يكشف الباحث العراقي في هذه الدراسة عن طبيعة إسهام الروائي المرموق عبدالخالق الركابي في تطوير بنية الرواية العراقية وأخذها إلى مسارات تجريبية خصبة، واستخدام الأطراس ونمط المخطوط في تجربة سردية شيقة كان لها تأثيرها الملحوظ على الرواية العراقية التي كتبتها الأجيال التي جاءت بعده.

نمط المخطوط في أدب الركابي الروائيّ

دراسة في المنظور التاريخي في ثلاثية عبدالخالق الركابي

حسن مجّاد

«الرواية تكتب ما يحجبه التاريخ» كارلوس فوينتس

«كل رواية جيدة سبر لأغوار العالم» ماركيز      

 

النافذة والأبواب:
ينبغي أن نُشير بداءة ان مقاربتنا النقدية ستتجه نحو قراءة المرحلة الراووقية في تجربة الركابيّ الروائية وهي مرحلة سبقتها مرحلة الوعي السيكولوجي المعبأ بشعور الخيبة السياسية التي أشاعتها أجواء ما بعد النكسة الحزيرانية، فمن النافذة والأبواب أعني من " نافذة بسعة الحلم مروراً بـ(من يفتح باب الطلسم) صعودا نحو الطرس والراووق التي تمثلت بثلاثية الراووق (الراووق، قبل أن يحلق الباشق، سابع أيام الخلق) تتشكل المعالم الكبرى لتجربة ثرية امتدت لأكثر من ربع قرن حددت معالم الرواية العراقية في مسارها التجريبيّ والتجديدي.

لا يمكن لنا ان نطل على تجربة الركابي الروائية بعيدا عن آفاق حركة التجديد لمرحلة مابعد الريادة الفنية في الرواية العراقية، إذ انه يشكل أحد أهم أقطاب التجديد، ان لم نقل انه المؤسس الفعلي لما يعرف برواية الميتاقص عراقياً، عبر استثمار المخطوط بمصادره التاريخية، والاتكاء على الوعي الصوفي في تشييد الأطروحة الفكرية التي تشكل عمود الرواية ولبها الجوهري في الاحتكام الى الإرث العربيّ في تجلياته الحكائية والعرفانية. وإذا كانت الليالي العربية مصدرا تكنيكيا لما يعرف بحكاية داخل الحكاية أو بما يعرف بالتضمين الحكائي للسرد التي اكتشفها الشكلانيون، وأعاد النظر بفكرة بنائها تودوروف، فان الإرث العرفاني في التعبير عن المقامات والمنزلات لأحوال العارف قد أفادته أخيرا في الكشف عن محنة النقص والكمال الروائي الصوفيّ. إذ ظلت مقولة العماد الاصبهاني، أو مقولة عبد الرحيم بن علي البيساني القاضي الفاضل التي يقول فيها: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده، لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، لو زيدَ هذا لكان يُسْتحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِكَ هذا لكان أجمل، وهــذا مــن أعــظـم الـعِـبَـر، على استيلاء النَّقْصِ عــلـى جُــمْــلَة البشر». مسيطرة على هواجسه في الكتابة وهي مقولة تكشف عن مأزق المحاولة في الوصول الى الكمال المطلق وهو استيلاء النقص على جملة البشر، وفكرة النقص الصوفي الذي ظلت ترافق روايته سابع أيام الخلق تلك التي انتهت بسفر النون إعلانا عن نهاية مفتوحة على دائرة الممارسة التأويلية.

ومن هنا وفي ضوء رصد ملامح نهايات خط التطور يجدر بنا ان نضع الركابيّ في مسار الرواية العراقية ومنعرجاتها التاريخية في حقبة ما بعد النضج، فمن المعروف تاريخيا ان غائب طعمة فرمان قد قفز بالرواية الى مديات أوسع وحاول ان يستلهم من البيئة البغدادية فضاء الرواية، ومن إنسان مابعد الحرب العالمية الثانية وأجوائها محورا في التعبير القمع السياسي والاضطهاد الاقتصادي، ومن ثم بناء طولة الحاج احمد آغا بوصفها عالما نطل بها على خراب مابعد الحرب. وكان الوعي الفني منقادا في الالتحام الخلاق بين ضرورات التعبير عن الواقع السياسي والمحيط الاجتماعي من جهة، ومتطلبات التعبير الفني وضرورات الشكل الروائي الذي بدأ يتخذ طريقه نحو الازدهار في نهايات الستينيات من القرن الماضي. إلا ان النكسة قد جعلت الروائي العربي والعراقي منقادا لرؤية مغلقة في التعبير عن الواقع فقد باتت الأحلام الكبرى محض سراب في جو ملتبس سياسيا مما أتاح الجو لبروز افتعالات روائية لم تقدم حلولا ناجحة على صعيد البناء أو الفكرة الجوهرية للرواية، فقد ظلت هواجس الكبت والحرمان، وانتكاسات الفرد، والشعور بالهزيمة والانسحاق تحت كوابيس كافك،ا متمثلا بروايات فاضل العزاوي الإشكالية "مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة" وفيما بعد "الديناصور الأخير"، مما جعلت المساهمة الفاعلة في تغيير حساسية الكتابة الروائية عبر تقنية ماوراء القص مشوبة بفكرة سابقة وافتعال واضطراب في حدود الجنس الروائي. وكان على الرواية العراقية وهي في تذبذبها نحو التخلص من قيم التعبير الفني الموروثة والانطلاق نحو آفاق جديدة لم تكن معهودة من ذي قبل دون أن تتخلى عن شرائطها الفنية ووقوعها في الشكلانية المحضة. وأتاح الوعي الركابي ان يتلمس خطاه بعيدا عن النزعة الثورية التي سادت في عصر ازدهار الإيديولوجية، ليجد في النافذة والأبواب خلاصة للتعبير عن الهم الوجودي والاستلاب الحضاري.

ان التجربة الروائية للركابي التي تبدأ من " نافذة بسعة الحلم الى سفر السرمدية تؤشر لنا ان الوعي الزمني والإحساس بنهايات العالم والخلاص الفردي كان جزءاً من الرؤية التعبيرية في المعالجة الفنية وقد شكلت روايته الأولى هذا الخط بوصفه امتثالا حقيقيا أفاد من منجزات الرواية الأوربية لمدرسة مابعد ديستوفيسكي التي ترى في الإنسان نتاج عوامل سيكولوجية، وان السلوك الفردي هو جزء من خيارات الاصطدام بالواقع المأساوي الذي يحيط به وبمشاكله الذاتية ولواعجه الوجودية.

