تتعدد دلالات الملح في رواية الروائي الليبي وهي تكشف عن وجوه مختلفة ومتناقضة لمدينة بنغازي والتغيرات التي طرأت عليها في تاريخها الحديث، ومستويات العلاقات الإنسانية والاجتماعية، وكيفية تشكلها بين أهلها ومن استوطنوها من جنسيات مختلفة، وكيف يصطدم ويعاني الطرفان من قمع الواقع السياسي والاجتماعي

ملح (رواية)

محمد الأصفر

رمى بقنابله الباخرة الراسية في ميناء بنغازي وما بقربها من ضوء أو ومض.. وأثناء انعطافه مرتفعاً أصابت الدفاعات الجوية ذيل طائرته.. بحركة غريزية ضغط على الزر فارتفع الكرسي به عالياً وهوت الطائرة متفتتة إلى البحر.

يفكر الحكام الآن أن يزوّدوا كراسيهم بزر الإنقاذ الذي يرفع إلى السماء قبل الهلاك بلحظة.. لكن مازالوا مترددين فلا أمان في السماء.. وهناك أبحاث تـُجرَى لصناعة أزرار عند ضغطها في لحظة الخطر ترفعهم وترفع معهم مائدة كبيرة عبارة عن قصر صغير بحُرّاسه وإعلامه وبنكه وسلاحه ووقوده وزاده ونخبة مختارة من شعبه الصغير أو الكبير الخانع.. يعيش بها الحاكم هناك فوق السحاب.. وكل واحد من هذا الشعب تكون معه مظلة لحماية القصر وحاشيته وصاحبه من مطر الله.. لكن عندما نكون فوق السحاب هلهناك ثمة سحاب أعلى ومطر أعلى؟! أجبْ أيها الخانع الجميل.. حسناً.. اسمعني..  الأمطار دائما تمتزج في بعضها ولن تجد ماء أعلى من ماء.. أعتقد أنه لا ماء فوق السحاب.. والسحاب هو بَول الماء غير المرئي.. الماء يشرب كثيراً لذلك هو ماء.. والهاربون الآن بقصورهم وقلاعهم وثكناتهم إلى أعلى..عليهم أن يطمئنوا و يظلوا هناك بجفافهم وهيبتهم وقوتهم ولا خوف من الماء غاسل الناس ومغرقهم وراويهم وملهّبهم وجالدهم وهو في السماء.. الماء في الأرض يفعل كل شيء بينما النار لا تفعل إلا شيئاً واحداً وهو حرق نفسها ومن يلامسها حتى سهواً..والماء في السماء لا يفعل شيئاً سوى الهطول إلى أسفل.. والأسفل تركه القادرون من لصوص ومرابين وساسة وغيرهم  وتسلقوا زحفاً.

الطياريتعالى على براق نجاته.. الرياح دفعته بعيداً عن مرمى الدفاعات.. من هول الصدمة كانشبه مغمى عليه.. جسد يتأرجح من مظلة نفخ روحها الهواء.. مظلة حيّة فضفاضة.. سرّتهانسيم عتيق.. المظلة تتهادى في الأفق زارعةً قصائد انزياحها بعيداً عن الاحتراق..قماشها آسيوي عَطِر مبخر.. حاكه راهب بوذي.. بعد عودته من رحلة حجة الفجر.. خيوطهامتينة صديقة للرياح والعواصف.. مظلة قماش تمقت النار والدم.. تطير بالإنسان عالياًنحو السلام.. لكن كيف سمحت له برمي القنابل إلى الأسفل؟! تلك قصة أخرى.. لقد كانتالمظلة سجينة تحت كرسي الطيار.. والانفجار أتى لها بالحرية.. فلم تلتهم وجبةالهواء النقية وحدها ورفعت معها في أنامل خيوطها الناعمة كل ما تعلق بها من حياة..الحياة شيء قابل للتعليق في أي وقت.. الحياة معلوقة حب في عنق نبض يضحك.. التعليقمن التلابيب أو من الأطراف.. حسب الظروف والرغبة.. هما الآن  بين السماء والأرض.. لا مجال ها هنا للمحاسبةوالعتاب.. عليهما أن يهبطا إلى واحة سلام وحب.. إلى سفح اطمئنان وسكون ونجاة منالنار والسجن.. إلى ملح شافٍ للوجف والرجف والارتعاش.. لماذا الهبوط جنة والأسفلراحة والتراب نعمة نسفها كما نسف الكزبرة المطحونة المخلوطة بالسكر؟!

الهواء رغم الدخان والنار يغني.. كائنات نسيمه ترقص.. أطفال طراوته تلعب مع الفقاعاتالمرسلة من أزهار التراب.. الدخان المتصاعد من أسفل تتم معالجته سريعاً عبر مصافيالرياح الضخمة.. وتحويل كربونه وسمومه الخانقة إلى رصاص كتابة ورسم.. وفحم وقود..وشموع إضاءة تنتج الضوء الأكحل.. الشمس تساعد الهواء.. تفني النفايات بنارهاونورها.. المظلة تتأرجح وتسمع ما يتحدث به الهواء وتترك نفسها له.. يحملها إلىالأمان.. الهواء كما الملح أدرى بهذه البلاد.. فهو الداخل إلى أنوفها.. الخارجمنها.. المشعل نارها.. المطفئها.. المنظفها من القاذورات.. المطبب رئاتها المعطوبةبترياق الندى.

هنافي بنغازي أثناء الحرب.. احتلال المدينة متداول بين الدول الأجنبية المتحاربة..  السكان والمؤسسات الدينية وغيرها تداول الولاء..تصفق للمنتصر.. تتنكر للمهزوم.. من ينسحب منها تنساه.. من يفتح أبوابها ويدخلهاتنقش اسمه على حجر الملح.. من يحترمها ويتواضع ويتبسط أمامها تجعله روحها.. من يتغطرسعليها ويتكبر تتجاوزه وتتجاهله.. تهمس في أذنه: "مارينا غير عظيماتك علىالكسكسو".

آهمن بنغازي مجنونة السباخ.. آه من التاريخ آه آه.. والانحياز للمنتصر في الحرب غيرالمشتركة فيها هو وبكل موضوعية أمر مفروض عليها.. فالمنتصر دائماً يفرض شروطهويشكل ظروفه بالحديد والنار وبهذا الموقف سأعتبرها واقفة على الحياد.. الفائز سنقفمعه ولنعتبر أنفسنا في هذه الحرب متفرجين ليس إلا.. رغم كل ما نلاقيه من دمار وموتوتفتيت لملح بنيتـنا الأزلية.. النار تحرق ما يصلها.. لا تقرأ جنسه أو لونه أوطائفته أو دينه.. النار تحتاج إلى وقود.. وقود النار هو أي شيء.. حتى الماء تستطيعأن تحرقه وتلتهم حطب بخاره.. حرق المياه من أبشع الجرائم التي ترتكبها النار في حقالحياة.. الدخان يمكننا قتله وكتمه.. البخار يتحول دائماً إلى مطر.. المطر القادممن النار يثقب مظلتنا ويغرقنا.. ولا قارب ولا طوف يبحر في ماء النار.. كل شيء يذوب..ينصهر.. يسيل كالهُلام.. يكبر الألم المُذاب.. يتحدّب.. يُرَى كقمة من دم.. ينفجرمراراً ولا يتوقف أبداً.

الهواءيدفع المظلة إلى حيث الأمان.. يسمع كلام بشر يبتعد عنه.. موسيقى شجية يقترب منها..لكن عندما يصاحبها غناء من حنجرة بشرية خمّنوا ماذا يفعل هذا الحُر؟! لقد ابتعد..الجاذبية تجذب.. السماء تقاوم.. الموسيقى ترحب بطالبي اللجوء والنجدة واللذة..الموسيقى تمنح الأمان للأذن.. توشوش الأذن بسكر الصوت.. ترتخي بقية عضلات هذاالمُر..  تسترخي بارتخاء ناعم وتمنح ثقتها فوراً..فلا تتصلب أو تقاوم نداء الموسيقى البهيج.. الثقة في الموسيقى أشف أنواع الثقة..شفافية واثقة من نقائها.. الموسيقى كما تقول المقولة الجاهزة المتفق عليها لدى بنيالبشر وبني الجماد.. هي غذاء الروح.

لمتبتعد المظلة عن الميناء.. بحثت عن أقرب نقطة آمنة.. لم تهبط فوق مئذنة مسجد أوقبة مُصلى أو زاوية صوفية.. هذه المعالم الإسلامية معرضة ومغرية للقصف.. المتحاربوننصارى وأكثرهم أجلاف غير نبلاء.. مازالت لديهم عقدة الحروب الصليبية ولذة التعذيبالمنغرسة فيهم من خلال محاكم التفتيش.. الآن جرس الكاتدرائية يدق دقاته المعتادة..ينادى على العباد المسيحيين  للصلاة وتكفيرالأخطاء والاعتراف لغسل الروح وبدء صفحة جديدة بيضاء.. يرن مرسلاً نغماته النحاسيةإلى الهواء ليتحول صداها إلى ذبذبات سلام هوائية.. تبحث عن الخوف والهلع والناروحينما تجدها تغسلها بتراتيل المسيح الأرضية.. النغمات النحاسية ترتقي سماء بنغازيالمدخّـنة باحثة عن المحتاجين.. الراهب يدق الجرس دقاته المعتادة متأملاً السماء..داعياً مسيح السلام أن يحل الخير على هذه البقعة المالحة اللذيذة.. هذه المدينةالشرمولية التي ولد فيها لأبٍ وأمٍ لا يعرفهما لكن الناس تعرفهما.. لقد ماتا أثناءهذا القصف بالذات.. هذا القصف الذي فر منه من طفولته إلى رجولته إلى كهولتهوشيخوخته ليقوم بواجب ما.. واجب يقتل فيه التاريخ ويحرقه ويضع رماده في مستوعبةاسطوانية في حجم عقلة الإصبع.. يشير بها للأغبياء والغافلين والعنجهيين والطغاةوالمستبدين غير المؤمنين بصولة التاريخ المزاجية.. الطيار قذف قنابله على المنارةلكن المنارة الرشيقة  تفادت الضربة ومالتكنخلة صوب الداخل فمرت الشظايا المشتعلة واللهوب الخبيثة بين سعفها المنير الحلو لتصبحممها على البيوت المجاورة في شارع بوخمسين.. لتقتل أب وأم هذا الطفل.. الزوجالإيطالي الذي مات مباشرة والزوجة المالطية التي فـُجعت في زوجها وجرحت جرحاًبليغاً في رأسها.. حاولت إنقاذ صغيرها فتحاملت على نفسها وركضت به بحرارة الروحإلى أقرب ضوء وهو ضوء المنارة.. لعلها تجد قربه أحداً يساعدها.. لم تجد إلا هذهالأسرة البنغازية الفقيرة.. أسرة بريدان وربيعة.. لفظت أنفاسها قربها بعد أنسلمتها الرضيع.. كان الرضيع يلقم ثديها رغم الجراح وآلام الاحتضار.. رفعته أمهالجديدة ربيعة من ثدي الموت ومنحته ثدي الحياة.. ثديها المرتجف من أصوات التفجروالنيران المتصاعدة من البيوت والعشش والأكواخ القليلة المتناثرة فوق سبخة هذهالمدينة مكوّنة شوارعها وزنقها وميادينها.. النيران تحرق البيوت البنغازية.. ترتقيمعها مُحْدِثةً هديراً كهدير موج بحر الشابي المواجه للمنارة.. صوت النار وهي تحرقشبيه بصوت الأمواج وهي تلطم صخور الشاطئ أو يرتشفها الرمل.. الصوت واحد والحرارةمختلفة.. الأمواج تلعب.. النار تقتل.. قامت ربيعة بالواجب..  أرسلت زوجها إلى أقاربها في قرية دريانة  فـقـدموا سريعاً بالخيرات وأقاموا عزاءاً بسيطاً لهذه العائلة المسيحية الجارة التي قُتلتجرّاء تلك الحرب المجنونة.. تمّ دفن الأب والأم بطريقة لائقة ووفق تقاليد وطقوسالمسيحية.. صراخ الرضيع يصخب مع خمود المنارة ويهدأ إذا تضيء.. لا يكترث للأضواءالرهيبة التي تُحدثها القذائف.. لم يهتم سوى بضوء المنارة ونور القمر وأشعة الشمس..خاصة في فترة الضحى.. عرفت ربيعة أن هذا الطفل لا يرضع إلا مع النور.. وأسعدها هذاالفأل الحسن.. كان الرضيع أبيضَ محمرً منمشاً وشعره أشقر.. أرضعته أياماً مع طفلهاحتى اطمأنت عليه  ثم حملته إلى قسيس الكاتدرائيةالإيطالي فقال لها:

ـهذا الولد منّا.. وعمّده ومنحه اسم ماركو.

 قال لربيعة:

ـبإمكانك الاعتناء به وإرضاعه.

قبلأن تغادر الكاتدرائية أخبرها بحقها في إعانة مالية تستلمها منه شهرياً مع ملابسلها وللطفل ولطفلها الليبي أيضاً.. بعد عامين استلمت الكاتدرائية منها الولد ماركولتعتني به الراهبات الخلاسيات.

لميعرف هذا الراهب أي بلد غير ليبيا.. لم يعرف أي مدينة غير بنغازي.. لقد تربى فيشوارع رباية الذايح: فياتارينو وقصر حمد والعقيب والشويخات والرعيض والشينوالعيساوي وسوق احداش وبوخمسين وغيرها.. وسبح في بحر الكبترانية وجليانة والشابي..لعب ودرس مع أطفال بنغازي.. أكل الشوربة والبراك والعصبان والأرز والكسكسووالقلايا والحرايمي والطاجين والفلفل المحشي والبطاطا المبطنة والفاصوليا بالكرشةوالمسيّر الحار والخبزة والتن بالهريسة الوطنية بالثوم وزيت الزيتون وأفطر علىالسفنز واحتسى السحلب ورشف القهوة العربية بمزاج ولعب كرة القدم مع الأولاد فيملعب السبخة.. فعل كل ما يفعله أولاد بنغازي.. زرد معهم إلى حقفة الجخ وسواني اللثامةوبحيرة عين زيانة وهضبة الباكور وسهل الحمدة حيث جرب معهم نيك الحمير واحتساء خمرالقرابة.. زار معهم أيضاً مواخير بنغازي لممارسة القليل من الرذيلة وحضر معهم حفلات المرسكاوي التى أحياها أروعمطربي بنغازي: عليويكة وحميدة درنة وعبدالجليل الهتش وحميد الكيلاني وغيرهم.. ورافقهمأيضاً إلى بر سلوق وبنينة والكويفية وفرزوغة وتاكنس لحضور حفلات الكشك والتمتع بتأملمؤخرات الحجّالات وهي ترتج مثل ليّة حوليّة مدوشنة ويشتد الارتجاج ويصل قمة ذروتهمع اشتداد حمى التصفيق والصراخ.. زار معهم الولي الصالح سيدي مرعي بريف جردينةوبات في رحاب الضريح تبركاً وزار معهم الصحابي رويفع الأنصاري رضي الله عنه فيمدينة البيضاء.. وزرد معهم في سوسة ورأس الهلال ومن هناك مروا على شلال درنةالشهير وأدوا زيارة إجلال لمسجد الصحابة حيث بقى في رواق المسجد داعياً بطريقتهومنتظراً أصدقاءه المسلمين حتى يتموا صلاتهم قرب محراب المسجد.. يتكلم ليبي بلهجةبنغازية ويتكلم طلياني وانجليزي وألماني ومالطي ويوناني وإسباني وفرنسي وتركي..لكن الفن يمارسه بنكهة ليبية.. فلا يستسيغ ويتأثر إلا بالغناء الليبي وخاصة غناءالمرسكاوي الذي يغنيه كل سكان المدينة من عرب ويهود وأقليات أخرى.. لقد حفظ الكثيرمن المرسكاوي عن ظهر قلب خاصة أغنية قديمة للفنان الليبي الكبير على الفلوس أبدع مطرببنغازي الشهير اعلويكه في غنائها بصوته الرقيق ذي الطبقات الصوتية العالية والصعبةعلى محترفي الغناء.. ها هو يترنم بها:

(قالوالها راجل عدو ويجيكم.. قالت لهم: بالسيف غصب عليكم

قالوالها يرحل ايشيل قشاشه.. قالت لهم: وتيت صوف فراشه

قالوالها نشكو لطاهر  باشا.. قالت لهم: يطبع بقَصإيديكم

قالوالها راجل عدو للفَيّة.. قالت لهم: حبيبي عزيز عليًّ

قالوالها ندقوه بالكميّة.. قالت لهم: بنداق يلعب بيكم

قالوالها راجل عدو براني.. قالت لهم: ريدي حبيبي داني

قالوالها ناعم كما الغزلاني.. قالت لهم: جاسر يخلف فيكم

قالوالها راجل غريب علينا.. قالت لهم: خيره وشره لينا

قالوالها خوذي الخيرة فينا.. قالت لهم: ما فيش راجل فيكم

أجادأيضا الكتابة بالعربي وحفظ ما تيسر من القرآن مؤمناً بمعجزاته مقدسه مثل الإنجيلبالضبط

 تعرف على يهود هذه المدينة وصادقهم وعرف عندينهم الكثير من التفاصيل حتى أنه يقوم بإشعال نيرانهم في أيام تعبدهم الأسبوعية..تعلم داخل الكاتدرائية وخارجها وتعلم من الحياة عبر مخالطته للبشر أكثر مما تعلمهمن الوعاظ والمدرسين والراهبات.. كل ذكور هذه المدينة اعتبرهم أباءه.. وكل إناثهااعتبرهن أمهاته.. أما حبيباته فكل عرائس هذه المدينة من أديانها السماوية الثلاثة.

كانجميلاً كالغزال..  جمال كالقديسين الذينقرأنا عنهم في الكتب.. من رأته تعلقت به.. وبترت بصل روحها.. لكن الفرواخة (اللوطيين)المشهورين في هذه المدينة لم يستطيعوا الاقتراب منه لأنه بالمفهوم البنغازي (ذكير)..أي أنه رجل يستطيع أن يدافع عن مؤخرته إلى حد الموت ويقتل كل من ينوي له الخيانة..حتى الشواذ داخل الكاتدرائية من رهبان وقساوسة لم يمسوه بسوء.. كان نور مؤثر يشعمن عينيه.. نور به موسيقى رضعها من ربيعة الأم الليبية الأصيلة.. هذا النورالحليبي يدخل إلى أحاسيس القلب فيغيّرها من النيّة السيئة إلى النيّة الطيبة.. كانهذا الراهب رجلاً صالحاً عطوفاً محباً.. عندما يدق الجرس تصير السماء أغنية شاسعةيسمع سحرها وترانيمها حتى الصم.. السحاب تراه يتراقص.. يرسم لوحات جميلة.. والمطريغيّر من مسارات سقوطه صانعاً  أشكالاًموحية ساحرة كما النوافير ومرشات العطر ونفاثات الحيتان العنبرية وبقبقات الجَرّةوالشلالات الجبلية المنبجسة من قسوة الجبال ومعاركها السفلوية.

المظلةتهبط.. وموسيقى جرس الكنيسة تجذب الخوف إليها لتمنحه الأمان.. الآن قاربت المظلةأن تصل إلى الأرض.. لكنها فضلت التعلق بموسيقى الجرس على أن تتعفر بالتراب.. تعلقتالمظلة بقبعة الجرس واستيقظ الطيار من شبه غيبوبته ليمسك بعصا الجرس ويرفع رجليهمعدلاً نفسه ومنقذها من حضيض غير آمن.. صار جالساً على حافة النافذة المعلق بهاالجرس.. تعلوه مظلته وخيوطها المتشابكة.. توقف الجرس عن الرنين رغم التحريك العنيفللراهب بواسطة عصاته الطويلة.. نقص الرنـّات سيحدث نقصاً في المصلين وإهمالاً فيالقيام بواجبه.. بسرعة صعد الراهب عبر السلالم ليرى ما الذي أوقف الجرس عن الرنين؟وجد الطيار الجريح ومظلته ووجد الطيار أن الذي صعد له ملاك جميل.. شعر بالأمانوالنجاة والأُنس.. أعاد مسدسه إلى جرابه.. لملم المظلة ولفها وهبطا معاً عبرالسلالم الحلزونية إلى تحت.. إلى قلب الكاتدرائية.. قابل الأسقف.. فمنحه الأمان..قال له الدين لم ولن يدخل الحرب.. وأنت هنا لن يمسّك أحد.. تخرج إلى الخارج فأنتمسؤول عن نفسك.. ابق هنا حتى تتعافى من جراحك.. وتحط الحرب أوزارها.. هي لن تطولفعمر النار والدخان والدم قصير جداً.. حطب الشجر أكثر من حطب البشر.. بعد انتهاءالحرب بإمكانك البقاء هنا لعبادة الله وترك الجيش أو العودة إلى ثكنتك أو إلى أيمكان تريد.. نحن هنا في خدمة الرب.. والرب يأمرنا أن نمنحك الأمان والغذاء والعلاجلأنك روح إنسانية مقدسة زجّوا بها في أتون قذر لا ينتج الانتصارات وأية انتصاراتسيجلبها القتل والتدمير والفظائع التي يستحي من فعلها الشيطان.. أيها الولد الذياستضافه جرسنا.. حنجرة معبدنا.. نداء صلاتنا.. سأتركك الآن ترتاح في هذه الغرفةوليباركك الرب ويحفظك.

رأسيناقوس يبحث عن مسرح يتعلق في ناحية منه.. يهزني الجمهور.. يدقني الجمهور.. رأسي مننحاس.. مدقتي من نحاس.. صوتي من رنين.. رنيني صلاة للصغار.. الرضيع الصغير عندمايسمع رنين الناقوس تتفتح شهيته لرضع الحليب ويبدأ في المص.. مع كل رنة يمتص الحليبالممزوج بالموسيقى.. تنتهي الرنات.. يرتوي ويتجشأ بينما مرضعته الليبية ربيعة تعيدثديها الباذخ إلى مكانه تحت قبة المشد.. ترفع ياقتي فستانها.. تستر نهر نهديهابجذب السحّاب إلى أعلى ثم تسدل شالها الشولاك الوردي على صدرها وتقول الحمد الله..الوليد شبع سأهدهد ماركو الغالي الآن حتى ينام..

تغنيله صحبة الهدهدة:

طيبْارطيّبْ طيبْ ارطوبة..

يكبرْيركبْ ع الميدوبة..

يصيّدْويجيبْ جلوبة..

والعبدايهجّرْ مركوبة..

والخادمْتغسل له ثوبه..

طيبْارطيّبْ طيبْ ارطوبة.

كماعَلِمنا الرضيع يتيم.. مات أبوه وأمه في الغارة الجوية التي نفذها الطيار العالقبجرس الكنيسة.. أبوه إيطالي وأمه مالطية.. كيف التقيا وتزوجا لا أدري.. سنقولالقدر جعلهما يلتقيان..  إنها الحياة..يهمنا الرضيع الصغير.. الذي يرضع الآن من الحليب الليبي الأصيل.. هل سيرضع الأخلاقأم سوء الخلق؟ الآن يرضع حليباً إنسانياً راتعاً في التمر والزيتون والملح والعنبوالقعمول (الخرشوف) وكمأ الأرض.. المرضعة ربيعة بدوية من دريانة.. المدينة المسماةعلى الإمبراطور الروماني الشهير آدريان.. عندما بدأ القصف أدخلا الطفل إلى الملجأوخرجا إلى الأعلى ليجلبا بقية مستلزماته وبعض الماء.. لقد ضرب الطيار الباخرةالراسية في الميناء ثم أخذ انعطافة واسعة رغم إصابة ذيل طائرته ورمى ما تبقى لديهمن قذائف على أشياء تومض ظنها دفاعات أرضية منها منارة سيدي خريبيش مرشدة السفنلبر الأمان وسميرة ليل هذه المملوحة.. هذه القذيفة لم تصب هدفها وأصابت جدارالمسجد الملاصق للملجأ لتحرق بشظاياها كل موجود خارج الملجأ.. وكانت إصابتا الأبالإيطالي والأم المالطية خطيرتين.. الأب مات في الحال بينما الأم تحاملت على نفسهاوحاولت النجاة مع رضيعها بعد أن أصيب الملجأ بالدمار.. لم تجد قرب المنارةالإسعافات الأولية فنزفت بشدة حتى فارقت الحياة.. قبل أن تفارق اللحظة المدهشةالمسماة بالحياة تأملت عيني جارتها ربيعة التي تحاول تضميد الجرح بخرقة من ردائها..و عيني رضيعها.. ثم ابتسمت مطمئنة على أمانتها الحيّة لدى جارتها الليبية ربيعة.. ولمتمر دقائق عاشتها في حالة انتفاض وارتعاش وألم ممض حتى همدت نهائياً.

لاندري من استلم الروح منها وتركها.. لم نصل إلى درجة رؤية الملائكة.. إيماننا مازالضعيفاً وعبادتنا متعثرة.. الإبداع يغوينا كي نفكر ويستدرجنا إلى أنوار مقدسة..نظنها قريبة.. لكنها بعيدة.. هي مثل السراب في الصحراء.. غير أنّ السراب ماء مزيف..بينما الأنوار المستدرجين لها.. ماء مخلوط بقليل من الحبر.. الماء نسكبهللمستسلمين كي ينتعشوا بينما الحبر ننقش به ونواصل طريقنا.

أسلمتالروح فأخرجت ربيعة ثديها وألقمته للطفل اليتيم.. سريعاً ما أَلِف ثدي ربيعة.. لميفرق بين ثدي ربيعة القمحي اللون وبين ثدي أمه المالطية الأبيض المحمر.. الحليبأبيض في كلا الثديين وفي كل الأثداء البشرية والحيوانية.. لا أدري لماذا الدم أحمروالحليب أبيض.. سأبحث عن هذه الإجابة وإن وجدتها فسوف أهديها لحبيبتي.. أين حبيبتيالآن؟ لقد وجدت الهدية ولم أجد حبيبتي.. سأرمى بالهدية في الهواء.. وعندما أجد الحبيبةالتقطها.

لمأتمكن في يوم من الأيام من الجمع بين هدية وحبيبة.. إن وجدت الأولى ضاعت الثانية..وإن وجدت الثانية ضاعت الأولى.. وإن وجدتهما معاً ضعت أنا.. والجحيم في الوجود أنتضيع الأنا.. الهدية ليست عملة معدنية.. وحبيبتي ليست عملة معدنية.. والحب ليسعملةً أو ذهباً.. أنا ضائع الآن.. ضائع ومعلق في مظلة.. سأرمي نفسي في الهواء..وليربح من يراهن على وجه من وجوهي.. وجهاي ليست نعم أو لا.. اهههههههههه.. سقوطيوشيك.. طائرتي انفجرت.. فجرتها صواريخ الملل.. الكلمات ترفعني الآن إلى أعلى..تلعب بي كما يلعب اللاعب بالكرة.. الكلمات تركلني.. تقذف بي في شباك مظلمة.. لاأشعر أنى انتصرت.. لا أشعر أنني هُزمت.. ألعب مباراة وهمية.. أنا فيها الكرة..الكرة في ملعبي وأنا كسيح.. الكرة في ملعبك وأرجلك أخطبوط.. في الصغر كانت لدي كرةصغيرة.. بحجم القبضة.. أرميها إلى الجدار فتعود إلي.. أرميها في حفرة وأخرجها.. لمتـَضِعْ كرة طفولتي أبداً.. أثناء القصف كانت بجانب مهدي الدافئ.. عندما انتشلتنيأمي من النيران كنت قابضاً عليها.. كانت أمي تنزف بشدة  فأخذتها من يدي ودفنتها في جرح جبينها.. امتصتكرتي من الدم كفايتها.. لكن الدم غلبها.. أغرقها..  البارود العالق في الجرح سممها.. خنق نعومتها..بعثر مرح نطها.. جفف زيت زحفها.. شلّ نسيجهههههههههها.. هرّأها كما لحم أبيالمتفتت المحترق.. أبي لم يقتله الليبيون.. قتله أبناء جلدته.. ترك لهم أوروباوعاش سعيداً في رَبّاية الذايح فلحقوا به إلى هنا.. وقصفوه بالنار من أعلى.. حيثكان يتطلع إلى السماء ممسكاً قميصه الأبيض المرسوم عليه صليب عيسي.. يلوّح به إليهمليثقوا به وليعرفوا أن هذه الجهة سكنية وليست عسكرية.. يسكنها جيرانه الطيبونالذين أكل معهم عيشاً وملحاً.. وشاركهم الحلوة والمرّة.. لكن الطيار رأى المنارة..رأى الومض الحزين.. المتناغم.. الغامس نوره في بلورات الملح المبللة.. فقصفالباخرة الراسية في الميناء ومعها المنارة وما حولها من ومض.. قال الطيّار ظننتومض المنارة طلقات نار تطاردني.. ظننتها عدوّاً.. قالوا لنا في قيادة العمليات اضربواالضوء.. اقصفوا الضوء.. دمّروا الضوء ولا تعودوا إلى قواعدكم سالمين إلا بعد أنتصنعوا الظلام في عز الظهيرة.

قالالطيار بعد مدة من مكوثه في الكاتدرائية: الآن أنا لاجئ داخل كاتدرائية.. إن خرجتقبضوا علي وإن بقيت داخلها فسأعيش كما تريد الكاتدرائية.. سألتزم بضوابطها ونظمهاوناموسها.. ينبغي علي أن أصلي الصلوات كلها.. أن استمع إلى رنين الجرس.. أن أتناولطعاماً معيناً كالذي يتناوله الرهبان والقساوسة.. أشعر أنني في معسكر مسيحي.. لباسموحد.. طعام موحد.. تراتيل موحدة.. صلاة موحدة.. رنين جرس موحد.. ساعات نوم موحدة..  صليب موحد.. يا للتعاسة.. إنها الرتابة.. إنهالملل.. سأخرج من الكاتدرائية على مسؤوليتي.. لن أطيق نمط العيش فيها.. سأتخفى ولنيعرفني أحد.. سأرتدي زي هذا البلد.. بدلة عربية وفرملة وشنة حمراء تحتها معرقةبيضاء وجرد أبيض سأتعلم حتما كيفية التنقب به.. لن أثير الاستغراب لأنى أبيضكأوروبي.. سيظن البنغازيون أني من سوسة.. حيث يقطن الليبيون الكريت.. سأضع في جيبيبعض ليرات ذهب.. وبعض العملة الورقية.. وبنغازي رخيصة.. وكريمة.. ومربية للذائحوالغريب.. ستربيني بملحها حتى أستريح وأجد طريقة أعود بها إلى أهلي وإلى خطيبتيالتي نمت معها ليلة كاملة  قبل يوم منالتحاقي بالمعسكر للقيام بهذه المهام الانتحارية.. قالت لي خطيبتي ستعود.. الذيتركته في رحمي سيعيدك لي سالماً.. سيحفظك ثغاؤه في عالم الظلمات من كل سوء.. قاتلالأعداء ببأس وشجاعة.. لتجلب لنا الشرف والأوسمة والاحترام.. و فعلاً قاتلتالأعداء ودمرت سفينتهم لكن قصفت أيضاً يا للعار أهدافاً بريئة:  مدنيين مسالمين.. يتمت أسراً.. رملت عرائس فيعز الشباب.. أحرقت أشجاراً ووروداً وهدمت المباني البسيطة المكللة بالحب.. لقد أنتجتُفي هذه الغارة أنهاراً من الدموع ومحيطات من الوجع والحسرة والأنين.. إنه خطأ..إنها المنارة التي أغوتني.. غمزت لي بقنديلها فأجبتها بعين النار.. هي تدعونيللزيارة.. للهبوط.. للمكوث قربها.. لإرسال بريدي إليك يا حبيبتي عبر ومضها المتمهلالنقي.

المنارةشمس الليل.. عمامة البحر.. رمز المدينة ومؤنستها.. في الظلام الدامس لا شيء يُرى فيبنغازي سوى المنارة.. تراها من بعيد ومن قريب ومن كل أركان المدينة.. تراها وهيبالمقابل تراك وترعاك وتحبك  وتهواك إنعانقتها في الخيال.

حبيبتيمنارة والبحر لا أركبه إلا بإذنها والطائرة لا أركبها إلا بإذنها.. لا أركب شيئاًحتى أنتِ يا حبيبتي إلا بإذنها.. حبيبتي منارة بنغازي.. ملح روحي المضيء.. الآنسعادتي لا توصف لأن حبيبتي تنتج الضوء.. تبتسم به على دفعات تفصلها برهه زمنيةثابتة..  للمنارة جذور في الأرض.. ضوء فيالسماء.. مطر معلق في سحاب حزين.. المنارة متواضعة.. تؤدي لعبتها منذ أن تغرب الشمس..تلعب بلا ملل حتى يطل الفجر ويغسلها بقطراته وجحيمه الأحمر المنعش اللذيذ طالباًمنها أن تذهب لترتاح.. فالنهار على وشك وها هي الشمس تشرق وترسل الدفء والنوروالعرفان للمضيئين والمضيئات.

لاأطيق البقاء في الكاتدرائية.. أنا طيار.. البقاء من دون تحليق ولو على قدمي فيالشوارع يقتلني.. يسبب لي الكآبة.. أحب السماء والسحاب والفضاء الشاسع الذي أمارسفيه ألعابي الانطلاقية.

فلأخططللخروج من الكاتدرائية من دون أن ألفت أنظار العسس والعيون.. أخرج وأذوب في زحامبنغازي.. سأعتبر نفسي بلورة ملح هطلت على شرمولة المدينة فنكّهتها وجعلتها شهية..سأشتغل في حِرَف متعبة ويدوية.. حتى أتمكن من تدبير أموري ومغادرة البلاد في أمانلجلب حبيبتي إلى هنا.. إلى ليبيا.. هذه البلاد التي أحببتها.. وجبتي الوطنيةاليومية.. أردد اسمها.. أسمع ألمها.. أسمع من عين سرّتها حكايات الكحل والدم والملح و الحليب.. وحكايات الأسطورة والواقع والشمس المشرقة.. السرّة هي حكّاءةالمدن.. فمن سرّة القرية تأسست المدينة.. وازدهرت وعاشت حياة لا يمكنني الحكمعليها إلا بكلمة طيبة.

سماءبنغازي لم ترسلني إلى الجحيم ومنحتني فرصة فعلقت حياتي في جرس أثناء رنينه..أوقفتُ رنين الجرس فوقف مشروع موتي.. الأذن تبكي.. الموسيقى قالت لها لا تبكِ..لقد أنقذنا حياة إنسان.. الروح أقدس من النداء إلى الصلاة.. أقدس من الوقوف إلىالعَلَم وترديد نشيد البلاد.. الجرس يحرس الساقطين من السماء.. يلاقيهم ويحتضنهمويوفر لهم الغذاء والمأوى والأمن.. الموسيقى تتجول عبر الرياح في فضاء بنغازيباحثة عن محتاجين.. تتصدق إليهم بذهب النسيم وتواسيهم بملح الصبر وتعدهم أن تعودكلما شعرت أرواحهم بصهد الحياة الملوث.

جرسيرن أنقذ حياتي.. وحياتي لم تنقذ أحداً في بنغازي.. أنا قاتل.. قاتل جبان.. قصفتالمنارة.. وقتلت المدنيين.. اعترف أن هذا خطأ وطمع مني في الحصول على ترقياتوأوسمة.. أبيع دم الليبيين لتجار المجد.. ظننت ومض المنارة دفاعات جوية.. لكن كانذيلي يحترق.. ومن يحترق ذيله يتحالف حتى مع الشيطان.. لكن عزرائيل ملائكة وليسشيطاناً.. آه أتألم الآن وجودياً وفكرياً وقلبياً ونفسياً وجسدياً.. ذيلي يحترق..مقودي الطائر يحترق.. أنا معذور.. لكن في قرارة نفسي عندما ارتفع عن الأرض أتحولإلى قاتل.. أرى نفسي ملكاً.. أرى كل شيء تحتي صغيراً.. أشتهي سحقه ودكه بالقنابل..قالوا لنا دمروا أي هدف يتحرك  تحتكم أويضيء.. نحن ننفذ أوامر يا سيادة القسيس.. أنا أعترف بالفظائع.. كل يوم أعترف.. لكنقلبي مازال يؤنبني ويحتقرني ويصرخ في: أنت لست نبيلاً.. لن نرضى عنك.. لكن قلبيقطعة مني.. أعرفه جيداً.. لن أعير تداعياته أي اهتمام.. الذي يتبع القلب يتعب..يضيع.. يجد نفسه يقلي في طاجين قلاية.. هذه حرب.. القتل فيها شيء طبيعي مشروع..وما فعلته شيء طبيعي مشروع.. سأظل اعترف بخطايا قصفي للمساكن المجاورة للمنارة كليوم.. قال له القسيس قبلنا اعترافك وأنت الآن نقي فعش حياتك وتمتع بها وضميرك الآنصار شفافا لا دم فيه..  لقد مات أناس كثر..لا تقتل نفسك بالهم  و اخرج من هنا فيخيالك إلى حانة الريفيرا.. احتسي بعض الكؤوس وحلق في سماء الدنيا من جديد من دونأن تقذف الناس وتقتلهم وإن فكرت أو أحببت أن تقذفهم فافعل ذلك بالماء والورود.

وقرعاكأسي النبيذ في بعضهما وسكباها على دفعات في الجوفين.. جوف المعترف وجوف القسيس..أي المعترف إليه.

قالله القسيس:

ـأنت روح طاهرة الآن.

ذاتليلة وعند أذان الفجر خرج من الكاتدرائية شاقا طريقه عبر الشوارع إلى الفندقالبلدي.. ربع ساعة راجلا بخطوة نشطة كان هناك.. يحتسي قهوته في مقهى العاشق ويستمعإلى الأخبار من الراديو الكبير ذي الأزرار البيضاء العاجية المثبت على الرف..الحرب وضعت أوزارها.. والاتفاقيات وقعت.. والبلاد الآن خالية من الجيوش المتحاربة..المنتصرة والمهزومة على السواء.. فيما عدا بعض القواعد العسكرية المنتشرة في عدةمدن ليبية هامة.. ليس هناك خطورة الآن في خروجه من الكاتدرائية.. حكام البلادالجدد ليبيون.. علاقتهم جيدة مع المنتصرين الحلفاء ومع الكنيسة.. وهو بملابسهالكهنوتية لاقى التبجيل والاحترام التي فضل الخروج بها.. قُدِمت له القهوة مجانا..ومرّ سنفاز على رأسه طست مملوء بالسفنز الساخن جثا أمامه على ركبتيه وأعطاهسفنزتين إحداهما بالدحي (البيض).. ورفض بإلحاح تقاضي الثمن.. لقد كانت البلادسعيدة.. وآمنة والجميع يتسابق على إزالة آثار الدمار وبدء التعمير خاصة بعد أنأثبت الخبراء الأجانب أن النفط في باطن الأرض موجود بالهبل وكلها بضعة شهور وسوفيتدفق ليعم بخيره على جميع أبناء الوطن.

طلبقهوة أخرى وأشعل سيجارة ودردش مع النادل سأله عن المواصلات إلى مصراتة وطرابلسوالإسكندرية فدلّه على وكالتي المقعم والخشمي لنقل الركاب.. وسرعان ما ازدحمالمقهى بالزبائن القادمين من البر والمستيقظين توا من الشوارع القريبة من الفندقالبلدي أو القادمين من أحياء بنغازي الأخرى.. سيدي حسين.. رأس عبيدة.. البِرْكة..السَّبّالة.. الكِيش.. الصابري بأقسامه الثلاثة: سوق احداش.. دكاكين حميد..الزريرعية.. وحتى القادمين من منطقة اللثامة والكويفية وبنينة و القوارشة وتيكة وقمينس.

صارالمقهى حياة تنبض.. رائحة القهوة اختلطت برائحة الناس.. برائحة السجائر.. برائحةالكلمات التي نرشف شقاوتها الآن.. بضجيج الأكواب والسفر والفناجين.. بأخبار وأغانيوبرامج المذياع الصباحية.. بنداءات الباعة على سلعهم الرخيصة.. بصهيل الخيول ونهيقالحمير وزقزقة الطيور المختلفة الرابضة على شجيرات النَم والدفلي والهابطة على كلفتاتة خبز أو حبة قصب تلوح على الأديم.. المختلطة بأصوات السيارات والحافلات وزعيقالقطار الصاخب القادم الآن من قرية سلوق أو من مدينة المرج مرورا بالأبيار.

كلروائح الحياة هذه مختلطة بروائح خضروات وفواكه الفندق البلدي الواقع خلف مقهىالعاشق.. روائح الخضروات والفواكه الطازجة تصل إلى المقهى عبر نافذة صغيرة خلف معدالطلبات بالضبط.. نافذة صغيرة ضيقة غير مقضبة تدخل نور الشمس ونكهات عطرية للعديدمن النباتات الحيّة.

فيهذا المقهى شعر أنه قد ولد من جديد.. أوقات طويلة قضاها داخل الكاتدرائية.. تعبدودرس ونام وسار وفق منهج معين.. تعود عليه وتقبله لأنه لم يختره برغبته.. القدر مناختار له ذلك.. والآن وجوده في هذا المقعد أيضا لا أحد غير القدر اختاره له.. لكنبعد القهوة الثالثة والسيجارة الخامسة قرر أن يحرّك هذا القدر.. أن يزحزحه قليلامن فوق نار الاستسلام.. أن يشق طريق حياته.. أن ينقش شيئا جديدا مستفيدا من معرفتهالمعتبرة التي تلقاها داخل الكاتدرائية.. لقد رأي في الخارج عالما مختلفا.. عالماحيا واقعيا.. دينه مدينة بأسرها وليس مربع بناء جميل مقفل.. وجد مدينة تفوح بعطرالملح اللاذع الشافي المجفف للألم.. مدينة مفتوحة.. متسامحة.. بحرها طويل.. سماؤهازرقاء.. تمطر الماء والدفء والحب المهدهد كل روح شفافة.

قضىنصف نهاره في المقهى.. يتركه قليلا ليتجوّل داخل سوق الفندق البلدي.. أو فيالشوارع و الزنق الواقعة أمامه.. اشترى سجائر ووقيد شمعة يشتعل بتمريره على أيةصلابة خشنة.. أفطر على صحن فاصوليا بالكرشة مع المسيّر وخبز الشعير في مطعم قريتشا..تجول في المنطقة المحيطة حيث المواخير التي يتزاحم عليها البدو والبناغزة علىالسواء.. يصنعون أمامها طوابير مبتسمة صاخبة تردد النكات الفاحشة وتهرش أعضاءهاالمتوعدة فتح القسطنطينية المفتوحة ألاف المرات وتنتبه للأبواب التي تفتح ليدخلالرجل الذي يليه.. كانت قحبة فرنساوية جديدة قد باشرت عملها.. قدمت في باخرة مبحرةمن جربة.. طويلة ذات وركين مستديرتين كدلاع بنينة شعرها أسود عيناها بلون الكستناءوشهوانية إلى أبعد حد حتى أن صوت جضّها أثناء النيك يسمع من شاطئ الكبترانية.. كلمن دخل إليها عاد إليها في اليوم التالي أو الذي بعده.. ومنهم من جعلها وجبتهاليومية التي يتناولها نهارا ومساء.. لم يندم أحد على مضاجعتها.. تمنح الرجلرجولته كاملة وتفرغ له كل لذائذه التي يتمناها بواسطة ما تقترحه من أوضاع جنسيةجديدة لم يألفها زبائن مواخيرنا من قبل.. لا نريد أن نصوّر كيف تفعل ذلك احتراماللرقابة وللذوق وسنختصر ذلك بكلمتين نيك فرنساوي..  رفضت أن يحتكرها واحد لذاته فقط.. رفضت دعواتتجار السوق للسهر معهم في مزارعهم وفيلاتهم في الفويهات والرحبة وسواني تِيكة والمحيشيوتفريغ نفسها لهم فقط.. رفضت دعوات ضباط الجيش والبوليس والمباحث.. رفضت أن تبيعنفسها بالمال ليركبها عنين مستبد ويسرد عليها بطولاته الوهمية.. فضلت أن تمنحنفسها لفحولة وعطش هذا الشعب البسيط المسكين الفقير الذي يزورها بعشوائية ويضاجعهابفطرة وبمال قليل من عرق جبينه.. منهم من كان ركوبه لها أول تجربة جنسية له بعدنيكه للحمير بالطبع.. الفرنساوية لا تطلب مالا كثيرا.. المهم الحب الظرافة اللطفالقبول النظافة الكلمة الحلوة وعدم الاستدارة بعد الانتهاء.. ما تكسبه من عملهاالمرخص هذا تتبرع بمعظمه على الفقراء والفائض منه تضعه في صندوق الولي الصالح سيديغازي.. صندوقه تحت منارة سيدي خريبيش.. يفتح شقه للضوء ويقفله للظلام.. تزقمتبرعاتها في ذاك الشق وتعود إلى العربة التي تنتظرها لتعيدها إلى بيتها.. تغتسلبماء بنغازي المالح.. لا تضيف إليه المنظفات.. فقط ترمي فيه كتلة ملح و بعضالأعشاب الجافة الواقية من المرض والتي تبتاعها من عطار النجار الشهير في سوقالظلام.

لقدجرّب هذا الراهب حظه مع هذه العاهرة معشوقة الشعب.. أفسح له الليبيون الطريق بمكر..رغبة في نزع ثوب توبته.. خلع ثوب الكنيسة.. علقه على مقبض الباب ودخل.. سلمها نفسهفداوت جروحه التي لم يداوها الميكركروم والبوماطة وصبغة اليود.. ذكرته بحبيبتههناك.. تحدث معها فتعلق بها.. مد لها لفافة مال وأراد أن يخرج بها من المستنقعالقذر ويبصق على الزبائن المنتظرين.. لكنها رفضت.. سألها عن دينها فقالت له لستمسيحية ولا مسلمة ولا يهودية.. ديني  حريتي..ديني أن يركبني كل العالم وأنت قد ركبتني فشكرا لك على دخولك جنتي.. إن أردتالعودة فمرحبا بك.. أعادت له نقوده.. وغسلت له عضوه غير المختون ومسحت له وجههبمنشفة معطرة وعطّرته ثم ألبسته ملابسه الداخلية وسرواله وقميصه وركعت أمامه تلبسهجوربه وحذاءه ثم ودعته ببسمة.. آه ما أحلى أن تودعك الحياة ببسمة.. لقد ذكّرتهبحبيبته هناك.. هي الأخرى تحترمه هكذا وتقدره هكذا.. خرج وترك ثوب الكهنوت معلقاعلى مقبض الباب.. لم يأخذه أحد وعندما قضى الجميع وطره أخذته العاهرة ووضعته فيصندوقها.. قالت لنفسها سأعتبره ذكرى تجلب البركة.. وسأنتظر ثوب فقيه الجامع إن رمتبه جنون الحياة إلى بابي.. أمّا ثوب الخاخام فأمره سهل جدا.. أحب أن أخدم رجالالأديان السماوية جميعها.. من العبث أن يمسني أحدهم ولا يمسني الآخرون.. أنا مشاعةللجميع.. أريدهم كلهم.. من خلالي سيفهمون مريديهم.. سيدخلون إلى القلوب من أبواباللذة.. وأي قلب يقفل بابه ونبضه أمام الملذات؟! لا يفعل ذلك إلا القلب الميت..والقلب الميت هو الشيطان.. سأقفل بابي أمام الشيطان.. الشيطان سيحتكرني لنفسهليجزئني ويبيعني ذرة ذرة ثم يزرع ما تبقى مني في سجون مغلقة.

