نتعرف من خلال هذه المقالة على سمات وملامح التجربة الشعرية الجديدة في تونس من خلال ديوان الشاعرة فاطمة بن محمود، خصوصا مع التحول السياسي الذي تشهده البلاد وهو ما يؤسس لمرحلة جديدة للتجربة الإبداعية في تونس

شعر جريء يعكس الوجه الجديد للقصيدة التونسية

حميد ركاطة

تحاول الشاعرة فاطمة بن محمود من خلال ديوانها " الوردة التي لا اسميها""1" الانفتاح على افق القصيدة الجديدة الضامرة الحمالة لدلالات واحتمالات متعددة قصائد أشبه "بالهايكو اليابانية" في شذريتها ما جعلها اختيارا استراتيجيا من خلاله تعمل على تقديم مواقفها ومنظورها شعريا للقارئ، وهي مواقف توزعت بين الشوق والبوح وصورة الأنثى.. وتمثل جسدها المستباح دوما من خلال الارتكاز على تجليات الوردة بشكل إستعاري للدلالة على حالات نفسية تترجم سواء من خلال الواقع أو عبر الحديث عن الجنس والطفولة والتحولات السياسية بتونس.

فالقصائد وظفت فيها تقنيات كتابة متنوعة ونحتت من الأجناس الأدبية الأخرى "القصة" وباقي الفنون التعبيرية "التشكيل / الصورة..". كما رصد صورة الوطن الجريح والتحولات السياسية في تونس والموقف من الديمقراطية والتوق إلى الحرية والنبش في تفاصيل الحياة اليومية سواء العامة أو الخاصة من خلال تقديم صورة المرأة المنكسرة أو العاشقة وصورة الرجل..

فالنظر إلى الأنوثة ارتكزت على دلالة الوردة كجسد مستباح بكثير من الاحتجاج والتوق إلى التحرر من قيود مختلفة "الذكورة، الذين، الواقع.." إلى حد الانسلاخ عن الذات ما جعل القصائد تنفتح على أفاق رحبة أكثر عمقا من خلال نبذ الخيانة والجنون والحرب.

وقد احتلت الكتابة الحيز الأوفر داخل هذا الديوان باعتبارها هاجسا وهما يوميا يترجم نظرة الشاعرة وقناعتها على أرض الواقع فالبحث عن الحرية كان مرتكزا واختيارا استراتيجيا عملت من خلال تعقبها البحث عن بدائل ممكنة لضمان الحياة الكريمة، كما لمسنا كتابة ساخرة في البعض منها.

وإذا كانت تيمات هذا الديوان قد تنوعت واختلفت إلى حد تشكيل باقة شعرية لها نكهتها ظلت الوردة في تعدد مفاهيمها وتوظيفها داخل سياقات مختلفة هي المرتكز في كل تصور لأنها أحد ملامح "الأنا والآخر / والمكان / والإحساس / والحرية / والموت، والجنون / والحب / والرغبة / والقصيدة / والوطن.." من خلال رمزيتها شيدت عالما حافلا بالتمثلات العميقة المترجمة لقناعات متعددة وكرسيا للاعتراف والبوح بحقيقة المشاعر. ووطن محلوم به على الدوام وخطابا مهيمنا لتصريف مكنونات الذات الكاتبة وتمثلاتها وتساؤلاتها ومشاعرها وإسقاطاتها ومواقفها النابذة للعنف والكراهية والحرب.. إنها قصائد حولت الذات إلى بؤرة تفاعلات نفسية وجسرا للعبور نحو الحرية في أبهى مفاهيمها ودلالتها النبيلة.

1" دلالات الوردة وتمثلاتها
شكلت الوردة من خلال الديوان بدلالتها مفاهيم نحتت من كل المفاهيم والأشياء فهي لم تقتصر على مفهوم واحد بل أضحت سارية للكتابة والتعبير عن الأشياء أو إبداء المواقف الإنسانية وهي محطة للعودة إلى الطفولة كلما اقترن وجودها بالإحساس للماضي لتضحى كما هو الأمر في قصيدة " لوم" ص 10 تقول

الشاعرة "
أتحول إلى طفل
زائغ البصر
تائه
".. " ويهون أمري
القصيدة في حضرتها..
يرتبك"


فالوردة هي القصيدة المتمنعة التي تأبى التفتح في حضرة الكتابة يتحول أمنية تتوق لتحققها في ظل شروط الذات الكاتبة وحالتها النفسية الكئيبة لحظة الكتابة تعاند بقوة إلى درجة الاستحالة تقول "لو تزورني الوردة


