في مجلة «الأديب» اللبنانية، ينبري سلامة موسى يحاور قارئ سنة 1954، وكأنه يحاور قارئ اليوم حول بعض مشاغل "نظرية الأدب"، كالتواشج العضوي بين الجماليّة والمعرفة، ووظيفة الأدب، ومعيارية سؤال عظمة المنجز الأدبي في التاريخ، ومسؤولية المثقف تجاه الواقع.

من هو الكاتب العظيم؟

سلامة موسى

إعداد أثير محمدعلي

 

كيف أفهم الأدب؟

أفهمه على أنه معالجة الإنسان في جملته، أي في كليته فإن الهندسة فن يعالج المباني، والكيمياء فن يعالج المواد والطب فن يعالج الأمراض.

ولكن الأدب فن يعالج الإنسان جملة لا تفصيلاً. فهو يزن الموقف الفلسفي، والموقف الجنسي، والموقف الاجتماعي، وسائر المواقف البشرية للفرد، بحيث انتهي من هذه المعالجة إلى أن أعرف قيمة الفرد في المجتمع وفي الدنيا وفي الكون. وانتهي إلى أن أقارن موقفي أنا القارئ بموقف هذا الفرد سواء كان موضوع قصة أو مقال أو ترجمة بحياة إنسان.

الأدب العصري يطالبنا بألا نجعل مراسينا الاجتماعية وفق التقاليد في الألف السنة الماضية، وإنما وفق ما نستعد له من نظم في الألف السنة القادمة.

الأدب القديم ورد نتشممه ولذة عابرة ومزاح وترف ذهني. ولكن الأدب الجديد همّ وقلق، ودراسة وبرنامج للحياة، وتوسع في الوجدان، وارتقاء لشخصي أو مجتمعي، وزيادة في الفهم والإنسانية.

وإذن من هو الأديب العظيم الذي يجب أن نقرأ مؤلفاته؟

هو الأديب الذي يدلّ. أي أن له دلالة.

وأعظم ما يجعله يدل أن تكون له رسالة اجتماعية أو إنسانية. ذلك أنه لن تكون له رسالة إلا إذا كان قد درس الإنسان في جملته، بل إن رسالة الأديب هي الفرق الأساسي الذي يفصل بين الأدباء القدامى وبين الأدباء العصريين. وليس هذا في أدباء العرب وحدهم بل أيضاً في أدباء أوربا.

كان الأديب القديم يكتب ويؤلف كي يزيد استمتاع القارئ ولذته. ولكن الأديب العصري كاهن أو إمام يكتب كي يزيد الفهم للحياة. ويزيد التوسع الذهني، ويزيد الوجدان. كأننا نزداد وجوداً بقراءته.

كان الأديب القديم مهرجاً أو يقارب المهرج، يضحك ويسلي، ولكن الأديب العصري كاهن أو إمام يكتب بإلهام، يعين القيم، ويهدف إلى المستقبل، ويحس أن له رسالة. وبالطبع هناك استثناءات، فإن المعري والجاحظ وابن حزم وأمثالهم لم يهرجوا، وأنا أسميهم لذلك قدماء معاصرين.

وإذا شئت أيها القارئ أن تنتقد وتعرف القيمة والوزن لأحد الأدباء في مصر أو أقطار الشرق العربي، فاسأل هذا السؤال:

ما هي الرسالة الاجتماعية أو الإنسانية التي يدعونا إليها هذا المؤلف؟ وهل هو يزيد استمتاعنا ولذتنا فهو إذن قديم، أم هو يزيد فهمنا للحياة ويطالبنا بكفاح من أجل الخير والمساواة والعدالة الاجتماعية، وبكلمة أخرى ما هي دلالته؟ هذا محك هذا الامتحان.

ومحك آخر أو امتحان آخر أن نسأل ما هي القيمة التمدينيّة في هذا الكاتب؟ هل هو يزيد إحساسنا الإنساني بحيث نتعلم منه ونتربى من مؤلفاته فنكبر من شأن الإنسان، وننكر التعصب اللوني، والتعصب المذهبي، والتعصب الديني، ونحترم الإنسان لأنه إنسان قبل كل شيئ؟

أيها القارئ؟ من هو المؤلف المصري أو العربي الذي زاد إحساس الإنسانية عندك وحملك بمؤلفاته على أن تأخذ بالأسلوب المتمدن في سلوكك وأخلاقك؟

إن الكاتب العظيم هو الذي يغيرنا بحيث نحس عقب قراءة كتابه أننا لم نعد كما كنا قبل قراءته، وأننا تغيرنا إلى أعلى.

وإذن من هو هذا الكاتب؟

إن أعظم ما يغير الدنيا في عصرنا، ويغير الفرد والمجتمع، هو العلم.

العلم هو النعمة والنقمة في عصرنا. وهو القوة المحررة للعقول. ومن أعظم ما يجب على الأديب أن يوجد مناخاً حراً للأفكار الحرة حتى تعيش وتنمو.

والمؤلف الذي يحمل هموم الإنسانية في صدره لا يمكنه أن يهمل العلم أو بالأحرى العلوم التي توجه إلى السداد في الحياة بتنظيم الاقتصاد والكيمياء والطبيعيات والميكانيات والبيولوجية والسيكولوجيه لخدمة الإنسان.

فمن هو الكاتب أو الأديب الذي خدمك في هذه الناحية؟

إني لا أقرأ كتاباً في نقد الأدب في أوربا إلا وهو يخص داروين وفرويد بفصول ويوضح أثرهما في التوجيه الذهني والنفسي، وكلاهما عالم.

هل أوضح لك أحد من الأدباء هذا التوجيه في مصر؟

(الأديب، س13، ع12، بيروت، ديسمبر 1954)