واصلطريقه متسكعا في شارع بوغُولة وبقية الزنق والشوارع المتفرعة منه يستكشف المدينةويشم هواء بحرها العليل.. هو مزاجه رائق الآن.. فاطر مدخن شارب قهوة مضاجع علىالصباح.. يتسكع متمتعا بيومه وصحته وحياته الجديدة.. لا يدري أين سيبيت ليلته..وماذا سيعمل عندما ينفد ماله هذا.. لم يضيع الوقت وبدأ يبحث عن عمل.. فكر ماذايقول لهم أنه يجيد.. هو لن يعمل خادما أو عتالا.. هو ضابط.. ويقود طائرة.. فلايمكن أبدا أن يدفع عربة أمامه أو يحمل أكياس الرملة والحصى على ظهره.. زار مصلحةالبريد فاعتذروا له.. زار عدة بنوك فاعتذروا له.. البلدية اعتذرت له القنصليةاليونانية والايطالية وغيرهما اعتذرت له.. كاد أن ييأس ولكنه لمح داخل روحه ومضأمل لا يكشر.. أخذته الخطوات إلى بحر الشابي القريب من المنارة.. وجد مصطافين شبابهناك.. رأي شبه مشاجرة في الماء.. ثلاثة على واحد.. مثلث مقفل حاد الزوايا يحيطبريشة ناعمة.. يحاولون السيطرة عليه وهو يصرخ طالبا النجدة.. لا أحد قريب منهكفاية حتى يتدخل.. هو القريب من المشهد.. وعلى الرغم من الخطورة فقد جذبته اللهجةالبنغازية المستنجدة "أنا دخيلتك دُونك لي".. وقرر أن يتدخل ويقصفالجناة بوابل من لكماته ورفساته التي درسها عمليا في كلية الطيران.. قفز إلى الماء..مدّ نحوهم بسرعة رهيبة فدنى منهم.. الولد يصرخ والثلاثة ينهشونه بتضييق مثلثهم المتشكلفي تشكيل الاغتصاب.. واحد يطوق رقبته.. الآخر خلع فرعته ولاح عضوه المنتصب..الثالث اقفل براحته فم الولد وأعاز للثاني أن يلتصق.. الراهب الغاطس انبثق منتحتهم صرخ فيهم اتركوا الولد هذا حرام وردّ عليه المتهيئ للمضاجعة (ابعد يا نصرانيمن هنا رانا انيكوك معاه).. لم يعبأ لتهديدهم والتحم بهم بقوة وبعثرهم بسرعة..صافعا هذا.. راكلا ذاك.. خابشا المتهيء لفعل المضاجعة في خصيتيه.. خلص الولدالوسيم وعاد به سالما إلى الشاطئ..  بينماعصابة الثلاثة تصرخ وتتألم وتطلق اللعنات لكنها لا تجرؤ على المضي خلفه.. تبللتملابسه.. الولد الوسيم الذي كانت ملابسه على الشاطئ قدم له منشفة ليجفف جسده وشكرهكثيرا.. قال له لقد استدرجوني.. واحد منهم تظاهر بالغرق فدخلت إليه لأنقذه..  ولا أدري من أين انبثق الآخران لأجد نفسي بينهمفي كماشة.. كادت كعكتي تُكْسَر هذا اليوم يا راهب الرب.. لم أسمع كلام أمي وعصيتهافي الخروج للسباحة منفردا في هذا الطقس وفي هذا الوقت الذي ترتاح فيه الناس فيبيوتها.. لكن ربي أتي بك إلي لتنقذني أكيد أنت رجل مبارك ورجل سلام وحب كالقديسينوالصالحين و الأولياء.

تعالمعي الآن.. لابد أن أضع ما معي من مال في صندوق سيدي غازي شكرانة على نجاتي..تسلقا التبّة وقطعا الطريق الترابي إلى منارة سيدي خريبيش.. دخلا روضة المرابطوأخرج الولد ما في جيبه من قروش زقها في الصندوق مبتسما.. وهما خارجان تقابلا معالعاهرة الفرنسية قادمة إلى المرابط.. تبادلا النظرات والابتسامات وكل مضى في حالسبيله.. وافق على مرافقة الولد إلى بيته.. وهما خارجان من ساحة المنارة وجدا عربةواقفة.. العرابادجي  يدخن والحصان يأكل منعلوقه قمحا لذيذا مبللا وهو في حالة سعادة كما يفصح عن ذلك ذيله هاش الذبابوالشعران (ذباب الخيل) بلطف وأيضا قضيبه نصف المنتصب.. أراد الولد أن يستأجرهالتنقلهم إلى البيت لكن العرابادجي ابتسم له وأشار إلى روضة سيدي غازي يعنيبالإشارة أنه مشغول وينتظر زبونا يزور الآن المرابط.

سارامعا راجلين يتحدثان وسأله الراهب هل ستبلغ الشرطة عن ما حدث لك فأجاب الولد لا..هذه المشاكل في مدينتنا نصفيها مع بعضنا البعض بعيدا عن الشرطة.. لقد قلت لهم (طاقتكموالجَرّة).. وهم يعرفون جيدا معنى هذه الجملة.. أنا ذكير وسوف أنتقم لمحاولة مسشرفي من هؤلاء الجبناء الذين هربوا منك ولم يقاوموا رغم أنهم ثلاثة.

 تعارفا أكثر وأكثر.. الولد أبوه صاحب كسّارة (مَحْجَر)..يملك سيارات ضخمة يقودها الرقريق (اليونانيون) دعاه إلى البيت الكائن في ميدان سوقالحشيش ليس بعيدا عن البحر وهناك رحبت به الأم كثيرا وأعطته ملابس ليبية: سوريةوسروال وفرملة وشنة وجرد من ملابس زوجها ناسبت مقاسه تماما.. وفرحت أم الولد القريتليةالجميلة بولدها الذي نجا بأعجوبة لأن نيتها طيبة وتعمل الخير وتضع البخور والنقودفي زاوية علي الوحيشي القريبة.. فرحت بالضيف وأعدّت له وجبة كسكسي بالحوت معالفلفل الأخضر والسلاطة وبعض البراك والبطاطا المبطنة والفلفل المحشي وأصرت أنيبقى في البيت حتى عودة زوجها من الكسّارة عند المساء. 

كلماأكتب شيئا به ملح أشعر بالراحة.. قد أكون صامتا (ناقص ملح).. أو أكون مرتويا منالحلاوة.. أو أكون مريضا وقذرا ومبللا وأحتاج إلى فصد و تطهير ودبغ.. لا أنكر أننيتفتحت على سبخة.. سبخة غير نتنة.. البحر يجددها يوميا.. لم أر قناة  تصل السبخة بالبحر.. بين رأس عبيدة والبحر مناطقالفندق البلدي والسلماني والصابري وجليانة وسيدي حسين والكيش وقاريونس.. لكن فيالأسفل أكيد أن البحر يمدها بالكثير من الخير.. سبخة بها ملح وسمك.. ليست غريقةعميقة.. علوها نصف متر تقريبا.. نمشي فيها.. نسبح فيها.. حِلاّقنا يطل على السبخة..السبخة موجاتها صغيرة.. تلطم زينقو حِلاّقنا.. أرى من خلال الثقب موجاتها  ذوات الجمة البيضاء وهي تقترب.. واستمتع بهديرهاوهي تمتزج بخشخشة زينقو الحديد.. وسعادتي لا توصف عندما تتسرب أثناء لطمالموج  إلى الداخل بعض القطيرات التي تشكلداخل حمامنا ومطبخنا غديرا صغيرا.. أرمي فيه سريعا فلوكة ورقية.. تصرخ فيَّ أميأوراق الكراسة كلها مزقتها وصنعت منها فلايك.. لا أهتم لصراخها.. ماذا أدري.. أعشقالفلايك حتى هذا الحين.. لكن السبخة ردمت والغدير الجميل ما عاد يزورنا رغم أنالبلاد غارقة والماء وفير.. أشعر أنني دخلت في السياسة قليلا.. سأعود إلى الفلايك..أعشق فلايك اللحم.. لكن اللحم الجيد غالٍ جدا.. والعاهرة الفرنسية التي تحبنا تابتوتزوجت وماتت.. أفكر أن أبحث عن مثيلة لها..  أنا الولد أنا الراهب أنا بريدان أنا ربيعة أناالطيار أنا كل الشخصيات القادمة.. أنا المنارة المكسوة بالغبار والوامضة بالمطر.

الفرنتاية(آلة تكسير الحجر) تبتلع الحجر.. تكسره حسب المقاس المطلوب.. تجعله كاولينا أو مرشأو مشتق حجروي ينفع في صناعة الأسمنت.. الحجر يُجلب من الجبل.. الجبل يتألم لكنهكالملح يذوب ولا يموت.. يتألم بمضض.. لم يكسره حجر مثله.. كسره حديد كان يأويه..بارود كان يحتمله بالرغم من أنه يكويه.. صهد معدني فجره من الداخل.. حرق أشجاره..جفف شلالاته.. طمس نقوشه الدفينة.. بصق على ذكرياته ودفنها داخل لهب قذر متلاشٍ..الشواكيش الآلية والقواديم والفؤوس والماصات في أيدي عبيد وسجناء.. تضرب الجبلفلقة مؤلمة.. تجلده بسياطها الصاعقة.. لم ترحم زهرة على بساطه ولا فراشة ترضع مننهده.. صمغ شجره بكى.. ساح برؤياه على ذاكرة الجبل.. على قاعه الذي لن يزول.. سجلكل شيء.. تاريخ الجبل مدفون في الميناء.. ردموا به الميناء من أجل تطويره.. من أجلصنع رصيف يحتمل ثقل سفنهم الدامية.. تاريخ الجبل نراه في المباني القائمة فيالمدينة.. في عرصاتها وقواعدها وجدرانها وبلاطها.. نراه في الإسفلت الذي تسير عليهأرجلنا والسيارات وعربات الخيل والحمير.. الإسفلت الذي تسير عليه عقولنا  نقي غير مشتعل أو قميء.. تاريخ الجبل مازالقائما فينا.. نبكيه ويبكينا.. هو جبل من حياة فرقعته الآلات الحامية.. ونحن جبل منلذة عظيمة فرقعتنا ليال بائسة لتنتج منا بشرا حائرين.. بشر تمشي على بشر.. بشرتركب على بشر.. بشر تسحق بشرا.. لا أشجار علينا ولا ينابيع فينا سوى ينابيع الدموالعرق والبول والتي نجيد تفجيرها بمناسبة ومن غير مناسبة.. سأنفجر غاضبا.. سأنفجرثائرا.. سأنفجر مضوضئا.. سأنفجر باكيا.. أبي يكسر الأحجار والأحجار البشرية حاولتأن تكسرني وتزرعني فضيحة على أديم هذا الملح الطيب.. لكن المسيح غير الدجال ظهر ووصلفي الوقت المناسب وأبعدهم عني وها أنذا أسعى للانتقام أو ما رأيكم  لو أسامحهم.. فالمسامح كريم وبنغازي أكرموبنغازي مالحة ومليحة وملحها يذوب ويتوب ويؤوب والشيء الذي يذوب شيء نبيل ورائعوطازج وحي وملائكته خفيفة.

غداأول يوم في شهر رمضان المبارك.. وسأصوم مثل كل صبيان حي سوق الحشيش.. حتى إن شعرتبالجوع لن أفطر وحتى إن شعرت بالعطش لن أبلل ريقي.. ربما تتسلل قطرة إلى جوفي..ســأصمد حتى أذان المغرب.. ثم أفطر على التمر والحليب وأصلي المغرب في زاوية سيديعلى الوحيشي.. بعدها أعود إلى البيت لأجد أمي قد أعدت مائدة الإفطار.. سفرة كبيرةمتنوعة التباسي (الصحون).. شربة.. براك.. بطاطا مبطنة.. فلفل محشي.. أرز بالخلطة..عصبان.. سلطات مشكلة.. مسير حار.. خبزة تنور.. وكانون الفحم فوقه براد الشاي يركرك.. البخار يرفع الغطاء.. خرطوم البراديسرّب فقاقيع لطيفة من ماء الشاي.. والأسرة الصغيرة كلها مجتمعة حول السفرة..تتناول إفطارها وفي الوقت ذاته تستمع لبرامج المذياع أدعية وابتهالات وبرامجاجتماعية ظريفة مثل برنامج (البسباسي آه يا راسي).. تقتبس الابتسامات من الأفواهومن حشوة البراك ومفروم البطاطا المبطنة ومن الشحم الذهبي الطافح على بحر الشوربة مغطىبخيوط من عشيبات المعدنوس والكزبرة.. الفلفل المحشي يضحك ويتذكر كيف تمّ رفع قبعتهذات العِرْق النافر وتفريغه من زريعته القليلة وتعبئته والعصبان المكوّر يبتسمللسلك الذي يطوق كل مسامات كرته بعشوائية.. أخي الصغير يعاتب أمي.. السلك الذيلففتي به العصبان من كبّتي (بكرتي).. كبتي ستنقص.. لن أستطيع أن أطلق لطائرتيالمزيد من السلك.. سيفوز عليَّ أطفال الشارع عندما نطلق طائراتنا الورقية..سيبتعدون أكثر بطائراتهم.. أبعد من طائرتي.. أمي ما دخلنيش تعطيني بكرة نشري مكارةجديدة.

صحبةاللمة تنساب من المذياع موسيقا شعبية شجية تنفذ إلى الروح وتغذيها سابقة الطعامالمحتاج إلى عصارات هاضمة وبعض الوقت.. الموسيقا طعام طازج صحي نتناوله عبر الأذنوالعين والإحساس الآخر الذي نجهله.. الموسيقا أسرع من الصوت ومن الضوء ومن طوارئالحكومة.. الموسيقا سأقول عنها الكثير لكن مش عارف.. روحي لا تود إخباري عن كنوزالموسيقا.. سأحاول أن أسكر روحي كي تترنح وتخبرني.. لكنها هي التي أسكرتني.. أعادتلي جزء صغيرا من الموسيقا التي تم هضمها في أتونها.. إنه عالم غريب مرعب لذيذ مظلممنعش مقمر.. جمر مجنون.. مرآة خلفها مرآة فوقها تحتها مرآة ونور عظيم مبهر.. صرتأرقص من دون توقف وأخلع ما يسترني من ملابس لأرتدي وترا حزينا يمس روحه على خشونةروحي وينعمها حتى يجعلها شفافة.. تحتاج لنفخة بسيطة فقط.. لكي تشتعل وتنير.. رأسييشتعل الآن.. يومض كل عشر ثوان مثل منارة سيدي خريبيش بالضبط.. السفن تراني وتهتديوالموج يصعد إلى ظلامه ولا يغرق شيئا.. فطريق النجاة صار واضحا.. وكل الربابنةوالقراصنة والأولياء والمغامرين والتجار والمصلحين والثوار والسحرة قصدوا مدينةالملح.. سيتعيّن علي الآن أن استغرب وأتساءل كيف لم يخرج من هذه المدينة نبي.. وسأجيبولماذا يخرج  من مدينة كل أهلها طيبونعاشقون خيّرون متشبعون بالملح أكثر حتى من البحر.. إنه يخجل أن يفعل ذلك.. لذلكيهاجر إلى أمكنة ضالة تحتاج إلى أنبياء تدعوها إلى الخير.. فمن هذه المدينة هاجرالكثير من الأنبياء وإلى هذه المدينة جاء الكثير من الغرباء الذين صاروا أبناءهاعن جدارة.. وبعد أن اغتسلوا بملحها وتشبعوا به شدوا الرحال من جديد.. لقد تغربواعنها فعلا.. لكنهم قالوا الحقيقة.. الحقيقة الحلوة التي ربتهم وعلمتهم وأرسلتهمأشعة شمس غير ذائحة.

سيزدادسعر الأرض في بنغازي لأنها مدينة أسطورية.. لها نصيب لا بأس به في الميثولوجياوالتاريخ.. العالم الآن ذائح ويحتاج إلى تربية ونقاء وطهارة وقليل من الملح الفاخرالخفيف المبارك غير المغشوش أو المخلوط بالرمل والراضي أن يذوب.. لقد ربتني بنغازي..جئتها قاتلا مدمرا حارقا سفاحا فداوتني سريعا وسامحتني في التعويضات ولم تأخذثأرها مني عندما وقفت على قديماتها المحنّاة فخورة بنفسها وقوتها.. لقد باركتنيهذه المدينة و أنتجتني من بوتقة إلهامها إنسانا جديدا.. قلبه شمس وعقله قمر ولسانههدير بحر شفيف.. لم تجبرني على اعتناق دين معين.. لم تختن ذكورتي أو تحلق شعري أوتدفعني عنوة على ممارسة طقوس معينة.. في الكنيسة اعترفت بذنوبي.. وبعد أن خرجتمنها علقت ثوب كهانتي ورهبنتي على باب مومس وضاجعت الحياة واغتسلت من جنابتي ورذيلتيفي البحر منقذا في نفس الآن روحا مفزوعة متضرعة متطلعة إلى السماء وواثقة منالنجاة.. لقد نكت لكني في الوقت نفسه أنقذت إنسانا من النيك.. إني أراوح الآن لاخير ولا شر.. لقد رأيت زرقة البحر تنادي زرقة السماء.. لقد سمعت كلمات الصبيالجميل وصرخاته و بقبقاته.. لقد رأيت الجريمة أمامي فمنعتها.. لا أدري لو رأيت هذاالمشهد بالذات أثناء قصفي للمدينة.. هل سأترك باب العرش يهتز بشدة وتحل اللعنة علىالمدينة.. أم أنجد الصبي و أؤجل رمي قنابلي وأخون واجبي العسكري.. صدقوني أننيسأفعل سأنجد اليناعة والهشاشة والجمال والنعومة والضعف.. سأنجد الصبي فعلا..صدقوني.. وإن لم تصدقوني فسيصدقني الذي أنجاني من الموت وعلقني في جرس يرن للصلاةومنحني حريتي الآن كي أمارس حياتي كما أريد وأروي وأرتوي كما أريد.. البحر أزرق..السماء زرقاء.. أنا أصدق هاتين المِرآتين النهاريتين الساطعتين في نفسيهما.. لكنأثناء الليل تختفي الزرقة ويحل السواد.. أين تذهب الزرقة؟ أو أنها لا تذهب؟ لأنهاتعود مع الفجر.. أنا لا أصدّق الآن أحدا.. أنا لا أثق في هذه الزرقة ولا أثق فيالسواد.. ولا أثق في الألوان جميعها.. أثق في قصيدة الفجر المضيئة.

الفجرهو باب اليوم.. اليوم زمن ومكان مغلقان.. أغلقهما الله علينا.. وتبعه في الإغلاق  كل من يزعم أنه يقوم بأعمال الله في هذه الدنيا..يفتح عليك الباب.. يضيء مصباحه رويدا رويدا.. مع النور قد تأتي الحرارة وأحيانا  يأتي نور بارد مثقل بالثلج.. تتحرك في علبةاليوم.. تنام في علبة اليوم.. كل شيء تقوم به في علبة اليوم المطعوجة المثقوبة..أنت تذهب ذات يوم..  اليوم يظل يفتح بابهويقفله.. مثلما تفتح فمك لتتكلم أو لتأكل أو لتشرب.. الفجر هو باب اليوم.. فمتىيكون نافذته؟ أحب الطيران من النوافذ لأنها أعلى من الأبواب.. أحب أيام النوافذ..وسنين النوافذ.. وقرون النوافذ.. أحب زمن النوافذ.. الزمن البهي.. الذي أدخلهقافزا وأخرج منه قافزا.. مللت المشي.. مللت الدخول من الأبواب.. مللت الدق والطرقوالتخبيط.. مللت البوابات.. ولم أمل أن أتسلق شجرة أو عمود نور.

النخلةطويلة.. جذعها رشيق.. رأسها فاكهة وظل وموسيقا.. أستند عليها بظهري.. وأكتب أو أقرأ.. وعندما أشعر بالنعاس أنام..وعندما استيقظ أجدها تحرسني وتمنحني قبلة الرطب فترطب ريقي وتشبعني.. سأقتل هذهالنخلة لأسكر.. سأقتل هذه المدينة لأسكر.. سأقتل العنب والسكر والتين والماء لأسكر..سأقتل الضوء والظل لأسكر.. وعندما أسكر أصنع عالمي الراقص.. أصنع يومي الراقص..الذي فجره ليس بنافذة ولا باب إنما أفق واسع أو شاسع.. أفق عظيم.. عظمة طفل رضيعيبتسم لأمه وللعالم.

فيشهر رمضان أقفلت الحانات والمواخير أبوابها.. كل العاهرات وجدن أنفسهن في إجازة إجبارية..وإن حدث عهر فغالبا ما يتم في الظلام  وفيسرّية تامة.. وفي أماكن بعيدة عن العيون أو ذات حصانة كالسفارات والقنصليات التابعةلدول غير إسلامية.. أحيانا أتردد على بيت الصبي في سوق الحشيش.. ومعظمالأحايين  أقبع في فندقي.. عندما أشعربالملل خاصة في العشية أخرج لمشاهدة مباريات كرة القدم في ملعب السبخة الملاصقلمبنى الفندق البلدي.. فرق غير رسمية تتبارى كل عشية.. فريق سوق الحشيش الذي يلعبله الصبي صديقي.. فريق البركة.. فريق سيدي حسين.. فريق الكيش.. فريق الصابريالمطعّم بلاعبين ليبيين زنوج  يسكنون عششاعلى شاطئ البحر.. أحيانا أتجوّل في سوق الجريد وتحت  أقواس الفندق البلدي حيث الباعة يفترشون التوازيرالتاورغية ويطرحون بسطهم منادين على سلعهم الرمضانية.. هريسة وطنية.. خبزة تنور..مسيّر حار.. زبدة وطنية.. لبن حامض ممخوض من قبل حرفيين ماهرين من عشيرة العريبات..فواكه مجففة.. تمر بمختلف أنواعه.. حليب.. غريّبة.. مقروض.. زلابية.. مخاريق..سفنز.. قطايف.. كنافة.. بقالاوة.. كعك.. مكسرات.. حمص منقوع.. فول منقوع.. زبيب.. شريح..قمر دين.. نعناع أخضر ويابس.. مردقوش.. حبق.. لاونطا.. مشاريب باردة مختلفةالأنواع.. فواكه طازجة.. خضروات طريّة.. موز درناوي.. بلح صعيدي واسكندراني..مخللات مشكلة.. صياح الباعة على سلعهم يختلط بروائح المشهيات المتنوعة.. زحام شديد..ومشاجرات تنتهي بسرعة بفضل تدخل أولاد الحلال.. بنغازي خليط من الناس.. ملامحأممية.. ترى الملامح اليونانية.. والإفريقية.. والبربرية.. والفرعونية.. والعربية..والإيطالية.. والتركية.. والمالطية.. والإسبانية.. والفرنسية.. واليهودية..والبلقانية.. والإنجليزية.. وكل هذه الملامح تصب في قالب واحد وهو قالب ليبي.. وجهليبي.. يحمل سمات هذه الأرض.. هذه المملوحة البنغازية.. اللهجة ليبية شرقاوية..الملابس ليبية شرقاوية.. الشنة حمراء اهلاوية.. الغناء بنغازي.. الضحك بنغازي..المشي بنغازي.. العادات بنغازي.. وحتى البكاء بنغازي.

الكليذوح في هذه المدينة.. يتسكع في الشوارع والسوق والفندق البلدي والملعب.. يذوحيعني يتسكع أو يتمتع بالمشي المصاحب لرؤية الحياة وهي تسير وفق قانونها الأزليمانحة أنفاسها لأنوف البشر بالتساوي من دون أن ترتبك أو تمنح هذا أكثر من الآخر..ومن يتمرد أو يحاول سرقة هواء الناس فإنها تمتنع عنه وتجعله يختنق بالخوفوالكراهية والعطن والتقطيب واللعنات التي تنصب عليه من كل ذرة ملح راسخة.

أتجوّلفي مدينة بنغازي في شهر رمضان الكريم.. وفعلا شهر رمضان كريم ففيه شعرت بالراحةوالسكينة.. صرت أصوم على الرغم من كوني غير مسلم.. وأتلهف لوجبة الإفطار اللذيذةالتي تعدها لنا خالتي مناني.. ونجتمع عليها كلنا.. نأكل ونحكي ونبتسم ونتبادلاللقمات ونفضل بعضنا على بعض في حصص اللحم وفي قطع البراك وفي المصارين المحشية الشهية..القطعة الجيدة إن صادفت وجاءت أمامي أمدها للصبي فيرفضها بإلحاح ويطالبني بأكلهافأمدها لخالتي مناني فتحلف بعويلتها أن ما تسقطلها حرجومة ويحسم الأمر الحاج ونيسبأن يقطعها نصفين.. نصف يعطيه لي ونصف يأكله هو ثم يبرم شنبه ويضحك.. هامسا لي فيأذني أجد فائدته بعد رمضان.

ليلرمضان في بنغازي رائع.. بعد الإفطار وصلاة التراويح يخرج الناس إلى المقاهي.. يخرجونأيضا صحبة عائلاتهم للزيارات الاجتماعية وللتنزه على الكورنيش وفي ميدان البلدية وفيميدان الشجرة وشوارع البركة وزناقي سيدي حسين.. وتستمر المدينة في ذروة نشاطها حتىقبيل الفجر حيث يتناول الصائمون وجبة السحور الخفيفة ثم يؤدون صلاة  الفجر وينامون.

كلشيء بالنسبة لي يسير على ما يرام.. أنام في الفندق جيدا وأتناول طعام إفطاري لدىعائلة الحاج ونيس اشنابو.. وكنت سعيدا للغاية.. المال معي بوفرة.. والحاج ونيسوخالتي مناني استحلفاني إن نقصني شيء عليّ أن أطلبه.. قالت لي خالتي مناني أنت كيفوليدي بالضبط.. مااديرش غِيبة (كلفة).. الحوش حوشك.. ملابسي أحضرها لهم  فتغسلها ابنتها الجميلة سليمة.. تغسلها بحبوبصابون إيطالي فاخر عَطِر ثم تكويها وتقدمها لي ورأسها إلى الأسفل من الخجل..كثيرا جدا ما لمحت خديها المشماشيتين وشفتيها اللتين بلون الكرز وأشحت بوجهي سريعالصفاء جمالها المؤثر.. أجمل ما فيها هي مشيتها خاصة عندما تغادر من أمامك وتتأملقفاها المتناسق.. الضفيرتان المنسدلتان على الظهر.. والملامستان بنهايتهما قوسيالوركين من أسفل.. المشية المتأنية التي تجعل الجسد يقدم رقصة رائعة.. أقدام تمسالأرض برهافة قصيدة.. برهافة مها.. الانثناء الذي يحدثه الجذع مع كل خطوة.. بندولاالقدمين ينهبان من ساعة الأرض زمن المسافة والبعد والفراق.. يبعدانه عني لتختفيخلف الأبواب.. الصبية جميلة.. جميلة في مشيتها التي حفظت موسيقاها الحركية..نشيدها الضفائري.. و أوبريتها الوركوي.. ونوبة مالوفها الظهرية.. وأغنياتها الشهيةالكامنة في الربلتين الحلقوميتي الحلاوة والنعومة وفي العرقوبين المختفيين في ضوءاللحم الأبيض النشط.. لا أريد أن أتحدث عن وقع قدميها على زليز الممر والسقيفةوعتبة البيت.. ذلك وقع لم يحدثه أي بندير أو دربوكة أو دف.. البنت جميلة.. وأخوها اسلومةالذي كاد أن يتم اغتصابه جميل.. ومعلوم أن جمال الأنثى ضعف جمال الذكر وأكثر.. لقدتعلمت شيئا جميلا في ليبيا منذ أن نجوت بواسطة جرس كنيسة.. تعلمت شيئا اسمه العيشوالملح.. والعيش والملح هذا تعلمته قبل ذلك من الكلاب.. فما أطعمت في حياتي كلباوعضني.. تعلمت في ليبيا أن لا أخون.. البنت جميلة كما وصفتها لكنني لم أشتهِها..لم أرغبها بطريقة الخيانة.. أحس أن نعومتها سامية.. وغنجها برئ نقي لا عهر فيه..الشيء الذي يعذبني قليلا وأقاوم شيطانه هو صوتها.. صوتها شيء آخر.. صوتها خمر..فودكا.. ويسكي.. باستيس..  نبيذ عتيق.. لاقبيليبي.. خليط من صوت نور القمر وندى الفجر وآهة اللذة قبيل لحظة القذف وقهقهةالرضيع عندما يتم ترقيصه ومناغاته.. صوتها حتى في الكلام العادي شجي.. به حزن وفرحوماء ونور وارتواء وجوع.. صوتها كما الحياة به كل شيء.. به حرارة الفلفل وسكون زيتالزيتون.. صوتها أكسجين نقي من الغبار.. صوتها سكر تمر عسل تين تفاح عنب فراولةجوافة  يوسفي صلاة.. صوتها طعام وشراب ورقصوجنس وتراتيل وأناشيد وسكينة.. صوتها جنة بابها الفم نافذتها اللسان روحها قصبةتهتز بجانب قلب يعشقها ويراها قصبة ناي.. صوتها ممتع غير خشن.. لو تكون هذه الفتاةمن نصيبي سأطلب منها بعد أن توافق طبعا أن تكون ثرثارة ة ة ة ة ة.

لقدوصفت قفاها وهي تغادرني بعد أن تضع أمامي ملابسي المغسولة المكويّة.. لكن وهيقادمة إلي وفي مواجهتي فلا استطيع أن أصفها.. لأنني أرتبك وأحتار وعلى الرغم منأنني أوروبي ورأيت جميلات كثيرات وضاجعتهن أيضا حتى الملل والقرف فإنني أخجلوأرتبك.. عيناها.. ذقنها.. رقبتها.. كتفاها.. نهداها.. بطنها.. كهفها السري.. يداها..جبينها المغطى حتى الحاجبين بمشط شعر يسمونه القــُـصّة.. لو أصف فسوف أدخل في حالةإغماء سببها لذاذة جحيم الجمال.. انسيابيتها الشبيهة بالحرير المصهور مع العسل.. سألجمالذي يستفزني كي أصفها - ولا أستطيع أن أحدده هل هو شيطان أم لا - سألجمه وأحكي عنالعيش والملح.. سأكون وفيا لهذه الأسرة الكريمة التي أدخلتني بيتها حتى الدارالجوانية.. واقتسمت معي زادها وقدمت لي ملابسها وأغطيتها وغسلت أوساخي ومنحتنيالمال والأمان.. صرت أعرف بنصراني عَيت ونيس.. والحقيقة أنه على عيون الحاج ونيسشنابو كل الجيران رحبوا بي وحتى الدكاكين تبيعني وتستحلفني إن كان ليس معي مال أننسدد فيما بعد أو نأخذ الشيء مجانا..  بل إنالجزّار سي مخلوف حلف بطلاق بالثلاثة أن آخذ الموخر والدوّارة والرأس وحتى الجلدمجانا.. وأنه لن تُكتب عليه أبدا أنه نال من نصراني عيت ونيس  فلوس ثمنا للحم.. قال له أنت ولدنا الآن والخيرواجد (كثير) الحمد الله.. والضيف نحن نكرمه ليس ثلاثة أيام إنما ثلاث سنوات ثلاثينسنة العمر كله.. يا رجل يا شهم أنت مفروض نعطيك قلبي مجانا مش قلب خروف.. عَدِّي (إذهب)يا راجل عيب تخرج نقود من جيبك قدامي.. هذه الحركة فيها حق..  نحن خُوت وجيران و أصدقاء يا رجل.

***

فيالأيام الأخيرة من رمضان بدأ أهل بنغازي يزورون المقابر ليتصدّقوا على أقاربهمويزورون الأولياء الصالحين.. ورافقتُ مبتهجا أسرة الحاج ونيس الصغيرة إلى زيارةضريح  سيدي غازي المجانب لمنارة سيديخريبيش.. تكدسنا في عربة يجرها مهر جميل..  تلامست أجسادنا في عفوية.. جزء من ورك خالتيمناني العتيق لمسني وجزء من كتف ونهد الصبية سليمة الناعم  لمسني.. حدث ذلك وهي تناولني القفة المملوءةبطعام الصدقة حيث المهر تحرك فجأة قبل أن نستقر على مقاعدنا فأحدث فقدان التوازنعلى الرغم من حرصنا على التماسك ذاك التلامس اللذيذ.. خدا الصبية سليمة صارتا بلونالطماطم بينما خالتي مناني احتوت الموقف وصرخت في العرابادجي أن يمسك بشكيمة المهرجيدا.. فأمسكها بقوة وجذبها فشبا المهر غير الخبير بجر العربات محدثا هزهزة أقوى..جميل جدا صهلته الطرية وحمحمته المحتجة التي ابتسمت لها الصبية والأجمل هي موسيقاأجراسه المعلقة في رقبته خاصة عندما تختلط بإيقاع وقع حوافره على الإسفلت.. الحاجونيس يهدئ الموقف قائلا لزوجته مناني اهدئي هذا ذنب المهر وحركة لا إرادية.. أكيدقرصته شعرانة لعينة في....... ومن ابتسامته فهمنا أنه يقصد خصيته أو زبه.. رائحةالمهر ترفع من درجة الشبق.. عرقه وآثار لسع السوط على جلده مثيرة لمن يتأملها.. ملامسةورك خالتي ونيسة تلاشت سريعا بينما ملامستي لكتف ونهد الصبية سليمة بقيت.. اشتعلتفي داخلي.. انزرعت شجرة لذة في قلبي.. رغبتي الكامنة في الجنس اضطرمت نارها الآن..العيش والملح الآن يقاتلني  بصعوبة.. يركبقيمي وأمثالي وحكمي ويقيني وأدبي وأخلاقي ورجولتي ونبلي فأقذف بكل الموانع بعيدا..العيش إلى الشرق والملح إلى الغرب.. أقذفهما بعيدا جدا أو الذي يقذف بها حقيقة هوما انتصب سريعا تحت سرتي.. العيش والملح  يحترقان و ينزرعان من جديد ويعودان متقرفصين فيقلبي لتذكيره فأطردهما خارجا وما يتبقى منهما سوي ظل رغيف وذرة ملح التحما في دقةالقلب وصارا ينبضان معها.. الملح تذوبه رغبتي و إفرازاتي  لا الإرادية.. فيعود من جديد أكثر عناداومقاومة للذوبان.. حرصت أن لا يظهر عضوي المنتصب.. أسدلت عليه طرفي سترتيالسفلويين وكتمت أحاسيسي أكثر.. اهتزاز العربة اللعين يثيرني أكثر.. ورائحة العطرالخفيفة المنبعثة من الأم وابنتها تجنني.. ورائحة المهر أيضا رائحة شاعلة لجذواتالجنس لم تفعل في خيرا.. وصلنا المرابط.. ازدحام شديد على زيارته.. وأناس زارتوراحت تتسكع على شاطئ بحر الشابي القريب جدا منه.. دخلنا إلى روضة المرابط..وانضمت خالتي مناني وابنتها للنساء الجالسات بينما أنا والصبي اسلومة والحاج ونيسوقفنا في الجهة التي بها الرجال.. أمامنا ضريح المرابط.. صندوق مغطى بقماش ستانأخضر منقوشة عليه كلمات دينية بخط عربي متداخل لا أجيد قراءته.. دعوت بالخير فيسرّي لجميع البشر ونقلت نظري إلى الجهة الأخرى أبحث عن الصبية الغائبة في الزحام..معظم جميلات بنغازي هناك لكن جمال سليمة بنت الحاج ونيس هو المؤثر وهو المستحوذعلي.. نظراتي شمتها حيث تكون.. هناك في الزاوية تتطلع إلى جهتنا.. التقت عيوننا..شع الفرح بينها.. تضاجعنا بصريا.. لذة عظيمة اكتنفتني.. شبيهة بالنيرفانا البوذيةولحظة التوحد الصوفية.. وصلت ذروتها عندما ابتسمت لي وبانت أسنانها البيضاءالمنتظمة ولسانها الوردي وترديدها خلف إحدى العجائز ربي صلي عليه وسلم.

تعلمتأن أحترم الطقوس والشعائر.. لن أبقى داخل الروضة وأنا في هيجاني هذا.. استأذنتالحاج ونيس.. قلت له سأقوم بجولة.. عندما تريدون المغادرة ستجدوني على شاطئ البحر..قريب جدا من مكان وقوف العربة.. خلصت نفسي من الزحام بصعوبة وخرجت إلى الهواءالنقي خارج روضة المرابط المشبعة بالعرق والأنفاس والبخور.. جلست تحت برج المنارةأستريح وأشم نفَسين نقيين.. الزوار يمرون من أمامي ويختفون في الروضة والخارجون منالروضة أيضا يمرون من أمامي ويطلقون علي السلام فأرد.. ملابسي ليبية والأغلبية تظننيمسلما.. نساء يلتحفن بالفراشيات البيضاء.. عجائز يلتحفن بالجرود الملونة.. نساءيلبسن إفرنجي ويسدلن على وجوههن البيشا.. النساء غالبا ما يرافقهن رجال: أزواجهن..إخوتهن.. أبناؤهن.. وأنا أهمُّ بالمغادرة إلى البحر وفي اللحظة التي وقفت فيها أوضبملابسي وأسدل من طرفي الجاكيت السفلويين لأستر انتصاب ذكري الذي مازال متواصلاوقفت بجانبي امرأة ترتدي الملابس الإفرنجية وتسدل على وجهها بيشا سوداء حيتنيقائلة: السلام على من اتبع الهدى.. رفعت رأسي مستغربا فمن المستهجن أن تكلمنيامرأة شابة لا أعرفها في هذا المجتمع المحافظ.. وكيف عرفتني مسيحيا لتحييني بتحيةأهل الكتاب؟ صوتها ليس غريبا لكن ذاكرتي الآن غير حادة ونائمة بسبب اشتعال شهوتيالمجنونة.. قلت لها وعليك السلام وشعرت في الوقت نفسه أن شهوتي قد بدأت فيالانطفاء فأزحت نفسي جانبا قليلا لتتمكن من الجلوس بجانبي.. جلستْ ووضعت قفتهاالفارغة في حجرها وواصلت حديثها:  كيف حالكأيها المبارك.. تعرف أن ثوبك الكهنوتي غيّر مجرى حياتي إلى النعيم.. منذ أن علقتهعلى مشجب باب غرفتي أقلعت عن الخطيئة.. فاحت الرائحة التي كان يخفيها عني الشيطانفتقيأت الخطايا.. و زرت سيدي غازي هذا ولم أعد إلى الماخور أبدا.. ثوبك مازلتأحتفظ به في خزانتي.. عندما أتذكر خطيئتي أتغطى به فيواسيني.. تخرج من ثنايا نسيجهقطعان من الماشية كان يرعاها الأنبياء.. ويمدني دفئه بنفحات من نور وأطعمة ومشاربوكنوز وأمان.. أتغطى به فأعرف تفسير أحلامي وأشعر أن بابي الخشبي موصد لا يمررالثعابين وألسنة لهب التنانين وأشعر أنَّ الضَّر لن يمسني أبدا.. لم يطردني صاحبالبيت الذي أستأجره على الرغم من أنني لا أسدد الإيجار وكل يوم تذوّقني الجارات منطبخهن.. ويُهدينني الأردية والجرود و والصبابيط والفساتين والأوشحة والجواربوالبخور واللبان والحنَّاء الخضراء ويصررن على دعوتي إلى مناسباتهن فأساعدهن ونظرالخبرتي في شق الجحيم الأحمر  فقد تبرعت أنأكون قابلة.. أساعد من يفاجئها المخاض.. والتي ولادتها تتعسر أوصي بنقلها إلىالمستشفى الكبير.. أشعر بالسعادة وأنا أقطع الحبل السرّي.. أشعر أنني أقطع الموت لأمنحالحياة طريقها الخصيب.. سمعت صرخات الأطفال الأولى.. صرخة المولود الأولى هي أفضلموسيقا في الوجود.. هي شروق شمس صوتي.. هي نغمة روح وترنيمة نفس تصدح في القلوب..  لو يستمع الشعراء والموسيقيون والمطربون للعديدمن هذه الصرخات فسوف يبدعون أكثر ويعيشون أكثر ويسعدون أكثر.. لقد جرّبت هذا كثيراودائما متعطشة له.. مقصي فاخر ونظيف ومن الذهب الخالص ومن مال حلال وصلني عبرالسفارة لأن أسرتي باعت بستانها الريفي لشركة السكك الحديدية لأنه جاء في طريققطار الشرق السريع وأرسلت لي حصتي ففكرت ماذا أفعل بهذا المال.. وضعت نصفه فيصندوق صدقات سيدي غازي والنصف الآخر أبقيت بعضه لأعيش به وسددت معظم ديوني و دفعتبالباقي إلى معمل الزواوي ليصهر لي سبيكة ذهب نقي ويصنع لي منها مقصا رحيما.. أقطعبه حبال سرّر اعويلة بنغازي الرائعين المهذبين الطيبين.. كان في معمل الزواوي حرفيأفغاني فنان اسمه مراد الدين.. يجيد الصب والنقش والرسم كما الفنان ابزاد.. وكانقد ركبني أكثر من مرة وأسعدته.. فتكفل بتصميم وصب هذا المقص.. وزخرف حلقتي ممسكه بخدوشرائعة وجعل شفرتيه تصنعان عندما تلتقيان شكلا يشبه القلب.. أما مسمار الارتكازالذي يجمع جزئي المقص أمام الممسكين فقد جعل صامولته من الماس.

آسفلم أتركك تتكلم.. أنا سعيدة الآن.. أحب أن أحكي لك عن كل شيء وبالتفصيل.. ثوبك هوالسبب.. قماشة دفئك هي السبب.. كسوتك التي تعبدت فيها ووقفت مرتديها أمام اللهوكتابه كثيرا هي السبب.. وأنت أيضا هو السبب.. والسبب كله من الله.

لمتدخل هذه العاهرة الفرنسية سابقا الإسلام رغم تحيتها له الموحية بإسلامها.. فمازالت على دينها التي عُمّدت عليه.. لكن لها ولع بالطقوس التعبدية الإسلامية.. تحبالأذان كثيرا وعندما يرتفع من المساجد القريبة من بيتها وتتداخل الكلمات في بعضهاتحس بالسعادة الروحية وترحل إلى عوالم بعيدة شفافة ممتعة.. عوالم بيضاء ناصعة نقيةمن دنس السحب الزائفة.. تحب شهر رمضان وما به من أجواء.. تحب العيدين وعيد المولدالنبوي الشريف حيث يسير الأطفال بالقناديل في الشوارع مهللين ومنشدين: "هاضاقنديلك يا حَوّا يشعل من امبارح لتوّا".. حتى أنها أعجبها اسم حواء فتسمّت به..بل في عيد الأضحى تشتري خروفا لأسرة فقيرة وتطلب منهم أن يذيقوها منه عندما يشوون منلحمه أو يطهون بعض وجباتهم الليبية الشعبية.

     قال لها حديثك ممتع يا حواء.. لكن تعبت منالجلوس.. ما رأيك لو نأخذ جولة.. سارا معا على الكورنيش.. يقفان إلى جنب بعضهماالبعض يراقبان الأمواج والسفن الراسية في الميناء وطيور النوارس الزاعقة والصامتة والغاطسة في لجة الماء لقنص زادها منالمخلوقات البحرية الغافلة الصاعدة إلى أعلى طلبا لدفء الشمس.

حكىلها هو أيضا حكايته.. حكى لها عن أسرة الحاج ونيس اشنابو التي عرفته فورا.. فقدكان هذا الشنابو قد زارها ذات ليلة متنكرا وضاجعها مرتين على عجل  بطريقة الشورت تايم.. وبعد أن وجد حلاوتها خارقةللعادة.. طلب منها أن تكون له وحده وأن يمنحها ما تريد وأن يتزوجها بشرط أن يكونالزواج سرّيا وأن لا تطلب منه حلق شنبه أو إنجاب طفل.. طبعا رفضتُ.. بعدها سمعتُأنه ذهب إلى الحج وتاب عن نيك العاهرات ومعاقرة الخمر والتعامل مع اليهود بالربا.

أسرةالحاج ونيس خرجت من المرابط وركبت العربة والصبي اسلومة مازال لم يلتحق بالعربةويبحث عن النصراني وأخيرا لمحه  من بعيدواقفا مع امرأة فناداه فأعطاه النصراني إشارة من يده تعني أنه باق ولديه شغل وأنيغادروا ولا ينتظروه.. غادرت العربة والعرابادجي يرخي اللجام ويصيح في المهر اييييليعنى انطلق ويفرقع السوط السوداني خلف أذنيه فيركض المهر منهيا البطء و التلكؤ ولوكالشعير المغسول بكسل.

المهريركض بالعربة والصبية سليمة تسترق النظر صوب البحر متطلعة لزومة النصراني والمرأةالتي معه واللتان بدأتا تتضببا من البعد وتختفيا رويدا رويدا من المشهدية.. كانتالصبية سليمة حزينة لغياب النصراني عن العربة.. مسّـته العفوية أشعلتها هي أيضا..خلقت في داخلها هوة عظيمة مثل جحيم دانتي.. رمت فيها كل أوساخ حرمانها وتطلعاتهاللجنس الذي تسمع عنه من زميلاتها الأكبر أو المتزوجات حديثا.. حكايات لذيذة أحياناتصل بها إلى الرعشة وهي جالسة تستمع.

كانتتتأوه لا إراديا عندما تصف عروس حديثة ليلة دخلتها أو صبحيتها.. عندما تقول أحضرتله الإفطار في السرير لكنه لم يفطر وقفز فوقي قفزة فهد على حوليّة (أنثى الضأنالصغيرة) وافترسني الشرير المجنون.. وغبت يا بنات عن الوعي.. شعرت أني في جنة.. كلشيء فيّ يتذوق العسل ويصرخ.. وهو ممسك فيّ وأنا ممسكة فيه.. نتقلب فوق بعضنا البعض..أخبش ظهره.. يمتص في رقبتي.. وتُرِي الفتيات رقبتها والبقعة الحمراء التي على هيئةموجتين حمراوين وآثار تخبيشة صاعدة من الظهر إلى أعلى الرقبة الخلفية.. وبصراحة لانشبع من بعضنا البعض.. و لا أحس بألم الفتح الذي مازال أخضر.. الحلاوة يا حبيبتيتنسيك الألم لأن ذاك الشيء ألم عظيم لكنه ألم حلو ليت منه عشرين.. فيتضاحكن جميعاوكل واحدة تقرص التي بجانبها في فخذها فتتعالى الصرخات في دار الجلوس حتى تأتيخالتي مناني وتقول لهن وصول الحاج على وشك.. انقصن الدوّة اشوي وتطلق بينهن زغرودةتعقبها ضحكة ماجنة مستجلبة من زمن شقاوتها القديم.. واحدة من الفتيات تقول عمتيمناني هابا عليها وأخرى تقول مش هوينة اللي ما يعرفها إيقول عليها مش للضي (قحبة).

خالتيمناني تقترب من الخمسين.. لكن من يراها حتما سيمنحها ثلاثين سنة.. جسم ناضج متماسكنقي من الترهلات والتجاعيد.. نفس أوصاف ابنتها سليمة لكن في حالة النضوج العتيق..أضف إلى ذلك خصلة من الشيب تتسلل من وسط رأسها لتنضفر بعشوائية داخل ضفيرتهااليمنى.. فمها على الدوام مسوّك وقدماها وراحتاها دائما محنتان ووسط جبينها منقوربوشمة خضراء من لون الزنزارة.

***

 بدأت زيارة المرابط تخف ومعظم الشباب غادروا إلىملعب السبخة لمشاهدة المباراة المهمة في الدوري الرباعي بين فريق الصابري وفريقالبِرْكة.. لا أحد الآن على الشاطئ سوى النصراني والفرنسية حواء و حوّات طاقتهباردة لا يريد أن يغادر الشاطئ ويُمَنِّى النفس بصيد طرف فروج أو تريلا أو بوريثقيل الوزن.

سارابعيدا عن هذا الصياد وعن السجن الواقع على شاطئ البحر.. استدارا خلف السجن وهبطاإلى أسفل مبناه.. هناك توقفا.. وزحفا بجانب سوره المنيع حتى وجدا نفسيهما قرب فتحةحجرية ضيقة.. هو يقودها إلى كهف صغير يعرف أنه يستخدم للسهرات وشرب الخمر بعيدا عنالطفيليين.. من يأتي من دون دعوة قد يتم اغتصابه.. وليس له مفر من قدره فالصخور منخلفه والبحر أمامه.. ترددت حواء في الدخول لكنه جذبها نحوه بشدة فاصطدمت بصدرهفعانقها فساحت كملحة بنغازية ظامئة للماء المتأوه.. منذ مدة طويلة لم تمارس الجنس..منذ قبل توبتها بأسبوع.. كانت ظامئة وجائعة جدا.. ابتعد عنها لأنه افرغ سريعا بسببالصبية سليمة بنت الحاج ونيس التي كان انطفاء شهوتها مؤقتا و خادعا جدا.. وقفيتأمل جمال قامة الفرنسية حواء قليلا ويمسح بلسانه على شفتيه الهائجتين وقادها علىالفور من يدها متوغلين إلى عمق الكهف وهناك جلسا على تازير قديم  وشرع مباشرة يرفع بيشتها عن وجهها ليرى أمامهجمالا  متوحشا مشتعلا أسطوريا.. ثم أنطرحلها على ظهره وتركها تمارس على جسده ألعابها الجنسية المجنونة.. اغتسلا في البحروعادا كل إلى بيته.. لم تمض خمس دقائق على وصول كل واحد منهما إلى بيته حتى ارتفعصوت الحق مناديا الله أكبر.