المرحلة الراووقية .. بحثا عن مخطوط العائلة:
يتحدد منظور العودة الى الماضي بفاعلية البعث والإحياء التي تنطوي الى فكرة الكشف عن التاريخ المضيء في الحضارة العربية، إلا ان هذا المنظور الذي تسرب الى وعي جرجي زيدان(2) ووجد صداه أيضا في التجربة الفرعونية عند نجيب محفوظ، لم يعد حاضرا في الرواية العربية المعاصرة لاسيما بعد هزيمة حزيران. إذ لم يعد الرجوع الى الماضي سوى محاولة في عقد صلة لظلام العصر وتدهور المدينة فيما بعد، ومن هنا كان الرجوع الى الماضي نوعا من اللعبة المجازية الألغورية وتعبيرا رمزيا عن القهر السياسي والقهر الاجتماعي. تأتي رواية ماوراء القص لتعبر عن مابعد حداثة مفتعلة - في بعض نماذجها _ في السرد العربي العراقي الحديث على الرغم من إيمانها العميق بضرورة إجراء تغيير في المنظور الواقعي روائيا إلا انها وقعت في اللعب الشكلاني المحض من جهة والوقوع في نرجسية المؤلف وهواه وذاتيته المفرطة أحيانا وتراجع الأحداث وتصدع بنية الحبكة من جهة أخرى، ومن هنا فقدت الرواية تحقق حضورها الاجناسي، وعنصرها الحيوي الكامن في علاقتها مع الواقع بكل تجلياته الظاهرة والخفية المنسربة بتفاصيله تلميحا لا تصريحا، وبدت منعطفات التغيير في الحساسية الروائية تتجه لتفسر نحو التقوقع في النمطية فتلاشت حدود النوع وضاعت ملامحه في مرحلته الأخيرة.

يرتبط استثمار المخطوط تاريخيا بطرق الكتابة الميتاقصصية، ولم تكن رواية ماوراء القص هي الوحيدة في التعبير عن الوعي الذاتي للمؤلف للمدار التاريخي والواقعي بعد هزيمة لحقت بالمثقف العربي على أعتاب الانتكاسة الكبرى في عام 1967، لأننا نلفي ذلك في روايات أخرى أشيعت في ظلها الرؤى الفجائعية، وانحلال مركزية البطل والنكوص، وتهديم حبكة القص لصالح الوعي الذاتي والعوالم الكابوسية. ولعل ذلك كان بسبب من الوقوع تحت مؤثرات الموجة الوجودية في ستينيات القرن الماضي، ومن هنا قد نفسر ظهور ما وراء القص بوصفه تكنيكا جديدا في الكتابة ونمطا أفرزته موجة التجريب ما بعد الوجودية على الرغم من بقاء آثارها بوضوح في هواجس الفرد وشعوره بالانسحاق تحت جمهوريات الانقلابات العسكرية وشعور الفرد بانزوائه تاريخيا، ومن هنا نحقق وصلا لما قد يبدو لأول وهلة منفصلا عن تاريخ التطور الفني في الرواية العربية الحديثة.

يشكل تخييل التاريخ ممارسة ما بعد حداثية في الخطاب الروائي، لعلها تبتدئ برواية آلموت فلاديمير بارتول مرورا بنزعة امبرتو ايكو التاريخية من (اسم الوردة) الى (بندول فوكو)، ووقوفا عند عوالم ماركيز السحرية لاسيما في روايته (مائة عام من العزلة)، كل هذا قد أثر في وعي الروائي وبناه الفنية وافق تجربته، لهذا نرى الروائي العراقي يترك وراءه معطف الواقعية كما عند ديستوفيسكي أو ثياب تيار الوعي بحسب أعراف فرجيينا وولف أو جميس جويس؛ ليتجه بقوة نحو إعادة قراءة الموروث التاريخي وتمثله رؤية وموقفا، أو تخليق بني تاريخية على أنقاض وقائع مجهولة ومن هنا بدت شخصيات رواية الحداثة تفتقر الى الجانب الدينامي، إذ «ان شخصيات دوستوفيسكي زاخرة بالعواطف الثائرة، وهي تبغي إثباتها بالوسائل الشرعية وغير الشرعية، أما شخصيات أدباء المودرنيزم فهي خاملة، تفتقر إلى الإحساس والنشاط».(3) ولهذا احتفت الرواية الجديدة بالتجريب بعد غياب البطل وموته لصالح حياة المؤلف. وقد كان الركابيّ ممثلا لهذا الأداء الروائي بما يمتلك من حس بالموروث الحكائي العربيّ من جهة ومتابعة جادة لكلاسيكيات الرواية الأوربية واتجاهاتها المختلفة، لاسيما عند توماس مان وكافكا وجويس، وهي متابعة قادته الى ما يعرف بالتمثل والهضم والإفادة من المعطيات دون ان تنفرط الحكاية من بين يديه أو تترهل أو تدخل في ممحاكات شكلانية ضربا في اللعب الحر أو ممارسة مجانية لانهيار الأطروحة الفكرية حتى في اشد رواياته لعبا تصريحا (سفر السرمدية) التي جاءت فيها فكرة اللعب معادلا موضوعيا لمصائر النهايات من جهة وللإحساس الزمني بمفهومه الفلسفي من جهة أخرى الذي يتيح هو الآخر مجالا لفشل المحاولة في القبض عليه لتصبح المغامرة الكلكامشية في سعيه نحو الخلود نوعا من خيار مصيري في حياة انسلت من فاجعة حروب كونية وحصارت دموية مرّ بها الإنسان عند نهايات القرن العراقي، وهي الإحساس المرافق لرحلة لم تنته بعد. إنَّ العثور على المخطوطة في عملية البحث والتقصي التي يجريها الروائي في ماوراء القص يفرض شكلاً مغايراً في طبيعة الإسناد السردي وتوالي المرويات في النص الروائي، كما في مخطوطة "مكليادس" في رواية "مئة عام من العزلة" لماركيز، ومخطوطة "الراووق" في رواية "سابع أيام الخلق" للركابي، بحيث يمكن النظر إلى الرواية على ضوء جديد بوصفها مخطوطة أو مدونة أو صحيفة أو رقيماً قام المؤلف ببسطه وعرضه، وبهذا تتكشف لنا بنية سردية ذاتية هي بنية القصة المخطوطة.