الآن
تبث في الورقة
الحياة
وتصوغ خاتمة أخرى
للقصيدة" ص 11


لقد شكلت الوردة كرسيا للاعتراف من خلاله تبوح الشاعرة بحقيقة مشاعرها المتضاربة من حب وكراهية تنبذها حينا أو تشيح عنها تنبذها متزلفة كاذبة وهي تضمر في القلب رغبة جامحة لها مبرراتها كذلك، تقول


"لم يعد لك مأوى
في قلبي
لم تعودي الروح
لقصائدي
آه..كم أجيد الكذب " ص 14


فالوردة عاملا أساسيا ومحركا لكل المقاصد داخل الديوان فهي تنجلي في النوم والصحو وتؤثث تفاصيل الحياة اليومية سواء في إشراقها المنفلت أو تقلباتها المنغصة على الروح والذات تتقمص كل الصور والحالات لتشكل بانعكاساتها مرآة تعكس الوجه الآخر المشكل لخطاب الروح والمناجاة الداخلية تضحى الوردة هي

 

الأخرى مرآة صاحبتها تقول
"تبتسم له كل الورود
إلا وردة..لي
تشرق إذ أطل عليها
وتنتشي إذ تلامسها أيدي" ص 32
هذا الإحساس تترجمه الدوافع الكامنة في الأعماق وانعكاساتها الداخلية بتحول ذات الشاعرة إلى بؤرة أو نقطة عبور لقياس درجة التفاعل أو التأطير الدقيق. وتتناص النصوص في كثافتها مع الشذرة في حكمتها وعمقها ودلالتها وتأويلاتها تكثيف نابع من الحاجة إلى إبراز الحيف الذي يطال ذات الأنثى ويختزلها بشكل سافر، ونص تعري ص 32 يعكس بعمقه وتأمله هذا الطرح والشاعرة تتساءل بحسرة واندهاش على هذا المآل لتبرز سخرية قاتمة وتعلن رفضا ضمنيا للمتمثلات والإسقاطات المترسبة لدى الذكور تساؤل بقدر ما يكشف عن الوجه البغيض للنظرة الدونية للمرأة والجسد وتفرغهما من إنسانيتهما ومكانتهما الاجتماعية وتختزلهما بشكل وظيفي جنسي محض دون التوغل نحو العمق الصافي تقول
"كم يجب على المرأة
أن تتعرى
لتكشف عن
قلبها..البض؟"
وتتوالى الاحتجاجات من خلال نص " حب صامت " ص 33 ليتأكد ذلك الرفض وتلك المشاعر السلبية تجاه الأنوثة وتجاهل مشاعرها الفياضة دون القدرة على اختراق حاجز الصمت نحو الجوهر، فالمبادرة الذكورية تعرف نكوصا ورتابة سيؤججها الانتظار والزمن الرهيب موقف يتكرر في نص رائحة " ص 36 وهما نصان يقدمان بشكل فني زيف المظهر الخادع والصور المقنعة التي لا تبرز جوهر الروح وتخفي وراءها مقتا كبيرا.
وتأخذ الوردة في نص "جريح الوردة" ص 49 دلالة المرأة بحيث تبرز لوعة العاشق الذي سيعاني من تبعات الغرام بعد الرحيل، رحيل سيخلق جرحا بليغا في القلب بعد الوقوع في الحب. وهنا تتم الإشارة ضمنيا إلى العلاقات الخاصة بتحول الوردة لامرأة ما ترصدت رجلا عن قصد وأوقعته في شباكها، هذه القصدية تحول الرجل إلى ضحية وتعبر عن دهاء المرأة واستعمالها لأسلحة الجسد والإغراء في علاقاتها الإنسانية والحميمة فجريح الوردة يقدم صورة الرجل كضحية مؤامرة حب، في حين نلمس تجسيد مشهد رومانسي من خلال نص " زاوية حب " ص 50 والشاعرة ترصد تفاصيل واقعة تحفها ملائكة الحب والمشاعر الفياضة والرغبة الجامحة من خلال جلسة يبدد ظلام زمنها فانوس مكسور، ولعل إبراز سلوكهما وجموحهما الغرامي وهو يميل كل لحظة على عنق حبيبته بقدر ما يبرز توقا ورغبة سوف تصل إلى حدود الانصهار الفعلي دون وقوع حدث طارئ سيتسبب في كسر الفانوس لتعم ظلمة ستحررهما من كل العيون للانغماس في شهد الحب، تقول الشاعرة
"".." بقعة
ظلام داكنة
يميل العاشق على عنق حبيبته
ترتعش الوردة
تكاد تذوب من
حرارة..الفتى
والقلبان على حافة الانتشاء
طوبى للحجارة النبيلة
أصابت عين الفانوس
شكرا..للأطفال الأشقياء " ص 50
وتتحول الوردة إلي عيني الشاعرة المطلتين على الخارج والمشرئبتين نحو الجيران تستطلعان مكونات الفضاء الخارجي بكل مودة وفضول تظلان متفتحتين عابقتين نظرتين في عيني الآخر. وهو شعور ينعكس على روحها وذاتها ونظرتها إليهم بكل حب ولطف فكلما توفر الاستعداد للانفتاح على الآخر برز الدافع تقول