لميفطر ذاك المغرب جيدا.. ضميره يؤنبه.. هو غير مسلم لكنه شعر أنه انتهك حرمة الشهر..خان عيش وملح بنغازي.. لوث جزءاً من عبادتها لربها.. لم يره أحد.. لكنه واثق من أنالله  سيعاقبه.. الفرنسية حواء هي أيضاأنبها ضميرها المرهف.. لم تفطر مع جارتها.. وانخرطت تبكي.. ظنتها الجارة أنهاتذكرت أهلها في أوروبا فواستها قائلة ماتبكيش يا هبلة نحن أهلك وأنت بنت من بناتنا..لكن الحزن والبكاء تواصلا حتى السحور.. تواصلا بأعنف وأحرق حتى أعياها السهدوالتعب والتعاسة فتناولت قرصا ابتلعته لتنام قبل أن يؤنبها ويسحقها ويبكيها نورالفجر الذي عاهدته وأشهدته على التوبة.. لكن على ما يبدو الماء ما يروب والقحبة ماتتوب.

إنهااللعنة.. انتهاك الشهر في مكانه المسلم لا يمحى إلا بثمن.. قد لا يشعر المذنبباقتراب العقاب لأنه لا يجيد قراءة ناموس الألم والتسامح.. لكن هذا الأمر ناموسفطري.. لا يفر مجرم من جريمة ارتكبها.. طال الزمن أو قصر أو ارتفع أو هبط.. لواختلت معادلة الحق هذه لضاع العالم وما وجد الوجود نفسه في حالة شفافة أبدا.. وإنافتقد الوجود شفافيته فقل على الدنيا السلام أي الخراء.. لا أريد أن أقول أنالسلام هو الخراء.. لكنه فعلا.. فبعد الخراء يشعر الإنسان بالراحة والسلام راحةسياسية يقتات منها سماسرة كَرّ الحبل (التملق).

منذتلك المضاجعة التي في عرف المكان المظلل بسحاب الفضيلة آثمة وهما في قلق.. همايعرفان قيمة وقداسة صُلّاح هذه المدينة وعجائزها الطيبات.. هذه المدينة تمنحك أمعاءهاوكبدها ورئة جوها وثقتها لكن إن خنتها أو انتهكت مقدساتها لن تربح أبدا.. ستترككذائحا كما جئت إليها أول مرّة.. لا ملح في دمك ولا شرف ونبل  في روحك.. إنها مدينة مرابطة لا شك في ذلك.

هماعلى يقين أن الله سيعاقبهما.. فحتى في دينهما المسيحي توجد توصية باحترام وتقديسبقية الأديان.. وفي دينهما أيضا أنّ الزنا حرام فما بالك زنى في أثناء الصيام وفيوضح النهار وعلى شاطئ البحر بالقرب من المنارة والأولياء الصالحين.. سنعتبر أنالنفس ضعيفة.. سنعتبر الإثارة مجنونة خارجة عن وتيرة التحكم.. سنعتبر أن حواءأغوته بتفاحة الانتصاب.. لكن سننظر إلى أشياء أخرى ونصنع منها بعض الأعذار.. أنهماظامئان جدا لفعل تعودا عليه منذ بلوغهما.. سنبحث عن أعذار أخرى  مقبولة عرفياونفسيا وبيئيا.. لعل هذه الأمور تساهم في تخفيف العقاب لكن بالطبع لن تلغيه..فالإنسان دائما فوق الشهوة وقوة إرادته سامية ومحصّنة ومعصومة ضد شياطين العُجالة.

هَلَّعيد الفطر.. الناس عيّدت على بعضها البعض وتسامحت وقبلت رؤوس بعضها وصارت بنغازيملحة تسامح هائلة تذوب رحمة وحنانا.. أضرحة الأولياء امتلأت بالزوار.. المقابرامتلأت بالزوار.. حديقة الحيوان امتلأت بالمتنزهين والزرّادة.. الحانات امتلأتبعشاق الخمر والعربدة.. المواخير استأنفت نشاطها وفتحت أبوابها مشتاقة لطالبياللذة وشراة البغاء.. المطربون والشعراء رددوا أغاني تحتفي بالعيد ومفارقاته.. شابمصدوم عاطفيا و ثمل يغني في عرض الشارع:

العيدعيد الناس ما هو عيدي.. الناس عَيّدت وانا مفارق ريدي.

وشاعرمحبط  تكسرت أماله على الشط يرشف قهوته فيمقهى العاشق ويردد بيت شعري للمتنبي يقول:

عيدبأي شيء جئت يا عيدُ.. بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ.

***

عجاجكثيف يملأ جو بنغازي.. السماء طوبية.. البحر بنفسجي.. الشمس ترسل أشعتها إلى الأرضعاجزة عن طرد سماجة الغبار.. الشمس لا تطرد سوى الأوساخ.. والغبار في النهايةسأعتبره نظافة طائرة.. الماء يُبـَخ من السماء ومن الخراطيم.. ومن الراحات التيتحفنه من الأوعية وتنثره حولها.. كلما أطفأ الماء قطيعا من الذرات.. أتى قطيع جديدليسد فراغه.. قطيع شديد أشد ضراوة وخنقا.. أوراق الشجر أحمرّت بلون لا يشبهالحنـّاء.. زجاج النوافذ سال على شفافيتها طحين ترابي ناعم فحمّرها.. الناس تغلقعيونها بأيديها أو تغطيها بالنظارات.. الأنف والأذنان يحملان النظارة.. الهواءيحمل البصر.. الصوت يحمل البصر.. الغبار كائنات قديمة جدا تطير في الهواء.. تطيرثم تهدأ وتهبط على العش.. الناس تكمم أنوفها بالمناديل وبأطراف العمامات..المركبات تسير ببطء مضيئة مصابيحها الخلفية والأمامية وكل الوامضات الجانبيةالملونة.. الناس لا تستطيع البقاء في البيوت.. لابد أن تخرج  لكسب رزقها.. تتفاعل في بعضها ومع بعضها البعض..تبيع.. تشتري.. تحصد.. تزرع من جديد.. تكتب.. تقاتل.. تصطاد.. تصنع.. تتعبد..تتعلم.. الغبار لا يوقفها ولا يجعلها حبيسة في البيوت.. برامج الأغبرة تعاملت معهامنذ القدم وعرفت كيف تتكيف و تتعاطى معها.. الغبار إن  رششت  عليه الماء ينبت.. والشيء الذي تجعله ينبت يحبكولا يخنقك أو يؤذيك.. ليس مهماً أن يكون الماء مالحا أو عذبا.. ساخنا أو باردا..المهم فقط أن يكون نظيفا نقيا حنونا.. لأن الغبار إن رشتته بالقذارة سيرد عليكبالمستنقعات والروائح النتنة وآسف على هذه الثرثرة الغباروية.. لكنها مهمة.

كلالأنوار البنغازية أحمرت بسبب الغبار.. حتى المنارة تحوّل لونها العسلي الوامض إلىلون الدلاّع الطايب المطبطب عليه والمرشوم والمأخوذ منه نتشة.. المنارة عالية..ترى كل شيء حولها.. ترى السفن وهي تتردد في الاتجاه نحوها.. فالضوء الأحمر الذيتومضه بسبب الغبار نذير خطر..  تفضل السفنالبقاء في البحر على الاقتراب من الشاطئ.. ستنتظر حتى يعود إلى المنارة لونهاالعسلي الحلو.

لغبارتغلّب على معظم الأشياء في بنغازي.. الشيء الوحيد الذي لم يتغلب عليه هو الملح..لا أدري هل الملح ذكي أم لونه أبيض.. لماذا الملح والثلج والقطن لونها أبيض..سأسأل آلهة البياض التي لم أجدها حتى الآن؟؟؟ هل الملح  ثعبان أو حرباء.. كلما تكسوه طبقة من الغبار ذابوذوّبها معه.. ملح ذكي عجيب شرس..  اههههههههههههههه..الملح يمارس سياسة الاحتواء.. من يركب على ظهره يمهله قليلا ثم ينفضه بعيدا.. هووحظه.. قد تكون سقطته على حجر أو رمل أو ماء.. أو تكون على صخور مرجانية حادةالحواف.. وفي الحالات جميعها هو ساقط..  الملحتحرر من عبء أراد أن يغيّر ملامحه وروحه.. سأقول إن الملح كائن ثوري يحب الحريةوالاستقلال وتنظيف الأنفس والأسنان والمطابخ السوريالية من أمراضها العطنة.. الملحمسحوق مقدس نظيف مضيء.. الغبار يلتصق بالملح.. الملح يذوب ويذوّبه معه.. وكلما ذابالملح سطعت خلف الكم المذاب طبقة جديدة بيضاء كالثلج كالقطن كالقمر في ليالياكتماله.. طبقة أصيلة غير طفيلية.. الطعام من دونها يكون سيئا وباهتا وغير مستساغ.

مهماتعاظم الغبار فإنه ينتهي في لحظة.. سنرى هذا المشهد الآن.. ريح نسائمية تهب مشبعةبالمطر.. المطر يطرح ذرات الغبار كلها أرضا.. يغسلها من اختناقاتها الذاتية ومرضهاوترهلها المرتخي لتتحوّل إلى طمي ناعم خصب تبتهج الأزهار للنوم في جوفه.. لتستيقظعطوراتها وتفوح.. الطين يتشقق.. ومن بين الشقوق تطل الرؤوس المتطلعة إلى السماء.. الجفافلم يشقق الطمي.. الخصوبة هي المشققة العظيمة.. هو يشقها الآن.. يشقها بمنتصفه..بالمنارة الباسقة الوامضة بالماء.. يصرخ عاليا من اللذة والذنب وتأنيب الضمير الذيتمنى لو أنه لم ينزرع فيه.. ليتني أستطيع أن أعطي ضميري إجازة لتعيشني الحرية مندون أن أسبب لها القلق.. لقد ناكني ضميري كثيرا ولم يتركني أنيكه حتى مرة واحدة..سأشعر بالسعادة عندما اغتصب ضميري.. لن اعترض لو أعدمتني الإنسانية أو ذبحتني دولةالضمائر.. ولن استأنف الحكم أبدا.. لكن كيف سنستطعم الحرية من دون ضمير؟ كيف سيذوقذاك الصارخ لذتها وبهجتها وفرحتها وحزنها؟ كيف سيعيش معناها؟ كيف ستعشقه النساء؟كيف ستحبه الصبية سليمة بنت الحاج ونيس شنابو وتخصه بكل شيء جميل؟ لقد تطورتالعلاقة بينهما في العيد.. لقد تجرأ وعيّد عليها بقبلة على الخد.. تذاوقت بشرته وبشرتها..شم رائحتها.. شمت رائحته.. تآلفت الأخلاط في ساعة فرح.. في يوم عيد.. وسط الحلوياتوالبخور والتبريكات والعصيدة بالعسل والزبدة الوطنية.. الملامسة سيّلت الصبيةسليمة.. ارتفعت بها إلى دفيئات لذيذة لم تبلغها من قبل قط حتى في أحلامها.. لقدتماست كثيرا مع صبيان من العائلة نفسها ومن الجيران وتماست مع فتيات في عمرها تحتالبطاطين وبتواطئ مشترك أفرزته الرغبة في استكشاف الجسد وإمكانياته ومناجمهالمخبوءة النائمة.. وتحصلت من ذاك التلامس على ملذات جميلة.. لكن ليست كاللذة التياكتنفتها عندما لامست خدها شفة النصراني وأطلقت قرب أذنها فراشات أنفاسها.. رائحتهزاخرة بالفحولة والحب والأحلام والسكر.. تمنت أن تعانقه مباشرة وليس في خيالها كماتفعل كل ليلة.. في كل ليلة كانت تغمض عينيها وتضع إصبعها على حلمة نهدها وتجلد عمَّيرة(العادة السرية)  بمرح وجنون أيضا.. صارهذا النصراني هاجسها.. ينام معها.. يأكل معها.. يحلم معها.. ينط على الحبل معها..يغسل الأواني ويكنس الفناء معها.. يغني معها.. يكتب ويقرأ ويدرس معها.. يستحم معها..يتخيل معها.. لقد فاتحها بحبه بطريقته الخاصة المهذبة.. يصافحها ويترك راحته تضغطعلى راحتها لهنيهة تصاحب الضغطة التقاء عيون.. تخفضهما بسرعة وسط تضرج خدين وتعرّقجبين وصدغين.. يترك يدها ببطء وكأنه يخلع قفازا ضيّقا.. يشيعها بابتسامة حالماتلتفت ذاهبة إلى شأن من شؤونها.. ويستغرق في تتبع خطواتها.. مشيتها تصنع في قلبهملحمة جمال وتناسق.. أفروديت ليبية تسير أمامه.. لا يرى فستانها ويرى ما تحته منلحم ساخن ناعم مرتعش يهتز ويرقص للحياة.. آه من مشيتها.. أنسته مشية حبيبته في برالروم.. ما عاد الآن يدري عنها شيئا.. الحرب دمّرت كل شيء في أوروبا والعالم..أزالت دولا وأنتجت دولا جديدة.. هجرات كبيرة غادرت إلى أمريكا.. حبيبته انقطعتأخبارها.. منذ أن ودعته قبيل التحاقه بالحرب لم يسمع عنها.. الرسائل التي أرسلهالها كانت تعود إليه لعدم العثور على العنوان.. لا يدري هل ماتت أم هاجرت؟ لا يدريهل نسته أم مازالت تتذكره؟ هو وفي لكن وفاءه للحياة أكبر.. الصبية الليبية سليمةناعمة وساخنة ونكهتها كما التوت البرّي كما البردقوش الدرناوي في الحساء.. الحياةمملوءة بالحَبيبات والحبيبة المفقودة ليس بها إلا حياة واحدة.. يجهل مصيرها الآن..قال له صاحب عقله: الحي في اللي يالاه.  فاستمع إليه وبدأ يعيش حياته ولا يقتل نفسه بسببذكرى.. لقد ضاجع الفرنساوية حواء في الماخور.. وضاجعها في الحقفة (الكهف) على شاطئالشابي في شهر رمضان المبارك.. وها هو الآن بعد العيد بأيام يركبها مجددا في الكهففي يوم الجمعة وفي منتصف النهار.. الشاطئ خال.. الجميع في المساجد يستمعون إلىخطبة الجمعة ويؤدون الصلاة خلف مبعوث الملك المحتفل بالاستقلال وتوحيد أجزاءالبلاد المنفصلة.. وعلى الرغم من أن الجميع في الصلاة ولا أحد ظاهر للعيان إلا أنهناك في الركن عيون تبصكل (تتلصص).. تختبئ وراء شجيرة وتمسح الشاطئ بمنظار مُكبّرومُقرّب.. لقد رأته العين يغيب في الكهف صحبة الفرنساوية حواء ورأته يخرج منهصحبتها وحالتهما بها دهشرة وارتباك.. هو يزرر أزرار البنطلون وهي تهندم  وشاحها و بيشتها.. يعرفان أن ما قاما به حرام وغيرشرعي في الأديان جميعها.. لكن الشهوة قوية.. الحب أقوى.. رعشة الحياة متغلبة علىالشرائع والممنوعات.. الصبية سليمة التي تشغله في البيت تدمر مقاوماته.. تشعلهبنظراتها ومشيتها المهتزة من فوق إلى أسفل.. تشعله بأنوثتها الطازجة البريّةالمبهرة بالملح.. حسنا ماذا يفعل؟ عليه بتدبير أمره جنسيا.. العاهرات المحليات فيالمواخير لا يروقنه.. قذرات وغير جميلات وكبيرات في السن وبدويات لا يُجدن الزينةجيدا ولا المداعبة.. لا أحد في هذه المدينة يمكنه أن يركبه ويستلذ به سوى الصبية سليمةوأمرها شبه مستحيل أو الفرنساوية حواء.. الفرنساوية حواء ظامئة.. هي تابت لكن علىما يبدو ليس منه.. فما إن تشم رائحته ستتلاشى التوبة.. قالت له عليك أن ترافقنيإلى شارع فياتارينو.. سأعترف للقسيس بما حدث بيننا اليوم.. وستعترف بدورك أنت أيضاكي نخلص روحينا من الذنوب.. سأطلب منه أن يدعو لنا بالخير والسعادة والمغفرة.. القسيسصديقي.. أحيانا يضاجعني ويعترف لقسيس آخر أكبر منه سنا.. وذات مرّة كان ثملا جدافأعترف لحاخام  الكنيس.. آه من منتصفي.. لماذايحكمني منتصفي كلما شممت رائحة رجل جميل كأنت؟ أشعر أن الله سيعاقبني.. لا أدري ماهو العقاب وكيف؟ لكن صدقني سيعاقبني.. وهذا العجاج المالئ الجو علامة غضب.. لاحظكيف يدخل أنوفنا ويدخلنا في نوبة سعال وعطس حتى نكاد نختنق.. هذا الغبار جعلالسماء مصابة بالبرص.. ما عادت صافية.. تبقعت بالبثور المقلقة.. سيعاقبني الرب ياحبيبي.. لا أدري بالبرص أو الطاعون أو الجذام.. قال لها: كلنا في الهواء سواء.. ستكونعاقبتنا مشتركة.. وما دمنا نحب بعضنا البعض ونشتهي بعضنا البعض ولا نستطيع أن نستغنيعن بعضنا البعض.. لماذا لا نفعلها؟ لماذا لا نتزوج؟؟

ابتسمتله وفنصت فيه بحدّة وانكسار ثم همست له في خجل: وتاريخي أيها الرجل الطيب؟

قاللها: لا أحد في هذا الوجود من دون تاريخ.. الجميع مسّه نصيب من الدنس.. من منا لميرتكب خطيئة فليرمني بحجر

قالتله: الآن تتكلم في الاتساع.. تتكلم وأنت غارق في لحظة عشق وحب تغفر كل شيء.. تتكلموأنت تمتطيني وشهوتك تتصاعد إلى الرعشة.. لكن بعد أن نتزوج ستتلاشى أو تخف تلكاللحظة المثيرة العمياء وقد تغضب وترى الماضي  وتهينني  بقسوة.

قاللها: سأهين نفسي قبلك إن حلا لي فعل ذاك الأمر.

دخلاالكنيسة وطلبا من القسيس الاعتراف.. كلاهما على حده.. وبعد الاعتراف طلبا منه أنيزوجهما معا.

***

عادإلى بيت الحاج ونيس اشنابو وأخبر العائلة بعقد قرانه في الكنيسة.. فزغردت فوراخالته مناني وعانقته بحرارة وفرح الحاج ونيس شنابو وبارك له وتمنى له السعادة والهناءوعانقه الصبي اسلومة وأحمر وجهه أمام أبيه وأمه عندما قال له النصراني إن شاء اللهنفرح بيك حتى أنت قريبا.. العائلة كلها فرحت فيما عدا الصبية سليمة التي تفاجأتبالخبر وانزوت في غرفتها بعد أن جاملته فهنأته بمصافحة باردة وابتسامة مكسورة الخاطرلم تمر على أمها الخبيرة في قلوب البنات وألاعيب النساء ونبرهن الماكر.

ساعدوهفي مصاريف الزفاف وأقاموا له عرسا ليبياً على الرغم من أنه مسيحي وعروسه مسيحية..علقت المصابيح والبالونات والأشرطة الملونة وسعف النخيل الأخضر المجلوب من سوانياللثامة.. تحول ميدان سوق الحشيش إلى مكان به كرنفال.. تم دعوة الجيران والمعارفوالشخصيات البنغازية من مختلف الأجناس.. عرب.. يهود.. مالطيين.. يونان.. ايطاليين..ألمان..  وجلبت فرقة شعبية مختلطة رجالونساء.. غنت المطربة بطة اليهودية أغاني مرسكاوي.. يصاحبها عزف لعازف إيطالي علىالكمان.. وعازف عربي على العود.. وزنوج على الطبل والدف والدربوكة.. ويهودي علىالناي فرقص على إيقاع وموسيقا الأغنية الجميع.. الخيمتان متلاصقتان.. الرجال فيركن والنساء في ركن وبينهما الفرقة تبدع.. الجميع فرحان.. الجميع سعيد.. الحزينةالوحيدة في هذه الرَّغّاطة المفرحة هي الصبية سليمة.. أنفاس النصراني وفحولته وفمهالذي عيّد على خدها مازالت تؤثر فيها.. طوله الفارع عيناه الخضر شعره الأشقر بشرتهالبيضاء جسده المتناسق الذي لا هو بالسمين أو النحيف أناقته وعطره وذقنه الحليقدائما.. لقد كان جذابا.. أنساها كل الصور التي اختارتها من شباب بنغازي لفارسأحلامها.. النصراني وسيم وخلوق ويحبه بابا وماما وأنقذ أخي.. لقد وضعته في قلبهاوبنيت عليه أحلامي لكن الفرنساوية حواء اللعينة خطفته مني.. لا أدري كيف لكن همانصرانيان  ويتفاهمان فيما بينهما أكثر مني..يا لحظي التعيس.. وتدفن رأسها في المخدة وتبكي وتفطن لها أمها فتأتيها وتضمهاإليها وتهمس لها.. الزواج قسمة ونصيب والنصراني ليس من ديننا وعمرك وعمره ليسامتكافئين.. الصبية سليمة كئيبة.. لم تأكل العصبان ولم تتناول حبّة واحدة من الأرزبالخلطة ولا حتى رشفة مسيّر حار أو عصير.. لقد فقدت السيطرة على نفسها واتخذت منالعرس موقفا عدائيا.. مقاطعة تامة.. شعرت بأن صرحا عظيما في قلبها قد تصدع وانهار..بكت وبكت لكن رفعت رأسها ونظرت إلى وجهها المحمر ورأت مسارب الدمع المختلطة بالكحلقد رسمت على خديها خطوطا رفيعة سوداء ملهمة كالتي تتبقى في قاع فنجان القهوة.. قالتلنفسها سأكون كأمي عنيدة وسأستعيد حبيبي النصراني من كل نساء العالم.. سأفعل مثلمافعلت أمي مع أبي الحاج ونيس التي جعلت شنبه يتواضع وينحني ويقدم فروض السمعوالطاعة.. صممت على أن تتحصل على هذا النصراني وتناله وتجعله نصيبها.. لغة الحب لنيتحكم فيها الدين.. غسلت حزنها ومسحت خيبة أملها وصدمتها بمنديل من تفاؤل وعناد..وقفت في العرس وقفة معتبرة.. اعتبرته وكأنه عرس أخيها.. طبخت وغسلت ونظفت وزغردتوغنت ورقصت وأطلقت البخور ونثرت بتلات الفل والياسمين وماء الورد من المرشّةالفضية على الحضور وارتدت أجمل ما لديها من ملابس ووضعت ألطف زينة وأرقها.. كانتجميلة جدا في البدلة العربية.. كل أجزاء البدلة وحليّها خائل عليها.. مناسب لها..متألق على جسدها وروحها.. المحرمة القمجّة الكردية الرداء السروال الهفهاف الصباط الموشىبالخيوط اللامعة والحلي الذهبية الخالصة من أسفل إلى أعلى الخلخال في قدميها واليدالجريحة تلتف على أصابعها ومعصمها والكردان يهفو على صدرها والتاج يتوج جبينهاوالأخراص تتدلى من أذنيها والدملج يطوق ذراعيها.. والعطر الذي تعطرت به يذهب عقولالأنوف ويهيجها.. وعقد الفل والياسمين الطبيعي يطوق عنقها وينفث سعادة وبهاء.. كنزبشري جميل يتهادى في المكان ويحضر بتألق خفيف ماكر غير صاخب.. لقد كانت هي العروسالحقيقية.. لقد ضربت ضربتها في هذا العرس ومضت.. صفعت العريس والعروس وفتياتالميدان والشوارع القريبة وفاتنات الفرقة الموسيقية.. أكلت الجو من الجميع.. سرقتالضوء بجدارة.. بنات الجيران.. فاتنات اليهود.. الشاميات.. الأرمنيات.. الكريتيات..الطليانيات..التونسيات وحتى المصريات وبالطبع الهدف المهم العروس نفسها التي زينتها أخصائيةالتزيين والمكياج في ملهى الأولمب.. جمالها سرق الأبهة والفخامة والفتنة من كلالأنوثة المتنوعة المسكوبة والمترعة في المكان.. حتى النصراني العريس لم يقاومجمالها وغرق في النظر إليها وتأملها قطعة قطعة على الرغم من نحنحات العروس وقرصهاالخفيف المتسامح لإصبعه.. لقد نظر وبادلته النظر.. لقد اشتهاها وبادلته الاشتهاء..لقد خرج الحب الآن من قمقمه.. خرج في لحظة حرجة.. شعر أنه تورط في الفرنساوية حواءوتورط في حب الصبية سليمة وتورط في هذه الحرب العاطفية المدمرة التي لو سقط منعليائها فلن يجد جرس كنيسة ينقذه.. لن يجد إلا النار التي تعتمل في قلبه وتفتكبمشاعره كسرطان شرس لا يعبأ بدواء الصبر وحيل الكيمياء.

لقدفهم لعبتها وقرر أن يقاومها بشتى الطرق.. هو الذي تزوج هذه المرأة لوضع حدٍّلمحرماته معها.. فروحه من قبل ومن الأساس خيّرة لا تحب المعصية.. لكن هو مؤمن بأنهسيترك نفسه للحياة تعيشه وتمارسه حسب ما ترغب.. الرضوخ لرغبات الحياة بربالإنسانية والفطرة.. فالحياة منحتنا نفسها لكي نعيشها فلماذا لا نمنحها أنفسنالكي تعيشنا؟!

***

اكترىبيتا صغيرا في شارع الشويخات.. اكتراه من صديق تعرف عليه في مقهى العَرُّودي.. لهابن وحيد.. و لا يملك إلا هذا البيت يعيش من إيجاره.. ويقيم في شقة صغيرة مع زوجتهوابنه في دوره العلوي.. كثيراً ما جالس هذا الصديق الذي يعمل بحارا على قاطرة في الميناءوشربا معا القهوة بالكزبرة وأحيانا بعض كؤوس البوخا التي يشتريانها من اليهودية دودابنت حواتو الكائنة خمارتها قرب البحر..  فيهذا البيت الصغير الظريف الجميل المكسوة واجهته بأوراق دالية العنب دخل على حواءالفرنساوية.. ذات الجمال الأخاذ.. ذات العنق الطويل والنهدين المنفلتين من كلستيانات الدنيا والقوام الرشيق الذي من الممكن جدا أن تمسك خصره بقبضتك.. سرالجمال في هذه الفرنساوية يتموضع في عينيها الذابلتين الناعستين المعبرتين جداأثناء ممارسة الحب والشبيهتين بعيني الممثلة مارلين مونرو.. لا تغمض عينيها تماما..لكن تتركهما كشرفة يعبث بدفء رموشها النسيم.. من عينيها تصنع كل شيء.. تضع الرجلفي جيبها.. تستعبده.. تسيّره كما تريد.. من عينيها يسيل السر لينفخ ثدييها ويدوّرمؤخرتها.. ويدقق أنفها.. ويرطب ويورد شفتيها.. وينعم شعرها.. ويبرم ساقيها.. ويبثفي مساماتها النار.. ويريّن جسدها بالكامل صاقلا قوامه وفق مقاييس الجمالالإغريقية.. من عينيها تبدع جمالها وتنثره على الذائقات فتتهافت عليه مهما كانتمتكابرة أو ضاربة روحها بعَصْبة.. تسل منهم العَصْبة مهما كان نوعها أو حجمها وتجعلهميلحسون التواضع  ويتعبدون في محراب الجمالهذا.

عاشأيامه الأولى معها في سعادة.. ثوب كهنوته القديم مازالت تحتفظ به.. علقته في صوانفي غرفة النوم.. كل يوم تنفضه من الغبار وتبخره وتقبله وتعيده إلى مشجبه المصنوعمن خشب الزان.. ملأت جيوبه زجاجات عطر صغيرة وكتل مسك وعيدان بخور.. كانتالفرنساوية زوجة مطيعة حنون.. حافظة لبيتها.. تحترم جيرانها.. لم تنقطع عن عملالخير قط.. لا يمر يوم حتى في شهر عسلها إلا وتأتيها عربة أو سيارة لتحملها إلىامرأة في حالة وضع.. تلتقط حقيبتها ومقصها الذهبي وتستأذن زوجها وتغادر معهم..أحيانا يطرقون عليها وهو فوقها فيبتسم وينهض مستغنيا عن الزمن واللذة ومفضلا منحزوجته لحياة جديدة مشتاقة لصرخة البدء..  ينهضإلى الحمّام وهو يمازحها: مسكين من يتزوج قابلة.. لكن عندما تعود وتخبره عن الطفلأو الطفلة التي ساعدت في إخراجها إلى الحياة يشعر بالسعادة وتتأجج فيه الرغبة فيالأبوة فيواصل مضاجعتها.. ذات مرّة ساعدت في إنجاب توأم فضاجعها ثلاث مرات متتاليةمن دون أن ينهض من فوقها.. عندما استغربت في الأمر أشار إلي برطمان صغير جلبه منعطار النجار فضحكت ومازحته لقد كبر زوجي و لا يستطيع التمتع بي إلا بمساعدة طبالعرب.. ظننت أن التوأم هيّجك.. دائما تعود من عملها الإنساني هذا محملة بالحبوالرضا والهناء والهدايا البسيطة التي يصر الناس على منحها لها على الرغم من رفضهاالمُلِحّ.

تحصلعلى عمل في فرنتاية الحاج ونيس شنابو.. سائق رقريقي (يوناني) سافر إلى اليونان فأخذالنصراني مكانه.. صار يجلب الرمل والمرش والأحجار من الكسارة ويقلبها بواسطة صندوقشاحنته القلاب على رصيف الميناء.. يفرغ عبوته ويعود مباشرة إلى الكسارة.. كل يومعليه أن يقوم بثلاث رحلات.. بعدها يركن الشاحنة أمام بيته ويستريح حتى فجر اليومالتالي.. ما أعجبه في الشاحنة هو رافعها الأبيض الكروم الصلب الخالي من الصدأيراقبه وهو ينتصب تدريجيا ويرفع الصندوق ليهيل ما يحمل من الرمل أو الحصى علىالأرض.. يقول في نفسه هذه هي الحياة.. أنا أرفع صندوق زوجتي.. وزوجتي تهيل الأطفالعلى رصيف الميناء.. يحفن حفنة رمل من التي أفرغها توا و يتأملها.. ثم يتمتم آه ياأبناء الرمل تموتون ونردم بكم الميناء.. ونرصف بكم الطرق.. ونبني من أحلام رفاتكمبيوتنا.. متى رحلتم عن هذا العالم؟ وهل متم بصورة طبيعية أم أنكم متم كما تموتالبشر الآن وهم أحياء؟ سنردم حتى نحن فراغ القبر ذات يوم وفراغ القبر سيردم الامتلاءالذي يختاره.. إنها متاهة رملية.. وزمن رملي لا قيامة له تلوح في الأفق.. أنظر إلىهناك.. ها هو الغبار.. ذاهب قادم لا ندري.. إنه يصنع دوّامة.. دوّامة تقلب عاليهاإلى أسفلها.

مرتالشهور الأولى من الزواج سريعا.. سعادة تركض على مضمار ممهد منحدر هادر بابتساماتالماء كشلال.. وكان للحبَل لابد أن يحدث.. فالتنور نار والمدق ثاقب والظروفالمصاحبة ملائمة جدا.. و بالونة البطن متحفزة للانتفاخ.. وحدث الحمل.. وانبثقتالخصوبة.. هو الحمل الأول بالنسبة للفرنساوية.. فمن قبل فشلت تجربة زواجها الأولى..لم تكلل بمولود.. فزوجها توفي في الحرب بعد أسبوعين من الزواج.. وأخوته فاسدونقساة.. بعد موته هربت معهم من أتون الحرب إلى الدواخل وهناك حاولوا استغلالهاجنسيا والتقويد عليها من أجل المال بعد تأكدهم أن رحمها خال من دمهم.. هربت منهملينتهي بها المطاف في ميناء مرسيليا.. تحصلت على عمل ممرضة في إحدى السفن.. لكنجمالها أطمع فيها المرضى وأفراد الطاقم والقبطان.. في عرض البحر استسلمت للجميع.. حسبتهاجيدا.. الاستسلام ثم التوبة أفضل من الرفض واغتصابها ورميها لأسماك القرش.. اختارتالحياة رغم قذارتها وبؤسها.. كانت تقفل عينيها وتترك جسدها يستلذ حريصة في كلمضاجعة على تناول موانع الحمل.. عندما وصلت السفينة إلى ميناء سوسة في تونس كانتقد اكتسبت مهنة جديدة.. تسمى أقدم مهنة في التاريخ.. وجدتها جميلة.. وذات رسالة إنتم تفهمها وقبولها بعيدا عن طعن ولعن الذات.. قررت أن تواصل لعبتها حتى النهاية.. صارالجنس لذيذا بالنسبة لها.. أدمنته يوميا.. وتفننت فيه.. كل رجل مشروع تجربة تكتسبمنها لونا جديدا.. ومن الألوان جميعها استطاعت أن تخص نفسها بلون خاص لذيذ.. منخلال هذه الممارسات الجنسية اكتشفت العالم.. قرأته من طق لطق إلى السلام عليكم..عرفت كيف يسير وكيف يفكر؟ كل مضاجع يحكي لها عبر آهاته عن وجع حقيقي وألمٍ ألمَّبه وحزن اكتنفه وفرح نبت فيه وفاض عن حده.. اقتنعت أنها ممرضة متميزة وممتازة تداويجراح القلوب عبر فتحة المنتصف.. اقتنعت أنها طبيبة نفسانية.. تعالج النفوس مبتدئةمن أسفل إلى أعلى.. الجبل يصنع الوادي.. والوادي يجعل الجبل يرى أشياء جميلة.. ماء..خضرة.. سمك.. مراكب.. بحر كبير.. له أمواج تغسل أقدام الجبل وتصعد مع الأقداملتغسل عورته وتطهره بملح الأعماق من قذارة الأعالي.

الجبلدائما يبكي.. وكلما بكى حبلت هضابه وولدت واديا جارفا حيا يصنع مساربه بانطلاقةالماء الحرة.

عقدةالإنسان الأساسية هي الجنس.. الخلود.. البقاء.. البطولة.. العيش والغرق في اللذة غيرالمؤلمة التي تجعله يرتوي ويشبع ويتفسأ بسهولة.. ومن ثمَّ يصل إلى نيرفانتهالاستهلاكية الاسترخاء.. المشاكل تحدث بسبب الظمأ.. التفكير عقب حالة الارتواءيؤدي دائما إلى قرارات سليمة وناضجة.. اكتشفت أن معظم ثروة العالم يصرفها الإنسانمن أجل مصلحة عضوه.. يختنه ليرضي الله و ليجعله كرمح أو قلم يخط جيدا.. وإن لميختنه فيؤخر له  بسبابته وإلهامه قبعتهقليلا قبل كل إيلاج.. كل الصناعات.. كل البُنْيات التحتية والفوقية.. كل الحروب..كل العمل.. كل الفن.. كل الدين.. كل الطرق الحياتية التي يركض فيها الإنسان هدفهاواحد.. هو أن يرتاح.. أن يحب.. أن يمارس هذا الحب عاطفيا وجسديا.. يمارسه كما يحبوليس كما يفرض عليه.. وكلمة كما يحب تؤدي إلى شيء مغروس في جينات الإنسان اسمهالأنانية.. النجاح والفشل في أمور الحب يتوقف على تلك المفردة: الأنانية. وكيف يتمالتعامل معها؟ وكيف يمكننا اقتسام منافع الحب بعدالة؟ الحروب تقوم لأنه هناك إنسانيضاجع في ظروف ملائمة وراقية أكثر من الآخر.. أمريكا تسرق البترول وثروات العالملتجعل العالم يخدمها ويحرسها وهي تضاجع.. إن فشلنا في توزيع ثروة الجنس حتما سيكونالشقاق والحرب والكراهية وكل الأمراض الدنيئة الغارقة في الفساد والقذارة.. المثلالشهير الذي يقول هات منديلك أمسح به أخاف على منديلي من التلوث مثل عميق وصحيح..لن أمنح منديلي إلا لأنفي وسأبحث عن من يؤمن بهذه المعادلة.. آه وجدته.. وجدتهسريعا لأنني أتناول الآن الشاي مع البسكويت المملح.. الوحيد الذي فهم معادلة الحبالصحيحة هو الملح.. خاصة عندما يكون في النور.. سنرى الملح دائما يبتسم للجرحويكويه فيشفيه ويجعله يلتئم فورا ليصير حديقة زاهرة تنتج الفائحة الزكية التي تجعلالأنوف تلامس بعضها البعض وتشم بعضها البعض والأنوف عندما تنحني لتحية بعضها البعضتتحول الانحناءة إلى قبلة.. الأنف جميل.. تعلوه عيون.. تحته ابتسامة.. على جانبيهأذن تعشق سماع الموسيقا.. أروع موسيقا في العالم هي أنفاس الأنف.. الهادئة..المتسارعة.. موسيقا دافئة.. بإمكاننا أن نتغطى بحرارتها وننام في الإسكيمو..الجليد لن يوقف دمي لأنني أضاجع الآن فتاة الكلمات التي فورتني وجعلتني بركاناينفث الورد الأصفر.. سأهديك باقة أنت أيتها الجميلة لكن بشرط أن تسقيها كل صباحبدموعك.. لا أحب المرأة التي تبكي.. لا أحب النضال والصمود والبطولة.. أحب المرأةالتي تخاف من الفأر والصرصار والتي عندما تتسلل وراءها وتفجعها بلمسة أو وخزة تطلقالعياط ومن العياط تبدأ أفلام النساء التراجيدية سأقول ياناعليْ وأخرج من غرفةالكتابة لأبحث عن شيء أركبه.. وجدت حصانا أحمر ورأسه أخضر.. اقتربت منه أكثر  لتتضح لي معالمه جيدا.. إنه قرن فجل أو جزر ليسإلا.. غسلته بماء نافورة ميدان الشجرة وأكلت رأسه.. أما أوراقه الخضراء الكثيفةفرميتها لحمار يجر كارو قادما من شارع العقيب.. التهم العشب رغم مضايقة الشكيمة له(اللجام) و شكرني جدا بهزهزة ذيل رشيقة.

***

حبلتالفرنساوية حواء وتقدم حملها.. صارت تتوحم وحما متعبا.. كل يومين يأخذها النصرانيإلى خالته مناني.. تهتم بها وتطبخ لها طعاما وتغسل لها ملابسها وملابسه.. وعندماتعود الصبية سليمة من المدرسة  ترتاح خالتهمناني لتواصل الصبية الاعتناء بمودة وأمل وحب وشهامة بنغازية تتجاوز الجراح المتقرحةفي أغوار قلبها.

سليمةنشيطة جدا.. ما شاء الله عليها.. ما إن تعود من المدرسة حتى تستلم شغل البيت..وتحمست جدا للعناية بالفرنساوية حواء الحامل.. تقبلتها على الرغم من أنها خطفتحبيبها المفترض.. الفرنساوية طيبة.. قلبها واسع.. صائنة للسر.. غير نمامة.. صادقة..مبتسمة.. كريمة.. دمها خفيف.. لا تشعر معها أنك تخدمها.. تشعر أنك تقوم بواجب نحوأختك أو أمك.. الصبية والفرنساوية صديقتان.. بدأت الصبية سليمة تثق فيها.. صارت تحكيلها عن مغامراتها وعلاقاتها العاطفية.. لقد لاحظ النصراني أن الصبية نضجت أفضل من ذيقبل.. وإن بستانها صار يُعتنى به في السر من المحظوظين.. لقد نضجت أكثر واستدارةوركيها تكاملت ونهداها برزا ككرتي تنس أرضي والحلمة صنعت تحت القميص أو الفستاندائرة كالبطمة.. من خلال التقاء العيون عرف أنها قد بدأت تتدبر أمر جسدها.. علاماتالارتواء وهدوء الأعصاب واضحة على محياها.. شعر ببعض الغيرة.. من ذا الذي يتمتعبكل هذه الأنوثة والجمال.. على الرغم من زواجه وحمل زوجته إلا أنه مازال متعلقابها.. يرغبها بجنون.. يستدعيها في الظلام عندما تغفل الفرنساوية حواء قليلا عنمواصلة مداعباتها.. تطورت الأمور بانتصابية وتلذذ.. صارت الصبية تطلب من أمهازيارة الفرنساوية في البيت.. تمكث معها ساعات طويلة.. أحيانا نصف نهار بأكمله.. وعندمايعود النصراني من عمله تستأذن وتعود إلى بيتها.. صحبة أخيها أو بمفردها.. حيث لاخوف ولا قلق فكل السكّان يعرفون بعضهما البعض.

بدأتحالة الفرنساوية حواء تسوء.. ما عادت تخرج لمساعدة النساء في ولاداتهن.. تقضي كليومها في السرير.. تتقيأ.. ترتفع حرارتها.. يضطرب قلبها وتنتابها دوخة.. يهاجمهاالجفاف من حين لآخر.. عندما تتعقد حالتها ويغلبها الإعياء يأخذها النصراني إلىالمستشفى يحقنها الطبيب بالجولوكوز وبالسوائل المغذية الأخرى وبحقنة لإيقاف القيء..في فجر أول يوم من الشهر السابع فاجأها المخاض.. أكترى لها عربية وحملها إلى المستشفى الكبير.. قبل أن يغادر  أوصته أن يقطع الحبل السرّي لمولودهما بمقصّهاالذهبي ليكون أخاً لكل أطفال بنغازي.. أخ ليس بالرضاعة.. إنما بالملح.. بالجرح  الذهبي.. بألم الدم المشترك..  كذلك حملت معها ثوب رهبنته.. أوصته أن يكفنوهابه إن ماتت.. بكيا وتعانقا وغادرا بواسطة العربيّة إلى المستشفى.

فيالمستشفى صرخ الجنين المطل من رحمها.. صرخت حواء متألمة كثيرا.. لم تحتمل الألمالذي تمسك في أوتار الموت وجذبها إليه فتقطعت فصمتت إلى الأبد بينما الألم استمرفي صراخه في عالم جديد ليس عالمنا.. فكأنه هو أيضا ولد وتلقفته بقية الآلام الميتةوأرضعته ووضعته في برزخ الانتظار لينتظر مع المنتظرين نفخة البعث الكبرى.. فعلوا كماأوصت بالضبط.. قطعوا الحبل السرّي بمقصها الذهبي وفيما بعد كفنت بردائه الكهنوتي..لم يخرج من جيوب ثوبه أي شيء.. احترم خياراتها.. ترك في جيوبه كل العطر والمسكوالبخور وقصاصات ورق لم يسمح لفضوله أن يفتحها ويقرأها ليكشف سرها وذكرياتهاوخصوصياتها.. دفنها في مقبرة المسيحيين واحتفظ فقط بالمقص الذهبي.. لفه في قماشة قطنيةنظيفة ودسّه في زير صغير مملوء بملح كركورة.

حزنكل سكان بنغازي لموتها.. الرضيعة احتفظ بها المستشفى في قسم حديثي الولادة.. بعدشهرين سُلمت إلى والدها الذي استلمها حزينا جدا.. لم يعرف إلى أين يذهب بها.. عادبها إلى البيت.. وضعها على سرير الزوجية..  حيث كانت أمها تنام وتمارس الجنس..  حيث حملت بها ذات قيلولة بنغازية رطبة.. مازاليتذكر يوم حملها.. الشهر في منتصفه.. شمس المحبة في منتصفها.. قمر الهدوء فيمنتصفه.. كانت الفرنساوية حواء تعد له الحرايمي.. وكان هو في الحمام يستحم..وعندما خرج من الحمام أفعمت أنفه رائحة السمك وكمون الحوت الذي ليس ثمة حرايميبدونه كما يقول الكاتب محمد عقيلة العمامي في إحدى نصوصه البحرية كذلك رائحة الحراراتوالفلفل الأكحل الممزوجة برائحتها الشبقية.. كانت ترتدي روب بيت من دون أكمام..قصير بالكاد يصل إلى الركبتين.. قال لها أوقفي الطبخ الآن.. أطفأت الموقد فجذبهانحوه.. وهمس في أذنها.. خلاص.. أوكي.. برونتو..  كل شيء تمام.. قلبي ارتاح.. تأكدتُ أنني أحبك.. الآننريد طفلا يربطنا إلى الأبد ويكون خليفتنا على أديم المالحة.... اتسعت ابتسامتهاورمت بعلبة العازل بعيدا وعانقته عناقا مصحوبا بالبكاء والفرح والقشعريرة التياكتست جلدها من دفء أنفاسه قرب رقبتها.. شعرت بقيمتها وإنسانيتها وأمومتها القادمة..شعرت أن التحفظات زالت وأن الماضي رُدم إلى الأبد وأنه ابن حلال وأن الدنيا بخير وأنهيحبها بصدق وليس من أجل أي مصلحة وقتية.. مارسا الحب حتى الغروب.. لم يتمكنا منإحصاء عدد المرات.. لقد كانت قيلولة رائعة.. قيلولة مشتعلة في برميل سكر.. بعدالغروب استحما وسخنا طبيخ الحرايمي فأكلاه.. ثم خرجا يتفسحان على شاطئ الكورنيشوفي الليل أكملا السهرة في بيت الحاج ونيس اشنابو.. وفرحت الحاجة مناني لقرارهماالصائب في الإنجاب وقالت لهما ربي ينجيكم لي.. أخيرا ستجعلونني جدّة أيها الأعزاء.

الطفلةالصغيرة تبتسم وعيناها مغمضتان.. فكر أين يذهب بها.. وقطع تفكيره عصافير رابضة علىأغصان الدالية تداعب بمناقيرها حبيبات العنب الخضراء النيئة.. فكر أين يذهب بهاوقطع تفكيره نسيم بحري منعش مشبع بالملح ورائحة الطحالب يدخل من بين قضبان النافذةمرقصا ثنايا الستارة على مهل.. فكر أين يذهب بها.. هل يسلمها للملجأ في الفويهاتليعتنوا بها ويربوها؟ لكن عدل عن فكرة الملجأ ولفّها في شاله وتوجه بها فورا إلىخالته مناني التي رحبت بها وحممتها وقمطتها وعطرتها ونادت على الجارات فحضرن مسرعاتكل واحدة معها هدية وزلوف (نقود) وامتلأت غرفة الصبية سليمة التي أصرّت أن توضعالرضيعة في غرفتها بالهدايا والعطايا.. خصصت لها الصبية مهدا صغيرا وضعته بجانبسريرها.. أبعدتها عن النافذة خوفا عليها من هبة النسيم واعتنت بها ففرشت لهابطانية جديدة وخصصت لها أغطية بيضاء نظيفة ومكوية.. لقد كانت الفرنساوية صديقتهاوأختها وأبوها النصراني أكثر من صديق وأخ.

ابتسمالنصراني وارتاح باله فابنته وجدت أهلا ولم تتشرد في الملاجئ.. سبحان الله.. هذهالمدينة التي لا تترك كبيرا أو صغيرا ذائحا أو محتاجا.. قال له الحاج ونيس ماذاتفعلون للمواليد في ديانتكم من طقوس وتعاويذ.. هل تذبحون لهم يوم الأسبوع ذبيحة أوتوزعون حلويات..  فقال النصراني: لا أدري..لكن سأعتبر هذا الصبية ليبيا فافعلوا لها ما تفعلون لأبنائكم.. ابتسم الحاج ونيس وابتسمالنصراني وابتسمت الصبية سليمة وأمها الحاجة مناني والطفلة وخيال الفرنساويةالسابح في المكان.. وتمرأى للوجود شعاع حب نابض ربط بين الاثنين  والثلاثة والعشرة والخمسة مليون والملياروالترتتيتتتيييون.

