا الأرشيف، وحيت تمتلئ غرفة الحفظ بآلاف الأضابير، أي المستندات المربوطة بضوبارة، يلجأ إما إلى تكهينها أو تشكيل لجنة لبيعها بالكيلو لبائعي الورق المستعمل، ويكون مصيرها إما إلى بائعي الفول والطعمية لتلف بها السندوتشات أو غيرها من الاستخدامات، أو لجامعي المستندات الحكومية الذين يدركون قيمة هذه الأوراق، هكذا تسللت آلاف الوثائق إلى خارج مصر لدول الخليج أو لجامعات ومكتبات أوروبية وأمريكية ومؤخرًا فى مفاجأة تثير الحسرة إلى جامعات فى شرق أسيا.
وقد يتساءل أي مواطن مصري وما قيمة هذه الأوراق؟، إنها الذاكرة الوطنية التي تحمل أدق تفاصيل العمل فى دولاب الدولة المصرية، فيمكن من خلال تربيط العديد من الوثائق مع بعضها استنباط معلومات عن الدولة والمجتمع، لذا جاءت قرارات بعض الدول بحجب وثائقها لفترة زمنية محددة بهدف حماية الأمن القومي لهذه الدول، فضلاً عن أن هذه الوثائق عادة ما تكون كاشفة لتاريخ المجتمع والدولة لذا فإن فقدان هذه الوثائق سيكون كارثة على العاملين على دراسة التاريخ، فهل يعقل إن أردت دراسة نشوء وتطور صناعة الالكترونيات فى مصر، أن يسافر إلى اليابان أو بريطانيا للبحث عن وثائق مصرية تتعلق بهذه الصناعة، إن هذا الموضوع بات الآن على المحك.
والكارثة الحقيقية أيضا أن بعض مسئولي الدولة من رؤساء الوزراء إلى وزراء إلى مسئولين كبار فى الدولة، يغادرون مكاتبهم ومعهم مستندات وأوراق تتعلق بعملهم، ظل هذا عرفًا جاريًا لسنوات فى الدولة، ومع وفاة بعض هؤلاء يستغنى الأولاد والأحفاد عن هذه الأوراق ببيعها لبائعي الروبابيكيا، فيصير أرشيف الوطن رهين أفراد.
على الجانب الآخر تشددت بعض جهات الدولة فى الحفاظ على وثائقها لدرجة أصبح معها من المستحيل دراسة أحداث فاصلة فى تاريخ الوطن مثل حرب 1956 أو حرب 1967 أو حرب 1973 أو تفاصيل ما كان يدور فى مؤسسة الرئاسة خلال عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، بل صارت المصادر الإسرائيلية والأمريكية والبريطانية والفرنسية هي المتاحة للباحثين، فتشكل الكتابات التاريخية وفق ما كانت تراه مصالح هذه الدول لا مصالح مصر الإستراتيجية.
لقد اتخذت فى السنوات الأخيرة خطوات لا بأس بها سواء فى دار الوثائق بمحاولة حصر أرشيفها أو فى دار المحفوظات عبر مشروع بدأ أخيرا من خلال مكتبة الإسكندرية لرقمنة ملايين الوثائق فى مشروع يهدف إلى حصر دقيق لكل مقتنيات الدار وفهرستها وتصنيفها وإيجاد نسخة رقمية لكل وثيقة وورقة وقصاصة، بحيث يمكن استدعائها عبر شاشة الكمبيوتر، ثم تقديمها لمن يرغب من المواطنين فى الحصول على خدمة تتعلق به، مثل ملف خدمة أحد العاملين فى الدولة ـ أو شهادة ميلاد لجده، أو تسلسل ملكية قطعة أرض أو مبنى، هذا ما يجعل الأرشيف الوطني المصري متاحًا لكل المصريين، بل يمكن أن يؤدى خدماته عبر شبكة الانترنت مستقبلاً، فلن يكون هناك حاجة للمواطن أن يتحرك من أسوان إلى القاهرة للحصول على أوراق تهمه فى هذا الأرشيف، تستطيع عبر تصفح أرشيف دار المحفوظات العثور على ملفات هامة مثل ملف خدمة طه حسين، وملف حسين باشا رشدي وبه أمر من الخديوي بتعيينه ناظرًا للحقانية فى وزارة بطرس باشا غالى، وخطاب بتعيينه مدرسًا للقانون بوزارة المعارف، أما أحمد شوقي أمير الشعراء فستجد من طرائف ملفه مذكرة حول تحديد عمره وأخرى لتعيينه بالديوان، وخطاب آخر يستفسر عن صحة اسمه، وبيان بمدة خدمته فى الدولة المصرية، ثم براءة منحه النيشان العثماني.