تبقى تقنية ما وراء القص في حدود التجريب الشكلي للرواية، من دون أن تجد لها بديلا عن محنة انغلاق الأفق الواقعي في تجليات الواقعية الاشتراكية أو النقدية الاجتماعية في التجربة الروائية العربية التي كان يعمل عليها نجيب محفوظ وحنا مينة وغائب طعمة فرمان والطاهر وطار، ومحاولة الخروج على السائد لتقديم المختلف المثري وهي دعوة قد رافقت كل محاولات التجديد في الأدب العربي، إلا ان ضيق حدود الشكل وعناصره قد جعلت من الروائي واقعا في اللعب الشكلاني المحض، ومن هنا فقدت الرواية صلتها بالضمير الحي "الواقع"، إذ «ان إحدى نتائج ابتعاد الرواية عن الواقعية والأمور الإنسانية هي ان الفن أخذ يميل الى أن يصبح لعبة أو حيلة ممتعة»(4)، ولعل سبب ذلك يكمن في ضمور المخيلة الروائية التي قد تحول العمل الروائي إلى عالم القص القصير ان لم تتشح بالشحوب والترهل، وهو ما يكشف عن فقر في وعي الروائي نفسه، وغبش في رؤيته ذاتها، ومن هنا وقع الروائي في الأنموذج وهو الذي أوقعه في التكرار، فغالبا وهو المركزي في هذا النمط يتجلى الروائي باحثا عن مخطوط أو أوراق أو كتب قديمة؛ ليؤلف منها رواية، وهذا الممارسة التجريبية كما يحلو لبعضنا ان تتحدث عنها-بأنها ممارسة ما بعد حداثية - قد توقع الروائي بالتكرار، على حين إننا لا ننسى ان بعض كتاب الرواية أتوا من معطف القصة وهو ما ألقى بظلاله على العمل الروائي الذي يحاول كتابته، وهنا أصبح عملا مفككا بفعل غياب عناصر القص الروائي كما في (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) و(الديناصور الأخير)(5)، و(السواد الأخضر الصافي) لعباس عبد جاسم.

كان على الرواية العراقية ان تنمو قريبا من الواقع وهمومه لا تعبيرا عن رؤى الآخر والوقوع في دوائره السحرية، وكان على الروائي العراقي ألا يظل أسير الرؤية المغلقة التي وصلت الى نهايتها الرواية العربية بفعل انهيار الفكرة القومية وتلاشيها أو المتماهية مع النزعة الماركيزية أو الواقعية السحرية بوجه عام، غير ان تحولات الرؤية للواقع ونضوج التجربة والانفتاح على الآخر وملاحقة تيارات القص العالمي في رحلتها التاريخية جعلت مسألة العبور والتخطي ممكنة من جهة ومحفوفة بمخاطر الاتباعية من جهة أخرى. ومن هنا فكيف تسربت الرؤية التاريخية الى وعي الروائي العراقي في الرجوع الى التاريخ تمثيلا وتكنيكا، أهو إحساس بزيف التاريخ كشفا عن الطبقات المتراكبة التي أصبح من الصعب جدا التشكيك بها؟، أم هو خوف من سلطة الواقع السياسي؛ لتكون له هناك نافذة يطل بها على رؤاه؟،أم هو لعب في الممارسة الكتابية، إذ أصبح «من المألوف الافتراض ان الرواية الواقعية انتهت، وان الخيال حل محل الحبكة، وفرض نفسه على عالم نسميه الواقع والتاريخ...تحولت الرواية الى تصاميم هندسية ضمنية، الى شكل فني، الى عالم يثير البهجة، لقد هرب الكثير من الكتاب في العالم من الواقع وعدوه اما راكدا لا يثير الخيال، وإما سرياليا مقززا؛ لذلك حولوا الرواية الى مناسبة هاجموا عن طريقها كل ما هو منتظم وغير منتظم»(6).

وتأسيسا على ذلك، كيف ينطلق الروائي من تلك اللحظة المنسية التي غابت أو طمست بفعل تراكم المرويات التاريخية المؤسسة لنمط الحقيقة دون ان يقع في الشكلانية؟ والحقيقة تظل عند وعي الروائي ليست معطى خارجيا يتم فهمها حين المرور بلحظة وقوعها، بل هي لحظة فهمها وإعادة إنتاجها، ولم تكن هذه الرؤية حاضرة في الكلاسيكيات الروائية لان رؤية العصر تحكمت بإنتاج فهم للإنسان وموقعه من التاريخ، وكان الإنسان في ضوئها بطلا تاريخيا لا يتم إنتاجه إلا بفعل الظروف الاجتماعية والأجواء البيئية، على حين مثلت رؤية ما بعد الحداثة على جعل الإنسان كائنا مختلقا يتم تصنيعه عبر اختلاق الأقاصيص والحكايات التي شكلت هويته العقدية والإيديولوجية التي تمثل نسقا من الرؤى تحكم منظوره للعالم والكائنات؛ ولهذا فـ«ان التاريخ يجب ان يقرأ داخل لحظة ما بعد الحداثة أولا،من خلال فعل التلفظ الذي تنتج فيه النصوص التاريخية، وثانيا ضمن سياق تاريخي واجتماعي وسياسي خاص. ان الإزاحة ما بعد البنيوية لمركزية الذات من الوضع الذي ينبثق منه العقل، يعني اننا لم نعد نتخيل التاريخ كتركيب ذهني خطي يحدد موقع الذات في الحاضر»(7)، ومن هنا تسربت الرؤية التاريخية للروائي العراقي ووجد في تجارب سابقيه درسا في إمكانية توسيع رقعة التجريب.

مخطوط الراووق: تنازع الرواة وسلطة الوعي النرجسي للمؤلف:
تظل رحلة البحث عن المخطوط موضوع الرواية الداخلية والإطارية، ومن هنا يبرز الراوي المؤلف الذي قد يتماهى بدوره مع المؤلف الحقيقي، وإذا كان المخطوط يحيل الى زمن ينفصل عن مدار الرواية الإطارية فإن الكشف عن رحلة المخطوط في التاريخ قد تمر بأدوار من المشافهة الى التدوين، ومن النسخة المفقودة الى تعدد النسخ المضطربة التي يعمل الراوي المؤلف المضطلع بدور البحث والتنقيب عن الأسرار على إجراء موازنات دقيقة تفرضها المعالجة الفنية للبنية الروائية من جهة وتمثلات المصادر التاريخية التي كوّنت المخطوط وبنائه من جهة أخرى.