فييومين فقط توطدت العلاقة أكثر واتسعت مساحة الملامسة بين النصراني والصبية سليمة التيصارت تبتسم وتغازل النصراني بطريقتها.. تتناول الرضيعة وتقبّلها في فمها وعلى خدّيها..تمدّها له لكن تلمسه هو أيضا.. هو يرحب بلمستها باستبقاء اللمسة ومنع مغادرتهالهنيهة.. ذات صباح ولم يمض أسبوع على إحضار الرضيعة لهم كان جو البيت هادئا.. سكونتام.. تعطس نملة تسمعها.. الحاج ونيس في العمل.. الصبي ذهب يصطاد على شاطئالكبترانية ومعه سكين بوخوصة للدفاع عن نفسه إن هوجم.. خالتي مناني في لمّة لدىإحدى الجارات.. دق النصراني الباب ففتحت له الصبية.. ابتسمت فدخل وتنحنح وأطلقالسلام.. فلم ترد خالتي مناني كعادتها وتدعوه للجلوس.. ليس في البيت غيرها والرضيعة..قالت له لا أحد في البيت غيرنا.. تفضل.. تعال شوف ابنيتك أقصد بنيتنا وابتسمت فيمكر.. سارت أمامه تهتز بمؤخرتها السخية.. كانت ترتدي روب نوم وردي يصنع أمواجامجنونة مع كل خطوة غنج تتقدمها.. مشيتها ألهبته واقتحمته وأجبرته على الاستسلام..مشى وراءها وقلبه يخفق بشدة وقضيبه يستيقظ من نوم التقدير والاحترام والتحفظ راكلاالموانع والتحفظات وغاضا الطرف عن العيوش والأملاح.. ناولته الرضيع فقبله سريعاوأعاده إليها  فأعادته إلى مهده.. وعندماوقفت من انحناءتها على المهد وجدته خلفها يبتسم فابتسمت هي أيضا وقالت له:

ـشنو تحب تشرب؟

قاللها: لا شيء.. أريد أن أجلس فقط.

أدنتمنه كرسيا فجلس عليه وأحنى رأسه يفكر قليلا ثم وقف ليجدها  واقفة أمامه تتأمله..

قاللها وهو ينظر إلى المهد:

ـبنيتنا  تبيك.

وابتسمفاحمر وجهها بمجاميعه فاقترب منها وامسكها من ذراعيها العاريتين وجذبها إلى صدرهفأطلقت آهة لذة ولم تقاوم.. كانت على حافة الاستسلام.. كانت تريده.. لقد صبرتوتحصلت عليه.. تحصلت على جسد أوروبي رياضي جميل غير مشوه كأجساد الليبيين شبهالمشوهين من المرض ومن زواج الأقارب وسوء التغذية وعادات المعيشة السيئة ومنالهموم أيضا.. شعر أشقر.. عيون خضراء.. قامة ممشوقة.. خفة دم.. نقاء روح.. بطولة..صدق.. شجاعة.. قبلها وطرحها على البسطة العجمية ينقشان معا تاريخ بنغازي الملحي الفلفليويكتبان تواريخ جديدة تؤسس لعصور النهضة الجنسية.. ينسجان اللحم ويخيطان الريق ويُركبانالآهات المسترخية على براقات  الطائراتالورقية.. كانت تطوقه بكل حبها.. ليس بقوة.. لكن بحب.. وحنان.. وتعلق متشبث في أملنجاة.. رعشات عظيمة توالت على جسدها.. روحها سمت وشفت وتطهرت وتـنقت.. هذه هيالمرة الوحيدة والأولى التي أحست فيها بحلاوة الجنس.. الذين مسّوها من رفاق الشارعوالمدرسة كان شغلهم بدائي.. حافظ على بكارتها بكل جهده لكنه غاص فيها إلى أبعدمكان ومدى ممكن ومحتمل.

هيتصرخ والطفلة تصرخ والحب الذي بينهما لا يفعل شيئا سوى أن يستمر و يبارك باقة الصراخاللذيذة.

عندماعادت خالته مناني وجدته جالسا هادئا في المربوعة.. يدخن سيجارته بمزاج.. أمامهقهوته وكوب ماء بارد وطبق به غريبة ومقروظ.. شعرت أنه ركب.. ولكن ماذا ستفعل لهولها.. رحبت به كالعادة ودخلت سريعا للاطمئنان على ابنتها.. وجدتها رائقة المزاج  هي الأخرى وهادئة تمضغ اللبان وتمشط شعرها وتغنيفعرفت أنها قد ذاقته حتى ارتوت وعليه لابد من تدبر أمرها قبل أن يستفحل الأمر وتتخصّبشجيرتها.

حصرتهافي زاوية الغرفة وسألتها بمكر:

 ـ آه يادادا  إن شاء الله الأمور مشت كويس ومانضريتيش..

 فأجابت الصبية:

ـماذا تقصدين يا ماما؟

فقالتأمها مناني:

 ـ هههههههه ها لا شيء لا شيء.. إنَّ بعض الظنإثم.

لكنبينها وبين نفسها الخبيرة كانت تقول تربي أفعى في جيبك لا تلدغك.. لكن بنتك وتربيها في حوشك تلدغك وتسوّد وجهك في آخر أيامك اللهم استرنا يا رب

فيالليل بعد أنْ ضاجعها سي الحاج ونيس واسترخى يدخن سيجارته البرستل.. قالت له:

ـالبنت كبرت يا حويج.. ياريت ايجيها عريس انحطوها في رقبته وانتريحو..

أجابهاالحاج: لقد طلبها مني الكثيرون لأبنائهم وإخوتهم وكنت أرفض.. ابنتي الوحيدة جميلةمثل أمها غير مستعجل على زواجها.. أريدها أن تنهي تعليمها أولاً وتتحصل على شهادة..الدنيا فيها موت وحياة يا وليّة.. والشهادة ضمان للبنت في هذا العصر.. وفي النهايةالزواج قسمة ونصيب.

***

فياليوم الثاني التقاها النصراني أيضا.. هذه المرّة في العشيّة.. حيث  تكون سقاية النوّار ألذ من الصباح.. قضيا وقتاجميلا على الرغم من قصره.. وفي اليوم الثالث ذهبت إلى المستوصف لتطعيم الرضيعة ثم مرّتعليه في البيت حيث وجدته يكرع كؤوس النبيذ فرحب بها ومارسا الجنس على سرير المرحومةالفرنساوية حواء بحرية أكبر..  لكن بعدالارتواء انتابت النصراني حالة بكاء وتذكر العيش والملح والأخلاق البنغازية والخيانةوزوجته المرحومة وخطيبته المفقودة في بر الروم والحاج ونيس شنابو الذي وثق فيهوفتح له بيته وخالته مناني التي تعامله مثل ابنها وأخيها... هل هذا المعروف يجازيهبالخيانة.. وبتدنيس شرف ابنتهم التي تربي له ابنه.. غاب في بكاء عنيف ودخل إلى حالةهستيرية قوية وصرخ في الصبية سليمة.. لا يمكن أن يستمر هذا العبث.. لابد أن ننتهيمن هذه القصة.. عيب أبوك وأمك طيبين وأخوك طيب وانتم تربون ابنتي.. فزادت رغمصراخه وبكاءه وهستيريته تعلقا به.. عانقته.. صارت تقبله وأعادته مرغما إلى جنونالجنس اللذيذ فتحولت صرخاته إلى آهات ونشيجه إلى غناء وغزل وارتفاع وانخفاض وتقلب..بعد أن استحما قال لها ماذا نفعل الآن؟ لن نستطيع الاستغناء عن بعضنا البعض بعد أنتذوقنا بعضنا وعثرنا على قفير عسلنا التائه.. قالت له في خجل وهي تحك سبابتيها إلىبعضهما علامة الاقتران: إذن نتزوج..

قاللها:

ـكيف؟!.. أنا مسيحي.. وأنت مسلمة.

الطفلةبدأت تصرخ من أثر إبرة التطعيم في ساقها واوواوواوواوواو.. والنصراني يفكر فيكلماتها واقتنع بالفكرة مسلمة ومسيحي.. مسلم ومسلمة.. الدين واحد وليس عائقا..

قاللها: خذي الرضيعة لأمك.. الليلة سأفاتح أباك في الموضوع

 فرحت جدا وكادت تزغرد وأخذت تقبل الرضيعة وترقصهاوتضمها إليها وانتابتها هي الأخرى  حالةهستيرية صحبها بكاء وصراخ وحاول أن يأخذ منها الطفلة فلربما تسقط من يدها وهي تتهسترفتمسكت بها  جيدا وضمتها أكثر وأخذت تهمسله في أذنه ببطء.. أنت الآن بنيتي بصح وصحيح بحق وحقيق وفتحت بطم فستانها وجذبتستيانها إلى أسفل فانبثقت قبّة ثديها اللطيفة فوضعت فم الرضيعة على حلمتها الصغيرةالظريفة التي مازالت منتصبة ومضيئة من وقود الجنس.. صارت الرضيعة تمتص وبصورةمتواصلة على الرغم من أنها لا يأتي منها حليب وعندما رفعتها عنها بكت بكاء شديدا وحزينايمزق نياط  القلب فضحكا وقالت لها:  طالعة لأبيك يا حلوة  تحبين المص.

دخلالنصراني إلى مقهى العرّودي فوجد الشاعر احمد رفيق المهدوي.. شربا القهوة معاوتبادلا الأحاديث.. وفي لحظة تجلٍ أفصح النصراني لرفيق عن رغبته في الزواج من بنتالحاج ونيس شنابو.. فشجعه الشاعر رفيق ووافق على مرافقته الليلة إلى بيت الحاجشنابو لطلب يدها.

فيالليل بعد العشاء الدسم اللذيذ وبعد شرب الشاي وحضور الحلويات والفاكهة ووسط إشعالسجائرهم واعتدال مزاجهم تكلم الشاعر رفيق حول الموضوع فأجابه الحاج ونيس اشنابوهذا شرف لنا ولا يمكننا أن نرد شاعرا مبدعا ولو طلب حياتنا.. البنت بنتك يا شاعرالوطن.. وبالنسبة لي أنا موافق لكن تبقى مسألة الدين فالرجل نصراني أيها الشاعرالجميل كما تعلم ويعلم الجميع.. فقال النصراني مباشرة:

ـاشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدا رسول الله.

فتعالتصيحات الحب والاستحسان والبشائر ووقف الحاج ونيس متمتما بكلمات من صنف.. يهدي منيشاء ويضل من يشاء.. وعانق النصراني قائلا له مبروك مبروك.. وشاركهما العناق الصبياسلومة والشاعر رفيق ولعلعت زغرودة من الحاجة مناني فانطلقت الزغاريد مباشرة من كلبيوت ميدان سوق الحشيش فالخبر كما النور انتقل سريعا.. نصراني عيت الحاج ونيس اشنابواسلم وسيتزوج سليمة بنت الحاج ونيس.. كانت ليلة مباركة وممتعة.. في الجمعة التاليةتمت قراءة الفاتحة وتم ختان النصراني بمقص الفرنساوية الذهبي..  ثم منح اسما إسلاميا ليعرف به هو "رمضانالمسلماني".

بعدإسلام النصراني هل يمكننا الآن أن نقول إن الإسلام قد انتشر بالفتح والطرق الصوفيةوالتجارة فقط.. سنضيف وبالحب أيضا.

***

الأيامتأخذني هنا وهناك، سأسمح للأيام أن تـُركِبُني على ظهرها.. و تمرح بي.. إن سقطت تلتقطنيوتعيدني قبل أن  تشج جبهتي الأرض.. أويندبر مرفقي، وإن لم تتمكن و كانت الأرض سباقة في جذبي إليها فسأحتوي السقطةبإسفنج الصبر وأقفز مجددا على ظهر تلك الأيام التي تنطلق بي من بنغازي إلى طرابلسإلى غات إلى طبرق إلى درنة وتعيدني إلى بنغازي لأنزل من على ظهرها بهدوء في محطةالفندق البلدي.

أحبالأيام لقصرها.. لا يمكنني امتطاء عام أو قرن أو دهر.. ذاك الركوب طويل و مورم لمؤخرةزمني.. لكن الركوب على ظهر يوم قصير شيء لطيف ظريف خفيف الظل.. قصير الزمن.. سرعانما تنتهي الرحلة لتبدأ غيرها.. منفذا وصية الحياة السائرة بلا توقف و متماهيا ومتساوقامعها.. فالحياة رحلة ليس إلا.. الكل لديه تذكرة لركوب هذه الحياة والمحصل قاطع التذاكرليس ملك الموت لكنه اليأس.. لماذا نرحل دائما؟ هل لأننا نستيقظ.. ولا أحد يستيقظمن دون أن ينام.. فهيا إلى النوم يا أقلامي وأوراقي وخيالاتي.. فراش الحب ينتظر.. وِسادةالحب تمنح أحلام ريشها وصوفها وقطنها وليفها لكم.. تمنحكم أحلام حشوتها التي جعلتنفسها نهدا مملوءا بالحليب ترتاح في خمائل دفئه الرؤوس.. ناجية من أمطار المرارةونكد الكوابيس.

هذااليوم أحببت فتاة جديدة.. كان يوما صيفيا من شهر ناصر يوليو.. هذا الشهر من شهوريالمفضلة ففيه دائما تحدث لي أحداث مؤثرة.. أول نص نشر لي كان في هذا الشهر..استيقظت وركبت يومي.. وربت على وركه لينطلق.. مشى بطيئا بطريقة كسلى.. لم يخرج بيمن بنغازي.. أخذني إلى وسط المدينة.. حيث الكتب والملح وزحام الناس على مصادرالرزق

 نزلت من على ظهره وجلست على كرسي لتأتي إليّفتاة جميلة لم أرها من قبل.. لا يفوح منها عطر ولا تبالغ في أناقتها، تمارس الحياةبهدوء في كل شيء.. تميزها ابتسامة شفافة، قبل أن تصل العين تكون قد فعلت في القلبفعلتها.. ابتسامة حرّاثة.. بذّارة.. ممطرة.. مضيئة.. تجعل القلب جنة خضراء فائحة..عيناها حالمتان ناعستان قليلا مفتوحتان لكنهما في الوقت نفسه مقفلتان ربع إقفال..عينان ساحرتان هكذا وجدتهما.. تحت إحدى عينيها قرب الجفن السفلي بالضبط بقعة سوداءبلون الكحل.. سألتها عنها فقالت إحدى الدلالات رفضت أن تبيع لأمي وهي حامل بي رداءأسود كانت قد حجزته امرأة قبل أن تراه أمي فحكّت أمي عينها فظهر هذا السواد..ابتسمت كما تبتسمون أنتم وقلت لها هذا جميل وهذه البقعة أعجبتني وأضافت لك جمالالا يمنحه القدر إلا نادرا..  وضحكت كثيرا عندما قلت لها سأشتري لأمك مصنع أردية سوداءحتى لا تزعل..  تكلمنا كثيرا وتبادلنا الابتسامات.

قالتلي: أنت تشبهني..

قلتلها: أنتِ تشبهينني..

جاءالشاي والقهوة وكنت قد أحضرت معي قنينة ماء مثلجة شربنا منها معا من فمها مباشرة..آه من عينيها وهي تخفض القنينة والبقعة التي تحت جفنها الشبيهة بجزيرة من الزنبق..لمحت حاجبيها الرقيقين المنمصين جيدا خطان تائهان في دنيا روحي.. رهيفان وطويلانويبدعان نصف قوس واسع.. فمها أثناء الكلام ساحر.. كنت لا استمع إلى الكلمات منه..  كنت أتمتع بحركاته وتعابيره المصاحبة للكلمات وانقباضاتهواسترخاءته الهادئة.

فمهاأثناء الكلام جنة فن وأثناء الصمت جحيم لذيذ.

فملن أنساه.. ليتني معجون أسنان أدخل إليه كل صباح.. فم جميل.. بداخله لسان وردييلعب كرة الشعر..  يجيد التحرك والمراوغةوالتسديد وتسجيل الأهداف في مرمى قلبي.. لم أسمع منها أي كلام وما سمعته كان عبارةعن زغاريد عصفورة.

ولمأشم منها أي عطر.. فهي فوق سائر العطور والبخور والورود.. عطرها طبيعي من عرق الحبالذي شممته.. أجمل عطر بالنسبة لي هو عطر العرق الذي يفرزه الإنسان.. هذا المخلوقالذي ننتمي إليه ونتمتع بحياتنا عبره.. العرق أفوح عطر وأنقى عطر.. عطر لا يباعولا يشترى ولا يسحق ورود ليعصرها ويمتلكه الجميع فقراء أغنياء.. بيض سود.. عندماصافحتها لمست هذا العطر ووضعت يدي على فمي وأنفي.. لقد كان عطرا دافئا مالحا بنكهةبنغازي العظيمة.. رأيت على جبينها بنغازي نقية.. أحببتها من دون أن أنتظر.. في هذهالأشياء لا أنتظر.. لأن قلبي وعقلي وكل شيء فيّ هو الذي يتصرف.. تلعثمت وشربتثانية من القنينة.. شربت من نكهة فمها العالقة بحواشي القنينة ورشفت من قهوتيوواصلت الحديث معها.. جبهتي عرق وجبهتها عرق.. والرياح تحرك ستائر النافذة التيتلامس وجهينا وكأنها تريد أن تمسحهما.. لكننا نزيح الستائر جانبا فعطر العرق نحبه لأنناورود صادقة.

لاأريد أن أصف بقية هذا الكائن الرقيق الجميل.. فأنا غيور بعض الشيء.. وأغار منقرائي كثيرا لأنهم يزيحونني من النص ويضعون أنفسهم مكاني بحيث تكون الفتاة فتاتهموالحبيبة حبيبتهم، سأحتفظ ببقية الوصف.. بالوجه والرقبة والصدر والخصر والظهروالساقين واليدين والكفين والأصابع التي بأحدها خاتم فضة بفص فيروز.

سأحتفظبالمشية الرشيقة التي تهبّل أو تقتل وتجنن بتعبيرنا الشعبي.. المشية الكعبازيبتعبير البنغازيين.. سأحتفظ بالجو الأنثوي العام.. أنا أناني كطفل.. والأنانية منصفات الطفولة.. سأطلب من هذه الفتاة أي شيء وستمنحني إياه راضية.. أشعر أنهاأحبتني كما أحببتها.. والحب من أكبر بيوت المال المانحة من دون حساب ولا فوائد ولاكفيل.. ستمنحني ما أريد.. لأنها لو رفضت سأبكي.. وحبيبتي هذه رقيقة لا تحتمل بكاءالأطفال وغضبهم  فما بالك ببكاء طفل تشتهيهأن يركب عليها.. قلت لها لا أريد أن نستمر في هذا التمشي جنبا إلى جنب.. أريدك أنتتقدميني خمسة أمتار لأتمتع بمشيتك.. قالت لا مانع.. لكنها بعد عدة خطوات أماميجريت نحوها واستمررت في المشي إلى جانبها.. خفت عليها من أولاد الحرام.. قد يظنونأنها تتمشى  لوحدها وتتم مغازلتها أماميوهذا شيء لا أحتمله يجعلني أموت وأعيش.

لمأتردد في أن أقول لها أحبك وأن أقبل ظهر يدها.. لأنني وأنا بجانبها أصابتنيقشعريرة، أصابني ذلك الشيء الذي نشعر به عندما تخنقنا العبرة أو يزداد معدل الفرحعن حدّه أو الذي نشعر به ونحن نرتقي سلالم اللذة لنصل إلى القمة وننفجر ونتطايرآهات وسكاكر.

لقدأحببت فتاة جديدة، وليس هذه أول مرّة أحب فيها فتاة - لكن قد تكون آخر مرّة هكذا أشعرالآن - دائما أفعل هذا الأمر.. تستطيع أن تسمي ذلك إدمان أو هواية.. ماذا أفعل؟هذا قدري.. أحب هذا الأمر.. أجده لذيذا حلوا.. به تجديد.. وديمقراطية.. وإصلاحعاطفي.. وتعدد أصوات ووجوه ووجهات نظر.. وحرق مراحل.. وحرق مشاعر جافة وزرع مشاعرمبللة.. بللها يسقي الجاف فينبت مجددا ويشارك أو ينسحب.

هذهالفتاة لم ألتق بها أنا، التقاها رسلي أولا.. فأنا أكتب القصص والمقالات والرواياتوالقصائد وأنشرها في الصحف والمجلات ومواقع النت، وهذه الفتاة قرأت كلماتي من دونأي معرفة شخصية مسبقة، وأحبّتها وأحبتني معها، وبحثت عني ووجدتني ووجدت نفسي فيها،عندما امتطيت راحلة اليوم لم تغادر بي وسط المدينة، صارت تتهدهد بحنان وتأمرني أنأهبط، فهبطت ودخلت إلى المكان وجلست على الكرسي انتظر فتاتي وسرعان ما جاءت عروسكلماتي وعانقتني والتحمت بي.. صرنا نصا واحدا كتباه ذكر وأنثى.. كانت تتكلم كثيرا..

قالتلي الأسطوانة التي نسمعها دائما: ليتني عرفتك من زمان.

قلتلها الأسطوانة التي نقولها دائما: أيامي لا تسافر إلى الماضي.

قالتلي: منذ زمن أبحث عنك ومتحسرة على الزمن الذي رحل قبل لقائي بك.

قلتلها: سوف أسافر الآن إلى المستقبل وأقبض على كل اللحظات التي سنلتقي فيها وأرميبقية فراقنا في سلة المهملات.

قالتلي: أنت سافرت الآن ماذا وجدت؟ هل زمننا القادم طويل أم قصير.

قلتلها: هو زمن جميل لا يقاس بالطول أو القصر.. هو حب عظيم.. والحب العظيم غير خاضعللقياس.. لقد وجدته..  إنه هناك.. في عينيكوابتسامتك.. في صوتك الموسيقي.. في روحك التي أرى شفافيتها الأشفّ من الماء.

وجهيأحمر ووجهها أحمر وهطلت قطرات عرق من جباهنا وصدوغنا معا.. التزمت الصمت وكما فعلتهي أغمضت عيني ودفنت رأسي في صدري قليلا مداريا بعض الدموع.

فيهذا اليوم وجدت عروسي.. وجدت ما أبحث عنه.. لا أرغب الآن في الرحيل.. لن أمتطيعربة الأيام مجددا.. وإن أصرّت عربة الأيام اللعينة على أن أمتطيها فسوف أردفك ياحبيبتي خلفي ولتنطلق بنا معا.. آه ما أحلى أن تكوني راكبة خلفي.. ذراعاك تطوقانخصري والراحلة تمرح أو تطير أو تزحف أو تتزلج أو تتمرغ.. لا أدري ماذا ستفعل راحتاكوهما تطوقان خصري، هل سيتشابكان أم أنهما سيداعبان بأصابعهما سرتي وشواطئ بطني.. أنا لست سمينا.. وذراعاك ما شاء الله طولهما يعجبني.

الحبمشكلة..  أمر محير.. لغز.. يدخلك إنسانهكذا ويكون جزءاً منك.. ألمه يؤثر فيك وأحاسيسه تحس بمثلها.. إنه لغز وأحترم هذااللغز.. هذه الفتاة أحببتها.. هي ليست عشيقة أو ملهمة أو عاهرة أو أي محفز صناعيأو بهارات من أجل الكتابة.. إنها حب.. إنها إنسان.. إنها صدق.. إنها شمس.. قمر..صحة.. مال.. بساطة.. غناء.. رقص.. موسيقا.. صلوات.. ماء.. ندى.. نسيم.. ملائكة..دعوات.. تاريخ.. إنها عروس الكلمات التي زفها القدر لي.. إنها عروس الملح.. بلالملح البنغازي نفسه.. قلت لها أريدك.. قالت لي ستنالني إن عثرت على الملح.. هاأنا ذاهب للبحث عن الملح.. عن ماس الملح وجواهره.. عن سر الملح وفلسفته.. سأذهبإلى حديقة الملح الكائنة على جبين بنغازي.. قرب الميناء.. قلمي هناك الآن.. بل أنانفسي هناك الآن.. حيث لا أرى سوى الأشجار.. أشجار كثيفة لا تثمر سوى الظل.. نسميهاشعبيا أشجار النَّمّ.. والنم تعني اللا شيء.. دائما البلدية تقطع هذه الأشجاروأحيانا تقتلعها.. لكن سرعان ما تتجاوز محاولة إفنائها والولادة من جديد.. أكثرخضرة وقوة وظل وروعة.

أشجارالنم العتيقة النابتة في حديقة الملح مازالت جميلة.. عجز الزمن أن يمسح عليها بعضقبحه.. التربة المحيطة بجذوعها التحق أكثرها بجيوش الرياح التي خاضت بها معاركعديدة لا أحد يدري إن كانت رابحة أم خاسرة.. فعل الخوض وحده يعرف لأنه هو الذي فعلوعاش جنون الوطيس.. الآن.. بإمكانك مشاهدة الجذور الفرعية الضئيلة المتفرعة منالجذر الأم وهي عارية..  عارية لكنها طريّة..يمكن لظفرك أن يخدشها لو جررته عليها.. جذور صغيرة لا يغطيها الطين.. النجيلالأخضر النابت حول الأشجار هو من يتطاول ويحيط بها بقماشه الأخضر ساترا ما استطاعمنها.. الجذور الصغيرة تحيط بجذع الشجرة الغليظ.. وكأنها ضفيرة منبثقة من صلابةالحياة.

بقدرما هي عارية من أعلى.. بقدر ما هي متوغلة في الكساء من الأسفل.. متوغلة في العمق..تستر نفسها بتراب خصب مبلل.. فتته دقّها المتواصل الغائص وراء الجوهر والتائقللأنوار التي لم ترها الشمس.

ساعدهاعلى تفتيت العمق ولبسه  الماء والملحالزاخرة بهما أعماق هذا المكان.. ساعدتها أيضا الاتكاءة على الجذر الأم الذي غرسهذات يوم جدُّ هذه المدينة المجهول الآن.. كل يابس مآله التفتت.. الماء والملح والاتكاءكفلاء به.. كفلاء بجعله ليناً.. قابلا للوخز.. ولو من ريشة.. كل غارس للأشجار هوجدّ مبارك كريم شريف عاشق للضياء والهواء والمنظر الحسن السار للعين والمسعد للخاطر.

حديقةالملح هي حديقة بنغازي العامة المعروفة في التاريخ والقريبة من الميناء والتي تطلعليها دار خيالة (سينما) قديمة احترقت ذات مساء وأطفأها المطر صحبة رجال المطافئ.. كانت الحديقةساحة يجمّع فيها الملح من ضواحي المدينة وسواحلها الغربية والشرقية من توكرةودريانة واللثامة ومن قمينس وقاريونس وكركورة والسلماني ورأس عبيدة.. ليتم لاحقافرزه وتنقيته ووزنه وتصديره.. كان في الساحة ميزان ضخم (بسكولة).. يزِنِون عليهكميات الملح قبل تحميلها إلى السفن الراسية في الميناء القريب.. بين ساحة الملحوالميناء مسافة قصيرة.. حوالى 200 متر.. الميناء يعج بسفن تصدير الملح القادمة منموانئ البحر الأبيض المتوسط.. وبحر إيجا.. والبحر الادرياتيكي وحتى من بحر الشمال..بحارة من مختلف مدن البحار تجدهم يتجولون في الحديقة وفي شوارع وأزقة المدينة..يقتنون ما ينقصهم من خمور وخضروات وفواكه وملابس ويبيعون ما جلبوا معهم من سلعللتجارالعرب واليهود والمالطيين واليونانيين والإسبان والأتراك والطليان والزنوجالأحرار في أسواق هذه المدينة العتيقة الرائجة آنذاك.. ويمرون بالطبع على المواخيروالخمارات ليمرحوا قليلا ويغيروا زيوتهم قبل ركوب  البحر مجددا ومصارعة أمواجه ورياحه صحبة شحناتالملح الثقيلة.. بحارة من برشلونة ومن كريت ومن أزمير ومن صقلية ومن مرسيليا ومن جربةومن مالطا ومن غيرها من المرافئ..كثيرا ما تحدث المشاجرات بين هؤلاء البحارة لكن صرخة من ربان أي سفينة تنهيالمشاجرة ويتسمّر كل بحار في مكانه.. لقد كان الربابنةآنذاك أشباه قراصنة.. يعاقبون البحار المخطئ أو المخل بقانون البحار عقابا صارمارادعا قد يصل إلى حد الشنق في الصاري أو الرمي في البحر وجبة شهية لأسماك القرش.

فيالساحة يصنف الملح حسب جودته ونقائه ومكان جمعه.. فملح السباخ القريبة من البحريختلف عن ملح السباخ البعيدة عن البحر.. وملح الساحل الشرقي يختلف عن ملح الساحلالغربي للمدينة.. وملح سباخ المدينة له نكهة خاصة وملح الصحراء أيضا له نكهةمختلفة.. وكل نوع بسعره وله زبونه الذي يفضله.. الملاحون خبراء في الملح.. يعرفونهبشكله و بلمسه وتذوقه.. مثلما يعرف التمارون أنواع التمور العديدة.. وأجود أنواعالملح هو ملح البلدة الصغيرة الواقعة على  شاطئ البحر شرق المدينة المسماة كركورة.. هذا الملح مذاقه لذيذ.. ودرجة نقائه عالية..ولونه أبيض كالحليب.. وتكاد الشوائب تنعدم فيه.. فلا طين عالق ولا رمل ولا صلصال ولا كيماويات أخرى وذلك  لنظافة الشاطئ والمنقع الذي يُجفف فيه و يُجمعمنه.. والطلب عليه دائما متزايد.. سواء للتصدير أو الاستهلاك المحلي.. حيث تشتريهأهم مطاعم المدينة.. ولا تستخدم في إعداد وجباتهاملحا غيره.. ولقد اشتهر هذا النوع من الملح حتى لدى الأطباء والقابلات القانونياتوالسريّات والختانون والفقهاء وقراء الكف والتقّازون ورجال الديانات السماوية والوثنية لاعتقاد الجميعببركته.. وبفضل هذا الاهتمام الشعبي بالملح تحولت بلوراته البيضاء إلى أغنيةانتشرت في أرجاء البلاد كلها وتغنى بها أهل بنغازي في أفراحهم وحفلاتهم وزرداتهموفي خلواتهم عندما يجلسون أمام الشاطئ ويتأملونأمواجه المزاجية غريبة الأطوار التي قد تكون عاتية أو هادئة  كما ترغب غير عابئة بتوقعات الراصدين.. أغنية لميعترض عليها أحد من الناس لأنها نابعة من أحاسيس الملح ومن عرق الجباه الباذل نفسه لكل مروءة.. حتى مرابطو المدينةودراويشها وفقهاؤها باركوها حيث تعتبر هذه الأغنية فألاً حسناً لما للملح منكرامات وبركات لدى أصحاب السر من شيوخ وأتباع الطرق الصوفية ومحترفي السحروالشعوذة والأعمال الروحية.. فكلماتها من بركة وملح وتمجيد للخالق وحفظ للإنسان منعين الحسود.. أغنية كتبها الملح على ورقة هذه المدينة وأول من نطق بها..  فنان صادفوجوده في ساحة الملح نفسها.. حيث تباع في هذه الساحة أشياء كثيرة متعددة.. لكن كلشيء يباع ليس مهما في هذه الساحة.. فالمهم والثمين والكنز هو الملح.. هو ذائبة الحياة اللاذعةالذي يصهر الشقاء من دون نار ويقاتل القذارة التي تلتصق بها مجانا ومن غير منّ.. أي من غير ضفاف كما يُقال في لغة هذا العصر.

ملحكركورة الذي يتغنون به يُجمّع في الساحة في رحبة خاصة به.. يضعونهفي المنتصف.. قرب الشجرة الكبيرة الأم.. التي تعتبر أول شجرة نبتت في هذه الحديقة..ويقال أن عابر سبيل زرعها في يوم قائظ من صيف إحدى السنوات.. وصل إلى المكان مجهدافبحث عن ظل يرتاح تحته فلم يجد فركز عكازه في الترابالهش السبخي ووضع فوق رأس العكاز عمامته الخضراء بعد أن فردها وغطى طرفها السفليبالتراب  ليحظى ببعض الظل ثم نام ليستيقظوقت الأصيل فلا يجد عمامته ويعجز أيضا على جذب عكازه من التراب.. هذا العكاز تحوّلإلى شجرة نَمّ باسقة للظل.. ملح كركورة عندما تم جلب أول عربة منه أنزل بقرب هذهالشجرة فتعالت الشجرة أكثر وفي أقل من شهر كانت أُمّاً كبيرة.. أمّتها الطيور والحشراتالمسالمة ونبت تحتها النجيل ذي الوريقات الخضراء الزيتونية الشبيه لونها بعمامةعابر السبيل.. واستغرب الناس من هذا الأمر ومن العكاز الذي تحول إلى شجرة والعمامةالتي تعشبت تحت هذه الشجرة.. واجتمع أهل النبات والفلاحة في زاوية الوحيشي فور أن وصلوا فرادى وزرافات من نجوع وأحياءوأرياف وقرى بنغازي وسهلها الخصيب.. جاءوا من سواني عصمان والرحبة والفويهاتوالفعكات والقوارشة وتيكة واللثامة وبنينة ودريانة والكويفية.. وبعد الغداء توجهواإلى حيث الشجرة وعاينوها وتذوقوا من أوراقها ومن التراب الذي تحتها ومن فراشنجيلها المحيط بها ومنهم فلاح من بنينة صنع من ورقة يابسة وجدها تحت الشجرة سيجارةودخنها وأخذ يبتسم وأطلق غناوة عَلَم صرخ لمعناها الحضور.. والنتيجة التي توصلواإليها وأخبروا بها الناس الحائرة والسلطان وزبانيته آنذاك أن سبب النمو السريع هوملح كركورة.. فهذه الشجرة تقتات على الملح.. ووجدته  بجانبها والتهمته وتعالت سريعا لتصنع ظلا أبديالعابر السبيل الذي كان سبب وجودها.

وعندماأعلن السبب صاح الناس كل بما يعتقده من طقوسدين.. ومن بين الحضور كان مطرب شعبي  يتميزصوته بالجمال والعذوبة ما إن صاح الناس إعجابا واقتناعا بتحليل الفلاحين حتى نظرإلى أعلى الشجرة فرأى طائر خليشجميل ينظف ريشه بمنقاره المعقوف فغنى المطرب لا شعوريا وهو ما زال يتأمل في جمالالطائر بلحن مرسكاوي:

يامحنـّـي ذيل العصفورة..... عليك ملايح كركورة.

فتلقفهاالناس الحضور وخاصة العشاق منهم وهواة الطرب وأتباع الزوايا الصوفية وصارت الأغنيةتميمة مشروعة ومهمة للحفظ من العين والحسد ولتمجيد الله وشكره وقدرته على خلقالجمال وعلى تحنية ريش العصافير وخاصة ذيلها الذي لا يقل أهمية عن أجنحتها والذييعتبر الموجِّه لها في رحلة طيرانها اليومية التي تخرج فيها وبطونها فارغة فتعودوبقدرة الله مرتوية وشبعى.. ونُسجسريعا على منوال هذه الأغنية الكثير من الأغاني الأخرى الزاخرة بالحناء وبالريشوبالزغب وجلب الشعراء الكثير من الطيور لتحنية ذيولها.. فالقافية تلعب دورها.. وكلمن يشكو أو يتعرض  لظلم يحضر طائرا ويحنيذيله ثم يركب عليه هذه الأغنية وخاصة الكلمتين الأولين "يامحنيذيل".. وسافرت هذه الأغنية عبر الزمنلأصالتها ولميلادها في لحظة جماهير ولحظة ملح فوصلت إلى الكثير من البلدان ووظفهاالشعراء والمتظاهرون في الشوارع من أجل المطالبة بالعدالة والحرية ودرأ الظلم فتسمعها والجماهير تصيح بها بطريقة أخرىمثل:

يامـحـنـّي ذيل الكتكوت.. والظالم يهلك ويموت.

ويتفننالشعراء أيضا خاصة العشاق منهم في التركيز على نوع الحنّةوبلد إنتاجها فيلحقون بالأغنية مقاطع أخرى فنسمع:

والحنةمصري وسوداني.. أو قدسي وشامي..

لكنالمد القومي لا يترك الحنة تغرق في الإقليمية الضيقة فيتدخل شاعره المؤدلج  بمقطع يتمشى مع الجو القومي فنسمع:

والحنةعربية أصيلة.

وفيالأعياد الوطنية أو في مباريات كرة القدم تتدخل هذه الأغنية وتظهر تصدح بهاالحناجر بصخب كهتاف وليس كأغنية فنسمع:

يامحني ذيل العصفورة.. وبلدنا ديمة منصورة.

أويا محني ذيل العصفورة.. كورتنا ديمة منصورة.

وجوهرالأغنية ترتكز على شيء اسمهالتوكل على الله وتمجيده عبرة لمحة جمالية قام بها هذا الإله ولم يستغلها الشيخلكن استغلها الشاعر الحساس الذي رأى طيرا جميلا بريش ذيل ملون بتناسق وبفن فأحس بقدرة الله في هذاالفن وتحرك قلبا لسانه وروحه وقال يا محني ذيل العصفورة..ولم يتعب في إكمال البيت الذي انبثق من الروح جاهزا فملح كركورة مغذي الأشجارومانح الحياة طعمها اللذيذ بجانبه والجماهير التي تجعل البيت الشعري يولد ولادةطبيعية أبدية كانت تتأوه معجبة بتحليل الفلاحين البسطاء لسبب نمو الشجرة الشبيهبالمعجزة كانت بجانبه وتقبلتأغنيته ومنحتها حبها الهادرفورا وإلى الأبد.

بنغازيكلها سبخة.. بإمكانك تذوق ترابها لتستطعم لذعة الملوحة على لسانك.. تلك اللذعةاللذيذة المحببة الفاتحة للشهية.. والجالبة للعطش من كل شيء.. بنغازي مضغة صغيرةتسبح فوق رحم من الماء.. الماء يغرق المضغة.. يغمرها حتى شوشتها.. الشمس تجففالماء.. تبخره لتمكنه من الصعود إليها.. والاندماج في أنوارها العاشقة لملح بنغازي..الشمس تبخر كل الماء الغامر للمضغة.. ليبقى ذاكالراسب الأبيض الكثيف الصلب الثمين الناصع كالثلج والقطن وحليب الماعز وأسنانالزنوج.. يلم هذا الراسب بالمجارف ويعبأ في أكياس متينة من الخيش.. ويسلم رسميالسلطان الملح.. ليصدره في الغالب لحسابه الخاص مقابل أجرة يتفضل بها على أجراءالجمع والتكديس والتكييس والوزن والتحميل.

بالطبعلا يمنح سلطان الملح الماء والأرض والشمس شيئا من الإيراد.. يمنح تلك الأشياء التيليست ببشر مخلفاته الجسدية في الحياة والموت فقط.. ليتألم الماء والملح والأرضوالسماء من تلك الأخلاط والقذارة والأنانية.. وعندما يشتد الألم ترتفع حرارة تلكالأشياء وتتحول إلى نار.. إلى جحيم بليد قادرعلى احتمال كل الاشمئزاز الذي تأتي به القاذورات من حياتها الدنيوية.. فالنار هيالشيء الوحيد الذي لا يشمئز من أي وسخ فهي حارقة ولا وقت لديها للمهادنة أو الصبر..لمسها حرق.. وقربها صهد وإذابة.. وبعدها دخان خانقلأنفاس الأحلام.. كل شيء تلمسه تجعله رمادا هشا تتكفل به الرياح سريعا.. ترمي بهفي أمكنة مجهولة لا نور فيها ولا تاريخ يحسها فيقطع ورقة يومه من أجلها.. النار لاتشبع أبدا.. تلتهم وتمارس الرياضة بالركض في كل الاتجاهات من دون توقف وتنط إلىأعلى حتى من دون حبل وتصارع كل شيء يابس وتذيبه.. عندما مات السلطان في إحدى مراحلالتاريخ حدث الصراع حول هذا الملح.. توقفت حركة جمعه وجلبه مكيّسا إلى الساحة.. لميستأنف الناس جمعه إلا بعد أن اتفق أرباب السلطة فيما بينهم على سلطان جديد..فأعطى من أول ليلة حكم.. الإذن للناس لجمع الملح من جديد.. وكان الفصل أواخر الخريف.. فشرعت الناس في تنظيفمناقع الملح استعدادا لموسم الملح القادم.. فحركة جمع الملح تتم في نهاية الصيف..وعملية تنظيف المناقع تمكن الناس من الحصول على ملح نظيف لا قذى فيه.. له ثمن جيدفي السوق.. بعد أن يبيعه السلطان ويقبض ثمنه قد يفكر في إقامة حفلة كبيرة أو زردةباذخة لكل الناس من جُمّاع الملح وغيرهم..مناقع الملح دائما عليها حراسة.. حراسة غير مرئية.. من يرمي فيها جيفة أو مخلفاتبناء أو قمامة يعاقب عقابا عسيرا.. فتلويث الملح هو تلويث للمجتمع.. فالملحكالأفكار الجديدة ليس عليه لعب..أي أنه خط أحمر.. يجب أن يُصان في الأحداق.. فإن ضاع الملح أو تلوث فقل على الدولة السلام..أي ضاعت الدولة وصارت باسلة صامتة لا طعم لاذع لها.. فدولة بلا ملح  لا قيمة لها أمام العالم وأمام رعيتها أيضا..فبالملح تسيطر الدولة على الناس.. وبالملح تقايض ما تحتاجه..  وبالملح تصنع علاقات متينة مع دول العالم مبنيةعلى الاحترام المتبادل.. الملح نظيف.. يستطيع تنظيف كل القذارة والقضاء على التعفن..وحفظ القضايا في براد التأجيل إلى حين يأتي وقت حلها الملائم والمفيد لسلاطين الملح..  الملح يستطيعدبغ الجلود وتحنيط الجثث من أجل الخلود.. وفوائد الملح كثيرة كنعمة الله التي لا تحصى..الملح يدخل في كل الصناعات وفي كل الوظائف الحيوية للإنسان.. يدخل حتى في الأشياءالمعنوية وفي الجمل اللغوية المؤثرة في القلوب.. وفي الأغاني الشعبية التي هيعنوان الهوية لكل مدينة ودولة.. والآن اسمع حفلة عرس قريبة غيطتها تتعالى بـ:

 يا محني.. ذيل العصفورة..

 يا محني ذيل العصفورة..

عليك..ملايح كركورة..

 عليك.. ملايح كركورة..

وصراخوتصفيق وصخب وفرقعات ألعاب نارية وألعاب إليكترونية  وليزرية تسجل وتصور العرس وتبثه حالا على شاشة السماء و زغاريد تغنجية ورائحة بخور وماء زهر تبل جبهتي  بعض قطراته وذريرات ملح طائشة في الهواء يتذوقها شميم أنفي فيعطس بفرح.

..موكب الغِيطة  يقترب من حديقة الملح حيثأنا جالس الآن أحتسي قهوة العلقم علىكرسي خشب و أرسل قبلات هوائية لفتاة تطل من إحدى مكاتب وزارة الإسكان كانت قدوعدتني بتدبير شقة بمعرفتها إنطلقت زوجتي و صار بيننا نصيب.. موكب العرس يقتربوالوقت ظهرا.. ولم أستغرب أن يكون هناك عرس في القيلولة.. ربما ليس عرسا.. ربمااحتفالا بنصر كروي أو انتخابي أو إصلاحي أو موكبطفل طُهِّر للتو في مستشفى الهلال الأحمر بالصابري.. لكن ربما يكون عرسا..ربما  اليوم ليلة الدخلة والعريس من عشاق نيك القوايل  فحلى له أن يدخل في عز الهجير.. أو ربما اليوم هو يوم الحنّة..أو يوم الرمي.. لا أدري ما هو  اليوم من أيام الأسبوع.. فالعام إن دخل حياتي  أخنقه منعنقه  بسبابتي وإبهامي  وكأنني خانقفم قربة  وأركض به سريعا داخلا به إلى بيت مال الملح  فأصرّفشهوره وأسابيعه إلى أيام.. أفرح إن وجدتهعاما مكبوسا من عند الرب بـ 366 يوما وأرضى وأحمده إن كان عاما بسيطا ينقصه عنالمكبوس يوم واحد.. أضع الأيامبعناية في كيس متين وكل فجر أدخل يدي إلى الكيس وألتقط  منه يوما جميلا أعيشه في أي مكان من دنيا ربي..ربما يكون جمعة أو ثلاثاء أو أحدأو سبت..لا أنظر لسميته البتة.. المهم أنيكون أربعاً وعشرين ساعة.. ولا يهم أن يكون يوما صيفيا أو ربيعيا أو خريفيا أو شتويا..لا فرق لدي البتة.. أعيشه وفق قاعدة أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب.. وفيالغيب نقود كثيرة.. وحكايات كثيرة.. و لذائذ كثيرة.. وآلام كثيرة.. ودماء كثيرة أيضا.. أغمض عينيك فقطوأحلم.. وانتبه قليلا إلى هاتفك النقال وقلمك السيّالوكيسأوراقك وحاسوبك المحمول وكوب قهوتكالمرّة وأنتبهلنفسك بحذافيرها أيضا إن كان لها حذافير.. أماكيس أيامك فلا تخف عليه ولا تشغل بالك به  ولا تنتبه له فحارسه هو محـنـّي ذيل العصفورة.. هل يعني هذا أننانحيل كل مشاكلنا إلى القدر.. إلى الله.. إلى عالم الغيب؟ سنسأل العصفورة أوالعصفور.. سنسأل الملح.. سنذيب بلوراته في الماء ونترجمها.. إننا نسعى للحصول علىإجابة.. مقنعة أو غير مقنعة ليس مهما ذلك الآن.. المهم الآن أن نقاتل فلول الأسئلةونحاصرها ونلبسها إجابات على مقاساتها.. الأسئلة العارية تشعر بالبرد وبالحر وقماشالإجابات برخص التراب لكن آه قد يصادفنا سؤال كبير.. لا تستطيع أقمشة العالمالمجيبة أن تستره.. فماذا سنفعل له؟ دعونا نفكر قليلاً.. الآن الوقت غروب.. والقمرليس في زمن المنتصف.. ما رأيكم لو نطفئ المصباح كي نستر هذا السؤال الكبير بأقمشةالظلام.. لكن مع الفجر سيشرق من جديد.. فلندعه يشرق وحتى نحن مع الفجر قد نجد حلا..الآن ننام ونحلم ونقاتل الكوابيس والجثّامات.. الدنيا صراع.. في النوم واليقظة..وبعد الموت ستكون حفلة المصارعة أقوى وأشرس.. لأنها حفلة موت في الموت أو حياة فيالحياة.. لا تنتهي نتيجتها بالتعادل أبدا.. فالآلهة لها لونان.. أبيض أو أسود فقط..نور أو ظلام.. هل يمكننا التفكير في آلهة وسطية؟ تتقبل الحلول الوسط.. مجرد سؤالليس إلا..  سؤال الغد.. كبير جدا.. أجبناعنه كثيرا بالكلام.. وكل إجابة جعلته يكبر أكثر.. أحتاج إلى إجابات محدبة.. تصغرالأشياء حتى تلاشيها في فهمي.. أراهن إننا سنجدها.. لأنها قريبة منا ولا نراها..نحاول الآن أن نبعدها عن أذهاننا كي تتضح أكثر.. كي نحس به أكثر.. لكن إبعادها عنأذهاننا مشكلة.. قد تؤلِّب علينا ماسكي الأعنة والزمامات من رجال دين وسياسةواقتصاد وغيرهم.. ويتم اتهامنا بالزندقة والكفر والإرهاب  والإلحاد وغيرها من التهم الجاهزة التي يسيطربواسطتها لصوص السلطة على الحياة البشرية. 

وبالمناسبةلماذا نقول رجال الدين والسياسة ولا نقول نساء الدين والسياسة.. لقد شهد العالمالآن أول رئيس أسود لأكبر دولة في العالم.. فهل سيشهد العالم أول انقلاب عسكري أوسياسي لامرأة في الألفية الثالثة تستخلص فيه السلطة لنفسها.. إن حدث ذلك سيكونالأمر جيدا.. وسيكون للملح طعمٌ بديع.. سيكون لذعه أخف.. وبياضه أسطع.. ومنافعهأوسع.. وسرّه أغمض.. وأكوامه متناسقة مرتبة جميلة.. وذوبانه في الطعام أو الماءأبطأ وأكثر شاعرية.. وألمه على الجرح لذيذ.. حتى إن الجرح يرفض أن يلتئم ليتم شفاؤه..لم نسأل عن سبب الجرح وتلك حكاية أخرى سيأتي وقتها وإن لم يأت سنذهب إلى زيارتهوأرجو أن لا نجد ذلك الوقت ميتا.