الشاعرة في نص " تعارف " ص 18
"وتظل أزهار
متفتحة
بكل ود
آه..ما ألطف
جيراني الجدد "
إن الحكم هنا نابع عن إسقاط للشعور الداخلي وللدفء الذي نحف به الآخر انطلاقا من استعدادنا النفسي وحضور القابلية للانفتاح الايجابي على الآخر، شعور يغيب عادة داخل المدن أو عند بعض الجيران المتقوقعين على أنفسهم بحكم تقاليد المدن وانعزال ساكنتها المتقاربين جدا في السكن والمتباعدين اجتماعيا.
وستتناص قصيدة تعارف مع قصيدة " زيارة " ص 29 في مفهوم الوظيفة التفاعلية للورد وأثرها على الذات والمحيط فإذا كان النص الأول تتسلق فيه الأغصان النافذة للإطلالة على الجيران فإنها في هذه القصيدة تتسلق الأغصان نافذة الشاعرة للإطلالة عليها وهي تستدرجها لمعانقة يدها تقول
"ما أحلى هذه الوردة
التي تستدرج لمستي
وتمد أوراقها
لمعانقة...يدي"

2. وردة للكتابة والانفتاح الأجناسي
نلمس نزوحا نحو التنويع الأسلوبي من خلال الانفتاح و محاولة اختراق أجناس تعبيرية أخرى فالقصيدة لا تقتصر على الصورة الشعرية ومكونات اللغة بلاغيا بقدر ما تنزع نحو توظيف متماس أحيانا وأخرى يتداخل مع أجناس تعبيرية أخرى كالقصة القصيرة جدا، الشذرة المليئة بالتأمل والعمق والكثافة بالإضافة إلى التشكيل خصوصا اللوحة التي تضحى منطلقا لتشييد عوالم مدهشة.
فالقصيدة تتحدد معالمها عند فاطمة بن محمود من خلال المزج بين مكونات فنية وإبداعية متعددة مثلا في قصيدة " في المرسم " ص 51 نلمس هذا الطرح من خلال الارتكاز على اللوحة التي تؤثثها زهرة رسمت للتو وسيبرز تسريع وثيرة الحدث من خلال تدخل عنصر خارجي حي " فراشة " ستحط على اللوحة ما سيخلف فكرة رسمها وهو أمر سيستحيل لكن بالتدخل العنيف والمفاجئ ستستحضر ضمن فضاء اللوحة بالقوة كجثة، تقول الشاعرة
"أراد لأن يرسم فراشة
فانطبعت على اللوحة
جثة
وطارت..بهجتها " ص 51
إن الإحالة على اللجوء إلى العنف والقتل والحرمان من الحياة لإضفاء حياة زائفة على الأشياء الجامدة يفقد مكونات العملية الإبداعية من كل بريقها وتبرز عنفا واغتصابا يعكس منظور المبدع المزيف نفسه وتفقد أعماله كل مصداقية حقيقية للإبداع.
فالنهل من الفن التشكيلي يدفع القصيدة إلى بلوغ تجريد ورمزية بحيث تضحى للرموز دلالتها البالغة في سياقات القصيدة ومعانيها المتقدة لتعمل على تفجير اللغة بممارسة نوع من الهدم والبناء المتكرر داخل سياقات جديدة للدلالة على أحاسيس من قبيل الحزن مثلا وكيفية تمثله في شعر الآخر وربما تمارس الشاعرة هنا تناصا ضمنيا مع المقروء الذي جاء على شكل صورة تقول
"سماء غريبة
وأنت تحتها
ربابة مقلوعة الأوتار
كم من حزن خلفت
ليذريه غيرك
في ما تبقى من
أشعار" ص 19
فالحفر ضمن ثنايا وطيات المعاني تبرز استيرادا وتوظيفا للغة من خارج السياق التداولي المألوف مثلا في قصيد " نسيان " ص20 نتساءل كيف " تقطب الذاكرة من خلال التذكر؟ وهي تنحو نحو النسيان؟ وكيف تخلف هذه العملية جراحا بليغة وفراغا مهولا وصورا عنيفة جدا؟