ولا بد للروائيّ أن يكون على وعي حقيقي وفعال بمصادر الموروث التاريخي وأشكال بناء الخبر وصياغات الواقعة في المدونة التاريخية العربية ؛ لكي يحقق فيما بعد النسبة الإيهامية في انتساب المخطوط الى عصر ما، ويفرض هذا الوعي الفني بضرورة تكوين الأطروحة الفكرية أو الرؤية الإيديولوجية التي يطل منها على الواقع والإنسان، ففي ظل انهيار العلاقة بين الحلم الثوري لليسار العراقي والسلطة الدكتاتورية استطاع الركابيّ أن يعود الى تخليق السيرة المطلقية عبر تخييل مخطوط الراووق الذي يشكل مسار هذه العائلة وصراعها السياسي والاجتماعيّ «وعلى وهج القنديل المنداح فوق الموقد أستغرق في قراءة الباب الأول الذي كتبه (نور) بخط (الرقعة)، سارداً بأسلوب منمق حافل بالمحسنات البديعية من جناس وسجع، أسطورة العشيرة القديمة.»(8)

يعد الركابي في (سابع أيام الخلق) مفتتحا رئيسا في الكتابة الروائية التي لا تستلهم الإرث التاريخي فحسب، بل تعمل على تخليق بنى تاريخية محايثة للخطاب الروائي، ومن هنا فانه قد ترك أثرا واضحا في الرواية العراقية عند أجيال التسعينيات، وأعطى درسا ناجحا في كيفية استثمار البنى السردية للمخطوط بوصفه بنية تراثية تفصح عن أنظمة البناء في المدونة السردية العربية، ويكشف عن الجوانب المسكوت عنها، فان حاولنا ان نستذكر ما قام به عباس عبد جاسم في (السواد الأخضر الصافي) أو جهاد مجيد في (حكايات دومة الجندل) وحسن كريم عاتي في (اليوسفيون) فإننا يمكن لنا ان نجعل (سابع أيام الخلق) محورا افتتاحيا لهذا النمط الكتابي الذي يتخذ من المخطوط مدار الرواية وفضائها في الان ذاته، فلم تشغل المخطوط في الروايات السابقة تمثيلا كليا إذ سرعان ما يهمل كما في رواية (محنة فينوس) لأحمد خلف. ويمضي أحمد خلف في روايته (محنة فينوس) مبتعداً عن التصريح باسمه داخل الرواية، إلا أنَّ الراوي سرعان ما يكشف عن إيهام المطابقة بينه وبين المؤلف الحقيقي، ويذكّرنا الروائي أحمد خلف في روايته (محنة فينوس) بعمله السابق المتمثل بقصته (تيمور الحزين) معلنا انه لم يتسلم مخطوطا لروايته تلك يقول: «ها أنتم ترونني أواصل الحديث عن فينوس وكيوبيد وقد أرجأت الكلام عن المدينة...إنني أروي لكم ما أعرفه عن فينوس وأثينا، وما جرى لهما في تلك الأيام العصيبة،لم ادع عثوري على مخطوطة أو أوراق دونت فيها حكاية الصراع الدامي... كما أدعى أحدهم ذات يوم أنّ أباه عثر على مخطوطة في بلاد الأناضول، واحتفظت أمه بها لحين يصبح الولد رجلاً، ويتسلم الأمانة التي ظلت تحتفظ بها لسنين طويلة، يقرؤها علينا كوثيقة إدانة ضد السلاطين والمماليك النزقين الذين ملأوا صفحات التاريخ بالكثير من المظالم والآلام»(9)، إلا اننا نفاجأ بعد حين بحصول الراوي على مخطوط محنة فينوس فيكون موضوعها معلوماً عند مؤلفه الذي يسعى دائماً الى جمع المرويات الأسطورية حول فينوس وعذريتها وما حلّ بها من مصائب يقول: «وعندما كَثرتْ الأخبار والحكايات شرع السدنة بتدوين تلك الحكايات والأقاويل في دساتير وسجلات خاصة جمعوها في خرج كبير أطلقوا عليه محنة فينوس .. وقد أدهشني أمرهم ذاك، وقلت لابد أنّه نوع من توارد خواطر كما يقال ؛ لأنَّ ما قمتُ به من تسجيل أحداث على أوراق جمعتها ودفاتر مدرسية كتبت بضع صفحات منها، جعلتها تنطوي تحت عنوان شامل جامع لهذه الأوراق وتلك الدفاتر أسميته "أيام أثينا ومحنتها العصيبة" ثم ما لبثت أن غيرت العنوان الى "أيام فينوس سيدة أثينا فيما جرى لها من محنة عصيبة" ولمّا وجدت أن لا فائدة من عبارة عصيبة حذفتها كزيادة عن اللزوم في التعبير عن ضنك المحنة، وتوصلت الى العناوين المختصرة الدالة على معنى والمكتفية بتكوينها اللغوي الصريح، هي أفضل بكثير من التسميات المركبة التي قد لا تمنح الفرصة في التدليل على ماهية المحتوى، لذا اضطررت الى الاختصار المكثف، فأسميت الأوراق والدفاتر كلها بعنوان مختصر: "فينوس ومحنتها أيام حكم الأباطرة" ولما أعدتُ قراءة العنوان ثالثة ورابعة اكتفيت باختصار شديد "محنة فينوس"»(10). وإن أردنا ان نتقصى مصادر الوعي الأسطوري في تجربة خلف في مسعاه نحو كتابة (محنة فينوس) فإننا نجده منحصرا في مرجع معاصر واحد لدريني خشبة (أساطير الحب والجمال)(11) ولم ينتبه خلف الى أهمية الرجوع للمصادر الأولى ابتغاء التعرف على سطوة الأسطورة وامتثالاتها في المخيال الشعبيّ أيضا ومن ثم تكوين دلالة منها ترتبط بأفق الكتابة الروائية؛ لأجل إحداث صدى دلالي على المستوى السيكولوجي والسياسي! فمحنة فينوس تظل في مدار الأسطورة ولا تخرج منها إلا عبر الإشارات التي يضعها الراوي المؤلف دليلا على ما مر بها العراق الحديث من أزمات كونية وعواصف أبادت الحرث والنسل وهي إشارات تقريرية لم تكن منسجمة مع المحتوى الفكري والمعمار الفني.