***

لمتبق الحديقة خاصة بالملح.. شجر نمّها الشهير فرّخ وانتشر بعيدا عنها.. ترك التكدسفي المنتصف حيث كانت وفرة أجود أنواع الملح "ملح كركورة" واندلق بعيداعن الشجرة الأم راضيا بأي ملح رديء  يجدهيقتات عليه.. ملح كركورة كما السلفيوم الليبي "زوّى عليه الفيل" أنقرضبسبب فساد المناقع وتجفيفها من قبل العقاريين الجدد وتحويلها إلى شواطئ اصطيافومزارع عنب توفر لمعامل النبيذ حاجتها من الخام وأيضا الكثير منها تم تحويلها إلىمعسكرات وثكنات لا تعرف لمن تتبع.. زد على ذلك فقدان الملح لقيمته التجارية ولميعد سلعة تتقاضى ثمنها مقدما وأنت تضع رِجلا على رجل بعد أن تمكن الكيميائيون فيمصنع بوكماش وغيره من مصانع العالم من إنتاجه في المعامل وبعد أن وصل أطباءالأدوية إلى خلطات جديدة تطهر الجروح وتمنع التجرثم والتعفن ولم تعد الحديقة الآناسمها حديقة الملح فقد تغير اسمها مرارا تبعا لتغير الدولة سياسيا فالحديقة دائماتتبع الدولة.. أليس تقام على براحها الاحتفالات وتعلق على جوانبها الأعلام وتنصب  في وسطها المشانق.. فمثلما الدول تتغير سياسيافالحدائق أيضا تتغير.. ومن يصل إلى السلطة يقتحم الحدائق بآلياته ويسيطر على كل شجرةنَمّ أو صنوبر أو غيرهما وعلى كل وردة وكل عشبة خضراء وكل نبع ماء ثم يسيّرالحديقة على هواه.. ساسة لا يحبون الملح ويحبون التمر.. إذن في لمح البصر تتحولالحديقة إلى حديقة تمر.. فيجمّع فيها تمر البلاد من مشرقها إلى مغربها ومن شمالهاإلى جنوبها.. يزنه كما يزن "باطوس" السلفيوم ثم يصدره وبالطبع لحسابهفليس هناك سلطان يقف إلى جانب ميزان إلا إن كان وقوفه من أجل مصلحته ومن أجل أنيتحصل على ثمن المنتج غير منقوص.. فالتمر كالسلاح لا يمكن للسلطان أن يتهاون فيمراقبته وإلا سرق أو خرب نخيله.. وما أكثر لصوص الملح والتمر ولصوص السلطة.. ساسةلا يحبون المحاصيل التي تنتجها الأرض ويحبون المحاصيل التي تنتجها الرؤوس فتتحولالحديقة إلى حديقة فكر.. تجمّع فيها أفكار الناس كافة.. ويضعها السلطان في غربالليتحصل على أهمها وأعمقها وبالطبع أشطنها.. ثم يقوم بوزنها وبيعها و تصدير الفائضمنها لجوعى الفكر.. هنا.. وهناك.. وإن لم يجد مشترِياً فيخزنها ويحرس الزمن حراسةمشددة أو يمسك له عقرب ساعة يرهبه به كي لا يمضي ويتجاوزها فتتحول الأفكارالمتجاوزة من قبل الزمن  إلى ما يسمىبالفالصو أو الفيشنك أو الخُلَّب أو الدوّة الفارغة.

ومنهنا قد يتم عقد صفقة مع الزمن.. فيمنح السلطان الزمن فسحة من حرية يجعله يجريويتوقف وينط  ويبرطع ويظلم ويشرق ويزلزلويمطر.. مقابل أن يعلمه الزمن بزمن تجاوزه للأفكار ليتسنى للسلطان أن يطورها أويجففها ويبذرها من جديد في بستان آخر أو حديقة أخرى لتولد مجددا وتتماشى مع العصرالذي تعيش ظروفه.. ميزان الفكر ليس كميزان اللوز أو الملح أو الموز.. إنه ميزانمغاير.. غير مرئي.. وغير ملموس.. يقع ميزان الفكر دائما في العين ومن هنا ظهرتمقولة (عينك ميزانك) والتي تقابل عند فقدان الميزان اليدوي للمحاصيل الصلبة(البسكولة) بمقولة (كول وقيّس) فعند غياب ميزان الملح لوجود شغل في مكان آخريستعيض السلطان بعامل ويمنحه إذناً بوزن المحاصيل بطريقة (كول وقيّس) وهي طريقةليس لها علاقة بالخبرة.. ودائما هذا العامل يفشل في الوزن بهذه الطريقة ويلاقيالعقاب الصارم لأنه يسهى على نفسه ويرص في جيبه ويأكل أولا قبل أن يضع في كفةالسلطان ذرة واحدة مطبقا للمقولة البدوية "الحرّة أول ما تزرب بيتها"..بعد الامتلاء يزن للسلطان ما تبقى من نزر قليل تالف.. والسلطان ما صار سلطان إلابأن هذه الألاعيب لا تفوت عليه.. فيتفطن للغش والسرقة بسرعة وبفراسته الفطريةالسلطانية يلاحظ بطن هذا العامل المنتفخ أكثر من اللازم  ومؤخرته الناتئة برطرطة وشدقيه المحمرتينكبكيوة (قرع أحمر) مرشومة و أيضا عينيه الفارغتين من المروءة والأمانة والمعنى.. فيعرفأنه لص وقح وغير ظريف.. آنذاك يأمر حالا بعقابه عقابا فوريا لا نعرف فحواهعلى  أن يطلق سراحه بعده مباشرة  ليعيد بأي طريقة كل ما  لصَا عليه من مال السلطان في ظرف ثلاثة أيام وإلا أمر الزمن المتواطئ معه بقتلهفي أي ظروف غامضة أو متفتحة.. فيقضي هذا العامل ثلاثية حياته في بيع الذي أمامهوالذي خلفه وفي إرهاب الناس بما تبقى لديه من الرهبة التي منحها له تكليف السلطانبالوزن فيجمع منهم بالسوط أو بالتي هي أحسن ليتمكن من العودة إلى السلطان بالكيلالناقص وبمؤخرة مفشوشة وبطن ضامرة وعظام خدين ناتئتين إلى الأمام وبعينين مليئتينبمعنى التوبة والاستعطاف وعهود الإخلاص الأبدية.

الناسبالطبع يرضخون لظلمه ويمنحونه ما لديهم رغما عن أنفهم الذي لم يحتاجوا إليهكاحتياجهم له في هذا الوقت.. فقد سرت إشاعة  في البلاد شغلتهم كثيرا وأجبرتهم على تأجيل كلشيء إلى حين إشعار آخر والاهتمام فقط باتخاذ الحيطة والحذر تجنبا لمضاعفات ومخاطر هذه الإشاعة.. فلا أحد قرر أن  يقاوم أو يرفع قضية في عامل السلطان اللصالمتجبر الذي انتزع من جيوبهم وبيوتهم ما يملكون بالقوة.. فجل الاهتمام كان منصباعلى هذه الإشاعة التي تقول إن الحديقة ستتحول إلى حديقة أنفاس في أي لحظة وهناخافت الناس والكل أخذ يجمع الأنفاس بكل الطرق ويدخرها بكل الطرق.. فترى الناس فيالشوارع يستنشقون الهواء بعمق ويزفرون قليله ويدخرون الباقي في خلاياهم وقِرَبهمالداخلية ومنهم من يدخره في أسطوانات وفي أطر سيارات ودراجات وبالونات.. الكل خائفمن الاختناق والكل يعرف أن الحديقة لمّامة لقافة جامعة مستحوذة على كل شيء..فعندما صارت حديقة ملح لمت كل ملح البلاد وعندما صارت حديقة تمر لمت كل تمر البلادوعندما صارت حديقة زيت شفطت زيت كل الزيتونات ونباتات عباد الشمس وعرانيص الذرة وكلنبتة تعصرها تمنحك زيتا.. الحديقة تلم كل شيء مطلوب في السوق العالمي والمحلي..تجمعه وتزنه وتبيع منه و تصدره لصالح السلطان.. فإن صدقت الإشاعة وصارت الحديقةحديقة أنفاس فسوف تلم كل الهواء وكل الريح وكل نسمة سابحة وكل نفخة من فم إنسانوكل آهة لذة ولا يهم إن عاش من عاش أو مات من مات.. المهم هو شفط كل الهواء وجمعهفي الحديقة ووزنه وتصديره وعلى الإنسان أن يتدبر أموره.. ومن هنا ترى الناس تستنشقوتجمع الهواء لأن كل الإشاعات صادقة لأن كلمة إشاعة قريبة من شعاع والشعاع نوروليس ظلاما.. لا ترى في الحديقة أو في الشوارع إلا أناساً تقوم بأعمالها اليوميةوهي فاغرة الأفواه لدخول الهواء.. حتى هواء مداخن المخابز والذي تنفثه عادماتالسيارات وسباسي السجائر لم يطرده أحد.. وتم بلعه..  فهواء ممزوج بالدخانأفضل من لا شيء.. الكل تراه فاتحا فمه ومن في أنفه شعر نتفه سريعا كي لا يعيق دخولالهواء والجميع اشترى ما استطاع من إطارات السيارات والدراجات والأسطوانات وقامبملئها بواسطة  (الكمبراسوري) المنفاخالكهربائي أو الكير اليدوي.. حتى القِرَب وشكاوي اللبن تم ملؤها بالهواء.. الكلكما قلنا يقضي أشغاله بفم مفتوح.. وفي هذا الظرف ليس مهما أن يدخل إلى فم الإنسانالذباب نتيجة غفلته وفتح فمه.. فالذبابة سيئة الحظ  التي ستدخل الفم ستجد أمامها هذه المرة إنساناذكيا فلن تخرج أبدا وسيعصر ما فيها من هواء ثم تطرد بقايا جثتها مع أول ضرطة قوية.

الإشاعةرائجة والناس كلها تتنفس بكثرة وأكثرهم جالسون أمام شاطئ البحر.. لأن هواء البحرصحي ومنعش وليس هناك غرابة في ذلك.. فالأنفاس سوف تجمع وتصدر من ميناء بنغازي..وأنفاس بنغازي أنفاس مميزة فاخرة رائعة لذيذة مباركة بها نكهة ملح كركوري عتيق بهاأغاني مرسكاوي وريح قبلي تدفئ جليد روحك ولا يخنقك غبارها إنما يعطسك طاردا منرئتيك جراثيم الأنفلونزا بأنواعها.. أنفاس بنغازي بها نكهة كرم وقوة وغضب وخفة دمومروءة وفن وفتنة وحلم وحكمة وثورة حتى إن كل الثائرين في التاريخ يختارونها للانطلاقنحو مشاريعهم الكبيرة.. وخذ مثلا تفجر ثورة الفاتح من سبتمبر الليبية عام1969  م منها.

أيضاأنفاس بنغازي خصبة صحية نشطة تساعد على ممارسة الجنس ويعتبر خبراء الهواء أنمفعولها أقوى من عقاقير الفياغرا لوجود روح التفاح الذهبي الأسطوري فيها.. ذاكالتفاح الذي منح هرقل القوة ليباعد ليس بين شخصين أو جدارين إنما بين قارتينثقيلتين باردتين وساخنتين  ويمر إلى أمريكاليبصق على ترابها سر قوته.

الناستتنفس بسرعة وتعود إلى البيت لتملأ كل ما تملك من فوارغ بالهواء.. الآن راجت فيالسوق تجارة آلات النفخ والإطارات أو الاسطوانات وحتى أنابيب المعدن والبلاستيكالتي صارت الأسر والقبائل والمعارف يمدونها من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيتلنجدة وإسعاف المختنقين في لحظة سحب الهواء كله للحديقة.

ماذالو استيقظت متحشرجا تكاد تموت اختناقا لفراغ السماء والأرض من الهواء.. من هنا ماعليك إلا أن تخرج من مدخراتك الهوائية فتجذب الخرطوم وتفتحه في فمك أو أمام أنفكوتستنشق بضعة أنفاس ترد لك الروح بعدها ساهل.. يفرجها الرب.. فهذه الاستنشاقاتتمكنك من البقاء والغوص لمدة طويلة.. تمكنك من البحث عن مكان به خضرة وهواء تهاجرإليه.. مكان به ملح وتمر وزيت وهواء لا يلم ويباع كل يوم وكل موسم.. عندما تهاجربإمكانك بعد الاستقرار بقليل أن تعود إلى هنا كأحد الشراة المناضلين.. تأتيبسفينتك إلى بحرك القديم وبلدك القديم وتشتري منتجات الحديقة بسعر بخس كونك ابنبلد سابق تعرف السعر الحقيقي ولا يمكن استغفالك أو بيع المدينة الرياضية لك في سوقالفندق البلدي.. لكن في الوقت نفسه يا حبيبي لابد أن تشتري من التاجر الوحيد أوالمصدر الوحيد الذي هو السلطان.. وإن حاولت أن تلعب بذيلك وتشتري من آخر بالباطنأو الظاهر فطبعا (حَيْه على أمَّك) فسرعان ما يكشف أمرك من الذي يبيعك نفسه ومنكثرة البصاصين أيضا المنتشرين في كل متر من أمتار البلاد الشاسعة حيث أن كل متر منالأرض أو الجو أو السماء خصص له بصاصا خاصا له صلاحيات مؤثرة و لا يتدخل في شؤونهأحد.

وآنذاكسيتم مصادرة السفينة وشنقك على صاريها باعتبارك قرصاناً متآمراً على ثروة الشعبومهدداً لأمنه الوطني الذي لولاه ما كان هناك حديقة ولا بيوت ولا أسواق ولا ملاعبولا مراكز شرطة ولا معتقلات في الهواء الطلق كما أيام المستعمر البغيض.. ولكانهناك فقط معسكرات يملؤها الجراد والعناكب وتلعب فيها الفئران لعبة (وابِيْص) الاختباءوالاستغماءة أما لعبة (لِيبرا) الجري والملاحقة فهي ممنوعة منذ أزمان سحيقة أو عهودخلت.. منذ أيام السلطان الأول آدم.. فكل من يجري تطلق عليه النيران.. لا يهم لونهأو جنسه أو دينه أو عمره.. الكل في البلاد يجب أن يكون ماشيا فقط.. ماشيا ببطءوبتعثر وكسل إن أراد كسب الرضا.

فالمشيوالمرد والتمرغ والزحف ليس منه مشكلة.. فالسلطان قطع للجميع قيدهم وغنى لهم:

دودشحب الرمان.. دودش خبزة ودهان.

أمرهمبالمشي فقط لأنه مفيد للقلب الفرح والتعاسة ومزيل للضغط والسكر والصداع ومنشطللأقدام التي تتلقى دائما الفلقة منذ الكُتّاب والصف الأول الابتدائي.. لكن الجريلم يأذن به بعد.. فكل السلاطين مؤمنون بالمثل القائل: "لا تطلق الطير وتجريتحته".. وكل سلطان أطلق طيره وجرى تحته أو فوقه لم يتمكن من الإمساك به ثانيةوفقد سلطانه.. لكن هناك سلاطين إصلاحيين وأذكياء يسمحون بالجري لكن الجري فيالمكان نفسه.. المراوحة في المكان نفسه.. وعندما يشعرون أن الناس جرت وهرولت  كثيرا وعرقها نز كسيل ولم يعد لها قدرة علىالجري نفخوا صافرة التوقف فتوقف الراكضون في المكان وزحف ومشى وحجل كل واحد منهمإلى مثواه سالما.. مرة واحدة لاح لي إنسان ينتقل بسرعة من مكان إلى آخر فقلت ربماهذا الإنسان يجري وهذه معجزة فاقتربت منه أكثر لأجده يجري بضع خطوات ويمشي بضعخطوات مستعينا بعكاز.. كان النهار قيظ.. قلت له هات عكازك نغرزه في التراب ونصنعمظلة بعمامتي نستريح تحتها قليلا.. أراك قد ركضت كثيرا وأنا مشيت كثيرا.. نظر إلىوقال: ماذا تعني بكلمة ركضت.. أنا مشيت فقط.. وآسف على صنع ظل بعكازي.. أنا مستعجلومشغول.. تبقى على خير..وأنظر إلي.. أنا لا أمشي حتى.. أنا أزحف زحفا كدودة.. وجهيإلى الأرض.. وظهري إلى السماء التي لم تسندني يوما على الرغم من أنني  أنظر إليها أكثر من النظر في عيني حبيبتيالكحيلتين التي فقدتها بسبب "أن حصاني مش جرّايْ".. فمتى يجري حصانيلأركبه أو أجري خلفه.. الحقيقة أنني لم أجد في السوق حصانا لأركبه أو أجري خلفه..فالحديقة صارت ذات مرة حديقة خيل فجمع كل خيل البلاد في الحديقة وعندما ذهبت إلىالحديقة لشراء حصان منها وجدتها خالية من الخيل وتطلعت إلى الميناء فرأيت السفينةتغادر بها ورؤوس الخيل تطل من فوقها وتصهل بجنون ليبي شرس.. ماذا أفعل كي لا أفقدحبيبتي الجديدة وأصل إليها في الوقت المناسب سأشتري مُهريا سريعا وأركبه إليهاوأقدمه لها مهرا.. ذهبت إلى السوق فلم أجد إبلا للبيع..الإبل كلها محجوزة.. شعرتبالغضب  فرميت نقودي في البحر..وعندما رأيتالأمواج تحملها إلى الداخل ركضت خلفها بكل قوتي حتى استعدتها جميعها.. لم يرمنيأحد بالنار لجريي هذا.. فالجري وسط الماء مسموح به.. لأن كل من توغل بجريه فيالبحر سيغرق.. وسيوفر على الخزينة ثمن نار موته.. لكن سألوني أحبابنا يا عين عنسبب رمي النقود في الماء.. ألا تخاف أن يغرق السلطان المرسوم عليها أو يصيب طربوشهالبلل.. قلت لهم هذه النقود طبعة قديمة.. ليس بها صورة سلطان هذا الوقت.. المحكمةقريبة من البحر..  حوكمت سريعا ونلت براءة..وعدت إلى الحديقة لأجلس فيها.. لا أدري ما يجمع فيها من خيرات الآن.. لقد كنتمنهكا وحزينا.. استندت على شجرة النَّمّ الأم ونمت عندما استيقظت وجدت حولى العديدمن طيور الخليش الميتة.. لم أعرف سبب موتها.. لم أسمع طلقات بندقية صيد..أو ارتطامحجارة مقاليع.. ولم أشم أي رائحة قد تكون سما

حديقةالملح مليئة بالطيور النافقة.. متناثرة فوق العشب وإلى جانب الجذوع وحول محيطالنافورة الرخامي وخلف الكافتيريا وأمام كشك الهاتف.. حديقة الملح وقت الأصيلمملوءة بالطيور الحية المصدرة زقزقات مختلفة حادة تصم الأذان.. طيور من جميعالأنواع.. شجرة النَّمّ تتقبل الجميع.. لم تطرد أي طائر من قبل.. أوراقها تداخلتمع ريش الطيور في أخوية حياة أبدية.. شجرة مفتوحة للجميع.. أوراقها غزيرة جدا..تتجاوز عدد ما يوجد في العالم من طيور.. كلما فقصت بيضة وخرج طائر ولدت في الشجرةأوراق جديدة أكثر.. الخريف يأكل كفايته.. لكن الربيع منتج دائم للخضرة.. شجرةمفتوحة للجميع.. لم تمكن طائرا ما من احتكارها.. الطائر الذي لا يفسح متسعا لأخيهالطائر تهزهز من تحته أغصانها فيسقط عشه ويتحطم بيضه ويعوج منقاره ويتنتف ريشهوتتكسر مخابشه و يهوي إلى الحضيض.. وعندما يصعد مجددا يصعد بهوية جديدة تقبلالجديد والوافد ولا تزرّب العش لتغلقه وتمنعه عن المحتاجين.. حديقة الملح مليئةبالطيور النافقة.. طيور سوداء.. سؤال يطرح نفسه الآن.. لماذا  الطيور النافقة كلها سوداء.. لماذا لم تنفقالطيور الخضراء والصفراء والبنية والحمراء والبيضاء والرمادية.. لماذا لا تنفق إلاطيور الخليش السوداء؟ لم المس واحدا منها.. اكتفيت بتأملها عن بعد خطوة.. وشاهدتفي تلك اللحظة لحظة موت على الهواء مباشرة.. طائر خليش يسقط من الشجرة المقابلة..يفرفط أويرفرف قليلا على النجيل ثم يسكن إلى الأبد.. أنا ليس أنا الآن.. أنا لستنفسي ولا روحي.. أنا عاشقان جالسان على الكرسي المقابل لمنظر الموت.. أوجعهماالمنظر.. أوجعهما الفن الميت.. الذي كان حيا منذ لحظة فقط.. العاشقة أخرجت منديلورقي من حقيبتها ومسحت دموعها.. والعاشق ترك الوردة الحمراء فوق حقيبة العشيقةوهرع يجري نحو الطائر.. رفعه سريعا وفتح  منقاره بطرف ظفره ليرى لسانه الصغير الذي مازاليرتعش وينبض بالغناء.. قربه إلى فمه ونفخ فيه محاولا أن يعيد إليه الحياة.. ولكنارتعاش اللسان توقف ونبض الغناء توقف ومنذ متى يعيد بنو البشر الحياة للطيور..الأمر يريد معجزة وعصر المعجزات ولّى.. أجل ولّى.. الآن كما نعرف عصر الجرائمالغامضة التي طالت حتى طيور الخليش السوداء المهاجرة المسالمة.

أمرمحير.. كيف أنه لا يموت إلا هذا النوع من الطيور.. طائر الخليش الأسود.. ما السبب؟هلهناك سم أم مؤامرة تحاك وتنفذ ضد طيور بلادي وحريتها؟ أم أنها رسالة مشفرة تحذيريةللرئيس الأكحل أوباما.. الذي صار أول رئيس أسود للولايات المتحدة الأمريكية.. وكأنالموت يقول له سنقتل الحرية والرفرفة في بلاد تنبأت بفوزك عبر مقولة في كتابهاالأخضر تقول: السود سيسودون في العالم.

الطيورالميتة كثيرة.. عمال النظافة يجمعونها في اليوم أكثر من مرة.. وعندما يعتقدون أنالحديقة نظيفة من الطيور الميتة ويعودون بعد ساعة يجدونها قد امتلأت مجددا بعددوافر يملأ ما معهم من أكياس وبراويط.. كما أسلفنا أمر محير جدا أن تموت الطيورالسوداء فقط.. الطيور البيضاء والحمراء والزرقاء والخضراء والبنية لا تموت.. حتىالطيور ذات الألوان المتعددة كالطاووس صاحب الصوت المزعج والذيل الجذاب لا تموت..أمر محير لكنني لن أبحث الأمر من جهة الموت.. فموت الطيور أو العقارب أو غيرها منالمخلوقات لا يهمني.. الذي يهمني هو لماذا تموت الطيور؟ ولماذا السوداء بالذات..لأن هذا الأمر لم يحدث من قبل.. أو أنه حدث ولم أره.. سأترك السؤال محلقا.. سأطليهبالأبيض أولا أو الأخضر أو أي لون متوفر فيما عدا الأسود.. لن أترك سؤالي يحلق وهوبلون الفحم أو القطران أو الإثمد (الكحل).. سأتركه محلقا في الأفق.. ومن يجدالإجابة  فليتكرم وليخبرني بها.. قد اقتنعبها وقد لا.. فليست كل إجابة صالحة لكل الناس.. وأنا بالطبع من الناس.. ماذا أفعلالآن؟ والسواد يموت في عز الظهيرة.. سواد طائر يسقط هكذا.. مازال الأمر يحيرني.. علىأن أغادر الحديقة كي أجدد التفكير.. سأذهب إلى البحر.. البحر قريب من الحديقة..مشيت مئة متر فوجدته.. الماء الأزرق رائع والماء الأبيض رائع والحصى الغارق فيالمياه رائع.. الطحالب ملتصقة بالصخور وتفل البحر مخلوط بالرمل ومخلفات المتنزهينمن أكواب وقناني وأغلفة بسكويت وتشيبس تمنح المشهد بعض القذارة التي يقاتلها الموجببطء.. قذارة هائلة منتجة من قبل أناس هذه المدينة تراها على شاطئ البحر.. فيالبعيد سفن تنتظر دورها لدخول الميناء.. في القريب سفن خارجة من الميناء عائدة إلىبلدانها.. مشهد بحري نمطي ممل.. كي أغيره لأتأمل وأفكر عليَّ أن أتخيّل.. علي أنأغمض عيني لأغادر هذا الملل الذي منعني من التفكير والكتابة.. أغمضت عيني.. أنا فيالصحراء الآن.. في خمارة عتيقة قريبة من جبال أكاكوس.. خمارة تقدم مالقيات البوزةللرواد.. بوزة قوية تقلب ثلاث جمال وتجعلهم يعتقدون أنهم ملوك بعير العالم.. بوزة تارقيةلذيذة منعشة مصنوعة من السكر والتمر والماء والخميرة والرمل والشمس.. السكر منكوبا.. التمر من ليبيا.. والخميرة من العالم كله.. لأن العالم خامر.. خامر جداالآن والأمس وربما الغد أيضا.. خامر لأنه عالم ولو كان غير معلوم لسكرنا جيدا علىالأمل.

السكرمن كوبا.. التمر من ليبيا.. الخميرة من العالم.. الماء من المطر.. لكن المطر لايسقط الآن.. الكائنات تصلي والمطر لا يسقط.. أنا في الصحراء والمطر لا يسقط فيالصحاري.. سنجعله يسقط كي نصنع البوزة.. وما المشكلة.. في الحكايات كل شيء جائز..يمكنني أن أسقط المطر حتى في الجحيم.

شربتالبرداق ومسحت فمي بكمي كما يفعل السكارى المحترفون وأكلت شيئا من طبق الميزة المكونمن كبد النوق المشوي.. شعرت بدوار.. دوار في رأسي.. رأسي سخنت الآن كما التنور..خبزت في مخبز رأسي مجموعة أرغفة.. رميتها في فرن رأسي وملستها بأصابع حبيبتيلتلتصق على جدار التنور ولا تسقط إلى القاع.. ألصقت الأرغفة على جدار التنور ومعكل إلصاق لرغيف أسحب أصابعي بسرعها أبردها بنفخات سريعة من مدخراتي الهوائية.. لمأضع وسما على خدود أرغفتي.. وراقبتها وهي تنضج.. عندما نضجت تماما لبست قفازينوجذبتها إلى خارج التنور وصففتها في طبق سعف نخيل.. وقبل أن تبرد قدمتها للضيوفالذين للأسف الشديد لم أجدهم.. ووجدت نفسي وحيدا على الشاطئ.. بلا خبز.. بلا ماء..الماء الذي يدفعه الموج يلامس قدمي بعد أن تسلل من فتحات حذائي وصعد إلى أعلى..غمر كعبي وكاحلي وعظمتي ساقي وركبتي وبلل سروالي الداخلي الذي نسميه الموتانتي..شعرت بالبرد وانتبهت والحقيقة أن البرد هو الذي أيقظني من سكري المتخيّل.. لكنأشعر الآن أنني سكران حقيقة من بوزة السكر الكوبي والتمر الليبي وماء المطر وخميرةالعالم وشمس الدنيا التي أنضجت هذه الخمرة البدائية القوية القادرة على طرح أيشرّيب مدمن ومحترف على الأرض.

شكراأيتها الشمس.. أيتها الحرارة المضيئة.. لولا الشمس  ما كان يحدث تخمر جيد.. ما كان يولد الكحول..عاشق الدم ومرنحه ومنشيه.. النار وحدها لا تكفي.. في الصحراء الحطب المفضل هو حطبالشمس والرمل.. أو حطب الشمس والحجر.. أو حطب الحب و الأغاني.. الآن أنا سكران منهذه البوزة.. وعلي أن استيقظ من خيالي السكران حتى أتمكن من ممارسة حياتي فيالنهار.. أستطيع أن أفكر الآن.. أن أكتب.. أحوم في الصحراء الآن.. الشركات أكثر منحبيبات الرمل.. كل كيلو متر تلوح لك شافطة معدنية تمتص روح الأرض.. سواد يفيض إلىجوانب الحفارات.. ألسنة لهب تتعالى تفجع السماء.. الصحراء تتألم.. يتم تجريدهاالآن من سلاحها الباطني.. النقوش والأحفورات الصخرية تلوث وتشوه وتسرق.. الماءيمتص.. النفط يمتص..  شركات في شركات..الحياة صارت شركة.. الدول صارت شركات..  حتما ستختفي المعالم السياسية في العالم.. فلننجد بعد أمد قريب  مملكة أو جمهورية أوجماهيرية أو سلطنة أو إمارة أو ولايات متحدة أو اتحادا كونفدراليا أو غيرها منمسميات الدول والكيانات.. وستقام بدلا من تلك التعريفات للرقع الأرضية أو السماويةأو الخيالية دول الشركات.. فنجد مثلا شركة ليبيا الوطنية أو العربية  أو الإفريقية أو غيرها من الصفات المعبرة عنهوية الشركة وسياستها في تسيير أمورها في ذاك الآن.. أو نجد شركة مصر العربية أوالفرعونية أو القبطية.. أو شركة أمريكا للبترول الأحمر.. أو شركة الشام للفستقوالزيتون أو شركة العراق الموحدة.. أو شركة موريطانيا للسمك والفوسفات.. أو الشركةالعبرية للشمعدانات والأساطير.. أو شركة اليانكي للديمقراطية ولوازمها.. وسيكونلهذه الشركات رئيس مجلس إدارة.. وأعضاء مجلس إدارة.. ومساهمون ومستثمرون من الدولةنفسها أو من خارجها.. وسيكون لهذه الشركات وسائل إعلام ودعاية وخزينة وفرق رياضيةوشعار مُعبّر وخفراء وبوابون وأشياء أخرى ضرورية تحتاجها الشركات كي تستمر فيعطائها وفق سياسة الربح والخسارة.

سيتمتداول هذه الشركات في البورصة.. فأحيانا مستثمر مغامر يشتري شركة شيلة بيلة (سكرفي أميّة).. أي بالجملة.. بكامل شعبها ومجلس إدارتها وبكل ما تمتلك من أصول ثابتةومتحركة حيّة وجامدة وبكل ما لها وما عليها من ديون.. يشتريها بتركتها كلها السيئةوالحسنة.. يشتريها بصفائها ومشاكلها.. بحربها وسلامها.. ينتفع الشاري بها حسب خطتهومزاجه ما أراد من زمن.. وعندما يمل منها يُطلَّقها و يبيعها مجددا في سوق نخاسةالدول.. يبيعها بالجملة أو القطاعي.. بالحاضر أو بالآجل.. يفرّش بها على الرصيف..أو يعرضها على مصطبة أو طاولة.. وربما لا يحالفه الحظ في البيع  فتزطل (تبور).. فلكي يتخلص من عبئها  يتبرع بها لضحايا الإعصارات والمصائب المزمنةفي شركة أمريكا أو العراق أو اندونيسيا أو رومانيا أو الصومال أو أفغانستانوباكستان.

ستدورعجلة الزمن فتأكل تروس المكان لتـُذهِبَ معالمه.. و ليصير المكان من دون أسنان ومندون أصابع تبيّن له فكوك العض.. ستدور عجلة الزمان ببطء وبسرعة و ستفلس شركات..وستثرى شركات أخرى.. ستزول شركات من زمنها ومكانها وتقوم شركات أخرى بدلا منهامستفيدة من سماد احتراقها.. قد يتغير رئيس شركتك التي تعيش فيها بين يوم وليلة..قد يذهب ليضارب في مكان آخر بعد أن يشتري أسهماً جديدة من شركة أخرى.. يضارببالأسهم الجديدة حتى يستنزفه الزمن.. آنذاك قد يكمل أيامه مع تلك الأسهم..  وقد يعتقها أو يبيعها ويعود إليك مجددا إن وجدفي عودته مكسبا يستحق.

العالمسيتحول إلى سوق.. والدول إلى شركات.. وستختفي كليات العلوم السياسيةوالاجتماعية  والتاريخية لتحل بدلا منهاكليات الاقتصاد والتجارة والمحاسبة.. بإمكان الإنسان في هذا العالم الشركواتيالجديد أن يبيع أسهمه في شركته ويبدل عملته الوطنية بعملة هولندية يشتري بها أسهماًفي شركة هولندا تمكنه من العيش هناك والمضاربة في دقات قلبه القابلة للتحولوالتحويل والتبدّل وفق قانون العرض والطلب.. ففي هولندا كل شيء قابل للتحويل..وبإمكان هذا الإنسان في العام نفسه أنْ يتحول إلى مواطن في شركة فرنسا للعطورفيرشرش نفسه على الآباط وخلف الأذان وبين النهود أو يتحول إلى شركة إيطالياللمكرونة السباقيتي فيصير أعوادا نشوية متخبلة ملتفة في بعضها ممرغة في صلصةالطماطم والجبن المبشور ترفعه الشوكات والملاعق إلى الأفواه التي تمضغه وتخرجهبرازا إيطاليا برائحة النبيذ وشحم الحلوف والثوم.. وفي الوقت نفسه يمكنه في نهاية العام أن يعود إلى شركته يسلمأسهمه للسجل المدني ويتوطن آليا.

فيعالم الشركات ليست هناك مشكلة.. فلن يطلب منك أحد جواز سفر ولن تـُسأل متى خرجت من الشركة ومتى تمّ بيعك أو بيع نفسكولمن؟ سيُسمح لك بالدخول ولن  يطلب منك أحدأي ولاء أو إيمان.. ستعامل (شركواتيا) أي كم تساوي وبقيمتك تمنح المكان الذي يساويهذه القيمة.

ماعلى العائد إلا أن  يمد أسهمه السياسية أوالزراعية أو الاقتصادية أو غيرها إلى محاسب الشركة فيمنحه الإيصال.. وينخرط فيحياته التجارية المنظمة والمنضبطة لكن وهو داخل الشركة عليه أن يتحمل ما يحدث له..قد تفلس شركتك وتباع في المزاد.. قد يشتريها تاجر تشادي فتجد نفسك في (انجامينا)أو (فايالارجو) تعمل في رعي الماعز والجاموس أو جني الجوّافة.. وقد يشتريها تاجربنجلاديشي فتجد نفسك هناك في مدينة دكّا مندكاً في فلوكة تصارع الفيضان.. ويتلاعبالقدر والحظ والظروف وقانون السوق بحياة الإنسان التي تحولت من أحاسيس ودقات مقدسةإلى حزمة أسهم قابلة للعد والتعيير والتدجين والقولبة.. تباع وتشترى و تتقايض..تذوب وتتكثف وتطول وتقصر وتنحف وتسمن.. ترتفع قيمتها أحيانا فتصير ذهبا وتنخفضأحيانا لتصير جردل قمامة متعدد الثقوب.. في دولة الشركات قد يبتسم الحظ لهذا أوذاك.. فرئيس مجلس الإدارة هو مالك الشركة.. هو من يملك أكثر من 51 % من أسهمها..وقد تجبره الضرورة التجارية المحضة أن يرضى على هذا أو ذاك فيقربه منه.. فيحوله منمجرد بوق دعاية و(بروباقاندا) إلى رئيس قسم مالية الشركة أو رئيس تحرير جريدةالشركة أو مجلة الشركة أو إذاعة الشركة أو فرقة رقص وتطبيل الشركة.. وقد ينصبه شاعراخاصا للشركة ويمنحه الضوء الأخضر والوردي  والبرتقالي واللازوردي والبيج والكاكي والكحليوالمبقع بألوان الطيف ليصدح مثلما يريد ويقبض مثلما يريد.. فرئيس مجلس الإدارة أوأمير مجلس الإدارة أو سلطان مجلس الإدارة أو إمبراطور مجلس الإدارة.. هو أبوهاوكيّالها.. وبالمناسبة يحق لرئيس مجلس الإدارة أنْ يتلقب ويتصف بما يستهويه منألقاب ويجوز له أيضا تغيير اللقب كل شهر وحتى كل يوم.. حسب ظروف الشركة وحسب ظروفإبرام الصفقات.. فهذه الصفقة تحتاج إلى أمير.. فلأكن أمير مجلس الإدارة.. هذهالصفقة تحتاج إلى ملك فلأكن ملك مجلس الإدارة.. وهكذا.. المهم أن تتم الصفقة..والمهم أن أحافظ على نفسي من الخسارة.. إن كانت هناك خسارة فلا يجب أن تكون في 51%وتكون في بقية المساهمين.. الواحد والخمسون في المئة خط  نار على رئيس مجلس الإدارة أن يحافظ عليه وأنيجعله 55%..  60%.. 90 %.. ولو أحبه مساهموالشركة ورفعوه على الأعناق وطافوا به في الآفاق فيجعله 99% وتسيعة من عشرة.. قديستغني رئيس مجلس الإدارة عن بعض المساهمين فيبيعهم من أجل مصلحة الشركة وعليهم أنينفذوا أمر بيعهم بالتي هي أحسن وإن رفض الذي يتم بيعه سيراه رئيس مجلس الإدارةعلى هيئة مجموعة أسهم صغيرة على شكل  ثورأو حمار أو كلب أو بوبريص مبتور الذيل.. يأمر سايس الحيوانات أن يقبض عليه ويسلمهعنوة  للمشتري وهناك المشتري له الحرية فيتحويل أسهمه المشتراة من ثيران إلى براغيث أو من حمير إلى أبناء آدم.. طبعا حسبرغبته.. إن كان الحمار يُكسِّبه فسوف يتركه حمارا وإن كان الكلب سيُكسِّبه فسوفيقلب هذه الأسهم إلى كلاب يبيعها إلى عجائز أوروبا أو مسالخ كوريا والصين.. الجميلفي هذه التجارة أن الأسهم طيعة سهلة التشكيل والتدوير والتعويج والترقيص.. بإمكانكأن تحوّل أي سهم إلى أي شيء تريده.. الأسهم في الشركة لن ترفض.. ستخرج من الخزينةإلى المحفظة أو الصندوق أو الجيب.. أو تنتقل عبر تقنية الشبكة العنكبوتية إلى مكانالمالك الجديد في لمح البصر.. ستنتقل بسرعة أسرع من عفريت  سليمان عليه السلام الذي جلب بلقيس.

قالالقارئ لنفسه.. هذا الأمر جميل.. إنسان يتحول إلى سهم في شركة.. سأتقدم إلىالسلطات لتأسيس شركة من هذا النوع.. ولحسن الحظ بلادنا في هذا الوقت ديمقراطيةتعشق الإصلاح  وتبشر به وتناصره وتموت فيحبه.. ستوافق على طلبي فورا..  سأشتريالمستلزمات من السوق.. سأشتري الأبواق والمزامير.. سأشتري الأسهم النائمة علىبطونها وعلى ظهورها والمتقرفصة..  سأشتريأسهما تبَيدل (تدولب) في الهواء.. سأشتري أسهما سمينة ونحيفة.. كسيحة وعرجاء..سريعة وبطيئة.. سأشتري مطربين.. سأشتري أسهما شيوعية وأصولية وقومية ووطنية وملكيةوعولمية وما بعد العولمية.. سأشتري أسهما ثورية ورجعية.. لابد أن تكون الأسهممتنوعة.. لا شيء سأرميه.. كل سهم له وظيفة ووقت وسعر ووقرة بيع.. سهم سأوخز به..سهم سأطعن به.. سهم سأحرث عليه.. سهم سأحرك به فارة الحاسوب والنت..  سهم سيرقصويغني لي.. سهم سيجلب لي النشرة السهموية.. سأشتري تشكيلة رائعة.. باقة رائعة..سأشتري عمالا وفلاحين وحرفيين وأطباء وممرضين ومهندسين وطلبة ومدرسين وموظفينوجنود وبوليس وشيوخ للأديان ومفتيين وقضاة ومحامين وجلادين ومبرمجين وكتّابورسامين وفنانين من الجنسين ومن الجنس الثالث أيضا.. سأشتري مكانا أسوّره وأضع فيههذه الأسهم.. سأقدم لها العلف الذي ترغب وتحب.. العلف الممتاز الدسم الذي يجعلهاتسمن سريعا وتنتج لي بغزارة وتهرول بإخلاص وإيمان وتفانٍ وفق الأجندة التي أريد.

الحقيقةكما توقع.. السلطات لم تمانع في هذا الأمر..  ومنحت القارئ الرخصة معفاة من الضرائب لأنه أبرزلهم شهادة لا تصنفه في قطيع القطط السمان.. هو قطيطيس صغير.. يا دوب إيخبّش دفاعاعن النفس.. منحت له الرخصة وذهب ليشتري مستلزمات هذه الشركة من السوق.. اشترى مايريد في دقائق ودفع الثمن نقدا للبائعين.. ساق قطيعه أمامه في الشوارع إلى حيثالمكان الذي سيحشرهم فيه.. أدخلهم عنبر النوم وقال لهم الآن ناموا.. والصباح رباح.

فيالصباح استيقظ القارئ من النوم.. فوجد الأسهم مستعدة للانطلاق في فيافي وصحاريوبحار البورصة.. أطلقها جميعها ولم يترك معه إلا القليل.. وعند الإقفال عادتالأسهم سمينة ومتضخمة وذوات شدوق حمراء ومؤخرات باذخة بذخ ليّة الخرفان الشاميةالثلاثية.. عادت أثقل وزنا وأرفع قيمة مما كانت عليه.. لقد رتعت جيدا في ظل غيابالأسهم الأخرى المتأثرة بالأزمة المالية العالمية.. وشعر بالسعادة القصوى لهذهالضربة الكاسبة.. حتى أنه رقص وغـنى وعيّط على طول رقبته.. وفي اليوم الثانيأطلقها  لترتع وتسرح في البورصة وعاد بعضهاغانما فائزا.. وعاد بعضها مكسورا مثخنا بالجراح.. وفُقِد بعضها فلم يعد وعادتأسماؤه متناثرة من دون كيان.. وحاسب  هذاالمالك نفسه وحسب حسبته ضاربا أسداسه في أخماسه.. ووجد أن رأس ماله ما زال سليمافما ربحه بالأمس خسره اليوم.. في اليوم الثالث قرر أن يخرج مع أسهمه إلى البورصةليقودها بنفسه.. قال في نفسه قبل أن ينطلق على رأس الأسهم.."اضرب النقص اتجي أنتوالحق سواء.. والعب بروحك وما تشكش".. قرر أن يمارس هذين المثلين الشعبيين فيتجارته في البورصة فلم يترك الأسهم لفطرتها لتتدبر نفسها.. ووجَّهها وفق مزاجهوأفكاره وذائقته وريبه وشكه فخسر ثلاثة أرباعها في تغميضة عين وأنقذه من خسارةالربع الأخير رنين جرس الإقفال حيث تتوقف المعاملات إلكترونيا.. عاد بالربعالمتبقي حزينا وغاضبا ونادما على المغامرة معاتبا نفسه بمقولة ليتني أعطيت العيشلخبازه.. في اليوم الرابع ترك الربع المتبقي يخرج بنفسه إلى البورصة وساعة الإقفال عاد الربع ومعه عدة أسهم من المفقودة  بالأمس.. استحسن ذلك وابتسم وشرب احتفالا بهذاالنصر طاسة شاي باللوز الدرناوي المزلط.. وداوم على ترك الأسهم ترتع بنفسها فعادتتدريجيا جميعها إليه.. آنذاك حسب حسبته من جديد فلم يجد نفسه رابحا ولا خاسرا..فكر بينه وبين نفسه لماذا عندما قدت الأسهم في السوق كدت أن أخسرها جميعا؟ لم يجدفي رأسه إجابة.. لكن وجد فيه مغامرة أو فكرة جديدة.. قال سأترك الأسهم جميعها هنافي مأواها  وأخرج بنفسي إلى البورصة.. أجربحظي.. ربما أربح وربما أخسر وربما أتعادل.. إن خسرت وصرت مبيوعا.. ستستردني أسهميالتي تركتها في المأوى وستفديني برؤوسها وذيولها وانطلاقاتها اللولبية من قوس الحياة.

خرجصاحب الأسهم إلى البورصة فلم يسمح له بالدخول للمضاربة.. قالوا له: "لابد منإحضار أسهمك إلى هنا.. أنت بالنسبة لنا سهم واحد.. والبيع داخل البورصة بالجملةفقط.. إن أردت المضاربة بالقطاعي (المفرق) فاذهب إلى هناك".. أشاروا له إلى سوق ليس به مبانٍ ولا أنوار ولا ظلال..سوق خالٍ من الباعة والمشترين.. ذهب إلى حيث أشاروا من أجل الفضول فقط.. فوجد فيالمكان مجموعة من الأسهم تحيط بسهم  مكسورمن المنتصف ورأسه مغروزة في التراب.. وضع سبابته على صدغه وراح يفكر..  قال في نفسه هذا النوع  لم اشتر منه لذلك خسرت في البورصة.. وتعبتكثيرا في تعويض تلك الخسارة.. قال لجماعة الأسهم المحيطة بالسهم المكسور: سأشتريهذا السهم..  ورمى عليه كيسا من الذهب.. لمينهض السهم ليرافقه.. فرفعه بنفسه.. دقق ببصره في رأسه.. فوجده أسود.. شم السواد فلم يتبينه.. هل هو حبر أم قطران؟ أم أنهماالاثنان معا؟ انتهى تأثير البوزة.. استيقظ خيالي من رحيله في صحراء الوجع.. ها أنافي المدينة الآن.. تركت الصحراء.. تركت شاطئ البحر.. أتجه إلى منتصف الحديقة.. إلىأمي التي زرعها جدي المجهول.. جدّي ليس مجهول النسب إنما المصير.. أقترب الآن منمنتصف الحديقة حيث شجرة النَّمّ العملاقة المقتاتة على فاكهة الملح.. الجو ملغم..شركات الأمن منتشرة في كل مكان.. ماذا حدث يا ترى.. أمام البريد الرئيسي شرطة.. أمامبيوت المال  شرطة.. أمام مكتبة قورينا شرطة..أمام مقهى تيكة شرطة خفيّة بلباس مدني وبأجناب منتفخة من المسدسات.. واصلت شقطريقي صوب شجرة النَّمّ.. لم أكن مترنحا أو عربيدا.. كنت مواطنا صالحا يمشي من الظلإلى الظل ومن الساس إلى الساس.. ليبي أسمر البشرة.. مسالم إلى أبعد حد..  أشق طريقي بهدوء وأشاهد ما حولي.. كأنني أمثلفيلم وأشاهده في الآن نفسه.. أرى دوريات شركات الشرطة راجلة من الخريجين الجدد ومنالعائدين القدامى يمتشقون هراوات مطاطية سوداء ومن أحزمتهم تتأرجح الكليبشاتالبورنزية.. منتشرون في كل ناصية ومفرق طرق.. كلهم يحملقون في المارة ويسألون كلأسود يمر قربهم عن أوراقه الثبوتية.. يسألونه بصوت يتصنع الحدة والغلظة والحزم..لكن الذي يخرج من حراجيمهم صوت ناعم رقيق مزدان بكلمة عفوا وأشكرك وتفضل اذهب إلىحال سبيلك.. عندما يجدون الشخص الأسمر ليبياً يتركونه يذهب إلى حاله حتى وإن كانسكرانا أو مسطولا أو متناولا أقراص هلوسة.. فهذه الأشياء ليس منها خطر.. أما إنكان الموقوف للسؤال إفريقياً فسيعرفون من خلال أوراقه هل دخل البلاد بطريقة شرعيةوإقامته صالحة أو أنه كان متسللا خلسة.. أنا أسود وليس معي أوراق.. لكن معي لسانيالبنغازي الأصيل.. ومعي أغنياتي المرسكاوية.. وفي جيبي قرطاس رياضي (سجائر) وطني.

سألنيالشرطي الصغير الوسيم:

ـمن أين أنت يا أخ؟

فأجبته: من حي المحيشي.

قالالشرطي وهو يفحصني بعينيه: أمتأكد؟!

فغنيتله أغنية حميدة درنة:

سيديالفقي لو ريت بوتكليلة.. يحرم عليك الدرس ما تمشيله.

سألني:ما معنى بوتكليلة؟

فشرحتله أن التكليلة حلية ذهب أو فضة على هيئة دائرة منقوشة تعلق قرب الأذنين وتثبت فيالشَعر أو الشال أو المحرمة ونقوشها المرسومة عليها تحكي حكايات أسطورية قديمةتتصدرها علامة المؤلهة الليبية تانيت.. وممكن تسأل أمك عنها أكيد لديها منها فيصندوق حليها القديم.

