يتوقف محرر الكلمة عند تجربة شعرية من السعودية، شاعرة مسكونة بالقصيدة وبوجعها ومن خلالها تستحدث أفقها الحر. قصائد تبحث باستمرار على "التشكل" وفق ما تقتضيه حالة ولادة النص الشعري من رحم التشظي والقسوة، لذلك تظل هذه القصائد تحتفظ بانفتاح بلاغتها على الحياة والقصيدة..

السير جنب الحادثة

عبدالحق ميفراني


"لما لا تمر قصيدتي/تلك التي قالت:/سأصبح مستحيلة؟"هدى الدغفق

 

صدر في طبعة ثانية ديواني الشاعرة السعودية هدى الدغفق، "الظل الى أعلى" و"لهفة جديدة"، وهما معا عن دار المفردات للنشر والتوزيع، وكان ديوان (الظل إلى أعلى) قد طبع عام 1993م وصدر عن دار الأرض. وقد أضافت الشاعرة الدغفق ثمان نصوص جديدة الى ديوان "الظل إلى أعلى" في طبعته الثانية لم تنشر في الطبعة الأولى. الديوان الآخر (لهفة جديدة ) الذي صدر في طبعته الأولى عام 2001م عن دار كنوز في لبنان.الشاعرة أعادت تنظيم نصوصها حسب سياق فكري متجانس واستحدثت لمضمون ديوانها ( لهفة جديدة) تبويبا شعريا.

الشاعرة هدى الدغفق، شاعرة سعودية .عملت في الصحافة السعودية منذ عام 1989 م وفي بعض الصحف العربية منها جريدة الحياة ومجلة الوسط الصادرتين من لندن.  تكتب القصيدة الحرة وقصيدة النثر منذ عام 1983 م  مثلت الشاعرات السعوديات في عدد من مهرجانات شباب دول مجلس التعاون الخليجي في كل من البحرين وعمان و الإمارات العربية المتحدة وقطر... كما مثلت الشعراء والشواعر السعوديين في مهرجان المتنبي الخامس للشعر العالمي في سويسرا 2005م .‏‏ كما حاضرت عن الصحافة السعودية والخليجية باعتبارها من العاملات في الصحافة بشكل شامل. كما شاركت في فعاليات ملتقى المرأة والكتابة في دورته السادسة، الملتقى الذي ينظم كل سنة في مدينة آسفي الساحلية المغربية، بمبادرة من اتحاد كتاب المغرب وجهة دكالة عبدة. وخلاله قدمت الشاعرة هدى الدغفق الى جانب شعراء وشاعرات آخر قصائدها.

في ديوانها "الظل الى أعلى" تهدي الشاعرة قصائدها "الى الشعر الذي جعلني ألمحه" وكأنه كثلة الجمال الوحيدة، وكأنه الحياة الوحيدة التي تستحق أن ترى، في قصائد الديوانين معا، تكشف النصوص عن رؤاها، وعن تشظي الذات في اللغة، فجل النصوص غير معرفة خالية من "أل" التحديد، وفي ذلك انفتاح اللامحدود، في انفتاح الشعر على ذات مثخنة بالسلب وبفجيعة العدم.

قصائد للغياب حيث المعنى لا زال "حيا في بطن الشاعر"/ص44-قصيدة المعنى-لهفة جديدة، المعنى "المذبوح في الشارع" فهل ثمة معنى لهذا اللامعنى، حيث يكتشف الشعر إحدى أوجه حقيقته:

قصيدتك

لا تحرق سواك

...أيها الشاعر <ص45/لهفة جديدة>.