يقول الركابي متحدثاً عن آفاق تجربته في كتابة (سابع أيام الخلق): «حاولتُ في هذه الرواية استثمار إلمامي بالمصطلح الصوفي مع تشغيل الوثيقة التاريخية والأراشيف المتخيلة عن مدينة مفترضة اسمها الأسلاف هي تجميع لشذرات من مدن عراقية حقيقية وأخرى وهمية تركت بصمتها على وجداني في مدينة واحدة، كما تتبعت فيها مصير مخطوط (الراووق) على أثر تمزقه وتوزع أوراقه بين مختلف بطون العشيرة وأفخاذها. وقد حاولت فيها المزج بين السرد الشفاهي متمثلاً بسيرة الأب الروحي للعشيرة (مطلق) التي تروى على أنغام الرباب، والسرد الكتابي متمثلا بمصير ذلك المخطوط، مستثمراً في الوقت نفسه ما يسمى بـ(ما وراء الرواية) وذلك بتأمل مراحل نشوء الرواية نفسها مقترنة بنمو المدينة المتخيلة وتحوّلها من (ديرة عشائرية) إلى مدينة كبيرة متحضرة، كما عمدت إلى توزيع حروف اسم (الرحمن)، بما لهذا الاسم من دلالة عند المتصوفة تتعلق بالخلق، على فصول الرواية ليحمل الفصل الأخير، الذي هو محض صفحة بيضاء، اسم حرف النون، مستثمراً فكرة عرفانية تعرف بـ(الكمال والنقص)، تاركاً للقارئ مهمة تأويل خاتمة على هذه الشاكلة. ولم أنس إدخال عنوان الرواية (سابع أيام الخلق) مع اسمي الشخصي في المتن الروائي»(12). فالمخطوط يضمر الحوادث ويعطي تفسيراً مغايراً للمسكوت عنه في تفسير التاريخ وحركيته؛ ولهذا يلجأ الراوي في ما وراء القص الى تخليق وقائع تاريخية عبر المدونة والمخطوطة والوثائقية التي لم يعلن عنها، ويعمل على تحقيقها، فهو يعثر على عدد من المخطوطات النادرة والمغيب عنها؛ ليضع مسافة فاصلة بين ما يرويه وما ترويه المدونة، ويكشف عن سر التلاعب بالحوادث وخلقها على المستوى التاريخي، فما يخفيه التاريخ بوصفه حوادث ووقائع يظهره المخطوط بتعدد نسخه وبالتغيرات الكتابية التي طرأت عليه من حشو وحذف وإضافة وتبديل.

إنَّ الصياغة المعمارية لترتيب الأقسام وتنضيدها تمت عبر الاستعانة بمفهوم "العروج والإسراء" الصوفي؛ وذلك لأجل خلخلة التركيب السردي القائم على التواتر المنطقي والتوالي في المرويات؛ لهذا نرى الروائي يقول: «سأتبع عروج شخصياتي الروائية صعوداً نحو المؤلف وعروج المؤلف بدوره نزولاً نحو تلك الشخصيات ليدرك الطرفان وحدتهما على صفحات هذه الرواية، فما كان موجوداً في ذهن الروائي بالقوة أخيلة، صور، أفكار، تعينات، سيتحقق في الرواية بالفعل على شكل حروف وكلمات»(13)، وعلى أسس من تلك تم ترتيب القسم الثاني "الاشراقات" تصاعداً، إذ يبدأ بأوّل الرواة وهو "عبد الله البصير" وتبدأ الاشراقات بالصيغة الآتية: «أخبرني شبيب طاهر في ما كتب به إليّ قال: وجدت بخط ذاكر القيم عن بعض القيمين على المزار عن السيد نور قال: سمعت عذيب العاشق قال: سمعت مدلول اليتيم قال: سمعت عبد الله البصير قال:..»(14) على حين كان ترتيب الكتب على هيأة الترتيب التنازلي، فيبدأ سادس رواة المخطوط الذي هو «شبيب طاهر الغياث، وتبدأ الكتب بالصيغة الآتية: (أخبرني شبيب طاهر الغياث في ما كتب به إليّ: قال..»(15)، وعبر جدلية "الصعود، النزول" بوصفها صيغة بنائية قامت عليها الرواية تختلف مصادر المحكي الشفوي عن الكتابي.

إنَّ تراكم المرويات وتعاقبها على مدار السنوات الفائتة هو الذي افترض بعداً تاريخياً بين زمن الراوي وزمن المروي أو زمن الروائي بوصفه صانع الرواية وبين زمن الرواة الذين يفصلهم عنه البعد التاريخي عن الوقائع، إذ ان «الميتارواية التاريخية لا تخبرنا عن الكيفية التي نفكر بها في حدث معين، ولكنها عوضا عن ذلك تقول "تلك طريقة من الطرق التي ننظر بها الى الأشياء، واليك الآن طريقة أخرى وأخرى وأخرى" انها توحي للقارئ بانه طالما هو متورط في قراءتها فان من المهم بمكان التعرف على موقع مشاركتها في الخطاب»(16)، وهذا ما يبثه الروائي حين يسند التوالي الحكائي قائلاً: «فبين النص الشفهي للراوي الأول، ونصي الكتابي الذي ما زال في طور التشكيل والنمو ستتخذ النصوص الآخر مواقعها: فنص "عبد الله البصير" يقود إلى نص "مدلول اليتيم" الذي يقود بدوره إلى نص "عذيب العاشق". في حين استند أنا في نصي هذا – إن استطعت أن أبرهن في ختام هذه الرواية على جدارتي بأن أغدو سابع الرواة – إلى نص الراوي السادس "شبيب طاهر الغياث" الذي يستند بدوره إلى نص الراوي الخامس "ذاكر القيم"»(17). فمخطوطة الراووق التي مر عليها تسعون عاماً أو أكثر تعرضت للتغيير والإضافة والتعديل، ومن خلال المكالمة الهاتفية بين الروائي و"بدر فرهود الطارش" نتعرف على الحقبة الفاصلة بين المرويات والروائي: «ويوم اتصل بي بدر هاتفياً حاولت أنْ أبلغه بأوجز الكلمات بهواجسي وقلقي وشعوري بأنني مقدم على عمل لا طائل من ورائه .. فصاح في السماعة مستنكراً .. ولكن الأمر غاية في الوضوح، فشبيب مريض ومرض رجل تحظى التسعين يجب أن يؤخذ بمنتهى الجدية، ففكرت في زيارته، فان كانت لك رغبة...فقاطعته أنا هذه المرة:

- مؤكد لدي رغبة: كيف تريدني أن أرغب في زيارة شخص كرّست له معظم صفحات روايتين متعاقبتين».(18) فـ"شبيب طاهر الغياث" هو الراوي السادس الذي يتلقى منه الروائي مرويات السيرة المطلقية، وقد أُلقيَ القبضُ عليه في ثورة العشرين، فـ«في أثناء ثورة العشرين أُلقيَ القبض على العديد من الرجال الذين ساهموا في العصيان .. وكان شبيب طاهر الغياث من بين المقبوض عليهم .. كان فتياً في العشرين من عمره».(19) وقد كان يتلقى المرويات من ذاكر القيم الذي كان قيماً على مزار السيد نور، ويمثل مخطوط الراووق تاريخ عشيرة البواشق والصراع القائم بين آل غياث وآل طارش يقول "ذاكر القيم": «فالمخطوط الذي بدأ على شكل مجموعة أوراق مبعثرة في كوخ السيد نور انتهى بالطريقة نفسه وفي المكان عينه، فما دام الله سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل كان لابد لـ"فرغ الطارش" من أنْ ينال الجزاء الذي يستحقه، فهشّم رجل مجنون رأسه... في أثناء الأحداث التي اجتاحت مدينة الأسلاف في ثورة العشرين، فكان ان جن جنون ابنه "هداد فزع الطارش " فاقسم .. انه سيثأر لأبيه ونفذ هداد وعيده بأبشع طريقة. بل أخذ يعلن في كل مكان إنّه آن الأوان لوضع حد لخرافة مخطوط كرسه "آل غياث" لمصلحتهم بتسطير تاريخ العشيرة على هواهم»(20).

أطراس ما بعد اليوم السابع:
كانت العودة الى محنة الذات ضرورية بعد ثلاثية حاولت أن تعيد تشكيل الصراع على السلطة والهيمنة بحس تاريخي لعلنا لمسنا ذلك في جذوره الأولى عند رواية "من يفتح باب الطلسم" التي جاءت تعبيرا عن هذا التوجه التاريخي ّ، إلا اننا نجد الركابيّ قد ترك السيرة المطلقية في الروايات اللاحقة لسابع أيام الخلق بعد ان أعلن الراوي السابع عن سفر النون !، وبين الإيقاع الذاتي التي مثلها روايته الأولى نافذة بسعة الحلم والإيقاع الملحمي بنزعة التخييل التاريخي تلك التي تمثلت في ثلاثية الراووق نستطيع ان نقبض على الرؤية الإبداعية التي تجسدت في التمثيل الروائي وهي رؤية تطل من التاريخ أولا وتحاول ان تستنفذ الوعي الزمني وإطار الحركة الاجتماعية ثانيا في التعبير والدلالة. فالتاريخ الاجتماعيّ لتكوين الأسرة المطلقية والزمن الملحمي أو الزمن النفسي والاستبطان الذاتي للشخصية ولمدارها الاجتماعي تشكل التجربة وتتخذ مساراها المختلف، ويظل التاريخ والزمن مدارا ومرجعاً، إلا اننا مع أطراس الكلام وسفر السرمدية سنجد عودة مرة أخرى للأصول الأولى وعيا بالزمن الداخلي بوصفه أرقاً وجوديا واختبارا معرفيا في الوقت نفسه.

وإن كان الركابي قد عمل على توسيع الأدوار السردية بين تنازع الرواة وتحولات الأداء السردي بين الشفاهية والكتابية جمعا وترتيبا لأصول الراووق ومخطوط العائلة عبر الوعي النرجسي للمؤلف بوصفه الراوي السابع للمخطوط فانه في روايته (سفر السرمدية) يعمل إثراء الوعي الزمني دلالياً "الأزل والأبد" على مستوى الأسفار؛ ليشارك القارئ في لعبة سردية قائمة على تجليات الوعي النرجسي للمؤلف برؤى ما بعد الحداثة، مستعينا بمقولات التفكيك والهيرمنيوطيقا نراه يقول: «إن الفن بالنسبة إلى الفنان، ضرب من اللعب، ولكنه لعب أليم". حين تشرع في قراءة هذه الكلمات يكون الوقت قد فاتك للإفلات من لعبة روائية لا خلاص لك منها؛ فالسبيل الذي سلكته حتى الآن هو الذي أفضى بك إلى هذا الموضع حيث يتداخل الحلم مع الواقع تداخل الموسيقى مع هذه المفردات!»(21)

تشكل رواية (سفر السرمدية) تكنيكا مغايراً فيما وراء القص ففي الوقت الذي تعتمد فيه على لعبة المرايا عبر استثمار لوحة وصيفات الشرف لدييغو فيلاسكيز فإنها تحاول ان تستثمر الوعي النرجسي لتمظهرات الروائي داخل الرواية مشاركا في الكتابة والبحث عن كلمة السر، إذ تعد وصيفات الشرف من أعظم اللوحات في تاريخ الفن التشكيليّ الغربيّ،بما أثارته من مغايرة في تغيير زوايا المنظور التشكيليّ والتلاعب بقيم الضوء والظلمة والكتلة والفراغ وتصوير العالم وإعطاء تفسير مغاير للنزعة الواقعية.

ان قراءة (سفر السرمدية) لا بد لها ان تمر بلوحة وصيفات الشرف والوقوف على أسرار الموسيقى البتهوفينية ومن ثم اللحاق بفهم الوعي الزمني، الأسفار الأزلية والأبدية، لأجل ان نكتشف محنة طلال شاكر أو وحيد حلمي وهما يشتركان في كتابة رواية معاصرة عن القلق الوجودي والبحث عن قيم الخلود في الزمن.