ابتسمالشرطي الصغير في شبه خجل قائلا:

ـلا اعتقد ذلك.. أنا أمي الله يرحمها والتي أرضعتني رحلت إلى الدار الآخرة العامالماضي.

واسيتهمترحما داعيا للأم الوالدة والأم المرضعة بالرحمة والمغفرة ثم طلبت منه ولعة فولعلي سيجارة الرياضي التي كانت متموضعة خلف أذني.. لم أشرح له معنى بوتكليلة تقديرالموقف تذكره لأمه ومرضعته.. صافحته مجددا وغادرته وأنا أدندن بصوت هامس: سيديالفقي لو ريت بوتكليلة.. يحرم عليك الدرس ما تمشيله.

وقلتفي نفسي أنا غائب اليوم عن الدرس.. أنظر إلى تلك المذبحة السوداء.. مذبحة السم..طيور تموت من دون ذبح.. بلا دم.. الخليشات تموت.. السوداء منها فقط.. لماذا يا ربي؟سأذهب وأبحث عن من قتلها.. عن سبب موتها.. الآن أكلم نفسي..أهذي.. موت الطيورالفجائي مؤثر.. مطر أسود ميت على هيئة قبضة حياة مغلفة بالريش.

عادإلي الشرطي قادما من جهة أخرى تفضي إلى الحديقة وسألني مجددا أوراقك يا أخ؟  فقلت له:

ـألم أجبك منذ قليل والشارة والمارة أنك سألتني عن معنى بوتكليلة؟. ابتسم الشرطيوقال:

ـآسف.. صح.. كلامك صحيح و أنت من حي المحيشي.. معلش العقل يدوي أحياناً.

فقلتله: لو ريت بوتكليلة مثلي ربما عقلك لن يدوي فقط إنما سيغني ويرقص.. وربما ستتغيبعن عملك في الشرطة وتهمل واجبك حتى يتم طردك.

وأثناءكلامي له رن جرس الموبايل الرابض في حزامه.. ليس رنينا إنما صوت  موسيقي لموشح أندلسي ذي إيقاع سريع.. فغادرنيسريعا إلى ركن منزوٍ تحت أقواس بيت مال الأمة وبدت عليه أمارات السعادة وهو يتكلمفي الخليوي فلوحت له ولوح لي مشيرا براحته إلى قلبه علامة الشكر والامتنان أو أنمن يتصل به الآن شخص عزيز ربما حبيبته.

لميكن ماركو راغبا في الالتحاق بالشرطة لكن الشركة الايطالية التي تعاقدت مع سلطاتالبلاد لتسيير الأمن أقنعته بالالتحاق بها وأغرته براتب مجزٍ، كون جده الشيشلياني منمؤسسي هذه الشركة القدامي، والذي جعله يقبل هو تنسيبه إلى قسم الموسيقا بالشرطةولمهارته في العزف على جميع الآلات النحاسية والإيقاعية والوترية فقد تم تسليم عصاالقيادة له.. وما وجوده اليوم في وسط المدينة للقيام بأعمال الدورية إلا لحالةطارئة ولأيام معدودات.. فبعد فوز باراك أوباما في الانتخابات.. كل الشركات الدوليةأخذت الحيطة والحذر من تسلل السود لرئاسة مجالس إدارة هذه الشركات فعملت على حصرهموتضييق الخناق عليهم وتحجيمهم وتفريغ الشحنة المعنوية التي نفثها أوباما في قلوبهم..الأسود الوطني يطلب منه أوراقه وهو في بلده.. بينما الأسود الوافد يتم التدقيق فيأوراقه فإن كان متسللا لأراضي الشركة دون المرور على شرطة الجوازات يتم ترحيلهفورا إلى بلده وإن لم تعرف بلده ويرفض السفر إلى أي بلد يرمى في السجن.. وإن كانتأوراقه سليمة يترك على حاله لكن يتكرر سؤاله مجددا عن أوراقه ولو من الشرطي نفسه الذيرأى الأوراق منذ قليل.. وذلك إذلالاً له و تحطيما لنفسيته ومعنوياته وتذكيرا لهبلونه وبعبوديته القديمة.. وهذه التصرفات حياله تجعله غير طموح وغير متطلع للأفضلوغير طامح في الصعود لأعلى من أجل السيطرة على منصب يجعله قريبا من رأس هرم الشركة..وهذا ما حدث من ماركو تطبيقا للتعليمات بسؤاله لرجل حي المحيشي مرتين.. لكن رجل حيالمحيشي معنوياته لم تتأثر.. فهو ابن بلاد.. حتى أنه لا يحمل أوراق هوية في جيبه..وهويته هي أغنية مرسكاوي يغنيها لكل من يطلب منه تعريفا.

حتىالكتاب الأخضر الركن الاجتماعي الذي ألفه الزعيم الليبي معمر القذافي الذي بهمقولة "السود سيسودون في العالم" بعد فوز اوباما برئاسة شركة أمريكا قدتم التحفظ عليه وحظر تداوله في المكتبات حتى في الدولة نفسها التي أنتجته.. ففورفوز أوباما ارتفعت مبيعاته بكل اللغات المترجم لها.. الكل يبحث فيه عن نبوءاتجديدة.. ماذا بعد السود؟ في الدولة التي أنتجته أيضا تم التحفظ عليه والتقليل منالتركيز على مقولاته في نشرات الأخبار ووسائل الإعلام.. لأن نسبة السود في البلادعالية.. قد ترشق لهم (يحلو لهم) فيجعلونه دستورا ونبراسا ويتحركون من أجل الحصولعلى مناصب رفيعة خاصة في ظل الاهتمام الرسمي الحالي بإفريقيا وحضارتها.. كثير منالدراسات تجرى حاليا عن سبب فوز أوباما وهو رجل عادي ليس غنيا.. هل هو الذكاء.. أمالجدية.. أم الطموح.. أم الكاريزما.. أم اللون الأسود الذي أقنع البيض والشقربجماله وبجدارته في رئاسة الشركة الأمريكية الكبرى أم هناك أسباب أخرى.

بماذايتميز الإنسان الأسود.. حسب مخالطتنا للكثير منهم بحكم الجيرة والمعاملة اليومية..أعتقد أنه يتميز بالمرح وخفة الدم والنظافة وحب الموسيقا والرياضة والصبر والقوةوالفن والتواضع والاعتداد بالنفس.. وعندما نرى باراك أوباما نجد أن هذه الأشياءجميعها يمتلكها.. ومن هنا فكرت سلطات الأمن كي تسيطر على القمقم الأسود عليهامحاربة نمو هذه الأشياء في نفس هذا الإنسان.

بعدنصف ساعة مر ماركو على رجل المحيشي فقبل أن يتكلم قال له أيها الشرطي إن سألتني عنأوراقي للمرة الثالثة فسوف أرفع فيك قضية.. فأنا ابن هذه السبخة.. ولا أسمح مجددابأن تستجوبني شركات الشرطة الوافدة.. مرة يأتي إلى شرطي هندي.. ومرة باكستاني..ومرة فرنسي.. ما هذا؟ رانا في بلادنا الزب.. وأنت منين بالمناسبة.. شكلك أحمروأشقر.. أجابه ماركو قائلا.. اهدأ.. أنا معروف هنا.. وليبيا وطني.. كل عيال البلاديعرفوني.. أنا ماركو الايطالي.. ولدت وعشت في هذه المدينة.. أمي المالطية وأبيالإيطالي استشهدا أثناء قصف منارة سيدي خريبيش.. وربتني الحاجة ربيعة من دريانة..أرضعتني لعامين ثم أعادتني لترعاني الكاتدرائية القريبة من شاطئ الكبترانية.. لكنلم انس أمي ربيعة فقد كنت أزورها كل شهر خاصة عندما كبرت ولم أنس أخي الليبي شرحالبال الذي رضعت معه اللبن سويا.. دائما يزورني وأزوره إلى آخر يوم رأيته فيهعندما اختفى فجأة ولم نجد له أثرا.. دائما ينتظرني أمام الكاتدرائية حتى أخرج لهونتجول معا في شوارع مدينة بنغازي العتيقة وأحيانا أذهب معه إلى النجع في دريانةخاصة في الأعياد لأعيد مع أسرتي الليبية وأمي المرضعة هناك.. وأحضر معهم أيامتجليم السعي وأيام دراسة الزرع وكبس التبن والخرطان.. عندما تحين وقت الصلاة كنتانتظره دائما أمام المسجد.. اليوم الذي اختفى فيه كان معي.. قال لي انتظرني أمامالمسجد.. سأصلي العشاء وأعود لنكمل جولتنا.. لكن خرج المصلون ولم يخرج.. خرج إمامالمسجد ولم يخرج.. وعندما رأيت قيّم المسجد يخرج ويقفل الباب بالسلسلة الفولاذية اقتربتمنه وسألته.. أخي شرح البال دخل للصلاة ولم يخرج.. ابتسم لي بأسى وقال: يعوضك الله..لا تسأل عنه وإلا قبض عليك معه.. هناك جماعة من المصلين قبض عليها من شركة الأمنالداخلي بعد انتهاء الصلاة  بعد تسليمةالصلاة الأولى مباشرة وأخرجت من الباب الخلفي.. ارجع يا وليدي لبيتك الآن ولا تخبرأني أخبرتك بشيء راه عندي عويلة.

سألرجل المحيشي ماركو عن اسمه فقال له: ماركو.

وأجابرجل المحيشي: وأنا جاب الله.. وآسف عن التعامل معك بحدة.. لكن الله غالب.. ماعنديشالريح وين تدور.. وما نتحملش المنيكة واجد.

ابتسمماركو: أنا الآخر ما نحبش المنيكة.. لقد عشت هنا وأقدر الظروف.. ولأني مسيحي فقدتجاوزتني الكثير من المصائب التي لحقت بشباب هذه البلاد.. لقد تم سجن قيم المسجدالذي أخبرني عن القبض على أخي.. فحسب ما علمت أنه في اليوم الثاني جاءت سيارة بعدالعصر وأخذته.. أحد البصاصين الذي لمحنا نتحدث مع بعضنا عن أخي اسلومه قد قوّد فيهوزج باسمه في تقرير عاجل.. ولأنه أمي ولديه أقارب في البوليس فقد تم إطلاق سراحهبعد عامين.. ليقرر بعدها ترك العمل في المساجد نهائيا وذهب للفندق البلدي يفرشبكسبر ومعدنوس ونعناع وشبت وغيرها من الأعشاب الخضراء.

أيامعصيبة عشتها.. كنت أجلس في غرفتي بالكاتدرائية وأبكي كثيرا عن أصدقائي.. أبالكنيسة يواسيني ويصلي من أجلي.. أحاول أن أساعد الأصدقاء ولكنى أعجز.. لا توجدمحاكم ولا قانون.. ولا أحد تسأله ويمكنه أن يجيبك.. وعندما فقدت أخي بالقبض عليهازدادت أوجاعي.. حاولت أن أسأل عنه عبر سفارتنا لكن السفير قال أخوك ليس إيطاليا..لا يمكننا فعل شيء من أجله.. قلت له أخي.. قال لو أخذ الجنسية الإيطالية لاستطعنامساعدته.. لكن أخي يرفض أن ينال الجنسية الإيطالية.. زرنا معا إيطاليا مرتين وعرضتعليه الموضوع وأن الأمر سهل كونه أخي في الرضاعة لكنه رفض وقال أنا ليبي أعتزبليبيتي ولا يمكن أن أغير جنسيتي.. ماذا تقول عني الناس.. أخي تعليمه بسيط.. تعلمفي الجامع ثم المدرسة حتى الشهادة الإعدادية ثم اشتغل موظفا في البلدية يصدرشهادات الميلاد والوفاة ويحرر عقود الزواج والطلاق نظرا لخطه الجميل وإجادته للنحووالإملاء.. لم يشرب معى النبيذ في إيطاليا ولا البيرة ولم يمنعني من الشراب لكنهيطلب مني أن لا أكثر.. لم يتناول لحوما غير مذبوحة على الطريقة الإسلامية.. أعجبتهالبيتزا الإيطالية كثيرا.. كان يسميها مثرودة إيطالية أو فطّاحة إيطالية.. كانيتكلم القليل من الطلياني والقليل من الانجليزي وكانت أموره في إيطاليا جيدة.. حتىوإن خرج وحيدا يستطيع تدبير أموره وتخليص نفسه.. آه أخي.. حتى الآن لم يظهر.. رغمالانفراج وشحنة التسامح وحل مشاكل الماضي التي تعيشها البلاد الآن.. أنا أحب أخي..أريده..ذكرياتي معه حيّة في قلبي.. تشتعل في كل وقت.. تصيبني بالعطش إلى ماء الحنين..وعندما أخذت دموع ماركو تتهاطل أخذه جاب الله من يده وتوارى به خلف شجرة النَّمّالعملاقة.. لا يليق بشرطي أثناء عمله أن يبكي.. يراك الضابط فيعاقبك.. أخرج منجيبه علبة محارم ورقية صغيرة في حجم علبة السجائر سحب منها منديلا وجفف له دموعهوواساه بتربيتات على الظهر ونظرات حنون وقال له كلنا مضروبين بعصا واحدة.. باللهلا تذكرني حتى أنا لدي الكثير من أفراد عائلتي اختفوا عقب عودتهم من المساجد أوأخذوا من أمام بيوتهم.. لا أريد أن أخبرك الآن بمن.. لأن حالتك لا تحتمل قبولمأساة جديدة.. هناك أيضا من فقدوا في الحرب وهناك من اختفوا ولا نعلم بمصيرهم حتىالآن.. خليها على الله.. وسيأتي يوم تتضح فيه الحقائق.. وإن تم القبض على هذااليوم ومنعوه من القدوم.. فسنعرف الحقائق في الآخرة.. فالله عادل.. ومثلما هو عفوكريم فهو أيضا شديد العقاب.. لا تبكِ أيها الصديق الجديد.. واغسل وجهك وعد للقيامبواجبك.. في هذه الأثناء رن جرس الهاتف المحمول في جيب حزام  ماركو.. فأخرجه سريعا ونظر إلى الرقم الران فذهبالحزن فجأة وكست وجهه اشراقة عذبة واستأذن من جاب الله وأخذ يتكلم ويتجه إلى موقعهالظليل تحت أقواس بيت مال الأمة.. وهناك غرق في حديث هامس.. وقف جاب الله من تحتشجرة النَّمّ وغادر المكان إلى شارع جمال عبد الناصر.. هو يلوح لماركو وماركو يلوحله ويضع راحته على قلبه.. مرت حافلة ركاب صغيرة فقفز إليها عائدا إلى محطة الفندقالبلدي بعد أن اشترى حارة سلق وعدة ربطات معدنوس وكسبر ونعناع وشبت وحبق وربطتينبصل أخضر ونصف كيلو ليمون وربع كيلو فلفل أخضر حار وأربع أرغفة خبز شعير وربع كيلولحم ضأن وطني وكيس حلوى لصغيريه ركب حافلة حي المحيشي عائدا إلى بيته في منطقة حرفسين.

بعدأسبوعين كان جاب الله يقود طفله بلال  لعيادةحي المحيشي من أجل تطعيمه فصادفه ماركو بلباس مدني أمام العيادة.. تصافحا بحرارة..ورفع ماركو بلال الأسمراني إلى أعلى وقبله في جبينه ودس في جيبه خمسة دنانير وسطاعتراض شديد من جاب الله.. لكن ماركو حلف بالطلاق أن لا تعود إلى جيبه وعندما قالبلال وأختي خديجة زاده علبة مستكة كانت في جيبه.. ومعها طلاق جديد أن لا تعود إلىجيبه والحلف بالطلاق حتى لغير المتزوجين هو قسم نهائي فمن الممكن أن يقسم لك أحدالبنغازيين بالله ثم يحنث في قسمه بعد إلحاح منك.. لكن عندما يحلف بالطلاق فمعنىذلك لا نقاش في الموضوع ولا حنث.. سأله جاب الله ما الرياح الطيبة التي رمت به إلىحي المحيشي فأجابه ماركو إنه جاء لزيارة خطيبته الدكتورة حنان لأجل أخذ ورقة رسميةيحتاجها في معاملة الزواج.. قال جاب الله مبتهجا ومبتسما.. إنشاء الله الدكتورةحنان خطيبتك.. يا مشاء الله.. دكتورة محبوبة من الجميع.. يعني نقدرو انجو انعالجوحتى في البيت.. قال ماركو تفضلوا البيت بيتكم.. بس خلينا نتزوجو أولا هذا الصيف..قال جاب الله.. مبروك مقدما.. وقاد ماركو إلى مصطبة في ظل مدخل العيادة جلسا عليهاوبلال وضعه ماركو في حجره.. وواصل جاب الله حديثه.. اسمع يا راجل الفرقة الموسيقيةلا تشغل بالك بها.. سأتكفل بها أنا.. أفضل مطربي حي المحيشي من مختلف الأجيالسيغنون في عرسك لأن الدكتورة حنان قبل ما تكون زوجة صديقنا الرائع ماركو هي ابنتنا..تربت في حينا ودرست في مدارسنا وعملت في عيادتنا.. نحن نعرفها منذ أن استشهد أبوهاالحاج رمضان المسلماني في سيناء أثناء حرب العبور.. لقد تطوع في سلاح الجو لأنهكان طيار سابق.. وفي النهاية هم جيراننا يقيمون في بيت مقابل لنادي السواعد الرياضي..عندما جاء خبر استشهاده ووصل جثمانه خرج كل سكان حي المحيشي في جنازته وحملواالنعش على أكتافهم من حي المحيشي حتى جبانة سيدي عبيد.. من رأى جثته في التابوت..قال إنه يبدو مبتسما راضيا.. انزاح ذاك الألم الدائم البادئ على جبينه.. لم تحترقجثته أو تتشوه.. مجرد ثقب صغير في صدغه نتيجة شظية لقنبلة أسقطت قرب طائرته قبل أنتقلع في رحلتها التالية.. لقد كانت جنازة مهيبة.. لُف التابوت بعلم ليبيا وزُينبباقات كثيرة من الورود وكتب على مقدمته.. قال تعالى:

"ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يُرزَقون".

لقدكان ماركو على علم بأن الطيار الذي رمى القنبلة على بيتهم بسيدي خريبيش وتسبب فيقتل والديه حي يرزق وبليبيا وأنه قد فعل ذلك بطريق الخطأ وأنه لم يقصد قصفالمدنيين من السكان واعترف للقسيس بذلك في غرفة تكفير الذنوب.. وأنه أيضا دخلالإسلام وختن وتسمى باسم عربي ويعيش في هذه البلاد وسمعته جيدة.. ونظرا لحساسيةالموضوع فلم يضف إليه القسيس الذي أخبره أكثر وقبل أن يخبره كان قد اشترط عليه أنيغفر له وأن لا يسأل عن اسمه وعنوانه ووافق ماركو على ذلك وتفهم الأمر وقال إنهاالحرب وخسائرها ونسى الأمر ولم يبحث عن هذا المسلماني خاصة وأن من دخل الإسلام منالمسيحيين كثر ومنتشرون في كل مدن ليبيا.. ومرت الأيام وتعامل مع الكثير من هؤلاء المسلمانيينولم يشعر بحقد تجاه أي منهم وأيضا لم يسأل أو يطرح الأمر مجددا على أحد وحتى علىنفسه.. تنفيذا للعهد الذي منحه لراعيه في الكنيسة.

قالماركو: لقد أخبرتني حنان بخبر استشهاده لكن بقليل من التفاصيل.. تعرفت عليها مؤخراأثناء حفل أقامته الكاتدرائية احتفالا برأس السنة الجديدة دعت له بعض الشخصياتالسياسية والسفراء والأطباء والمهندسين والفنانين والأدباء وغيرهم.. ولقاءاتنا تعدعلى أصابع اليد.. أكثر حواراتنا تتم بالهاتف.. نحن نقترب كثيرا من التفاهم ومنالوصول إلى خطوات متقدمة.. لقد خطبتها عبر الهاتف من دون حفلة.. أي بيني وبينها.. هيسألتني من ولي أمرك فقلت لها نفسي وأنا سألتها السؤال نفسه فأجابتني نفسي وستتمالخطبة الرسمية قريبا إن شاء الرب.. تنتظر فقط أن تتحصل على إجازة طويلة قليلا..فهي منذ أن التحقت بالعيادة وهي مشغولة بالمرضى دائما.

قالجاب الله نعم فهي حتى في أوقات العمل غير الرسمية نذهب إليها في البيت أو نحضرهاإلى بيوتنا خاصة في حالات الولادة فلديها خبرة كبيرة في إتمام الولادة بنجاحولديها مقص ذهبي تقطع به الحبال السُّرية للمواليد فلا يتألمون ويتحول صراخالولادة إلى ابتسامات سرعان ما تنتقل من المولود إلى الأم التي تسر كثيرا وتدعوللدكتورة حنان بالسعادة.

لقددرست حنان الطب في ليبيا ثم سافرت إلى إسبانيا لإتمام دراستها هناك وعادت لنابالشهادة وفضلت أن تعالج أبناء منطقتها فتم تعيينها في هذه العيادة الصغيرة.. هيتعيش الآن مع أمها الحاجة سليمة.. في ذلك البيت الصغير القريب من النادي..وتشاركنا أفراحنا وأحزاننا.. وعندما تغني في حفلة عرس تأسر المستمعين فهي تجيدالعزف على العود وغناء الموشحات الأندلسية التي زاد إلمامها بها وإتقان غنائها عقبعودتها من الدراسة بمدينة غرناطة بإسبانيا وأخذ جاب الله يدندن وهم يتركون المصطبةويتمشون في حديقة العيادة اليانعة  بموشح:

يامن لعبت به شمول.. ما ألطف هذه الشمائل.

نشوانيهزه دلال.. كالغصن مع النسيم مايل.

لايمكنه الكلام لكن.. قد حَمّل طرفه رسايل.

 ما أطيب عيشنا وأهنا.. والعازل غائب وغافل.

يامن رحلوا ما ودعوني...\ أبكي أسفاً على المنازل.

ويعيدهذا البيت مرارا: ما أطيب عيشنا وأهنا.. والعازل غائب وغافل.

ومعالإيقاع السريع الذي تحدثه جملة والعازل غائب وغافل وما يعقبها من ترنيمات يالاويا لا ويالا ويالا  ويللي...

تحركجاب مع الإيقاع بمرح وسط الحديقة حتى وجد مكانا نظيفا ظليلا رمي نفسه مع آخر كلمةفي الأغنية وهي ما ألطف هذه الشمائئئئئئئل.. وجلس إلى جانبه ماركو واضعا بلالالصغير بينهما.

تحدثاوقتا لا بأس به حول الشرطة والموسيقا وأمور الحياة ثم نظر ماركو إلى ساعته فعرفجاب الله أنه مشغول وقفا معا وسارا نحو سيارة ماركو الريجاتا التي اكتراها منوكالة التأجير لأسبوع.. أقفل جاب الله عليه الباب وعندما انطلق لوح ماركو لجابالله بيده مع ابتسامة عريضة.. وهو يبتعد عن شارع العيادة كان ماركو يتأمل مرآةالسيارة التي على يمين رأسه ويرى جاب الله وابنه بلال وهما يصغران ويصغران كلماابتعدت السيارة أكثر وعندما انعطفت إلى الشمال ودخلت الطريق الرئيسي غابا تماما عنالمرآة و هنا أوقف ماركو تأمله الخلفي.

الحقيقةأن ماركو تعرف عليها في الحفلة.. ودائما  في مثل هذه الحفلات يتعرف على فتيات من الجالياتالأجنبية وأحيانا يقيم معهن علاقات عاطفية ويضاجعهن بالكوندوم مجانا.. لكنالدكتورة حنان تعرف عليها في الكاتدرائية أثناء الحفل بسبب صوتها الجميل وعزفهاالرائع على العود وغنائها العذب للموشحات حتى أنه صاحبها بالعزف من دون إذن منهابجيتار غربي.. فما إن سمع أنغام عودها حتى تأثر وجذب الجيتار المعلق في مشجب بالجداروجاء إلى جانبها وصار يشاركها العزف.. لقد امتزج الإيقاع الشرقي بالغربي بسهولة..واستطاعت هذه الفتاة الموهوبة بواسطة صوتها أن تمزج أوتار العود بأوتار الجيتار.. مزجتالشرق بالغرب.. جعلتهما جليدا دافئا وشمسا باردة.. ريشتها تتبع صوتها وأصابعه تتبعصوتها وتتابع حركات شفتيها ولسانها.. عند انتهاء الموشح وضعت عودها على الأرضوأسند جيتاره إلى الجدار وتصافحا.. أحس بأصابعها تعزف على أوتار دمه وأحست هيبأنها وقعت في الشيء المسمى بالحب.. لقد كانت راحته دافئة وأصابعه رقيقة وعيناهبهما عمق لا يرى إلا في مآقي فنان حقيقي.. التصفيق الصادر من الحضور منحهما وقتامناسبا لتأمل بعضهما البعض.. هي رأت فيه نفسها وهو رأى فيها نفسه.. لكن وسط الرؤيةكان هناك ضباب كثيف.. يحتاج إلى مزيد من الضوء لينجلي.. د. حنان جميلة.. جمعتالجمال العربي بالأوروبي.. ومع جمالها غير الجسدي.. نرى جمال شخصيتها الواثقة مننفسها والفارضة احترامها وتقديرها على الجميع.. كبارا وصغارا.. لم تتعرض في حيالمحيشي لأي مشكلة.. فقد كانت محل احترام هي وأسرتها من الجميع.. لا يمكن لأحد أنيتطاول عليها أو يحاول أن يمسها أو حتى يغازلها.. الجميع يراها أخته الكبيرة..ابتسامتها دائما تسبقها.. وخدماتها تقدمها للجميع دون تفرقة.. مدراء العيادةومسؤولو الصحة حاولوا أن ينالوا منها وأن يغازلوها لكن شخصيتها كانت قوية وكلمتهادائما على لسانها.. حتى أن أحد المدراء من ذوي النفوذ الرسمي والقبلي أراد أنيتخذها سكرتيرة ومحضية له ويغريها بالمرتب والسيارة وبدل الإقامة والمزين والعلاواتالعديدة.. عندما عرض عليها الأمر بلسان معسول حدجته بنظرة وقحة (فنّصت فيه) وصرختفي وجهه:

"شهادتيلعلاج المرضى وليست لعلاج الزوامل والتيوس".

وغادرتالمبنى غاضبة وسط قلق الزميلات والزملاء عليها والذين رأوها تخرج من مكتب المدير بعدسماعهم لصرختها.. لم تعد إلى العمل رغم الاعتذارات التي أرسلها هذا المدير مع بعضالممرضات المقربات منه.. وعندما طال إضرابها كان لسكان الحي طريقة أخرى في معالجةالمسألة فذات ضحى اقتحموا مكتب هذا المسؤول الذي قفز من النافذة هاربا إلى نقطةالشرطة التي فرت به بواسطة سيارتها الجيب إلى خارج حدود المحيشي ومنذ تلك الهربة لميُرى في منطقة المحيشي ثانية.. لم تخبر د. حنان أحدا عن سبب تغيبها عن العمل وكلمن يسألها تقول له ظروف خاصة.. لكن أهل المحيشي عرفوا السبب وأرسلوا إلى هذاالمسؤول مهددين لو أنه يعود إلى المحيشي سينيكوه في طاقته.. قالوا له مالقيت إلاالدكتورة بنت الشهيد رمضان المسلماني يا مبعر تقصر فيها.. ورغم توسلاته واعتذاراتهوإرسال أكثر من صديق للتوسط إلا أن الجميع رفضوا عودته فانتقل إلى منطقة أخرى..قالوا أنه الآن في مستشفى طابلينو.

لاندري من سحب يده من يد الآخر أولا.. فالقلبان يدقان بعنف.. والقشعريرة اللذيذةاستشرت في الجسدين.. ابتسما لبعضهما وفتحا معا حديثا عاما عن الفن والأدب وهمومالحياة.. كانا واقفين عند الشرفة.. القمر ليس بدرا.. إنه هلال نحيف جميل.. قال لهاعندما تكونين نائمة على جنبك في السماء سأرى حاجبك الجميل مثل ذلك الهلال.. شكرتهعلى المغازلة وسألته هل أنت شاعر؟ قال لها نعم منذ أن تعرفت عليك وسمعت صوتك وعزفك..وأضاف كل موسيقي شاعر.. أليست الموسيقى شعر والشعر موسيقى؟! في تلك الحفلة أحبتهوعرفت أنه إيطالي ولد وعاش في ليبيا ويعمل في فرقة موسيقا الشرطة.

عائلةالحاج ونيس اشنابو في سوق الحشيش تفرقت لم يبق منها إلا سليمة أم د. حنان.. الحاجونيس انتقل إلى رحمة الله بعد أن صادرت السلطات عبر قوانينها الاشتراكية كسارتهوتمليك شاحناته للسائقين العاملين عليها.. بعد هذه الإجراءات وموقف السائقين منهبخصوص الاستيلاء على سياراته حيث طردوه من محجره وصرخوا في وجهه بمقولة السيارةلمن يقودها.. وقالوا له وكأنهم يمنّون عليه: لقد تركنا لك إحدى السيارات لتعملعليها مثلنا.

بعدهذه الزيارة لمحجره مرض مباشرة وحدثت له حالة شلل نصفي.. الوحيد الذي رفض قبولالسيارة وتمليكها لنفسه هو الحاج رمضان المسلماني صهره.. لكن حماته الحاجة منانيأصرت عليه أن يقبلها.. قالت له نحن مش قاسمين.. رزقنا واحد.. وفعلا قبلها لكنهباعها وادخر المبلغ  لعازة الزمان وتنقل بين عدة أعمال أخيرا استقر في شغل تفكيك السياراتالقديمةبمنطقة الرابش الذي وفر له دخلا جيدا مكنه من الصرف على تعليم ابنته الوحيدة حنان.

عندماعلم باشتداد المرض بصهره الحاج ونيس اشنابو سلمه ثمن الشاحنة الذي ادخره لظروفالحياة وذلك من أجل الصرف على تكاليف علاجه.. تأثر الحاج ونيس اشنابو من الموقف..ودعا لصهره رمضان بالخير.. وقال وهو يلفظ أنفاسه بعد شهور من المعاناة والعلاج فيمصر وتونس وإيطاليا.. الله يسامحك يا سي رمضان.. يمكنني أن أغادر الآن بسلام وأناهانئ على بنتي وكل أسرتي ثم نطق بالشهادتين وأسلم الروح.

الحاجرمضان المسلماني رغم حداثته في دخول الإسلام إلا أنه يطبق تعاليمه بصورة جيدة فلايأكل رزق أحد أو يغتصب حق أحد.. حتى البيت الذي اكتراه في شارع الشويخات قال لهالكثير من الناس هو لك بحكم القانون الجديد.. لا  تكن غبيا و تخرج منه.. ولا تسدد الإيجار بعداليوم.. الآن البيت لساكنه.. وأنت ساكنه.. إلا أنه رفض.. وأخلاه ذات ليلة وسلمالمفتاح لصاحبه الذي منحه لولده الذي سيتزوج قريبا.. وانتقل إلى منطقة بيوتهارخيصة.. هي حي المحيشي.. حيث اشترى قطعة صغيرة.. سكنها مع زوجته وابنته.. اللتانعارضتاه أول مرة في السكن في المحيشي.. لسمعة الحي السيئة التي يروجها مرضى النفوسعنه.. الحاج رمضان قال لأسرته حي المحيشي حي بسيط وطيب وبه الكثير من الرجال أصحابالمروءة والكلام الذي يحكونه عنه لا أساس له من الصحة.. لقد ذهبت إلى هناك أكثر منمرة ولم أر إلا الكرم والنظافة والمحبة..  وافقتالأسرة على الانتقال وبعد أيام من السكن في حي المحيشي اعترفت الحاجة سليمةوابنتها د. حنان  للحاج رمضان بأنه أحسنصنعا في تسكينهم بهذا الحي.. فالمنطقة شعبية.. والجيران طيبون.. الكل يصبّح بالخيرويمسّي بالخير.. ولا يتناول وجبة إلا بعد أن يذوق منها جيرانه.. وانهالت دعوات الأفراحولمّات أسابيع الولادة على الحاجة سليمة وابنتها حنان.. ووجدت سليمة أن الأعراس فيالمحيشي لها نكهة خاصة لا تجدها  في كلأحياء بنغازي.. فالأغاني مرسكاوية أصيلة.. والموسيقا شعبية لا نشاز فيها..والزغاريد من القلب والتصفيق ساخن.. ودق الدربوكة له رنين شجي.. وفي العرس تنتهيالخلافات والجميع يقف مع صاحب العرس ويمد يد المساعدة ماديا ومعنويا.. وجدت حنانأن المطربات لا يقلن إبداعا عن المطربين المشهورين في حي المحيشي أمثال حميدة درنةوعبد الجليل عبد القادر والفيتوري أحمد وسعد الوس وإبراهيم الصافي وغيرهم.

سرعانما نجح الحاج رمضان في عمله بالرابش.. كان يفكك الآلات الثقيلة.. ويلف المحركات..ويصلح أعطال السيارات التي لا يجدون لها قطع غيار بتأليف قطعة لها من اختراعهبطريقة (الموديفكا).. صار دخله جيدا لمهارته ومصداقيته في التعامل مع الزبائن..ومن هذا الدخل استطاع كما قلنا سابقا أن يعيش جيدا ويحرص على تعليم ابنته حتىالتحقت بكلية الطب وبعد تخرجها طبيبة نساء وولادة مباشرة تحصلت على منحة للدراسةالعليا في إسبانيا.. في جامعة غرناطة.. قبل أن تذهب إلى هناك أوصاها كثيرا.. وفتحصندوقا قديما أخرج منه لفافة ناعمة بها المقص الذهبي الذي كانت تستخدمه أمهاالفرنساوية حواء التي ولدتها.. قال لها هذا مقص أمك التي ولدتك.. مقص ثمين مبارك..استخدميه في دراستك هناك.. لا يصيب الجنين بالألم أو التلوث وسيساهم في نجاحك فيالامتحان العملي.. هذا المقص التاريخي قطع حبال سرر الكثير من أبناء بنغازي.. وأضافمبتسما وبواسطته تم تطهير (ختن) والدك العبد لله وإدخاله للإسلام والحمد لله.

كانيحكي لها وأمها الحاجة سليمة التي ربتها تنظر وتذرف الدمع.. لقد أعادها هذا المقصإلى ذكريات جميلة.. إلى لذائد مازالت تستطعمها حتى الآن.. إلى ملامسات عاطفيةجنسية مؤثرة مازالت تعيش على استذكارها كلما جعلها جفاف الزمن الرديء باردة فيالفراش.. هذا المقص من الذهب الليبي الأصيل وسعره في السوق غال جدا.. وفي كلالأزمات التي تعرضت لها أسرة المرحوم الحاج شنابو كان الحاج رمضان المسلماني يخرجهليبيعه لكن الأسرة كلها  ترفض ذلك بل الحاجونيس شنابو صرخ في الجميع قائلا التاريخ لا يباع ثم حلف بالطلاق أن لا يباع هذاالمقص حتى لو اضطررنا للتسول.. إلا مقص المرحومة الله يسامحها.  

كانالحاج ونيس شنابو من عشاق المرحومة عندما كانت عاهرة.. كان يستلذها كثيرا واقترحعليها أن تترك عالم الدعارة وتتزوجه في السر نظرا للظروف الاجتماعية ونظرة الناسالتي لا ترحم.. على أن يخصص لها بيتا منفصلا ونفقة تكفيها.. لكن الفرنساوية حواءرفضت الأمر كما رفضت الكثير من مقترحات الزواج السري التي تلقتها من عدد كبير منأعيان بنغازي.. كانت لا تذهب للمزارع أو البيوت.. وتمارس عملها تحت إشراف البلديةوالسلطات الصحية.. وتجري الفحص الطبي بصورة دورية لدى الدكتور همنكة.. تقول إنهاامرأة لكل الناس ولا يمكن أن أسمح باحتكاري من أحد ولو دفع لي مح كبده. 

رحلالحاج ونيس اشنابو الله يرحمه ويسامحه إلى الرفيق الأعلى وزوجته الحاجة منانيلحقته بعد عامين متأثرة بالهموم التي لحقت بأسرتها فجأة وابنه اسلومة لاعب الكرة والذيأنقذه ذات يوم صهره رمضان المسلماني من الاغتصاب في بحر الشابي اختفى في إحدىالحملات البوليسية  حتى اليوم.. ولم يعرفعنه شيئا.. هو ليس متدينا.. لكن نشاطه السياسي في اتحاد الطلبة قد يكون السبب..أما الأخ الأصغر نوري فقد غرق في بحر جليانة ذات صيف بسبب رياح القبلي المخادعة التيجرفه تيارها إلى الداخل ولم يكن آنذاك بابا سليم موجودا في براكته حتى ينقذه أويرسل له كلبه وفي فمه (الكامراداليا منفوخة) طوق النجاة.

كانزواج ماركو من د. حنان صعبا.. واجهته عراقيل كثيرة.. خاصة العراقيل المتعلقةبالدين.. فماركو مسيحي وحنان مسلمة.. ولا ندري من أين خرج أبناء عمومة لحنانعارضين أنفسهم كأزواج مفترضين ومتوعدين على إيقاف هذا الزواج ولو على جثثهم.. فأبوهاليس له إخوة في بادية ليبيا ولا في حاضرتها.. عندما رحل الحاج ونيس شنابو لم يظهرهؤلاء البدو  إلا في أيام العزاء الثلاثة..شبعوا من الأرز واللحم الوطني وفطورات القلايا وخبز الشعير.. بعد ذلك اختفوا..عادوا إلى نجوعهم في البادية.. أحدهم يلبس بدلة عربية ويضع على رأسه عمامة قاللحنان أنا أمحجّرك (حاجزك حسب العرف القبَلي).. وحتى وان كنتي بنت الفرنساويةفابوك يعتبر ابن أخينا وبن عمنا الحاج ونيس الله يرحمه هو اللى أدخله الإسلاموزوجه بنته يعني فرشه دم ولحم وأنت الآن كيف بنت عمنا ومن حقنا انحجروك.. لم تعبأحنان به ولم ترد على البدوي التيس.

تواعدتمع ماركو على اللقاء في روما.. وهناك لا بدو يهددون ولا هم يحزنون.. سكنا فيالفندق نفسه.. بل في الغرفة نفسها.. وكلاهما فتح قلبه وروحه للآخر.. عرف أن والدهاهو الطيار الذي قصف بيتهم وتسبب في مقتل والديه.. فعانقها مسامحا محيلا ذلك الأمرللقدر ولظروف الحرب.. لقد بدأ معها صفحة جديدة.. لا خلفيات أو عقد نفسية فيها.. بلأشاد بأبيها كونه بطلا شهيدا قاتل في سبيل الحق في معركة عبور خط بارليف.. ارتاحتحنان له وتناقشا بروية حول مسألة الدين.. على أحدهما أن ينتقل إلى دين الآخر..واقترح عليها ماذا لو بقى كلانا في دينه وتزوجنا.. لكن قاضي المسلمين في روما رفضتدوين العقد ومباركة الزواج وأب الكنيسة في روما أيضا رفض تدوين الزواج وهنا قررامعا أن يتزوجا بعقد مدني.. لا علاقة له بالدين.. وعندما عادا إلى ليبيا قبض عليهمافي المطار.. الشرطة لا تعترف بهذا العقد.. وتعتبره صوريا وغير شرعي وورقة تافهةلتسويغ الزنا.. ووضعا في سجن شرطة الآداب.. سرعان ما خرج ماركو من التوقيف لأنهإيطالي وسفارته تدخلت في الأمر.. بينما العروسة حنونة مكثت في سجن النساءبالكويفية.. إلى حين تحرك أهالي حي المحيشي وفي مقدمتهم سي جاب الله وسخّروا  لها محاميا قديرا دفعوا له بسخاء ومع السخاءجالون بوخمسة  قرابّا فلاش مقطرة مرتين  فأخرجها في اليوم نفسه بكفالة.. وكان يوم خروجهاحفلة كبيرة في الحي.. سهر الحي يغني حتى الصباح.. في اليوم الثاني ونكاية فيالشرطة التي سجنتها ذهبت إلى الكاتدرائية وطلبت من الأسقف الدخول في الدين المسيحيكي تتزوج بسلام وبطريقة مسيحية.. وهنا قامت القيامة.. خطب الجمعة اشتعلت.. الإذاعةوالتلفزيون تناولا الخبر وحذر من قيام العوانس بترك الإسلام والدخول إلى المسيحية..تريث الأسقف قليلا في تعميدها.. لكن عندما أحس بصدقها وجديتها وعرف أن زوجها الموسيقارالكبير ماركو وأن أمها فرنسية وأخوالها فرنسيس وافق سريعا وقام بتعميدها ومنحهاالحماية القانونية من وزارة الشؤون الدينية بالفاتيكان وأعلم السفارة الفرنسيةالتي تنتمي لها أمها حواء بالأمر كي تدعم الموضوع إن احتاج إلى دعم على أي صعيدكان.. أرادت أن تخرج من الكاتدرائية فمنعها الأسقف من ذلك.. قال لها ستقتلين يابنيتي من قبل الجماعات المتطرفة أو من الدولة.. لأن حكم المرتد عن الإسلام هوالموت.. ابق سَلَّم بنيتي هنا.. وإن أردتي أمك الحاجة سليمة أحضرناها لك.. أنت فيحمايتنا الآن.. حتى نجد لك مكانا آمنا ومحروسا.. نحن سعداء باقتناعك بربنا ودينناويسوعنا ونرحب بك في رحاب المسيحية التي تقول من منكم لم يرتكب خطيئة فليرمني بحجر..قال لها الأسقف نحن عندما يترك المسيحي دينه ويدخل الإسلام نتركه لأمره وهو حرفالأديان واحدة لكن إن دخل مسلم المسيحية فتحدث مشاكل كثيرة.. نحن نعرف أنك دخلتالمسيحية من أجل الزواج الشرعي ونحن نرحب بهذا الزواج ونباركه.. وأهداها قلادةذهبية يتدلى منها صليب.. علقتها في رقبتها فورا إلى جانب القلادة الفضية الدائمةالمزينة رقبتها والمتدلي منها حويتة وخميسة وقرين.

بقيتد. حنان في الكاتدرائية والحالات المستعصية للولادة كانوا يحولونها لها هناك وكانتبمساعدة الراهبات ومقصها الذهبي تقوم بالواجب وتواكب الجنين حتى الخروج من الرحمإلى الحياة إلى بر الأمان.. جاءت أمها أيضا لتقيم معها.. وخصص لهما الأسقف غرفتين..غرفة للعروسين وغرفة للأم وكان شهر العسل جميلا داخل الكاتدرائية.. رائعا.. لذيذا..رهز متواصل على دقات النواقيس.. يستيقظون على رنين النواقيس وينامون على رنينها..وبعد أن هدأت الأمور.. وانخفضت الزوبعة.. وبردت حرارة الحدث.. ونسيت الناس الموضوعكما تنسى كل شيء بمرور الزمن كالعادة.. وتفهمت السلطات الأمر.. وأنه ليس ظاهرةإنما حالة شاذة.. لا تؤثر في سلام البلد الاجتماعي.. تسبب فيها سوء الفهم والتقديروتضخيم الأمر من قبل مُعدِّي التقارير من بصاصين محترفين وهواة.. ونظرا للعلاقاتالجديدة بين الدولة وبين إيطاليا ودول الإتحاد الأوروبي فقد سمح ببلع الإشكال وغضالطرف عن هذا التصرف من قبل المسلمة السابقة سليمة.. لكن أوصت السلطات بتوخي الحذر..والحيطة.. فمن الممكن جدا أن يحدث اعتداء على العروس من قبل الجماعات الإسلاميةالراغبة في تطبيق حدود الله.. خاصة حد الردة وهو القتل.... وهنا خرجا ليسكنا شقةفي جليانة داخل عمارة محروسة طوال اليوم من قبل شركة أمنية خاصة.. كان ماركو قد أجَّرهامن شركة إيطالية تمتلكها.

الذيجعلها تتخذ هذا الموقف بالأساس هو حبها المجنون لماركو.. لقد جربته في إيطاليا ووجدتهحلوا.. ولا يمكن أن تستغنى عليه أو تتذوق ألذ منه.. وهو لا يشعر بالراحة وإن لميعارض في دخوله الإسلام.. قالت لنفسها سأضحي في سبيل الحب بديني..  لقد قتل أبي والديه بقصفهم من طائرته ولم أحس أنهيحمل اتجاهي أو اتجاه أبي أي حقد.. لقد كان متسامحا كما المسيح.. فلأكن له أم وأبوزوجة وأخت وصديقة.. إني أحبه يا عالم.. وعيسى ومحمد وموسى وكل الأنبياء إخوة.. لاأشعر أني اقترفت ذنبا.. فأنا أريد الحلال ليس إلا.. ثانيا الذي جعلها تتخذ قرارهاوتدخل المسيحية هو السجن.. هناك لم تعامل جيدا.. ولم ينظر لها كدكتورة متفوقةمحترمة ساهمت في علاج أمراض المجتمع أو أنها بنت كريمة لشهيد مات في سبيل الوطنالعربي الكبير وكرامته.. لقد تمت معاملتها كعاهرة.. وتمت مصادرة مقصها الذهبي.. وتلقتمن الشتائم من قبل السجانات وأفراد الشرطة ما يخجل حتى الشيطان من سماعها.. بلإحدى السجانات حاولت أن تقود عليها لتقدمها كقحبة ليل لضابط الخفر مقابل استعادةمقصها.. لم يعاملوها كما يعامل الإسلام المرأة.. لقد كانوا وحوشا حاولوا التحرش بهاأكثر من مرة وكادوا أن يغتصبوها لولا أنهم خشوا إحدى مساجين المؤبد من قاطني حيالمحيشي والذي تأتيه أخبار السجن أول بأول.. فأول ما عرف أن الدكتورة حنان التيأنقذت زوجته من الموت واستخرجت من بطنها ابنيه التوأم  الحسن والحسين حيين وبصحة جيدة دخلت السجن بسببحبها ورغبتها في الزواج من صديقه الإيطالي الموسيقار ماركو حتى تعاطف معهما فورا وأرسل لكل ورديات سجن النساء تحذيرا سريعا هو أن كل من يمس الدكتورة حنان بسوءفطاقته والجَرة وسيندم كثيرا وسيطال الانتقام أسرته أيضا وهم يعرفون أن تهديداتهذا السجين تؤخذ بمحمل الجد.. فلديه شبكة كما شبكة المافيا يستطيع أن يقوم بأي شيءوهو لا يبرح مكانه.. ومن هنا اكتفوا بالشتائم.. فرغم جمال حنان الأوربي العربي فإنأي تيس لم يستطع أن ينظر حتى في عينيها أو يمس شعرة منها وعن المقص الذهبي ذهبواإليه في عنبر المؤبد وقالوا له المقص يا صديقنا العزيز يعتبر من الأسلحة البيضاء لذلكنحن نحتجزه من أجل مصلحة السجينة والسجينات وصدقنا أننا نحرص عليه ولن نضيعه أونبيعه وهو محفوظ  في الحفظ والصون في خزانةالآمر وملفوف في قماشته الحريريةالناعمة.