فالكتابة الشعرية عند المبدعة فاطمة بن محمود تعمل على نحت مفاهيم مناسبة .. كلما ظلت الحاجة للتعبير ملحة وذات بلاغة ومقصد، فهي في نص " همسات " ص 37 تذكر المؤنث "القصيدة = القصيد" وبالتالي تؤنسنها وهي تبرز نوعا من المراودة عن النفس من خلال إبداء إعجابها به ومتعتها معه تتساءل عن حدود علاقتها به التي تجاوزت خطوطا حمراء تقول
"ما أمتع القصيد
كلما اختلى..بي
هل يعلم زوجي أن القصيد
يشاركني الفراش ؟" ص 37
وهذا البوح يخفي في طياته الكثير من التعلق والحب والرغبة التي تحرر الجسد إلى الحدود القصوى خارج نطاق العلاقة الشرعية من خلال مطاردتها له وتمسكها به لأنها بإقرارها تبرز رغبتها الجامحة في الاستمرار مع تيسير كل سبل الوصول إليه لتحقيق نزواتها العابرة تقول
"عندما يراودني القصيد
عن نفسه
هل أرجم..إذا ما
استجبت له ؟ " ص 37
إنه تساؤل ينطوي على إقرار واعتراف ومعرفة ضمنية بالعواقب ويبرز تجاوزا واندفاعا ورعونة وإقرار بالذنب ضمن دائرة المغامرة وألا تراجع.
إنها ذائقة الكتابة باعتبارها هما يوميا وقلقا إبداعيا يتم استحضاره فوق كل الرغبات باعتباره الرغبة الأشد التصاقا بذات الإنسان من هواجسه وحبل وريده يتم استحضار لحظاتها بشكل رهيب وسنلمس هذا الأمر في نص زخات " ص 39 الذي يمكن اعتباره استمرارا للنص السابق "همسات" من خلال الإعلان عن تتمة حكاية المراودة بحيث تتساءل الشاعرة
"وأحيانا
يطول غياب القصيدة
ولا تطرق بابي
ترى هل قبضوا
عليها بتهمة المراودة ؟" ص 39
وسنلاحظ من خلال التفاصيل الواردة بنفس القصيدة مدى الأثر النفسي لهذا الغياب والتمنع والاحتباس الإبداعي من ترقب وعزلة وغضب وافتراضات وهواجس وظنون وأماني وهي حالات لا تفتأ أن تبرز الجموح الكبير والرغبة الرهيبة في الانسلاخ عن الجسد والسفر في أبعاد أخرى أو ولوج باحات الحلم وفضاءاته المثالية لتحقيق رغبات دفينة من قبيل التمني تقول
"أحيانا
أشتهي أن أغازل
زوجي
إذا استلذ
كلامي
أهمس ليته كان
زوج جارتي" ص 41
"أحيانا
بأناقة بالغة
أعلق على حبل الغسيل
الثياب
وأغمغم بألم
كم يعذبني أن يتوغل
القصيد في الغياب" ص 42
وتجدر الإشارة إلى أن القصيدة عند فاطمة بن محمود تتماس في كتابتها مع الشذرة والقصة القصيرة جدا بحيث يضحى أثرها جليا في بعض النصوص مثل نص "حافة الوحدة" ص 27 بتحول الذات إلى مدينة موحشة غارقة في الظلام الدامس والروح غرفة منعزلة تحدوها فقط رغبة وحيدة في الاستيقاظ من عتمات الحلم وهو ما أبرز نوعا من الكتابة الارتدادية نحو الداخل التي تبرز عنفا وجوديا في رمزيته الدالة على الوحشة والانعزال والظلمة داخل متاهات الحلم هذه الصور المتدفقة تعلن من خلالها القصيدة رغبتها في التجاوز نحو أفاق رحبة وأكثر قدرة على منحها روحا جديدة.