ففي قاعة الكازار المدريدي عام 1656 رسم فلاسكيز لوحته في البلاط الملكي، وكان من المفترض ان يرسم "انفانتا مارغاريتا" وهي محاطة بوصيفاتها وكلبها إلا اننا نرى فلاسيكيز قد جسد نفسه أيضا في فضاء اللوحة، مانحا سلطة الغياب والحضور في التجسيد والتمثيل. فعلى الرغم ان فلاسيكيز قد رسم نفسه كمحارب من القرون الوسطى، إلا انه جعل الأميرة والوصيفات دمى ليزيح عن اللوحة هيمنة المجسد عبر غياب الرسام كما هو شائع فنياً. يقول فوكو محللا ببراعة فيلسوف أصل اللوحة وفكرتها الجوهرية: «الرسام يتراجع قليلا الى الوراء عن اللوحة، يلقي نظرة على النموذج، ربما كان المطلوب إضافة لمسة أخيرة، لكن من الممكن أيضا ألا يكون الملمح الأول قد وضع بعد، والذارع التي تمسك بالفرشاة متراجعة نحو اليسار، باتجاه الملون، انها للحظة ساكنة بين اللوحة واللون، هذه اليد الماهرة معلقة بالنظرة، والنظرة، بالمقابل تنصبّ على الحركة المتوقفة بين رأس الفرشاة الصغير وفولاذية النظرة، سيحرر المشهد كل حجمه»(22)، وقد جعل فيلاسكيز العالم الممثَّل محض لعب ودمى يخلقها بنفسه مانحا لحضوره سطوة الإشهار، ومن هنا تنسل فكرة الوعي النرجسي للمؤلف في رواية (سفر السرمدية) وتتخذ من المرايا الفلاسيكيزية مدارا للتمثيل السردي ولتمظهر الوعي النرجسي للمؤلف. فنراه يقول متحدثا عن هذه الفكرة: «على الروائي أن يموت تاركاً قارئه حرا ً في تأويل نصه».(23) ويمضى في حوار تال لوحيد حلمي قائلا: «إن الرواية التجريبية تنحو الآن منحى جديدا ً يتمثل بحذف المؤلف لمصلحة الكتابة وذلك بإعطاء القارئ دور المؤلف».(24)

وعبر الفهم الحقيقي للعبة مرايا اللوحة، تصبح مسألة العبور الى السموفنيات لاسيما سيمفونية بتهوفن الخامسة عن (القدر)، والرباعية الوترية 16 التي تمثل الموسيقى المطلقة، مهمة جدا في تكوين البعد الزمني الروائي الذي تدور حوله لعبة الشفرة، كلمة السرد في رواية مشتركة، تترشح فيها دلالة الشخصيات الروائية طلال شاكر ووحيد حلمي أو الروائي نفسه في إبراز رؤاهم الذاتية حول الرواية ذاتها.

في رواية (أطراس الكلام) ثمة ولع برحلة في المكان والزمان رحلة نحو الذات أيضا، إذ تبنى الرواية على أسس رحلة في طريق «وأخيرا ها هو الابن الضال يوشكُ أن يلقي بعصا الترحال عند مشارف مدينته!»(25) وهي رحلة مبنية على هواجس الذكرى ولوعة الذات معاً في الوصول الى مدينته الحدودية "بدرة أو طيبة" وهو نص يستلهم الإرث التراجيديّ السوفوكليسي على نحو التحديد في أوديب ملكاً، وتحاول أن تمد جسرا بين الذات وقلقها من جهة واضطراب الواقع وحيرة التوافق والانسجام معه من جهة أخرى عبر الاستبطان الذاتي في رحلة أريد لها أن تكون على سيارة بسبب من اتصال هاتفي!، وينبغي أن نتذكر هنا مقولة بيرنارد نوكس عن تراجيديا سوفوكليس «إنّ معضلة أوديبوس تبدو في الظاهر سهلة، وهي من هو قاتل لايوس؟ ولكنه عندما يتقصى الجواب يتخذ السؤال شكلا آخر، وتصبح المعضلة معضلة أخرى مختلفة هي: تُرى من أنا؟»(26) تلك إذن معضلة (أطراس الكلام) أيضا في سؤال مصيري بعد رحلة خالطها الوجع والذكرى معاً.

إن رواية (أطراس الكلام) تأتي عند حافات نهايات القرن العراقي! إذ صدرت بطبعتها العراقية عام 2001، حيث الحربُ والمدينة، الرجس ولعنة الآلهة، الواقع ُ وظلاله الشاحبة في تسعينيات العراق المحاصر بدكتاتورية قروي بائس، كل ذلك لا بد أن نضعه ونحن نواصل قراءتها دون ان نتخلى عن الدلالة الرمزية لعنونة الفصول (ط، ر، س) هي حروف تحيل بالتقائها بالعناوين الملحقة بها (الطريق - النذير - السؤال) إلى تراجيدية سوفوكليس العظيمة (أوديب ملكاً) والمرجعية السوفوكليسية في تكوين البعد الملحمي الروائي، في الكشف عن رواية مشاكسة لنظم سلطة الأب، ومعلنة فاجعة الخراب. ففي الحوار الذي يجرى بين البطل ورؤى وينبغي أن نشير هنا الى دلالة التسمية ورمزها الواضحة نكتشف لحظة وعي المصائر المتحولة بلعبة قدرية والإفادة منها في تمثيل ضياع البطل وانهياره روائياً تقول رؤى: «لقد أعدت قراءة تلك المسرحية قبل أيام ومعها تذكرت إجابتك عن سر احتفاظ تلك المسرحية بحيويتها برغم تعاقب القرون، فقد عزوت ذلك الى ان أوديب يمثل الإنسان وتراجيديته تمثل الوضع البشريّ، ومصيره قد يصبح مصيرنا ؛ ذلك لان أقدارنا تقررت سلفاً مثلما نطق العراف باللعنة على أوديب قبل أن يولد!»(27)