مفارقاتكثيرة تحدث في هذه الحياة.. أب مسيحي يدخل الإسلام.. بنت مسلمة تدخل المسيحية..الانتقال من دين لآخر يحدث في عائلة واحدة.. لا ندري ما موقف الأب المسلم والذيكان مسيحيا من دخول ابنته للمسيحية.. هل سيمنعها من فعل ذلك؟ أم سيترك لها حريةاختيار الدين.. لقد مات قبلها مسلما.. ولا يمكن أن تلتقي به إلا في الأحلام.. وهوأيضا لا ندري هل عرف بأمر ابنته أم لا؟ سرعان ما تأقلمت د. حنان مع طقوس وشعائرالدين الجديد.. صارت تؤدي الصلوات.. وتعترف للقسيس أسبوعيا بخطاياها.. ووجدت هذاالأمر جيدا ويزيح عن النفس هموما كثيرة.. ولا يترك الخطايا تتراكم بعضها فوق بعض..ففي كل أسبوع عملية جديدة لغسل الذنوب وتطهير النفس من الدنس.. وسألت القسيس هلذنوبي وأنا مسلمة اعترف بها الآن لقداستكم وهنا توقف القسيس وقال لها لا يمكنني أنأجيبك.. أحتاج إلى فتوى من الكاردينال أو البابا.. سأرسل السؤال للفاتيكان.. الآناعترفي لي فقط عن ذنوبك الجديدة فقط.. ذنوبك وأنت مسيحية فقط.. واعترفت له بعدد منالذنوب ومعظمها ذنوب غير عملية.. أي وسوسة شيطان.. كأن يمر إنسان من أمامها وتظنبه السوء أو تسخر منه في السر.. مرة واحدة اعترفت له بذنب به فعل عملي.. وهو أنهااستدرجت راهب صغير جميل كالملاك إلى إحدى الغرف بالكاتدرائية وأغوته حتى عانقها وقبّلها ونالت منه وطرها اللذيذ.. لأنها لم تعد تصبر عن الجنس وماركو سافر لرومالإنجاز عمل في الأوبرا لأسبوعين وإن منحت نفسها لليبي فسوف لن يهنأ له بال حتىيشهدر (يخبر عنها) بها ويتفاخر بهذا الأمر الذي يعتبره بطولة.. كان الراهب في طورالمراهقة.. حلمتا ثدييه منتفختان تراهما بارزتان خلف فانيلة القطن التي يرتديهاتحت ثوب الكنيسة وعلى خديه وجبهته بعض الحبوب الوردية المسماة حَب شباب والتي أخذتمواقع ذات جمالية عالية على وجهه.. قالت له حنان تعال يا صديقي.. أعتقد أن الحبوبالتي على وجهك تحتاج إلى دهان.. معي مرهم جيد لمكافحة حب الشباب.. كذلك اعتقد أنثدييك ملتهبان.. اقترب الراهب منها في خجل فأخرجت سريعا مرهما من حقيبتها.. وضغطتأنبوب المرهم الشبيه بعضو ذكري ليفرز قطرات على راحتها غمست فيها سبابتها وأخذتتداوي بثور وجهه حبة حبة.. تمرر أصبعها على الحبة الوردية بتمهل وشهوانية تخلقإثارة فورية تلاحظها في وجه المراهق الذي أخذ يحمر وفي سرعة خفقان قلبه كذلك..الراهب استسلم لها وأخذ يتلذذ بأنفاسها عندما تقترب منه لتداوي حبة قرب أذنه أوعلى صدغه.. بعدها قالت له هنا لا يجدي أمر مداواة ثدييك.. تعال إلى تلك الغرفة أفضل..وفي الغرفة مددته على  ظهره فوق المنضدةالمستطيلة وباعدت بين طرفي جلبابه الكنسي ثم رفعت قميصه الداخلي وداوت حلمتيهالنافرتين بإصبعها ببطء وبقرص خفيف على قبة الحلمة.. وهنا تعالت أنفاسه واشتعلبالإثارة وهي أيضا انقطع عليها خط الرجعة فقفلت باب الغرفة وخلعت فستانها ليطلاثدياها الرهيبان الطريان وانحنت عليه تلحس حلمتيه وشفتيه وأذنيه فطوقها وجذبهافوقه.

قبلالقسيس الاعتراف.. لكن بعد نهاية الاعتراف اختلى  بها في غرفة وحذرها من هذا الأمر.. خاصة أن يحدثهذا الأمر في مكان مقدس بالكنيسة ومع مراهق غر صغير لا يملك من أمر غرائزه شيئا..وهذا الأمر قد يعرضها للحرمان من دخول الكنيسة.. تعهدت حنان للقسيس أن لا يتكررمثل هذا الأمر مجددا.. وعندما تخيلت ماركو قادما حزينا وكأنه عرف بالخيانة.. بكتكثيرا وشعرت بمرارة الذنب ونار الإثم.. وقالت في نفسها كيف أن الحب لا يمنع الإثم؟هل لأنه نفسه إثم؟!      

عادماركو من روما ومعه عقد لتأليف وتلحين أوبرا ضخمة تجمع ما بين الموسيقا الشرقيةوالغربية.. شركة إنتاج إيطالية كلفته بذلك.. وهذه الأوبرا الضخمة ستعرض في ليبيا وفيدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط بعد عام من الآن وذلك بمناسبة الأيام العالميةللشعر والمسرح والفن والطفل والورد وكل الأيام الثقافية العالمية التي تشرف عليهامنظمة اليونسكو التي تدعم هذه الأوبرا ماليا ومعنويا.. نظرا لموهبته وشهرتهوتزكيته من كبار فناني الأوبرا في أوروبا فقد  دفعت الشركة لماركو بسخاء عربونا مقدما وخولتهباستقدام ما يحتاج إليه من مطربين وعازفين ومهندسي ديكور وإضاءة وغيرها.. وكانماركو قد اشترط في العقد أن تساعده في الأوبرا زوجته د. حنان كعازفة عود وكمطربة..ووافقت الشركة على ذلك واثقة في أن ماركو في الفن لا يخضع للمجاملات فلو لم تكنزوجته فنانة كبيرة ما كان يسمح لها بالمشاركة في هذا العمل الفني الضخم.

عندماأخبرها وعرض عليها العقد بكت كثيرا.. بكت من الفرحة ومن ألم الخيانة الذي مازاليتأجج في قلبها.. فهي المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك.. لقد مارست من قبل الجنسأثناء دراستها في غرناطة مع مورسكيين وإسبان رشيقين من رياضي مصارعة الثيران وكانذلك بمحض إرادتها ودون أن ترتبط عاطفيا مع أي منهم سوى بعاطفة اللحظة وكان ذلكبالطبع قبل زواجها من ماركو.. أما الآن فهي متزوجة من ماركو وتحبه بجنون.

بعدأن ضاجعها مرتين متتاليتين مد لها العود وقال غني لي موشحات أندلسية لتهدأ نفسيوتسمو روحي أتهيأ لملمة أجزاء هذا العمل المتبعثرة في أعماقي الدفينة.. فأخذت تحركالريشة على الأوتار وتغني بصوت دافئ ساحر بطئ:

جادكالغيث إذا الغيث همى..  يا زمان الوصلبالأندلس.

لميكن وصلك إلا حلما...    في الكرى أو جلسةالمختلس.

إذيقود الدهر أشتات المنى..  ينقل الخطو علىما يرسم.

زمرابين فرادى وثنا..       مثلما يدعو الوفود الموسم.

والحيا قد جلل الروض سنا..  فثغور الزهر منهتبسم.

نظرتإلى عينيه فنظر إلى عينيها وأشار لها أن تواصل الغناء بهزة استحسان من رأسه فواصلتالعزف وغنت موشحاً آخر هو:

 قمر له ليالي... يطلع لم يبالي

عالبستان ينوّر... في أمنية ليلة

قمروالقمارة... في نوره طهارة

منيؤتي عجائب... زينة لكواكب

يامحلى طلوعه...  ليالي جميلة

دافئو هو طالع... ع الأحباب ساطع

  بيه تصفى قلوبهم... ويحلىكلامهم

برؤيةدلالهم... بأحسن وسيلة

إنغاب عني حِبي.... أشكي النار لربي

وأصبّر فؤادي... و أحفظ له ودادي..

وهناخنقتها العبرة وأجهشت بالبكاء لتسيل الدموع وهي منحنية تواصل العزف مبللة أوتارالعود وتساقطت إلى داخل صحنه عبر فتحات وجهه المزخرفة.. كانت تغني مكملة بقية مقطعالموشح.. "وان شفته مخاصمني.. أعمل كل حيلة"..  وتناجي  نفسهاقائلة: أنها لم تشكُ النار لربها.. لكنها أطفأتها في مياه الراهب المراهق الوسيم.

وجدأن غناءها به لمسة حزن وحنين وألم.. وجده أكثر إبداعا من ذي قبل.. ربما لأنهاتزوجت.. وربما لأنها خانته وألم الخيانة ساهم في تأجيج أحاسيسها الفنية.. فالإبداعدائما سيظل شحنة ألم.

لميكن لدى ماركو وقتٌ يضيعه.. قال لها منذ الغد نبدأ العمل والتجارب سنجريها مبدئياعلى مسرح شحات (قورينا) الأثري.. لأن العرض سيكون على مسرح أثري أيضا ربما لبدة أوصبراتة.. ولكن المهم في الأوبرا هو الموضوع.. لابد أن يكون الموضوع عالميا.. أنافنان ولا يمكنني أن أقدم عملا أوبراليا يمجد شخص أو دولة أو يقدم ميثولوجيا أويستحضر التاريخ الماضي.. لابد أن نؤلف شيئا طازجا تعيشه الناس كل يوم ويتحدث عنالحاضر وجراحه ومسراته.. لابد أن نكون مع الإنسان الذي لولاه ما كنا فنانين..ووافقته د. حنان الرأي.

البحثعن موضوع الأوبرا أخذ وقتا.. كل يوم يجلسان في شرفة الغرفة المطلة على بحر جليانةيشربان البيرة والنبيذ ويقرآن الكتب الأدبية والفلسفية والموسيقية والفنية..وعندما ينتشيان أكثر يدخلان إلى الغرفة فيتضاجعان ويستحمان ويخرجان للشرفة مجددا..اقترحا عدة مواضيع لكن في الصباح يعيدان النظر فيها ويتم إلغاؤها ومعاودة البحث منجديد.. لقد انتهت مشكلة مضاجعتها للراهب وما سببته لها من ألم ففي إحدى لحظاتالتجلي في الفراش بعد تجرع عدة زجاجات من النبيذ الأبيض وجدت أنه من السليم أنتعترف لماركو بالأمر.. فهو حبيبها الأول والأخير.. وهو قسيسها الحقيقي الذي يجب أنيتلقى اعترافاتها وفعلا اعترفت له وهو راكب فوقها ووصفت له المضاجعة بالتفصيل فتحولتلذتهما إلى لذتين ولم يغضب أو يحقد أو يشعر بالغيرة.. خاصة أنها قالت له إنها نزوةليس إلا وبالمقابل اعترف لها هو في اليوم الثاني وهما في الفراش بأنه ضاجع في روماعازفة كمان وعازفة تشيلو وأيضا مديرة الأوبرا التي بعد المضاجعة مباشرة رفعت لهأجر العقد بنسبة 25 %.. وأصبحت هذه الأمور غير مؤثرة في حياتهما ولا تعتبر خيانةأو تذبب عرى الحب.. مازال الموضوع لم يتحصلا عليه.. رغم البحث الذهني المضني.. وفيالنهاية اقترحت عليه أن يخرجا إلى شوارع المدينة ويتجولان فلربما وجدا موضوعامقنعا في طريقهما.. لكن قال لها ربما نتعرض للخطر بسبب دخولك المسيحية ويتمالاعتداء علينا.. قالت له لا تخف.. لن نذهب إلى المدينة.. دعنا نذهب إلى حيالمحيشي.. وهناك الكل يعرفني ويرحب بي ولا يعارض حريتي في اختيار ما أحب أو اشتهي.

العاشرةصباحا انطلقا في سيارة أجرة من جليانة إلى حي المحيشي وعندما عبرت السيارة جسرالعرائس وهو الذي يربط بين منطقة جليانة ووسط المدينة وانعطفت شمالا متجهة صوبالبحر ووصلت إلى مفرق الطرق القريب من الميناء  لاح لهما ازدحام كثيف لأناس وأفراد عديدينوآليات شركات الأمن تطوقهم ولافتات مرفوعة.. قال السائق دون أن يسأله أحد مركزانظره على المرآة لرؤية رد فعل ماركو وحنان: "إنها مظاهرة لأسر عائلات ضحاياسجن بوسليم لمعرفة مصير رفاتهم ولرفع قيمة التعويضات التي تقدمها الدولة الآن فينطاق برنامج المصالحة ولم الشمل وبناء ليبيا الغد".

نظرتد. حنان في عيني ماركو فرأت دمعة بها صورة أخيه في الرضاعة شرح البال الذي قبضعليه ولم يعرف مصيره حتى الآن.. نظر في عينيها فرأى في عينيها دمعة بها صورة خالهااسلومة الذي فُقِد هو أيضا ولم يعرف مصيره حتى الآن.

قاللها أعتقد أننا وجدنا موضوع الأوبرا فابتسمت وطلبت من السائق التوقف.. خرجا منالسيارة وهرعا إلى المظاهرة مشاركين فيها بحماس هاتفين بالهتافات التي تهتف بهاأسر الضحايا.. والمعلوم عن أحداث سجن بوسليم الليبي أنه قد تمت تصفية أكثر من1200  سجين أعزل بالرصاص نتيجة تمرد قصير احتجزوافيه بعض حرّاسهم من أجل تحسين أوضاعهم الإنسانية داخل السجن ومحاكمتهم محاكمةعادلة وبعد قتلهم لم تسلم جثامينهم لعائلاتهم ولم تبلغ العائلات بموت ابنائها إلابعد سنوات طويلة.

طفقد. حنان وماركو يهتفان بحماس مع المتظاهرين.. الهتافات متنوعة وتتغير تلقائيا منحين لآخر فهذا هتاف يهتف بـ:

نحنمانبوش افلوس.. نبو الغائب والمحبوس.

نحنما نبوش افلوس.. نبو قطّاعين الروس.

ياحكومة وين ضنانا... لا في حبس ولا جَبّانة.

ياليبيا نبو الحقيقة.. في يدك مليون طريقة.

حيهعلى عويلة بنغازي.. كل نهار مغير تعازي.

حيهعلى رجالك يا برقة... كل نهار تجينا ورقة.

نبكينين عميت عيوني.. ع اللى رشّوهم دكنوني.

مانبو حَقّ العمارة.. نبو اللي يتمتوا صغاره.

والهتافاتتعكس مطالب أسر الضحايا بشان هذه القضية.. يريدون معرفة مصير المختفين والمقتولينورفاتهم ولا يقبلون بالدية والنقود ويرغبون في معاقبة المسؤولين عن هذه المذبحة الشنيعةويطلبون من ليبيا - ويعنون بكلمة ليبيا أعلى سلطة في البلاد - إظهار الحقيقة لأنفي يديها الحل والربط وبإمكانها إظهار الحقيقة بأي شكل من الأشكال.

ولمنيرغب في قراءة متابعة شاملة  لجانب منمعاناة هذه الأسر الجريحة يمكنه الدخول إلى موقع صحيفة الوطن الليبية لقراءةمتابعة بعنوان "بوسليم وحقيقة التأخير" للأخت الكاتبة شريفة السنوسي الفسي نشرت بتاريخ 3-9-2009م وقد استفدت منتلك المتابعة الجميلة حيث نقلت عنها معظم الهتافات وبعض المشهدية لأم تبكي ابنهاالشاب.. فشكرا جزيلا للكاتبة المبدعة.

المسيرةليست كثيفة.. الناس مازالت خائفة.. لا تستطيع أن تشارك في مسيرات كهذه.. وهذهالمسيرة لم تكن عشوائية.. وتنظم بعلم السلطات وتكون دائما تحت المراقبة وتحت عدساتالتصوير ليمكنهم معاقبة أي تجاوز قد يحدث.. مراسلو الصحف والمجلات والفضائياتالمتابعون لمثل هذه المسيرات المبرمجة كلهم موالين للدولة ومسجلين في مكاتب الإعلام الداخلي والخارجي ويعرفونالمدى الذي بإمكانهم مسه ومراسلاتهم لابد وأن تمر على الرقابة وعلى أعتى بصاصيالبلاد.. المشاركون في المسيرة بضعة نسوة وعجائز وبعض الأطفال والشباب من أسرالضحايا..

معظمضحايا بنغازي من الشباب الذين قطع المقص الذهبي سررهم.. حيث يجعل شكل السرة علىهيئة قلب صغير.. وجد ماركو في المظاهرة صديقه جاب الله فعانقه بحرارة.. كان جابالله يهتف بحماس وبتأثر.. بعد أن هدأت الهتافات سأله من لديك في مذبحة بوسليم..قال جاب الله بحزن نسيت أن أخبرك ذلك اليوم في الحديقة لأنك تبكي أخاك ولا تنقصكهموم لكن الآن الكل حزانى.. دعني أقول لك أنه لدي أخي علَيوة.. لقد خرطوه (اختطفوه)ذات صباح من أمام البيت.. عندما كان منهمكا في تنقية الخضر التي يبيعها أبونا منالثمار الفاسدة.. قالوا أنه زنديق.. وما هو بزنديق.. هو إنسان بسيط  حبّوب دائم الابتسام.. يلاعب الأطفال ويتاجر فيالعشية في بعض قطع الغيار القديمة في سوق النملة ومستواه الدراسي رابعة ابتدائي وجميلوصادق ونبيل وكريم وقوي وفنان ورسام وعازف زمّارة ومطرب وصياد ودمه خفيف وصاحبفكاهة ومروءة وذكاء وسعة صدر ومحبوب من كل النساء ومن كل فتيات حي المحيشيالسمراوات والقمحيات والشوكلاطيات.. بصراحة أخي لا يوجد له شبه.. ولن أعوضه أبدا..لا ندري ما التهمة.. لم نجد أحدا لنسأله.. ذهبنا أكثر من مرة إلى سجن بوسليم ولمنتمكن من زيارته.. كل مرة نترك له بعض الملابس والمؤن ونعود في الحافلة إلى بنغازيحي المحيشي.. منذ سنوات سمعنا أن هناك مجموعة كبيرة قتلت في بوسليم.. لا ندري هلأخي منهم أم لا.. عرفنا أنه قتل أخيرا.. وصلتنا ورقة رسمية من الدولة بها خبروتاريخ قتله.. وأخذ يبكي وماركو يصبّره وتعالى الهتاف الذي شارك فيه جاب اللهبهستيرية:

حيهعلى رجالك يا برقة.. كل نهار تجينا ورقة.

وبعدأن هدأت حدّة الهتاف سأل جاب الله ماركو: وأنت ما الذي أتى بك إلى هنا؟ وهنا تدخلتالدكتورة حنان قائلة: إنها الصدفة.. كنا في الطريق إلى زيارتكم في حي المحيشيفوجدنا هذا الزحام الذي علمنا أنه مسيرة لأهالي ضحايا مذبحة بوسليم فأحببناالمشاركة دعما للحق ومناصرة للمظلومين المغدورين.. لكن يا أستاذ جاب الله حتى نحنلم ننج من هذه المذبحة فماركو كما أخبرك سابقا لديه شرح البال أخوه بالرضاعة منضمن الشهداء وأنا لدي خالي اسلومة ابن الحاج ونيس اشنابو الله يرحمهما.

أخذأحد المشاركين يقرأ بيان المظاهرة الذي يحتوي على مطالب أهالي الضحايا المتمثلة فياستعادة جثت الشهداء والاعتذار من قبل المسؤولين عن هذه الجريمة ومعرفة هؤلاءالمسؤولين وتقديمهم للمحاكمة وغيرها من المطالب وأثناء تلاوة البيان الجميع صمتليستمع بينما أخذت آلات التصوير والتسجيل تسجل وتصور كل شيء.. قرب المنصة التييقرأ منسق عائلات الضحايا البيان عليها.. لمحت سليمة مدير مستشفى المحيشي السابقالذي حاول أن يتحرش بها فحولت نظرها نحو جاب الله الذي هزهز لها رأسه أمارة الفهمالمشترك.. يبدو المدير السابق في هذا المشهد كرجل أمن بالعربي بَصّاص.. حيث ليسلديه أحد من أسرته في مذبحة بوسليم ومن خلال  حرصه على تثبيت آلة تصويره الرقمية في صدارةالمشهد على الرغم من أنه ليس من الصحفيين يفهم المرء أن هذا الشخص من المكلفينبتسجيل و تصوير كل شيء وما إن التقت عيناه بعيني د. حنان حتى اكتنفته قشعريرةوارتباك  لكن سرعان ما تدارك الموقف وتمالكنفسه ووجه آلة التصوير نحو د. حنان وزوجها ماركو.. ثم ابتسم ابتسامة ماكرة معبرةعن الانتصار من طرفه وواصل عمله في رصد كل الوجوه التي شاركت أو تابعت المسيرة حتىمن بعيد.. كانت يده دائما على خرطوم العدسة الأمامي يلفه ليقرب الأشياء أكثر ويزيدمن وضوحها.. بعد أن أتم منسق أهالي الضحايا قراءة البيان لفت اللافتات والأوراقوأنزلت صور الشهداء من على الحوامل.. كل اللافتات تسأل أين أبي.. أين أخي.. أخذتمأبي حيا فردوه لي على الأقل ميتا.. غوانتانامو تعذيب.. أبوغريب تعذيب.. أبو سليمقتل وترهيب.. ركض المصور البَصّاص ومدير المستشفى السابق بآلة تصويره نحو عجوز تجلسفي ظل شجرة النَّمّ الكبيرة التي تتوسط حديقة الملح ليعرف سبب الزحام حولها ويصورهويسجله.. اقترب من الحضور وحشر نفسه بين اثنين وأطل برأسه ليجد العجوز تبكي وتقولما نبيش فلوس.. أعطوني بس حيطة نبكي عليها.. وتعني شاهدة  قبر لابنها الشهيد المغدور والذي يبلغ من العمرحوالي 18 سنة.. كان بجانبها صورته المؤطرة الجميلة.. شاب سمين قليلا تظهر على وجههآثار الصحة والنعمة.. هادئ الملامح.. نظرته مطمئنة.. وبجانب الصورة عرضت رسالة منهكتبها بخط عفوي.. ليس جميلا لكنه مقروء.. كتبها بقلم جاف..  يبعث فيها سلامات لكل فرد من أفراد أسرته ويصرعلى أنه برئ ويسأل والده كيف لم يطلق سراحه الأمن الداخلي حتى الآن ويصف قضيتهبلغة ساخرة أنها كقضية الشرق الأوسط.. كما يوصي في رسالته بأن لا يضرب أحد أختهالصغيرة وأن يتم معاملتها بواسطة النصيحة.. ولعل طلبه عدم ضرب أخته ونصيحتها بالتيهي أحسن يوضح لنا حب هذا الطفل القاصر للسلام ونبذه للعنف من نعومة أظافره.. هذهالرسالة التي دونت في ورقة من أوراق كراسة إملاء لم تكن رسالة في الأساس بل هيوصية من طفل شعر في أعماقه أنه لن يعود إلى كنف أسرته إلا في الأحلام.. التقط  البصاص لقطة قريبة للعجوز مع صورة ابنها وصورةالرسالة التي تعرضها في حضنها على الملأ.. ثم لم يبق هناك زحام وحاول النظر في كلالاتجاهات عله يرى د. حنان وزوجها وصديقهما جاب الله لكنهم اختفوا في ميدان سوقالحوت ومنه صعدوا إلى البحر ليستقلوا تاكسي إلى حي المحيشي حيث دعاهم  جاب الله إلى الغذاء.

نظرالمصور البصاص هنا وهناك ثم فوق حيث أشجار النَّمّ متشابكة الأغصان وسمع صوتارتطام خفيف لشيء على النجيلة فهرع  يجري نحوهليلتقط  له صورة حيّة إن كان مهما.. فوجده طائرخليش أسود قد أسلم الروح.

لميكلف جاب الله نفسه بشأن إعداد وليمة للعروسين.. فالجود من الموجود.. وكان البارحةقد رمى جردل البرنقالي في بحر المنقار القريب من حي المحيشي وسحبه عند الفجر ليجدهمملوءا بالخير والبركة.. وزع من السمك المصطاد على الجيران والباقي أمر زوجته أنتعد له منه وجبة حرايمي.. قبل أن يخرج صباحا من أجل المشاركة في المسيرة سألها هلينقصك شيئ بخصوص الحرايمي.. فيه زيت.. فيه فلفل.. فيه بصل.. فيه ثوم.. كمون حوت..أجابته أنه يوجد كل شيء وإن نقص شيء سأرسل وليدي بلال أو أخته مبروكة لجارتناحليمة فيحضره منها.

تجمعتالجارات في بيت جاب الله وهنأن العروس د. حنان وقدمن بعض الهدايا والزغاريد ثمغادرن ليتركن الضيفة ترتاح كذلك هنأ العديد من الرجال جيران جاب الله ماركو بزواجهوتمنوا له حياة هانئة.

حانوقت الغداء ووضع صحن من الحرايمي أمام جاب الله وماركو والطفل بلال.. بينما الصحنالآخر جلست حوله د. حنان وزوجة جاب الله خديجة.. لم يتناولوا ثلاث تغميسات حتى طرقالباب بعنف.. بل دفع واقتحم البيت عدة رجال مسلحين معهما المصور البصاص الذي يبدوأن رتبته ضابط حيث صار يصرخ في مرافقيه فتشوا البيت ودخلت أيضا مع المسلحين المدنيينسجّانتان قبضتا على د. حنان واقتيد الجميع إلى سيارة ضخمة شكلها مرعب.. أُركِبفيها ماركو ود. حنان بينما جاب الله صرخوا فيه ابعد يا اعبيد مااندوّروش فيك.. بعدايجي دورك ورينا هالعياط والزيطة والزنبليطة.. تركوه في حال سبيله وسط صراخه واحتجاجاتهعلى اقتحام البيت وعلى القبض على ضيفيه.. لم يهتموا بصراخه وبلعناته المتتاليةوغادرت السيارة بالمطلوبين مثيرة خلفها غبارا ودخانا كثيفا.

الكثيرمن الجيران خرجوا من بيوتهم رغم القيظ بسبب الضجة والكل صار يقول لا حول ولا قوةإلا بالله و يهدئ من روع وغضب جاب الله ويطلب منه الصبر وقادوه برفق حتى أدخلوه إلىبيته حيث وجد ابنه بلال وابنته مبروكة يبكيان ويحومان حول أمهما التي أغمى عليهاوفي يد بلال كوب ماء يرشرش منه على جبينها الأسمر.

خرجماركو من السجن في اليوم التالي بسبب تدخل سفارته وأفهمه مندوب السفارة أن أخوةالرضاعة أخوة غير معترف بها رسميا وأن هذا الموضوع شأن داخلي نحن كرعايا أجانب فيهذا البلد لا يخصنا من قريب ولا من بعيد ووقعوه على تعهد بأن لا يتكرر مثل هذاالأمر وإلا سُفِّر من البلاد خروج نهائي.

بينماد. حنان خرجت من السجن بعد يومين بسبب تدخل راعي الكنيسة في البلاد وأيضا السفارةالفرنسية في طرابلس لكونهم أخوالها.. أفرج عنها ولكن وقعت على تعهد بعدم الزجبنفسها في مثل هذه المواضيع الليبية الخالصة ولأنها مسيحية وكانت مسلمة فأعلمت أنهلو يتم إثارة موضوع تغيير الدين من جديد فليس من صالحها وستتعرض لمتاعب كثيرة قدتصل إلى حد الاعتداء والتصفية.

بعدأسبوع غادر ماركو ود. حنان إلى إيطاليا من أجل تجهيز الأوبرا التي تعاقد علىإنجازها ماركو وبالطبع أخذا معهما الحاجة سليمة أم د. حنان التي ربتها لتعيش بعضالأيام المريحة في بر الطليان.. لم يقتنعا بالقيام بالتجارب في شحات.. قد يتعرضونلمتاعب.. وقد يقتحم  رجال الأمن المكانخاصة وأن البدو لديهم قيسطو (عشق وحب) بالسلطة والتهديد والبوليس وجلب المطلوبينبطريقة عنيفة.. أيضا لن يسلموا من تطفل الأمن الثقافي بواسطة الزيارات المفاجئةلموقع التدريبات وطلب الموافقات من أجل استخدام مسرح الآثار بقورينا وغيرها منالمضايقات والإزعاجات التي قد يتسبب فيها مثل هذا البوليس القذر.. وهو بالمناسبةأقذر أنواع الشرطة لأن زاده الأساسي هو النفاق والتطبيل والتزمير والرقص والردحوغيرها من أشكال التزلف والزمزكة والقوادة.. لن يتركك أحد تبدع بحرية بدون مراقبة..أما في إيطاليا فسنقيم التدريبات على الأوبرا بصورة أفضل وعلى راحتنا ولن يضايقناأحد.. سلما الشقة للشركة التي تملكها ومن مطار بنينا طاروا إلى روما.. وفي روماكان الجو ملائما لإجراء التجارب متخذين من شخصية جاب الله ومعاناته بسبب فقدهلأخيه الوحيد علَيوة موضوعا للأوبرا.

كانمن المفترض أن يضطلع بتأليف الأوبرا وإخراجها موسيقار ليبي كون القضية تهمه وتمسهومكتوٍ بنارها من قريب أو من بعيد.. لكن لعدة أسباب لا داعي لذكرها الآن فضلنا أنيقوم بتأليفها شخصية إيطالية اسمها على اسم القديس الليبي مرقس الانجيلي وهي شخصيةماركو.. وذلك كون الفن الأوبرالي أولا أقرب للطليان من كل دول العالم وثانيا لأنالمؤلف إيطالي يستطيع أن يتحرك بحرية وأن يكتب بحرية أكثر دون خوف أو ضغوطات نتيجةالحماية المتوفرة له من دولته ومن العالم.. بينما الموسيقار الليبي لا أحد يحميهلا دولته التي ذبحت أكثر من 1200 روح إنسانية في لحظة واحدة ولا العالم الذي ما إنيعرف أن الضحية ليبية أو السجين ليبي حتى يغض الطرف ولا يتحرك وكأن هذا الليبيإنسان من الدرجة العاشرة وإن فعلها لمصلحة ما وتحرك فبضع ربطات من الدولارات أواليورو تجعله يصمت ويبتسم.

ولكنالذي جعل الأمر جيدا هو أن الموسيقار ماركو إيطالي الجنسية لكنه ليبي المعاش.. فهوولد في ليبيا ورضع من حليب ليبي وكل حياته قضاها في ليبيا وعظام وتربة والديه فيليبيا وفي مدينة محورية ومفصلية في تاريخ ليبيا والعالم وهي بنغازي ويجيد التحدثوالتعبير باللهجة الليبية ويعرف كل شيء عن العادات والتقاليد الليبية.. بل يفهمجيدا ويكاد يكون شبه متخصص في كل أنواع الفن الليبي.. خاصة غناء المرسكاوي..والدراما الليبية..  أضف إلى ذلك أنه عاصركل الأحداث التي مست الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والرياضي في ليبيا وشاركليبيا في حلوها ومرها حتى أنه أثناء الغارة الأمريكية على ليبيا في منتصف شهرالطير ابريل 1986م.. شعر أن بلاده هي التي تُقْصَف.. وهذه القنابل لا فرق بينهاوبين القنابل التي اختطفت منه والديه في زنقة سيدي خريبيش.. نما وجرى في دمه حبالانتماء لهذا الوطن العظيم  فلم يهرب إلىالغابات وإلى المشاريع الزراعية ولم يحرق ملفات حبّه لهذا الوطن كالكثير من مدعيالشجاعة والتضحية المنخرطين في حركات اللجان الثورية إنما وقف في وسط المدينة مرتديالباسه الليبي (كاط المَلْف) الذي أهدته له أمه الليبية في العيد.. وقف في وسطالمدينة متكئا على شجرة النَّمّ بحديقة الملح معلنا التحدي والصمود شاهرا سلاحهالبسيط وهو عصا زيتون متينة مادا يده الأخرى لطالبة الطب حنان التي نقرتها بسلاحهاالمقص الذهبي وسحبت من دمه كيسين وضعتهما في الحافظة مع أكياس بقية المقاتلينبالدم من عشاق ليبيا الحقيقيين وهرعت بها في سيارة إحدى المواطنين البنغازيينالشجعان إلى المستشفى لإسعاف الجرحى والحرقى.

لميكن الموسيقار الإيطالي الليبي ماركو غريبا عن أحداث مذبحة بوسليم فأخوه بالرضاعةشرح البال كان من ضمنهم وهو لم يقتنع بعدم شرعية الأخوة بالرضاعة وعدم الاعترافبها.. وسأل نفسه لماذا يعترفون بها بالنسبة لقضايا الزواج ويمنعون الزواج للأخوةبالرضاعة بينما في بقية شؤون الحياة كقضية بوسليم أو في الميراث أو غيرها لايعترفون بها.. ما دام الإسلام وشرائعه تعاملت مع القضية واعترفت بها وطبقتها فيشأن رفيع وجليل ومهم وهو الزواج على سنة الله ورسوله فإذن علينا أن نعترف بأنالأخوة بالرضاعة كالأخوة بالدم وهو يعتبر أخاه شرح البال كأنه ولدته أمه مارياالمالطية من بطنها.

غادرماركو وحنان إلى جزر الجنوب الإيطالي: "تراميتيواوستيكا وفافينيانا وغاييطا وبونزا" حيث الوجوه والأجواء والمناخوالعادات والتقاليد قريبة من ليبيا.. بل الكثير من أهالي هذه الجزر و جنوب إيطاليابرمته يعودون بأصلهم إلى ليبيا وينحدرون من سلالة المنفيين الليبيين للجزرالإيطالية إبان الاحتلال الإيطالي لليبيا الذي بدأ عام 1911 م.. فأولئك المنفيينمنهم من لم يعودوا إلى ليبيا وعاشوا في إيطاليا مكونين أسراً جديدة والذين عادوالا يمكننا الجزم بأنهم لم يمارسوا الجنس على الأراضي الإيطالية ويتركوا هناك جيلاليبياً وضع بصمته الجينية على خارطة ملامح الإنسان الإيطالي الحالي.

وهناكصحبة الفريق الفني من مطربين وراقصين وعازفين وغيرهم من تقنيين بدأوا العمل.. بعدأسبوع أرسلوا إلى جاب الله ومعه بعض عازفي الموسيقا الشعبية والذين أنهواإجراءاتهم وحضروا في الموعد وانهمكوا مع فريق العمل  في التجارب.. حيث كُلف جاب الله وعازفيه بتأديةوصلة من غناء المرسكاوي تم توظيفها داخل الأوبرا.. مع القيام بأداء بعض المشاهدوالحوارات التي تخدم العرض.

تمجلب عدة فنانين في مجال الغناء والرقص والموسيقا والملابس والصوت والإضاءة والتنكروألعاب السيرك والديكور والسيناريو وكل ما يحتاج إليه هذا العمل الأوبرالي الضخم.

أدخلرئيس العمل ماركو الجميع إلى معسكر فني مغلق أمتد ستة أشهر.. وبعد ستة أشهر منالتجارب الشاقة كان العرض التجريبي الذي عرضته الفرقة في العاصمة روما وحضره الكثيرمن الضيوف من أعضاء الحكومة ورؤساء الأحزاب الإيطالية ورجال دين وأعضاء السلكالدبلوماسي ومشاهير في مجال السياسة والاقتصاد والرياضة والفن والأزياء وغيرهم..وبعد مشهدين أو ثلاثة حدثت ضجة في الصفوف الخلفية بالمسرح وصراخ إنسان  بعبارات من هذا النوع: هذا لا يمكن عرضه.. هذاغير مسموح به.. هذا كذب.. هذا تلفيق.. هذه إشاعات.. هذه عملية تشويه تدعمهاالامبريالية والصهيونية.

واقتادرئيس لجنة النظام المشوش على العرض وسط استهجان الحضور الذين يعيشون متعة الأوبراإلى الخارج.. لقد كان هذا الصارخ هو الملحق الثقافي الذي أرسله سفير ليبيا ليمثلهفي هذا الحفل.

فيالردهة ظن رئيس لجنة النظام أن الرجل قد كرع الكثير من  كؤوس النبيذ الطلياني العتيق من البوفيه الحر الذيقُدم للضيوف قبل بدء العرض.. لكن احمرار خديه ومشيته المعتدلة وعصبيته وإخراجهللهاتف النقال من جيب بذلته السموكن ومهاتفته طرابلس مباشرة ونقل صورة حية للمشاهدالتي تعرض الآن من قبل أوبرا المدعو ماركو.. بل طالب إن كان هناك صاروخ يصل إلىمكان الأوبرا فمن الممكن إطلاقه عليهم الآن بلا تردد فقط أعطوني خمسة دقائق لأركبسيارتي الألفا روميه وأبتعد.. يدل أنه متماسك وغير ثمل.

هذهالأثناء خرج من باب جانبي الفنان جاب الله الذي أدى المشهد الأول حول القبض علىأخيه ثم تصوير مشهد قتله وكيف هي لحظة الرعب التي استقبل بها رصاصات مخزن الكلاشنكوف في كل أجزاء جسمه النحيل وهو جائع مريض ملابسه متسخة مهترئة ممزقة وأعزل حتىمن دبوس صغير وكيف صرخ في الجندي وهو يتلوى متألما متلقيا رصاصاته أنت جبان وأشهدأن لا إله إلا الله والجندي يطلق النار وهو في حالة هستيرية صارخا: خوذوها يازنادقة يا أعداء الشعب.

لقدأبدع ماركو في تلحين صوت إطلاق النار عبر آلة أورغ قديمة نغماتها مثل الضراط النتن..وأبدع في تلحين صرخات الضحية أو الشهيد عبر آلة بيانو.. تنغم كل صرخة وتجعلها كصوتنورس ينوح وقت الأصيل.. اتجه جاب الله نحو الرجل الذي صرخ.. الواقف مع رئيس لجنةالنظام وقال له الأفضل أن تكون متأدبا وأن تصمت أثناء العرض مثل بقية الحاضرين لكنيبدو أنك لا تفهم في الفن والثقافة وأخذه من يده قائلا لرئيس لجنة النظام لا عليكنحن ليبيون سنتفاهم مع بعض إن أدخلته القاعة سيكون أخرس وإن كان يريد التشويش فسوفأطلب منه مغادرة المبنى.. انزوى جاب الله بالملحق الثقافي إلى غرفة البوفيه وسكبمن قنينة القرابّا الإيطالية ملأ كبايتي شاي.. ناوله كأسه فشربه دفعة واحدة وأيضاجاب الله ومع قطع الجبنة وحبيبات الزيتون تناولا حوالي 5 كؤوس.. بعدها قال له شندوتك كَنّك داير دوشة.. قال الملحق الثقافي بصراحة أنا ارتحت لك وأنا أيضا لديصهري من ضحايا أبو سليم وبصراحة أبدعت في تصوير الجريمة.. لكن عملي يحتم علي أنأتصرف كذلك.. الآن أنا في السليم.. قمت بالواجب.. اعترضت وغدا سأكتب تقريرا وسنطلبتفسيرات من وزارة الثقافة الايطالية حول هذا العرض العدواني الذي يسئ للعلاقاتالأخوية بين البلدين.. أنا لست مثقفا.. أنا عسكري.. أتعامل بمنطق هذا معنا هذاضدنا.. أنا هنا ملحق ثقافي لكن عليّ الطلاق عمري ما قريت فيها كتاب.. كلما أمسككتابا لأقرأه أنعس وأنام.. إن لم أفعل ما فعلت يا وخيي أعاقب.. أنت تظن أنه ليسهناك بصاصون طليان داخل الحفلة يكتبون للأمن الليبي أن مندوبكم الرائع سعيد بالعرضولم يحتج ولم ينسحب.. ورضى أن تهاجم ليبيا أمامه.. أنا ما عنديش ثقة في حد.. حتىفي هذا الجدار.. هكذا علمتني الحياة..  تصرفيسليم مليون في المليون.. وخطّرها على المليون الثاني أشوي ونقفل عليه.. إن لم أفعلسينقلونني من جو إيطاليا المليح إلى دولة إفريقية معفنة أُصاب فيها بالملاريا أويعيدونني للبلاد لأدفن في أحد المعسكرات أو المكاتب المغبرة.. أنا هنا في روما إمبراطور..مبحبح.. نبزنس على حالي.. كل شيء عندي فيه نسبة.. كوميشن.. نصدر سيارات للبلاد..نصدر مصانع.. شاحنات.. كنادر.. أي شيء فيه مكسب.. وبير تشرب منا المي ما اتلوحشفيه رشادة وما اتشخش أو تشل فيه.. ومع الدور السادس من القرابّا قال له جاب اللهخلاص فهمتك ولا يهمك طقطق على حالك.. استأذن الآن دوري القادم مازال عليه خمسدقائق.. قال الملحق الثقافي خذني معك أتابع العرض من وراء الكواليس ولن أحدث لك أيمشكلة.. قال جاب الله تعال وأنا أثق فيك لأنه ممنوع يدخل للكواليس أي شخص ليس منفريق العرض.. كان غرض الملحق الثقافي من دخول الكواليس هو أن يكتب تقريرا سمينابعنوان متابعة مهمة من أمام الكواليس ومِنْ خلفها ومَـنْ كان خلفها من دوائرمشبوهة؟! متابعة من قلب الحدث.. ووراء الكواليس سيشاهد وجوها أخرى ربما يضمنهاالتقرير ومن يدري ربما هذا التصرف قد يدفع به إلى سفارات أفضل في لندن أو باريس أوحتى قطر قناة الجزيرة حيث البزنس حالته ممتازة جدا.

استفسرماركو بنظرة إلى جاب الله حول جلب هذا الشخص قرب فريق العمل الفني لكن جاب اللهغمزه علامة الاطمئنان فذهب القلق عن وجه ماركو وواصل قيادة الأوبرا محركا يديهومميلا جذعه.. لم تكن في يده عصا قيادة الاوكسترا.. كان في يده المقص الذهبيالجميل الذي اتفق مع زوجته د. حنان أن يستخدمه كعصا قيادة.. تم تجريبه أثناءالتدريبات وكان لمعانه جيدا وأحيانا يشارك به ماركو الموسيقيين كإيقاع مكمل عبرتحريك خفيف لطرفي المقص قرب أذنه مصدرا صوتا ذهبيا يضفى على أنغام النحاس والجلودوالأوتار المشدودة بعدا جماليا شجيا ورائعا.. إضافة لأن له مع هذا المقص ذكريات لاتنسى امتدت لأكثر من جيل.. فوجوده معه يبعث في نفسه اطمئنانا وثقة ويشعر أنه ليسهو قائد هذا العمل الفني الكبير.. إنما معه زوجته د. حنان وأمها الفرنسية المرحومةوأمها الحاجة سليمة وصهره المرحوم الحاج رمضان المسلماني وكل أهل بنغازي وكلالمواليد الملائكيين الذين قطع هذا المقص حبالهم السُّرية لينقلهم من حياة الظلماتالدافئة إلى عالم الضياء الدنيوي الزاخر بالألم والسعادة وكل شيء.. بالإضافة إلىأن هذا المقص عايش صراخ المواليد وعايش صراخ عمليات الختن.. الأوبرا صراخ.. والمقصرائي للصراخ وسامع ومسبب فيه ضروريا.. وضحايا بوسليم نقشوا أقوى وأطول صرخة جماعيةفي التاريخ.. لقد استغرب في بادئ الأمر أمهر فناني الأوبرا والروك الإيطاليينأمثال: "بافروتي وفورنسياري والكفيف بوتشيللي وغيرهم".. الذين حضرواقسما من التجارب النهائية دعما وتشجيعا للفنان الإيطالي الليبي ماركو من وجود هذاالنغم الجديد في أذانهم وتفحصوا بنظرهم وسمعهم كل الآلات الموسيقية ليكتشفوا فيالنهاية أن هذا النغم يصدره المقص الذي يقود به ماركو فرقته الموسيقية واستحسنواالأمر وفي فترة الراحة تناول فنان الأوبرا الكبير بافروتي المقص وعزف به عدةإيقاعات سريعة راقصا بمرح وسعادة.. قبل أن يغادر الضيوف طلبت حنان بجرأة أن تأخذتذكارا من الفنان الإيطالي العالمي بافروتي تختاره بنفسها ووافق بافروتي وتقدمتحنان بالمقص من بافروتي وقصت خصلة صغيرة من شعر لحيته الأنيقة فصرخ الجميع إعجاباوصفقوا للمشهد كثيرا وقام بافروتي بمعانقتها وتقبيلها في الجبين.. لم يتمكن بافروتيمن العودة مجددا لمتابعة التجارب وإعطاء بعض ملاحظاته الفنية بسبب المرض الذي اشتدبه حتى فارق الحياة.. حضر ماركو ود. حنان مراسم التشييع وإلقاء النظرة الأخيرة..لقد كان جثمانا مهيبا.. وجهه الملتحي يبدو كقديس أدى رسالته وأسلم الروح في سعادة..كانت د. حنان قد شكلت من شعيرات بافروتي التي قطعتها تحفة فنية.. عند النظر إلىتشكيل الشعيرات فيها تظهر لك عبارة نحن نحب بافروتي باللغتين العربية والإيطاليةوبلغة أخرى غير معروفة تقول عنها د. حنان إنها لغة الفن والحب التي لا يفهمها ويستعملهافي هذه الحياة إلا نفر قليل من ضمنهم الفنان الكبير بافروتي.. عندما جاء دورهالإلقاء النظرة عرضت تحفتها على الجسد المسجى في التابوت وخيل لها أن بافروتي ازدادنورا وابتسامة جبينه قد أخذت في الاتساع.. لقد هطلت دموع كثيرة بصورة فجائية منعيني د. حنان حتى اضطر ماركو إلى حملها بين ذراعيه إلى غرفة جانبية لترتاح من ألمالحزن.

أُجلِسالملحق الثقافي الليبي على مقعد جلدي وثير وقدمت له مضيفة الفرقة الجميلة  قنينة قرابة صغيرة وصحن صغير به جبن وزيتونومكسرات وسحبت له من درج بالبوفيه كتاب الكوميديا الإلهية لدانتي باللغة العربية قدمتهله مع ابتسامة.. أخذ يرشف من فم القنينة ويتصفح الكتاب ويحاول بين الحين والآخر أنينصت ويرى.. لم تمض ربع ساعة من الأوبرا حتى غط في نوم عميق وصارت كرشته تعلووتهبط بانتظام وشخيره عال وحتى لا يؤثر على وصلة الموشح وعزف العود للفنانة د.حنان التي تغني الآن قصيدة المنفرجة فقد تم حمله من قبل جاب الله وعامل النظافةإلى غرفة جانبية في مؤخرة الركح.   

كانتد. حنان تقرأ حينا وتتغني حينا بقصيدة المنفرجة ويصاحبها مستشرق شيشلياني يقترفهواية الطرب بترجمة لها.. هي تغنيها كما لحنها الليبي.. وهو في الفسحات الزمنيةيقرأ المعنى وكأنه يقرأ قصيدة شعر تصاحبه ترنيمات عود حنان التي استطاعت أن تحافظعلى أجواء المألوف عندما تتحول كلماته إلى سرد شعري.. الحضور الأممي لهذا العرضالتجريبي تفاعل وأنصت ووجد أن الموشح العربي هو أوبرا عظيمة من نوع آخر لم يمل منطول القصيدة مما جعل الفنانة حنان تعيدها مجددا يبدو أن كل مستمع له أزمة خاصةووجد لنفسه شرفة راحة في النص.. حنان تغني:

اشتديأزمة تنفرجي...  قد آذنَ ليلك بالبَلجِ

وظلامالليل له سُرُج...  حتى يغشاه أبو السُرُجِ

وسحابالخير له مطر...  فإذا جاء الإبان تجي

وفوائدمولانا جُمَل...   لسروح الأنفس والمُهَجِ

ولهاأرَج محيٍ أبدا...   فاقصد محيا ذاك الأرَجِ

فلربمافاض المَحيا...  ببحور الموج من اللُّجَجِ

والخلقجميعا في يد... فذوو سعة وذوو حَرَجِ

ونزولهمُوطلوعهمُ...  فإلي دَرَكٍ وعلى دَرَجِ

ومعايشهموعواقبهم... ليست في المشي على عِوَجِ

حكمنسجت بيدي حكمت... ثم انتسجت بالمنتسجِ

إلىآخر أبيات القصيدة:

ومعاصيالله سماجتُها...  تزدان لذي الخُلُقِ السَّمِجِ.

كانالمستشرق لويجي يصاحبها بترجمة إيطالية باهرة ساعده ذلك تخصصه في الآداب الشرقية ورسالتهالأكاديمية الأخرى في كتاب الكوميديا الإلهية لدانتي.. كان قد تدرب مع حنان علىمصاحبتها في الأداء أكثر من ثلاثة شهور.. واستعان في ترجمة القصيدة بقواميسإيطالية ولاتينية قديمة استعارها من مكتبة صديقه الروائي امبرتو إيكو واكبت زمنالقصيدة في العصر الأندلسي أي في أزمان القرون الوسطى التي عاشتها أوروبا في ظلامدامس.