وفعل الاحتراق هنا، لا يحيد عن سياق فعل الكتابة الشعرية ذاتها، فعل غير مسبوق، إذ تبدأ وتنتهي عنده التماعات النص، في قصيدة "رذاذ"/الظل الى أعلى"، تخطط الشاعرة حياة ومسارات النص في انوجاده وتشكله في حياته، وفق فعل الحلول الملاحظ بين الذات والكتابة:

في الصفحة الأولى

أرمي الفراغ

لأرتمي في قلبها

للصفحة الأخرى

ألوذ برعشة

هي أحرفي

أخشى علي فراغها المغري

داخل لعبة الحواس الممتدة بين جسدي هذا التقاطع جسد الذات وجسد النص، ينتهي الجسد على البياض، وينتهي في اللغة، عندما يزيل آخر ثوب شفاف للفراغ، ولهذا الفراغ حضور لافت في الديوانين معا، إذ يقابله فعل الامتلاء المطروح أساسا كبديل لهذا التشظي والانجراح، النصوص صدى لرنين الرغبة والتي لا تمتلأ إلا وسط حواشي النص، ووسط صياغاته، وسياقاته التركيبية، ويقابل هذا الفراغ الإنسي، فراغ بلاغي تشكله الثيمات، ليس كموضوعات بل كبديل نفسي لهذا الفراغ الذي يسكن السريرة. إن نصوص الديوانين معا هي وسائط لهذا الحلول اللانهائي، كي تحضن القصيدة في النهاية ثورة الشاعرة وباعتراف نصها رذاذ، لكن، أي ثورة مهموسة ترسل صداها الشاعرة من خلال نصها الشعري؟؟؟

في قصيدة "دون هيئته..أكون"-ص66-الظل الى أعلى-، تبحث الشاعرة عن لغة القصيدة، شكل من "زيف" تقترفه، وفي ذلك تتوسط النصوص منطقة العبور، بين النص الشعري في تشكله المعطى/الطباعي، وبين النص الشعري المؤجل، وفي هذا العبور، بلاغة قصائد الديوانين معا.تؤكد الشاعرة هدى الدغفق أن " هناك قصيدة تنمو في أعماق الشاعر وذاكرته ولا تخرج إلا بعد سنين من نموها الفكري وهناك قصيدة تخرج ولا تنمو إلا على الورقة وبين يدي الشاعر. ويتعامل الشاعر معها مثلما يتعامل البستاني مع نباتاته وأشجار بستانه وهو يقلمها" وبهذه التركيبة "السحرية" البلاغية تشكل القصائد من ذات الصياغة، لكن وفق رؤية لا زالت تستحضر راهن فعل الكتابة، كفعل غير "تقني". إن القصائد لا تمثل إلا وجع الصدى، وجع الغياب، وجع الفراغ، ثالوث بلاغي يسكن ذات التشظي المفتوحة على أفق الرؤيا..

لأني عاصرت حالة دفني

تجدرت بالرمل

مارست توق الخروج عن الخارطة<ص70-الظل الى أعلى>

تعيد جغرافية هذه القصائد فعل العبور، لكن هذه المرة نحو انعتاق أبلغ "الحرية" وتحتال النصوص على هذا الفعل المسكون في الغياب لكنه، أبلغ تأطير لصورة الذات المغيبة قسرا، ذات تحتاج النص الشعري كي تنكشف في المدى واللغة. ذات مسيجة بأقانيم الخيال الجمعي، تزيح ستائر وأحجيات ومنظومات بطريكية، "مسوغات الوأد" المشكلة في صيرورة الوعي الجمعي.

الشاعرة هدى الدغفق في النهاية لا تكتب إلا كينونتها كينونة مقيدة بأغلال العالم وبمنظومات مجتمعية شبيهة بشرائع التحريم الشاعرة في النهاية لا ترسم إلا لغة بفرشاتها بماء القصيدة..لذلك نستوعب تلك "الصرخة" البلاغية للشاعرة حينما تقول أنها "مع القصيدة لثائرة بشكلها، بجنونها بتعبيراتها".

الآن تحضر القصيدة

ألغي ارتباطات الزمان

كلها

حتى الذهاب الى الحمام

أجله

توارت القصيدة

فلا زمان حاضر

قضى

ولا زمانها

ابتدا<جناح أرضي-ص30-الظل الى أعلى>.