يتحدث الدكتور شجاع العاني عن مستويات التناص في الرواية. في التكوين الفني والدلالي قائلا: «تشير رواية عبد الخالق الركابي في عنوانها إلى تعالقها النصي؛ فثمة طرس أول هو تراجيدية أوديب لسوفكلس، وطرس ثانٍ هو القصة التي نشرها القاص في الثمانينات من القرن العشرين بعنوان "حائط البنادق"، أما الطرس الثالث فهو طرس تخييلي يقوم على قصة كتبها الكاتب في طفولته، وتنطوي على مرجعيات واقعية تكمن في دفاع جده وكفاحه من أجل الاحتفاظ بأرضه، منتزعاً إياها من أيدي ملاكي الأرض الكبار الذين جعل منهم الاحتلال الأجنبي للعراق، وكافأهم على إخلاصهم لهم بجعلهم ملاكين وإقطاعيين كباراً».(28) وتظل قصة "حائط البنادق" بما تكشفه عن العلاقة بين الجد والحفيد مرتكز الكتابة الجديدة في أطراس الكلام لتشير الى لحظة حماس الفرد في الدفاع عن وجوده المهدد بالزوال، وذلك عبر الكتابة الروائية التي تضمن للروائيّ بقاء وديمومة إذ تنتهي الرواية على مستوى دائري تعيد القارئ الى الصفحة الأولى منها مذكرة ببدايتها الافتتاحية «يومذاك كان السؤال الذي أرقني يتعلق بالمصير الذي ستنتهي إليه أوراقي تلك. كنت واثقا من أن جدي سيتخلص منها حالما تسنح له الفرصة الملائمة. حين انتهيت من قراءتها وقفت لأبادل جدي وأبي نظرة متواطئة، فها هو ذا طريقي يلتقي طريقيهما، وكل ما هو مطلوب مني الان هو أن أمتشق قلمي لأشرع في كتابة روايتي المنتظرة، بادئا بذلك النداء الهاتفي المبتور».(29)

وإذا كان الركابيّ قد أزاح قليلا من وعيه النرجسيّ في (أطراس الكلام) على عكس ما اكتشفنا ذلك في (سابع أيام الخلق) تمثيلا في الاسم والصفة والدور، إلا اننا لا يمكن لنا ان نغفل أثر السيرة في الكشف عن هوية الراوي التي بدت صدى لرؤى المؤلف وهواجسه واختباراً لمحنته وقلقه الذاتي في التعبير عن معضلة أوديبية تتجلى بالسؤال والنذر التي أصابت المدينة وأهلها الى الحد الذي تصبح فيه أية إجابة ملفقة عن تساؤلات عند أبواب المدينة محاولة في الفناء فيها، جاءت السيرة وهي تلقي بظلالها على سيرورة صاحبها وتتأمل من خلالها رحلة خلاص فردي في عالم ظل عصياً عن الخروج من حروبه الكونية والإنسانية.

 

أكاديمي من العراق – جامعة القادسية كلية التربية – قسم اللغة العربية

 

موارد البحث.
الروايات.

-أطراس الكلام، عبد الخالق الركابيّ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2009.
-الراووق،عبد الخالق الركابي،دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد،1986.
-سابع أيام الخلق، عبد الخالق الركابي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد،ط 1،1994
-سفر السرمدية، عبد الخالق الركابي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2006.
-محنة فينوس، أحمد خلف، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 2007.

الدراسات
-أنماط الرواية العربية الجديدة، شكري عزيز الماضي، عالم المعرفة 355، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط1، 2008.
-تعليم مابعد الحداثة المتخيل والنظرية، برنندا مارشال، ترجمة وتقديم: السيد إمام، المركز القومي للترجمة، القاهرة ط1، 2010.
-تمرينات نقدية في التخييل أو الافتراض، د.شجاع العاني، دار الفراهيدي، بغداد
 -جرجي زيدان والرواية التاريخية في الأدب العربيّ، د.ألمان أريونس، ت: د.مُحمَّد يونس، بغداد، 1969
-الحداثة، مالكم برادبري، وجيمس ماكفارلن، ت: مؤيد حسن فوزي، دار المأمون، بغداد، 1990.
-روائع التراجيديا في أدب الغرب، جمعها وقدم لها كلينث بروكس، ت: محمود السمرة، دار الكتاب العربيّ، بيروت، بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين بيروت نيويورك، 1964
 -الكلاسيكيون الروس والأدب العربي، د.محمد يونس، دار آفاق عربية(2)، بغداد، ط1، 1985
-الكلمات والأشياء، ميشيل فوكو، ت: مطاع صفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي، بيروت 1990

هوامش:
(2) ينظر: جرجي زيدان والرواية التاريخية في الأدب العربيّ، د.ألمان أريونس، ت: د.مُحمَّد يونس، بغداد، 1969: 14 – 15 وما بعدهما
(3) الكلاسيكيون الروس والأدب العربي، د.محمد يونس، دار آفاق عربية(2)، بغداد، ط1، 1985: 89.
(4) الحداثة،ج2: 143.
(5) ينظر دراسة لرواية الديناصور الأخير في:أنماط الرواية العربية الجديدة، شكري عزيز الماضي، عالم المعرفة 355،المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ط1،2008:163 وما بعدها.
(6) الحداثة،ح2: 145.
(7) تعليم ما بعد الحداثة المتخيل والنظرية، برنندا مارشال، ترجمة وتقديم: السيد إمام، المركز القومي للترجمة، القاهرة ط1، 2010:192.
(8) الراووق: 9.
(9) محنة فينوس: احمد خلف، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1، 2007: 62 – 63.
(10) محنة فينوس: 147 – 148.
(11) ينظر: إشارة الروائي احمد خلف الى مصادر روايته قائلا: (العديد من أسماء الآلهة التي وردت في النص تمت بإيحاء من كتاب الأستاذ دريني خشبة " أساطير الحب والجمال "...) ملحق المصادر في الرواية المشار إليه سابقاً.
12 - درس ثربانتس، عبد الخالق الركابي نص شهادة.
(13) سابع أيام الخلق: 292.
(14) المصدر نفسه: 35
(15) سابع أيام الخلق:94
.
(16) تعليم مابعد الحداثة المتخيل والنظرية: 201.
(17) سابع أيام الخلق: 184.
(18) سابع أيام الخلق: 73 – 84.
(19) المصدر نفسه: 22.
(20) المصدر نفسه: 227 – 228.
(21) سفر السرمدية: 13.
(22) الكلمات والأشياء، ميشيل فوكو، ت: مطاع صفدي وآخرون، مركز الإنماء القومي، بيروت 1990: 29
(23) سفر السرمدية: 80.
(24) المصدر نفسه: 90.
(25) أطراس الكلام: 192.
(26) روائع التراجيديا في أدب الغرب، جمعها وقدم لها كلينث بروكس، ت: محمود السمرة، دار الكتاب العربيّ، بيروت، بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين بيروت نيويورك، 1964: 24.
(27) أطراس الكلام: 217.

(28) تمرينات نقدية في التخييل أو الافتراض، د.شجاع العاني، دار الفراهيدي، بغداد :
(29) أطراس الكلام: 236.