3" الشعر والتحولات السياسية في تونس
لقد تأثرت الشعر بالتحولات السياسية في تونس عما كنا نقرأه قبل الثورة المجيدة، تحول سينكس إيجابيا على النظرة إلى الواقع والحياة من خلال طرح قضايا عديدة بعيدا عن التلميح والغمز والترميز والإيحاء، تحرر انعكس على مضامين القصائد التي بدورها أضحت تشعر القارئ بنوع من الوضوح بعد الابتعاد عن الغموض أو الحذف وسنلمس في هذا الديوان نبرة مخالفة فنص تأملات بقدر ما يرصد البدايات الأولى للثورة في تونس من خلال تأملات خاصة ترجمتها رغبة جامحة لكنها تركت بصمات المرحلة شعريا تقول الشاعرة
"وأنظر إلى صور الحرب
أتأمل عويلا يدق القلب
وأذهب إلى فراشي
أجر جثتي المثقوبة
بالرصاص " ص 21

إن الجرح هنا مجازي نفسي بامتياز جراء مشاهد العنف الدامية والخوف والقلق والترقب التي تخلف رهابا يصعب التغلب عليه حتى في اللحظات التي تكون فيها حاجة الذات ملحة إلى الراحة عنف يقترن بالموت الرمزي من خلال جرعات تثقل رحى القلب وتدميه بالجراح لتترجمها على بياض الورق إبداعا لكنه يظل ملوثا بلوعة وخوف وعدم اطمئنان.. تقول الشاعرة
"كل ليلة
أطوي حوار الحرب
ثم أذهب لأنام
داخل كابوس " ص 22 فصور الحرب ستستأثر بنصوص أخرى كنص " أمنية " ص 22 من خلال الحديث عن مخلفاتها المادية واستعباد الإنسان، ففي الحرب ليس هناك منتصر أو منهزم بل الحرب حسب الشاعرة " لا تستحق..التمجيد " ص 23
وكأي مبدع عاش تلك التقلبات بمواجعها وتلك التحولات الكبرى على الصعيد الوطني والعربي ستظل الثورة عاملا للتجديد في الكتابة الشعرية كذلك لما تتركه مخلفاتها من آثار وخدوش نفسية رهيبة فكل انتقال ديمقراطي يحمل في طياتها رواسب قديمة يصعب التخلص منها بسهولة فتنعكس إبداعيا داخل الصور المتعددة للقصائد لكنها تبرز بنوع من السخرية من خلال الإشارة إلى ما كان سائد من استبداد سياسي وقمع بوليسي وحصار يضيق الخناق على الشعب من طرف حاكم مستبد ففي نص في شرفة الوطن " ص 61 نلمس تصويرا كاريكاتوريا لأحد مجانين الحكم وهو يمجد الموتى والصامتين من أفراد شعبه تمجيد يحمل دلالة تتجاوز حدود النص الضامر الطافح بالمعاناة والقهر تقول الشاعرة
"قال الملك:
المجد..لشعبي العظيم
وأشار إلى:
الصامتين
والموتى
إن هذا التشييد سيقابله تشييدا آخر بقدر ما يبرز ارتجاجا لفكرة المجد سيعلن عن مرارة الواقع المعاش ضمن صرخة متحجرة في الحلق ونوايا وأماني حبيسة كأصحابها وضحية لمؤامرة الصمت والتواطؤ تقول
"البلاد..فسيحة
والحرية حبيسة
في..رؤوسنا" ص 61

إنه جواب هامس نابع من جراء الخوف والحسرة ودلالة على سطوة الآلة القمعية وجبروتها.
وبالعودة إلى عنوان القصيدة " شرفة الوطن " تبرز زاوية الالتقاط تراتبية المواقع وبالتالي الحوار بين "قول" من أعلى الشرفة وامتثال من الأسفل على شكل ردود أفعال ظلت هامسة بل داخلية في "نجواهم" ولم تتحدد معالمها إلا ضمن السياق ألمفاهيمي للنص همس داخلي أو ربما أقل درجة من الهمس كإحساس فقط.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن هذا الديوان بانفتاحه وجرأته يساهم في تقديم الوجه الجديد للقصيدة التونسية بعد ثورة الكرامة بتونس بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الأول والخروج بالشعر من عزلته وغموضه ورمزيته التي كانت أحيانا تستعصي فيه القصائد على الفهم، ولنا يقين أن الشعر التونسي الرائد عربيا ستعرف كتابته تحولات كبرى على مستوى المنظور أو القالب أو التوظيف فالتغني بالحرية والديمقراطية والحقوق المدنية ودولة الحق والقانون والحب والكرامة ستضحى مواضيعه تنز بالحب والدفء والعذوبة بعيدا عن الإحساس بالغبن والتمزق والقهر والنبذ.
***
"1" فاطمة بن محمود الوردة التي لا أسميها شعر مطبعة فن الطباعة الطبعة الأولى تونس 2011


قاص وناقد من المغرب