لذا بات من الملح الآن التشديد على محاربة ظاهرة الانفلات فى أرشيف الدولة المصرية، بدءًا من أرشيف المحليات إلى أرشيف رئاسة الدولة، وإعادة النظر فى القواعد المقيدة لإتاحة هذا الأرشيف للباحثين، عبر أقرار قانون جديد للوثائق، ودمج دار المحفوظات المصرية فى دار الوثائق مع إعطاء دار الوثائق السلطة على كل أرشيفات الدولة المصرية، مع أقرار كادر خاص لموظفي هذه الدار، مع بدء التفكير الجدي فى بناء أرشيف رقمي للدولة، إذ أن استخدام الرسائل الالكترونية والتسجيل الرقمي فى الدولة على نحو ما هو حادث بصورة نسبية فى إدارات المرور والسجل المدني يتطلب تطوير مفهوم الحكومة الالكترونية التي تقدم خدماتها للمواطنين بسهولة، هذا ما يستدعى أن يتوازى مع هذا كله إقامة أرشيف رقمي وطني يوازى الأرشيف الورقي الوطني، مع حفظ عدة نسخ من كل أرشيف فى أماكن مختلفة خوفًا من الكوارث. لكن إضافة إلى ما سبق فان النظر إلى الأرشيف الوطني على أنه الورق فقط هو منظور ضيق لفكرة الأرشيف الوطني، فالعملة المصرية مثل الجنيه الذي بدأ إصداراه عام 1898 بفرمان من السلطان العثماني تعد جزءًا من هذا الأرشيف، وكذلك طوابع البريد والأفلام الوثائقية والسينمائية التي تسجل مشاهد من الحياة فى مصر، فمن خلالها مثلا نحصل على مشاهد حية لافتتاح الملك فاروق البرلمان المصري، أو حفلات دار الأوبرا المصرية التي احترقت فى عام 1970، أو لحى مصر الجديدة فى بدايات القرن أو استقبال سعد زغلول حال عودته من المنفى.
بل إن الصحف والمجلات المصرية تعد أيضا جزءًا من الأرشيف الوطني لذا بات من الملح حصرها منذ صدور الوقائع المصرية إلى الآن حصرًا دقيقًا لمعرفة على الأقل عددها ولغاتها وكتابها، وهو ما بدأ فيه مشروع ذاكرة مصر المعاصرة، بل وصل الأمر إلى شراء نوادر منها، مثل مجلة الضياء أول مجلة علمية مصرية والتنكيت والتبكيت وكذلك أبو نضارة واللواء وغيرها.
الوعي بمصر وبتاريخها هو هدفنا من الحفاظ على أرشيف الدولة المصرية، وهى قضية ينبغي أن يسعى إليها المصريين، وقد كانت لي مفاجأة مذهلة حين عرفت أن أحد الهواة جمع أرشيف الموسيقى والغناء المصري منذ القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، فقد جمع الجرامفونات بأشكالها وأحجامها وأسطوانات الموسيقى والمطربين والنوت الخاصة بالألحان، وأصول كلمات الأغاني، هذا ما يجعل لديه متحف للموسيقى والغناء ينبغي أن تقتنيه الدولة قبل أن يذهب ليد أخرى....!