عندماتستمع إلى مغنى الأوبرا تحس أنه يغني بعواطفه.. فالصوت الخارج من فمه ليس به حروفتنطق إنما آهات وصرخات تعبر عن انفعالاته التي أنتجها الألم والرضا والفرح والحزنومجموعة المشاعر الأخرى التي يجد الإنسان نفسه في خضمها مجبورا على التعبير عنهاإراديا أو لا إراديا.

هذاالصوت الأوبرالي تواكبه موسيقا ورقصات وحركات تجعلك تعيش داخل ملحمة فنية يتعذرعليك الخروج منها أو النأي بنفسك عن المشاركة الوجدانية فيها.. الفن يتحول إلى مطريهطل على رأسك ويبللك.. وأنت حتما سترفض أن تجف وستظل داخل هذه الانتعاشة كل العمر.

العملالأوبرالي يعيش في النفوس ويمس اللاوعي ويساهم كثيرا في تشكيل ذائقة الإنسانويستقر دائما في وسط الذاكرة بكل أجزائه من كلمات وموسيقا وأداء ومشهدية بصريةوروحية.

فيسجن بوسليم كانت صرخة أكثر من 1200 إنسان أثناء ذبحهم بصورة جماعية هي الأوبراالحقيقية التي يتغني بها كل الفنانين الموهوبين داخل حديقة الملح العالمية..فالفنان يستطيع أن يجمع أكثر من 1200 صرخة متنوعة في حنجرته ويطلقها دفعة واحدة..صرخة حب وسلام في وجه الرصاص القادم نحو الأرواح الإنسانية.

أخيصرخ.. أخوك صرخ

ابنيصرخ.. ابنك صرخ

زوجيصرخ.. زوجك صرخ

أبيصرخ.. أبوك صرخ

عميصرخ.. عمك صرخ

خاليصرخ.. خالك صرخ

جدّيصرخ.. جدّك صرخ

جاريصرخ.. جارك صرخ

صديقيصرخ.. صديقك صرخ

حبيبيصرخ.. حبيبك صرخ

خطيبيصرخ.. خطيبك صرخ

معلميصرخ.. معلمك صرخ

شيخيصرخ.. شيخك صرخ

وطنيصرخ.. وطنك صرخ

والبنادقتفرغ الرصاص لإسكات تلك الصرخات.. لكن مطرب الأوبرا يبعثها من جديد.. تخرج منأعماق روحه عبر قلبه إلى نور العالم الممتلك لأزمان الحياة جميعها.

الموسيقاهي الأبجدية الحقيقية للصراخ.. حروفها لا تحصى.. كل صرخة تأتي بنغم جديد.. النوتةالموسيقية التي تكتب لا تعبر عن إحساس النغم كما ينبغي.. للصرخة مقامات.. درجات..  بحور وأوزان..  طعم ومذاق ولون ودرجة حرارة.. و ملمس.. الصرخةحزمة أحاسيس متألمة ومستريحة.. في سجن بوسليم كانت أحاسيس الصرخة متألمة.. متألمةإلى أبعد حد.. ليس بسبب الجرح أو النار أو الحرق الذي تحدثه الذخيرة الحيّة في جسدالإنسان إنما متألمة من جبن الإنسان وضعفه وهشاشته وقذارته أيضا.

الأوبراالتي ألفها وقادها ماركو الإيطالي الليبي زوج د. حنان بنت المسلماني عندما حان وقتعرضها رفضت دول المغرب العربي والشرق الأوسط أن تعرض على أراضيها لأسباب تتعلقبالمحافظة على العلاقات الجيدة المتينة التي تربطها بليبيا.. ولأسباب أخرى تتعلقبالوضع الداخلي لتلك البلدان التي تعج بالسجون العلنية والسرية أيضا وما يرتكبفيها من جرائم من قبل السلطات المسؤولة عن السجن وبتوجيه من قياداتها الأمنيةوالسياسية.

لقدبدأ جاب الله الأوبرا بعد مقدمة موسيقية رائعة أدخلت الحضور إلى عالم غير أرضي ولاسماوي.. بدأ الغناء صحبة موسيقا المقص فقط لتبدأ مشاركة بقية الآلات بالتدريج فبعدكل فاصل غنائي أو سردي أو تمثيلي تدخل آلة جديدة.. ليصل المشهد لذروته بمشاركة كلالعازفين والراقصين والممثلين وليهدأ المشهد فيما بعد متخليا عن الذروة تدريجياليعم الصمت إلا من صوت المقص الذهبي الخفيف الذي يمضغ بين حديه لا شيء يريد أنيقطع سًّرته فلا يجده فيقفل ماركو المقص بعد أن يجعل انفراجته على اتساعها ويداهإلى أعلى لتبزغ أنوار جديدة ويبدأ المشهد الثاني ويعود ماركو مجددا لقيادة الفرقةبمقصه.. المشهد الثاني تبدأه حنان بعودها الدمشقي يصاحبها عازف ناي حزين

ينتقلجاب الله في حكايته الدرامية بين كل أنواع الفن.. ينتقل برشاقة وبسرعة غير مستعجلة....يغني ويمثل ويسرد ويعزف ويرقص ويبكي ويضحك ويقوم بحركات رياضية.. يقوم بكل مايحتاج له المشهد من مكملات تجعل نسبة الفن به رفيعة وبسيطة وصادقة.. يقول لا أعتقدأن مسألة قبض بعض المال من خزينة الدولة تعني مصالحة وتخلٍ عن القضية الإنسانيةالخاصة بضحايا مذبحة بوسليم.. فمعظم أسر الضحايا فقيرة وتحتاج إلى المال من أجلالسكن والعلاج وتحسين ظروف الحياة.. لقد فقدت هذه الأسر أبناءها أو من يتكفلونبمعيشتها والصرف عليها وهم في عز شبابهم وعطائهم.. ولو كان أولئك الفتية الشهداءأحياء يرزقون ما احتاجت هذه الأسر لهذه المنحة الزهيدة التي لا تغني ولا تشبع منجوع بطني فما بالك بجوع روحي وظمأ نفسي.. لقد فقدت هذه الأسر أحلامها الطازجةوربيعها الشاب وسعادتها المتمثلة في موت أبنائها وهذه الأشياء المعنوية والوجدانيةيعجز مال العالم على صنع مثلها.. أضف على ذلك أن هذا المال من خزينة الدولة ومنثروة المجتمع التي يحق لكل مواطن ليبي أن يتمتع بها.. فالدولة دفعت المال لأسرالضحايا ليس من جيبها الخاص وليس من عرقها.. و لكي نحس بهذا التعويض يجب أن يكون هذاالمال قد جاء نتيجة تعب وبذل جهد و(عرَق أسود) كما نقول في تعبيرنا الشعبي.. أريدأن تتعب الدولة وتحمل أكياس الإسمنت على ظهرها.. أن تتصبب عرقا قرب الفرن الذييخلط خامات الإسمنت.. أن تحرث وتحصد أو تقف في مطعم لخدمة الزبائن منذ الصباح وحتىالمساء.. أن تعمل سائق لحافلة طوال اليوم مقابل ربع دينار للراكب.. أن تعمل في كنسالشوارع وتنظيف الأرصفة ومسح الزجاج أن تعمل في الجندية أو الشرطة أو الحرس البلديبراتب زهيد.. أن تقف للتدريس أربع وعشرين حصة في الأسبوع.. أن تحصد الزرع.. أنترعى الإبل في الهجير.. أن تعمل أي عمل به تعب يمكنها من جمع هذا التعويض ودفعهلأسر الضحايا.. لكن مال لا تعب فيه.. خزينة الدولة مليئة به.. أي غير وقّع وأرفع..لا يعتبر تعويضا إنما هبة من الدولة.. هبة لا منة فيها.. فأسر الضحايا من الليبيينالمحتاجين والمستحقين للثروة.. لقد قبل جاب الله المال لأنه محتاج وفقير ولا يملك بيتا أو سيارة ويسكن بالإيجار متنقلا منمكان إلى مكان والمكان الذي يسكنه الآن شقة صغيرة سقفها آيل للسقوط كل يوم تتهاوىمنه قطعة إسمنت بحجم المصطبة الصغيرة بسبب صدأ أعمدة الحديد التي جمعها والده رحمةالله عليه من مكبات مخلفات البناء ومن على قارعات الطرق المهملة.. كل صباح يخرجويعود عند الظهر جارّا خلفه بضعة أعواد حديدية معوجة ومطعجة يقضي بقية يومه فيتقويمها وإصلاحها وسط عرقه وسعاله المتواصل.. هو فقير.. يتقاضى مساعدة من التأمينالاجتماعي لا تتجاوز المائة دينار وليس باستطاعته بناء شقة لولديه إلا بهذهالطريقة.. فسعر طن الحديد غال في مصنع الحديد والصلب ولا يمكن الحصول عليه أيضاإلا بإجراءات معقدة أو بالطرق الملتوية عبر المرور بالسماسرة والوسطاء.. لقد تعبأبوه كثيرا في بناء هذه الشقة الصغيرة منذ عام 1979 م عام تخرجه من المعهد.. للأسفالشديد إن لم يتعب جاب الله من أجل أبيه بصورة مرضية.. ولكن شعر بالراحة عندما حضروفاته وأشرف على جنازته وسجل رقم قبره في هاتفه المحمول حتى عندما يزوره لا يتوهعن قبره.. ولكن حتى الآن لم يزره ولو مرة واحدة.. لكن حتما سيفعل ولو كانت زيارتهله ميتا.. لقد حاول أبوه أن يختصر التكاليف وأن يستفيد من المواد التي يرميهاالميسورون في الخلاء بإصلاحها واستخدامها.. لم يفعل هذا الأمر في بقية المواد التيبنيت منها الشقة.. فعله في الحديد فقط من أجل إعداد الخرسانة المسلحة التي ستُنهضعبر أعمدتها وقناطرها البيت وتسقفه.

حسناأعطوا جاب الله  أو أي شخص مفتاح المصرفالمركزي ويكون مملوءا بالنقود وسوف يعوض لكم كل العالم.. لأنه لن يخسر شيئا منخلال إنفاقه لهذه النقود.. لم يجمعها بتعبه.. لقد خرجت له بنفسها من باطن الأرض.. لقدأوجدها القدر أمامه هكذا.. ما معنى التعويض إذن.. التعويض بالمال لن يؤدي الغرض..ولن يغسل النفوس.. ولن يطفئ الرغبة في الانتقام والقصاص.. المال يعطى هكذا ليسكتعويض.. إنما هبة أو حصة من الثروة.. أو مساعدة اجتماعية.. جاب الله وكل أسرالضحايا لا تحتاج للتعويض بالمال.. تحتاج إلى تعويض نفسي.. تعويض أخلاقي.. يجلبالاحترام والتقدير والفخر للجميع.. قتلة ومقتولين.      

الذيمات مات ولن يعود.. لن يعيده المال ولا الاعتذار ولا أحكام المحاكم ولا أي شيء فيهذه الدنيا.. لكن الجراح والألم من الممكن الحد منها.. من الممكن الحد من شدةالألم بمواساته.. وهذا لا يعني أن يتم نسيان هذا الألم.. لأن الجريمة فعلا ارتكبتفي حق أناس عُزّل ضعفاء لا حول لهم ولا قوة.. لقد خرجت صرخة الحياة من حناجرهملتموت في قبور الصدى المجهولة.. سيعتبر التاريخ هذه الجريمة من الجرائم الجبانةالحاقدة العنجهية اللامسؤولة.. ومهما حاولنا أن نغطي العين الشمسية بكل غرابيلالعالم فحرارة هذه الجريمة ستطل وتشرق.. إنها مأساة إنسانية.. ماتت فيها المروءة..انعدم فيها النبل.. وبصراحة لا يمكنني وصف هذه المأساة وتسجيل تلك الصرخات البريئةالمنطلقة من حناجر الضحايا والتي كانت معظمها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدارسول الله وهتافات تتحدى الظلم والطغيان والتجبر والقمع على هيأة عبارات قصيرة مثل:.. الله أكبر.. لا حول ولا قوة إلا بالله..حسبي الله وهو نعم الوكيل.. ويارب يارب يارب.. والآن اتكأ جاب الله متهالكا على جذعشجرة النَّمّ في وسط الركح وأخذ يبكي.. وغناوة عَلَم تلعلع من لسان بدوي متقرفصقرب البئر المرسوم على الجدار الأيمن للركح.. تقول:

 العمر موش كله عزم.. يجن أوقات نرمو ع البكا.   

فبقدرالبشاعة التي ارتكبت بها الدولة الجريمة وتسجيل التاريخ لهذا الجرم الكبير في أنصعصفحات ذاكرته فبحلها بطريقة نبيلة نزيهة شفافة من الممكن أن يسجل لها التاريخ هذاالأمر كحكمة وبعد نظر وانتصار تاريخي في مجال معالجة قضايا حقوق الإنسان.. حلالقضية بطريقة مرضية للجميع سيحفظ للدولة هيبتها وكرامتها ومصداقيتها ويضعها فيمصاف الدول التي تحترم وتقدس آدمية الإنسان.. نعرف أن الهيبة والكرامة والسيادةمحفوظة وخط أحمر.. هذا شيء لا نختلف عليه وندافع عنه.. لكن أقصد ها هنا بالهيبةالمعنوية ذات رائحة الماء والخضرة والعطر والخالية من رائحة الدم والبارود والرماد.

لابدأن تلتقي قلوب القتلى والمقتولين.. لابد أن ننسى الأحقاد.. لابد أن يكون الحب هوالحاضر.. لابد أن يكون هناك هَمّ كبير حدث لهذه البلاد كي نلتف جميعا متحدين معبعض معتبرين مشكلة مذبحة بوسليم ليست من الأولويات.. إنما ليبيا هي الهم الأول..لا أعرف كيف أفكر في هذا الموضوع.. لكن مثلا لو ليبيا تعرضت لغزو فحتما سنتعامل معهذا الغزو بطريقة أنا وابن عمي على الغريب ولو كان بيني وبين ابن عمي هذا ثأر قتل..فعندما أجده أمامي وأجد الغازي أيضا أمامي سأصوب بندقيتي على الغازي.. سأنتصر أولا..بعدها ربما فرحة الانتصار تجعلنا نتعانق وتغتسل القلوب بأمواه المحبة.. لابد أنتحل هذه المشكلة.. ليعمل الجميع معا.. من أجل نهضة الإنسان في ليبيا وغيرها منالدول.. لابد أن تحل هذه المشكلة لكن ليس بالمال أو القوة أو أي شيء يجعل أي منطرفي النزاع في مرتبة أفضل.

ونعودلنقول مرارا ومرارا أن منح المال ليس حلا.. فالمال لا يصنع الأمان الروحي.. امنحوناحباً.. لا شيء غير الحب.. لقد استلم جاب الله هذا المبلغ الهزيل المسمى تعويضاوالذي لا يستطيع أن يشتري إصبعا لأحد الضحايا الأمريكان أو اليهود أو الفرنسيس أو الإنجليز..وذهب سائحا في دنيا الله الواسعة يبحث عن أخ.. يحاول أن يجد شخصا شبيها لأخيه..يريد شراء أخ ليعوضه غياب أخيه اعليوة.. لن يشتريه بالطبع بالمفهوم التجاريالتملكي فحياة الإنسان لا ثمن مادي أو معنوي لها فهي هبة مقدسة من الله لا تباعولا تشترى.. إن وجد شبيها له ولو بنسبة معقولة فسوف يجلس معه ويحكي له قصته ويقترحعليه أن يعيشا معا كي يعوّض غياب الأخ خاصة وأنه الأخ الوحيد له.. لن يهتم بشكلأخيه أو لونه أو طوله أو عرضه أو رقم حذائه.. أو غيرها من الصفات.. لكن سيهتم بأنيجد لدى من يختاره صفات من نوع آخر.. صدق.. كرم.. مرح.. ابتسامة.. حب.. شعوربالحميمية.. ثقة.. وغيرها.

قلتلجاب الله استرح قليلا.. نم في أرجوحة النور.. سأكمل السرد أنا بضمير المتكلم.. التقيتمن أجل أن أتحصل على أخ مجموعة من الشباب.. من معظم جنسيات العالم.. كل شاب أجدفيه صفة واحدة أو صفتين فقط من صفات أخي ولا أجد الباقي فأتركه وأبحث عن غيره..وجدت مصريا أو لبنانيا ما عدت أذكر حكيت له القصة فقال لي. اطمئن.. ولا تزعل أوتحزن.. أنا سأكون مثل أخيك.. بي كل الصفات التي تريد.. لن تنقص منها واحدة.. وإنرغبت في إضافة صفات أخرى لي على مزاجك فليس هناك مشكلة.. احشيني أو برمجني بماترغب من صفات.. فأنا عبد مأمور..

 لكن أخبرني  أولا:

كمالمدة وكم ستدفع لي مقابل ذلك؟  إن اتفقنانروح للمحامي نوقع العقد.  

قلتله الأخوّة أيها البني آدم لا تباع ولا تشترى.. ظننتك تفهمت موقفي ومأزقي الإنسانيوحاجتي لأخ وحاولت أن تساعدني لوجه الله الكريم بعيدا عن حسابات المال وعن الاتصافبالصفات مؤقتا وبصورة خادعة أو تمثيلية.

لاأنكر أني وجدت أناساً طيبين تفهموا الموقف واعتذروا لي كونهم لا يستطيعون تمثيلهذا الدور والصفات التي طلبتها قماشها لا يناسب أجسادهم وأرواحهم.. عموما لم أجدهذا الأخ الذي أبحث عنه وما منح لي من مال من الدولة كتعويض عن قتل أخي نفد في شهر..اشتريت منه بيتا صغيرا يقع خارج مخطط المدينة.. قالت لي زوجتي البيت خارج المخططقد تهدمه البلدية في أي لحظة وتضيع 35 ألف دينار الذي أعرف أنك لن تتمكن من جمعهامجددا بسبب صرفك المجنون على الكتب.. قلت لها بنغازي كلها خارج المخطط.. أنا أيضاخارج المخطط.. ولو كنت داخل المخطط لأسكنتك على سطح القمر.

المبلغالمتبقي بعد شراء البيت الصغير هو حوالي 3000 دينار اشتريت بنصفه  تذكرة طائرة إلى جنوب شرق آسيا والنصف الآخر اشتريتبه ألف ومائتي دولار من المصرف.. ثم سافرت فورا إلى أقصى الشرق حيث شروق الشمس السريع.. باحثا عن أخ لي أعيش معه أويعيش معي ولو ليوم واحد.. وها أنذا الآن مفلس من جديد.. لا أجد أخي.. ولا أجدشبيها  له.. وأخي ليس كعيسى عليه السلام رُفِعكي يعود ليخلص البشرية من الظلم.. أخي عذبوه وأمرضوه وقتلوه وردموه في مكان مجهول.

لماستطع هضم الموضوع ولم استطع قلب الصفحة إلى الصفحة التالية كي أنسى ولا أهتم.. الصفحةثقيلة وأصابعي ضعيفة وجهدي بالهُون.. الصفحة أحاول قلبها أرفعها قليلا ثم ترتد إلىمكانها تحرق وتلوث برمادها ودمها أصابعي.. أزق تحتها دولاراً وأرفعها به  تمتنع أزق تحتها يورو تمتنع أضع تحتها كل عملاتالعالم تمتنع.. أضع تحتها كل ذهب العالم تمتنع.. أضع تحتها كل بنوك سويسرا وكلصناديق النقد الدولي تمتنع..  خزائن قارون..بل قارون بنفسه.. أتوسل إليها أن ترضخ لرغبتي فأحاول بكل جهدي بل بحرارة الروحرفعها.. ترتفع مجاملة لي قليلا جدا ثم تعود لتلتصق في مكانها.. جلبت لها صبرا أيوبيافارتفعت معي قليلا.. صدقا محمديا فارتفعت أكثر.. شجاعة حمزة ارتفعت أكثر.. مروءةوصلت حتى المنتصف.. وفاءا وصلت المنتصف.. عدالة بدأت تتجاوز المنتصف.. شفافيةقاربت الربع الأخير كي تنقلب نهائيا.. نزاهة.. وقفت مكانها.. لا أدري من أوقفها..عادت مجددا إلى مكانها رافضة الانقلاب.. تمسكت بكتابها التاريخي ويومها الذي عاشتهمأساتها.. كنت أتخيل فقط كي أقلب هذه الصفحة لأبدأ الحياة مجددا في صفحة بيضاء نظيفةغير ملطخة بالدم.. الكتاب كله ملوث.. يحتاج إلى غسل كامل.. بمواد خاصة.. تزيلالبقع الدامية وتعيد البياض والاخضرار إلى مكانه. 

كلعزائي الآن هو أن أنام وأحلم بأخي.. بالذكريات القليلة التي عشتها معه.. كان هو فيحاله وأنا في حالي.. فرقتنا ظروف الحياة.. التحق بالجيش والتحقت بمعهد المعلمين..المعهد قريب من ثكنة الجيش.. في الصباح وأنا خارج من المعهد للذهاب للمدرسة التيأتدرب فيها على التدريس يمر كردوس الرياضة الصباحية للجنود المستجدين عائدين منحصة الهرولة الصباحية.. أرى اعليوة في آخر الصف يجر قدميه من الإرهاق والهزال..يرتدي (فَرْعة الجيش) سروال قصير أزرق وفانيلة متهدلة لونها زيتي كبيرة على مقاسه..رجلاه نحيلتان.. جسمه إجمالا  نحيف..نتبادل الابتسامات.. ويحاول أن يلوّح لي في غفلة من رئيس العرفاء الذي يقود حصةالرياضة الصباحية السابقة للإفطار صارخا بين الحين والآخر في المستجدين محمسا لهمومحذرهم من التهاون في هذا المران الإجباري.

مازلتأذكر صباح يوم القبض عليه.. آخر مرة شاهدته فيها.. كان يساعد أبي في الدكان الصغيرالكائن في جاراج بيتنا الفاتح بابه في سواني عصمان.. يرتب له البضاعة القليلة..ينقي الطماطم الفاسدة من الصندوق ويرميها في جردل القمامة وبين الحين والآخر يخرجمن الدكان إلى وسط الشارع ينظر إلى آخر الشارع حيث مفرق الطرق المزدحم بالسياراتالمنتظرة تغير الإشارة الضوئية لتنطلق بحرية مقننة.

لميكن أخي مذنبا.. لو كان مذنبا أو مرتكبا لجريمة لهرب أو اختفى عن الأنظار.. دائمامسالما.. نابذا  للعنف.. حازا للمشاجرات..كان شابا بسيطا.. ترك الجيش بسبب ضعف بصره وإجرائه لعملية على الانفصال الشبكيللعينين.. كان يحس بقرب القبض عليه.. لم يهرب لأي مكان.. لأنه برئ.. إن كانت هناكجريمة ستلصق به هي أنه يعبد الله بصدق ويحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدق..أحد أصدقائه قبض عليه يوم أمس.. ولم يعد إلى البيت بعد.. وتوقع أن يُسأل هذاالصديق عن أصدقائه ومن يؤدي معهم الصلاة في المسجد فيذكر اسمه فيقبض عليه فورا..وهذا ما كان يحدث تلك الأيام.. فيتم القبض على الشخص وأصدقائه ومن يخالطهم ومنيحلم بهم  ومن يسأل عنه ومن حتى يذكر اسمهفي جلسة أو داخل سيارة أجرة أو أتوبيس أو حتى يجدون رقم هاتفه أو عنوانه أو أي شيءفي محفظة أو جيب المقبوض عليه.

كانينقِّي صناديق الخضروات ويواصل النظر بين الفينة والأخرى إلى نهاية الشارع عندمفترق الطرق.. وكنت آنذاك قد عدت إلى البيت حاملا أرغفة الخبز الصباحية لكل الأسرةوخرجت ثانية للذهاب إلى عملي في المدرسة قلت لأخي وأبي وأنا أغادر تبقوا على خير..أنا رابح..  رد علي أبي في أمان الله..مربوحة وزَينة ورد علي أخي وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

عندماعدت ظهرا وجدت البيت مكتظا بالجارات وسمعت بكاء مريرا صادرا من أمي وأخواتي وزوجتي..كان أبي قد أقفل الدكان.. ووجدته جالسا وحيدا في المربوعة ما إن دخلت حتى قال ليجو جماعة في سيارة بيضاء رفعوا الولد.. كان عندك كيف تنشد عليه فانشد عليه وطمأنأمك والبنيّات.. لكن رد بالك راك تحصل عندهم كان هذا بلاش منها النشدة وأمرنا لله.

ليسلدي أقارب أو أصدقاء في أجهزة الدولة العسكرية والبوليسية.. أنا من عائلة فقيرةبسيطة نسكن حي المحيشي.. أن تذهب إلى مقر الأمن لوحدك وتسأل عنه قد يتم القبض عليك..وإلباسك أي تهمة جاهزة.. ذهبت إلى النادي الذي ألعب فيه كرة القدم.. شاركت فيالمران تائها مفكرا.. تفطن المدرب لحالتي فأخرجني من المران قائلا لي اذهب اغتسل..غسلت جسمي ودموعي تشارك قطرات الدش في الانهمار.. حكيت لبعض الأصدقاء في النادي الذينأعرف أنه لديهم أقارب في الجيش والمخابرات والذين كان الخبر قد وصلهم فمثل هذهالأخبار تنتشر فوريا كانتشار النار في الهشيم فصبَّروني وقالوا لي انس الموضوعالآن.. هنا في بنغازي ليس في وسعهم عمل شيء.. لقد تم نقل جميع المقبوض عليهم إلىطرابلس.

منذذلك الصباح لم أره مجددا إلا في الأحلام.. ولم نسمع عنه شيئا.. لا أخي ولا من تمالقبض عليهم من شباب حي المحيشي.. إنه ظلم.. ظلم صارخ.. لا يوجد محامٍ.. لا محكمة..لا أي شيء يحفظ كرامة الإنسان.. لا أي شيء إنساني يمكنه أن يمنح للدولة مصداقيةأمام رعيتها.. سمعنا أنه هناك زيارة.. ذهبنا إلى طرابلس أكثر من مرة.. وفي كل مرة نقفطويلا أمام سجن بوسليم حتى يخرج جندي شرطة عسكرية يأخذ منا البطاقات الشخصية ثميعيدها إلينا قائلا روحوا لحياشكم مافيش زيارة.. عدة مرات حملنا له الزمّيتة التييحبها والتمر وزيت الزيتون والعسل والملابس الداخلية والصابون والأسبرين ومعجون الأسنانوالفرشاة ونظارته الطبية الاحتياطية التي يتلو بها القرآن الكريم ومصحف وبعض كتبالأدعية والأوراد.

كناحسب أوامر الحرس نحرص دائما أن تكون المواد مغلفة بالورق أو في أوعية بلاستيكيةحيث يمنع دخول أي شيء مصنوع من المعدن.. كان الجنود يأخذون منا السلع ويقولونسنسلمها  للسجين.. ها هي الأسماء الرباعيةمكتوبة على الصندوق من جميع الجهات واضحة.. وكنا دائما نوكل أمرنا إلى الله وندعوهأن يوصل هذه الأمانة لابننا علها تخفف من محنته وتمنحه بعض العزاء والمواساة.. كنانضع من كل شيء نرسله أكثر من قطعة.. ربما هناك سجين قليل والي لا يرسلون له أهلهشيئا لأي سبب فيقتسم اعليوة معه ما وصله من خيرات.      

الآنأبحث عن أخ.. أخرج كل صباح.. أتحدث مع أي شاب في مثل عمره.. أحاول أن أجد فيه بعضصفات أخي.. أقتات عليها قليلا.. أريح بها قسما من عذاباتي.. وعندما لا أجد حتى صفةواحدة في هذا الشاب أشعر بالحزن وأسأل نفسي هل الصفات تموت كما الأجساد؟ وأعود إلىالبيت منهكا.. ارتمي على الفراش.. أغمض عيني.. أحلم بأخي.. استحضر ملامحه التياختفت من أمامي منذ عام 1988 م.. أجدها خلال الحلم طازجة.. شعره الأكرد قليلا..نظارته الطبية.. طوله.. ابتسامته المريحة الطيبة.. لباسه الأبيض.. زغب لحيتهالخفيف.. تناوله لطعامه على مهل.. لعقه لأصابعه عند الانتهاء من تناول الطعام.. صلاتهفي أواخر الليل لوحده في منور البيت وأنا أطل عليه من الدور الثاني.. رائحة عطرهالمسكية التي تصاعد فتصل إلى أنوفنا في الدور الثاني.. مساعدته لأبي.. شرائهلمستلزمات زواجه المرتقب من بنت الحلال.. دولاب مواعين صغير.. غسالة.. ثلاجة..موقد غاز صغير (بريموس).. بطانية نمر جميلة.. فرشة عجمية مزدانة بالورود البنفسجيةوالصفراء.. تأخذني العَبرة في الحلم فيبكي حلمي ويتحول من بكاء في الحلم إلى بكاءفي الحقيقة فتهرع زوجتي إلىَّ تهزني وتقول بسم الله الرحمن الرحيم.. كَنَّك ماذابك؟ أقول لها تذكرت أخي الوحيد.. تذكرت أخي اعليوة.. تبتسم لي ابتسامة حزينةوتعانقني قائلة اعتبرني أنا أخوك.. إن الله مع الصابرين.. تأتي ابنتي الصغيرةوابني الصغير.. ينضمان للعناق.. نصير رباعية عناق تبث الحب والحنين في الاتجاهات الأصليةوالفرعية ونوقف عناقنا في اتجاه القبلة حيث  تزداد حرارة العناق من الصغيرين أكثر.. الطفليحاول أن يتطاول أكثر والبنت أيضا.. نخفض لهما طولينا قليلا فيفرحان.. ويشتدالتصاقهما بنا في العناق.. آه كم أشعر بالحزن الشديد لأجلهما.. لأنه ليس لديهماعَمّ..

ابنتيلن تحب ابن عمها عظم رقبتها.. وتتزوجه إن صار بينهما نصيب..

ابنيلن يحب بنت عمه عظم رقبته..  ويتزوجها إنصار بينهما  نصيب..

فالرقبةذبحها الوطن في بوسليم.

تتغيرالمشهدية الآن لتطل علينا لوحة خضراء على شكل غابة قربها نجع صغير.. موسيقا مزمارخفيف.. وأصوات مؤثرات طبيعية كخرير ماء.. أصوات حيوانات.. بقر.. ماعز.. دجاج..خراف.. عواء ذئب بين الحين والآخر.. زقزقة عصافير.. في وسط هذه الغابة أنا حزينجدا.. لا شيء يسليني.. لا رغبة لي في شيء.. سأحاول أن ابتعد عن هذا الموضوع..استلقي في ظل شجرة صنوبر وأقرأ في كتاب المقام الليبي الذي يحتوي على مجموعة جميلةمن أغاني المرسكاوي.. قرأت قليلا.. هدأت نفسي قليلا حيث أعادتني هذه الأغاني إلىأيام جميلة في منطقتي حي المحيشي.. حيث كانت الأعراس تتم بعفوية وحفلاتها لا تقامفي المسارح إنما فوق أسطح البيوت أو في حدائق الحي التي الآن يابسة ومغطاة بمياهالمجاري.. سأغير الكتاب الذي أقرأ فيه الآن.. معي كتاب (الجِراب) للصديق القاصالمبدع (أحمد يوسف عقيلة).. سأقرأ نصا أحببته منذ زمن.. عنوانه " اعْلَيوة"  على اسم أخي بالضبط.. لكن في قصةأحمد.. اعْلَيوة ديك وليس بني آدم.. لكن مرة أخرى.. لا بأس سنؤنسن الديَكة.. وسأراهأخي الذي عجزت أن أجد صفاته في البشر.. رغم بحثي المضني الطويل.. يقول أحمد في نصه:

  لم يُؤذِّن (اعلَيْوَة) إلاّ في وقتٍ مُتأخِّرٍجداً ذلك الصباح.. وهو أمرٌ غريب.. هل فَقَدَ صوته؟ هل اختلطت عليه الأمور.. حتىإنه لم يُمَيِّز الفجر؟ هل هو الضباب.. ذلك الليل الأبيض.. الذي جعل الأمر يلتبسعليه؟

لا هذا.. ولا ذاك.. لقد أَرِقَ.. لم ينم إلاّ قُبَيلالفجر.. ومع أنه ليس من عادته أن يبقَى مُستيقظاً إلى ساعة مُتأخِّرة من الليل..إلاّ أنَّ لديه ما يُبَرِّر ذلك.. فقد بات وحيداً.. افتقد الأنيس.. وليس هناك ماهو أكثر إيلاماً ووحشة من افتقاد الأنيس.. ذلك أنَّ رفيقته التي تُؤنِس وحدته.. قدماتت ضُحَى الأمس.. وبتعبيرٍ أَدَقّ: سُرِقت.. اختفت.. تلاشت.. ومع أنَّ كلَّأصابع الاتهام تُشير إلى الثعلب.. بسبب سوابقه في كل أنحاء الوادي.. إلاَّ أنَّخديجة تُصِرُّ على تبرئة ساحته.. وتُوجِّه الاتهام إلى لصوص الأعالي.. وتعني بذلكالعُقاب والحَدَأة.. وهي تستند في ذلك إلى أنها لم تعثر على أَيٍّ من القرائن الدالَّة..لا رأس.. لا رِجل.. ولا حتى ريشة واحدة.. كما أنَّ لصوص الأعالي ـ على حَدِّ قولهاـ أكثر جُرأَة.. يهبطون فجأةً من السماء.. ويأخذون في وضح النهار.. أمّا الثعالب(المسكينة) فتتسلَّل ليلاً.. أو في غبش الفجر.

على كل حال.. مهما كان الفاعل.. فقد قُيِّدَت القضيةضد مجهول.. بغَضِّ النظر عمّا إذا كان ذلك المجهول من فوق أو من تحت.

ترَمَّل اعلَيْوَة.. بدأ يُحسُّ برعب الوحدة.. صعدفوق الصخرة العالية.. أمام البيت.. اتَّجه ناحية الشرق.. مَدَّ قامته.. صفَّقبجناحيه.. وأخذ يبثُّ الشمسَ شكواه.. وترتَّب على خديجة أن تبحث عن عروسٍ جديدة.

الديك بالنسبة للعجوز خديجة.. المتوحِّدة.. التيتفتقد الأنيس.. لا زوج.. ولا ولد.. ليس مُجرَّد ذلك المخلوق المُلَوَّن.. الذييصيح مع كل إشراقة شمس.. لا.. إنه كالولد.. يُؤنِس الوحدة.. يُذْهِب الوحشة.. يملأفراغها العاطفي.. تتحدَّث إليه.. تُناجيه.. تهمس في أُذنه.. تُدلِّله.. تغضب منهأحياناً.. تُناكِده.. تُعاتبه.. تغفر له.. تحنو عليه.. تضحك له.. أو تضحك عليه..ويحلو لها في كثيرٍ من الأحيان أن تُمَسِّد ريشه.. وتغنِّي له.

هو أيضاً يُبادلها ذلك الحُبّ.. ففي الفجر يقول لها:

ـ صباح الخير.. نهارك سعيد.. تأخَّر الوقت.. أيشأخبار الفطور؟ فيش تفكري؟ تفكري في بيعي.. هَه؟

في المساء يقول لها:

ـ تصبحي على خير.. نوَعِّيك قبل الفجر والا بعده؟

في الأعياد يتمنَّى لها طول العمر.. ودوام العافية.

نعم.. هكذا تنظر إليه.. وهكذا تفهمه.. حتى إنهاأعطتْه اسم اعلَيْوَة.. وهو اسم اشتُهِر به في كل الوادي.

عندما ضاعت الدجاجة.. جابت خديجة الوادي طولاًوعرضاً.. سافرت إلى النجوع المجاورة.. وبالكاد عثرت على دجاجة.. فيها من المواصفاتأكثر ممّا في بقرة بني إسرائيل.. كانت فعلاً تبحث عن عروس.

زفَّتْها إليه.. وقفت تتفرَّج.. مُنتشِية.. كما تفعلالأُمُّ يوم زفاف ولدها.. وكما تفعل الأُمُّ أيضاً.. أحسَّت بشيءٍ من الغيرة.. مَنيدري؟ لعلَّ العروس الجديدة تستحوذ على اهتمامه.

 داراعلَيْوَة دورةً كاملة حول عروسه.. باسِطاً جناحه الأيمن إلى الأسفل.. بينما كانتالعروس تتمنَّع في دلالٍ وغنج.

خديجة تُحبُّ تعليق الأشياء.. الغربال.. القفَّة..الأواني.. الملابس.. كل شيء.. فأعمدة بيتها.. وحتى الأشجار القريبة.. زاخرةبالأشياء الْمُتدلِّية.. حتى إنَّ لديها معاليق لكل خيبات أملها.. كسوء الطالع..والحظ العاثر.. والبخت المائل.. والعَيْن.. وغير ذلك من المشاجب التي لا تُحصَى..لذلك فهي ترى نفسها امرأة سيئة الحظ.. راقدة ريح.. قليلة والِي.

 هي امرأة فيحالها.. ليس لديها فراغ على الرغم من توحُّدها.. ففي بعض الأحيان تقْلِب أثاث البيت رأساً على عَقِب.. تبدأ في ترتيبه من جديد.. لا لشيء إلاّ لتجد لنفسهاعملاً.. إنها امرأة لديها دائماً ما تفعله.. كانت تُردِّد: (الوليّة الْحرَّةشغلها ما ينتهيش).

 ذات ضُحى..بينما كانت عائدةً من جيرانها.. شاهدت كُتلةً سوداء.. تهوي فجأةً من السماء..وتختفي بين الأشجار القريبة من البيت.

 توقَّفتقليلاً.. قلِقة.. حائرة.. وما هي إلاّ لحظات.. حتى برزت الكُتلة السوداء.. وأخذتتصعد ببطء.. حتى اتَّضحت معالمها.

فزعت.. أسرعت الخُطَى.. بينما كان العُقاب يبسطجناحيه.. حامِلاً اعلَيْوة بين مخالبه.

وقفت مشلولة.. تنظر إلى العُقاب وهو يُحلِّقبعيداً.. مُتَّجهاً صوب التلال البعيدة.. حتى توارَى في غبش الأفق.. وتوارَى معهاعلَيْوَة إلى الأبد.. مُخلِّفاً على الأرض بعض الريشات المُلوَّنة.. هي كل مابقِي في يد خديجة.. التي أحسَّت بأنها فَقَدَت شيئاً عزيزاً للمرَّة الثانية..وبرزت أمامها تلك الصورة من جديد.. يوم هبط الموت فجأةً من السماء.. واختطف ابنها(عَلِيّ).. كأنَّ ذلك لم يحدث إلاّ منذ لحظات.. فبعض الجِراح تظلُّ خضراءَ إلىالأبد.

أخذت تُقلِّب كفَّيها.. مُعلِّقةً ما حدث على حظِّهاالعاثر.. وتوحُّدها.. وقِزْنها.. وقِلَّة حيلتها.

... قُبَيل الفجر.. عندما كان القمر يتمسَّحبالصنوبرات.. كانت خديجة تصعد مع السفح.. مُتَّجهةً نحو المقبرة القديمة.

في الصباح.. كانت تجثو على رُكبتيها.. مُطأطئة..تناجي قبر ابنها عَلِيّ.. فيما الحلازين تتسلَّق شواهِد القبور.. باحثة فيالتجاويف عن ملاذٍ من صهد الشمس".

الفرقبين أخي والديك أن الديك اختطفته الطيور الجارحة من أجل البقاء.. والذين قتلوا أخيباقون من دون أن يضطروا لالتهام لحم أخي أو امتصاص دمه..  لقد قتل أخي هكذا عبثا وظلما وعدوانا ودون محاكمة.. قتل وهو ضعيف مريض أعزل مفتقر إلى أدني حقوق الإنسان.. والفرق بين اعليوةابن العجوز خديجة وبين اعليوة أخي.. أن ابن العجوز خديجة لديه قبر معروف.. وشاهد حجرتبكي عليه وتزوره أمه متى اشتاقت له.. بينما أخي.. لا قبر له.. ولا رفات.. لقد قتلوغيّب.. أيها العالم أخي إنسان.. إنسان.. إنسان وليس حشرة أو حيوان.. وحتى الدولةاعترفت بأنه إنسان فمنحت أسرتنا شهادة وفاة له.. نريد قبره.. لابد أن يكون له قبرنزوره ونضع عليه أكاليل الورود.. ونقرأ بقربه القرآن.. وعندما يحين الشتاء ويسقطالمطر.. نكثف من الزيارة لنرى بواكير رسائله لنا عبر الزهور والحشائش البريةالمنبجسة من تراب قبره.. والتي تصل ذروة عطرها واخضرارها ويناعتها في فصل الربيع..وآه من الربيع.. وربيع العمر بالذات الذي ذبح فيه أخي.

     نريد قبره فلربما تتقدم علوم الحياة ونستطيعأن نستنسخ نسخة جديدة منه.. اعليوة جديد.. يستيقظ في الصباح لينقِّي كرتون الطماطمفي دكان أبيه ويجلس ليقرأ القرآن الكريم.. ويبتسم للصغار.. ويتاجر في أشياء بسيطةتمكنه من كسب رزقه بالحلال ويجهز لعرسه بمكسبه البسيط..  ففي كل مساء يعود من السوق بشيء يخص هذا الزواجالمرتقب.. مكواة مستعملة.. منضدة صغيرة تحتاج إلى تصليح.. خلاط فواكه.. رحى قديمة..اسطوانة غاز.. وغيرها.

نريدعظامه وتراب لحمه الذي أكله دود البشر قبل أن يأكله دود الحشرات.. أخي عزيز عليناجدا.. لا فرق بينه وبين أبناء القتلة.. لماذا نتألم نحن وأنتم لا تتألمون.. اللهفي الوجود.. وليس خارجه.. ولا أريد أن أقول إني أكره القتلة.. لكن سأقول إني أحبهم..لأني خائف ليس إلا.. والخوف لن يذهبه إلا المعاملة باحترام وتقدير وشفافية ونزاهةوعدل وصدق وتحمل مسؤولية هذه الجريمة النكراء.. التي لن يمسحها حتى ماء نارالتاريخ.

هذهالجريمة لن يقفل ملفها بواسطة القضاء ولا التعويضات المالية ولا بواسطة سياسةالعصا والجزرة.. هذه الجريمة لابد أن تُحل بطرق إنسانية.. أن يقوم القتلة بعمل أيشيء يقنعنا بحبهم.. يقنعنا بأن هذا الشيء العظيم أهم من قتل أبنائنا.. هذه الجريمةلا يقفل ملفها إلا الحب.. إن جعلتني أحبك فسأغفر لك مجانا.. فالحب أكبر إله يغفرالخطايا.

وإن لم تجعلني أحبك فتستطيع قتلي أو سجني أو تعذيبي أو تدميري أو سحقي لكن من المستحيل كما يعبر عن ذلك أرنست همنجواي في قصته الطويلة الشيخ والبحر أن تهزمني.. فالإنسان مشروع انتصار أبدي.. ونحن ننتمي لهذا الإنسان وإلا لكان أنستنا النقود دماءنا الزكية التي نزفت غيلة وغدرا.

لانريد اعتذارا من قبل رموز الدولة.. لا نريد أي شيء يمس سيادة دولتنا وأمنها.. نريدفقط أن تكون بلادنا جميلة.. أن يمنح العيش لخبازه في كل مجال.. أن تتم الاستعانةبالموهوبين وليس المخلصين لكن على غباء.. أن تكون ليبيا سرّة العالم وجنته.. وفيهايعيش الإنسان بكرامة وأمن وسعادة وآدمية.. نحن نحب ليبيا ولا شيء غيرها ونغضبعندما نراها في الحضيض.

وهنايتدخل ماركو بشكشكة عنيفة من المقص فيطل ممثل من وراء الكواليس ثم يظهر كاملا..تلازمه دائرة ضوء تجعله شفافا كالماس يغني غناء حزينا لكلمات غير مفهومة ثم يتحولغناؤه تدريجيا إلى سرد غاضب.. يقول: والمظلومون أكثر في هذه القضية والذين يعتبرونقد تم تجاهلهم من قبل وسائل الإعلام ومن الجميع هم رجال الأمن الذين قتلوا فيالمواجهات والذين احتجزوا داخل سجن بوسليم وقتلوا لتقع هذه المذبحة.. فهم أيضايعتبرون شهداء واجب.. وكلمة واجب مثل كلمة دين لا فرق.. لا أحد يتحدث عن هؤلاءالمساكين ولا عن أسرهم.. لم تنظم لهم أي مسيرة حتى الآن تجبر بخاطر أُسرهم علىالأقل.. لا أحد أنصفهم معنويا حتى الآن وأشاد بدورهم.. فهم في النهاية ليبيونينفذون أوامر صارمة وملفهم لابد أن يضاف إلى هذه القضية ويتم إنصاف أُسرهم بصورةمرضية فهي أيضا ضحايا.. لا يهم إن كانوا مع أو ضد.. المهم أنهم ضحايا سقطوا في هذهالمواجهات التي ما كنا نعرفها في ليبيا من قبل.. عبّر الممثل والمطرب المؤدي لهذاالدور عن هذه القضية بكل ما يملك من موهبة.. وقد أبدع في ذلك حتى أن التصفيق قاطعهأكثر من مرة.. كانت تصاحب تمثيله بين حين وآخر.. في البُرَه الزمنية الفاصلة بينمجموعة جمل وأخرى..  آهات وصرخات وتأوهاتوعبارات أنت أخي لا تقتلني.. أنت أخي لماذا نتعارك.. أنا مأمور.. إن لم أفعل أُعاقَب..يقتلوني يا اوخيي.. هذا عملي.. يا رب فَرِّجْ علينا.. ويُسمع صراع قوي تتخللهكلمات بها عبارات أنت أخي.. أنت ابن عمي.. الله يستر بيتك لا تحرجني أدخل الداخلتوا.. خلي الضابط يدخل غرفته وسوف احضر لك الشاي وكل ما تحتاج وغيرها من العباراتالمتبادلة بين السجان والسجين عندما يكونون من قبيلة واحدة أو من أسرة واحدة أو منبلد واحد لكن القدر جعل أحدهما سجانا والآخر سجينا دون إرادة منهما.. كان المقص فييد ماركو يتحرك بتركيز ليجعل العازفين يمنحون كل ما لديهم من إتقان وكانت د. حنانتصدر من عودها نغمات حزينة تشبه الدمع.. بينما جاب الله  يهزهز رأسه موافقا على عدالة قضيتهم متمتما بنغملا يفسد الأوبرا من كلماته: لا حول ولا قوة إلا بالله.. الألم يحيط بنا من كلاتجاه.. يكون الله في عونك يا ليبيا. 

اكتملتالأوبرا وسر المسؤول الفني والثقافي بمنظمة اليونسكو بالعمل وقال له ماركو الآنالكرة في ملعبكم.. نحن مستعدون لعرض الأوبرا في أي مكان من العالم.. نحن فنانون لايهمنا المكان الذي نعرض فيه عملنا.. ليس لدينا أي تحفظات على أي دولة.. يمكنناعرضه حتى في القدس أو في الصحراء الغربية أو تايون أو تورا بورا.. لكن يهمنا أننعرض العمل في ليبيا والمغرب العربي والشرق الأوسط.. لأن القضية التي تناولتهاالأوبرا موجودة في تلك البلدان ولعل عملنا الفني يساهم في مواساة أسر الضحايا وفيتليين موقف هذه الدول من قضايا حقوق الإنسان وفي إيجاد صيغة مُرضية لحل هذه القضية..قال مسؤول اليونسكو.. أنا معك ومن الغد عليك أن تسافر إلى هذه الدول وتتفق معهمعلى عرض الأوبرا في بلدانهم وتوافيني بالنتائج لنعد جدول العروض النهائية ومايلزمها من إجراءات مالية وإدارية.

العرضالتجريبي الذي قدم في روما منذ شهور والذي صرخ فيه الملحق الثقافي الليبي وانسحبمنه كان قد حضره مندوبو ثقافة وفنون عن تلك الدول المغاربية والشرق أوسطية وبعضالسفراء والقناصل المعتمدين لدى إيطاليا.. حضره أيضا رئيس اتحاد الكتاب والأدباءالعرب  بالإضافة إلى مندوب عن الجامعةالعربية وعن الإتحاد الإفريقي وعن كل المنظمات السياسية والأهلية الإقليميةوالدولية.. وأكثرهم كان قد أرسل تقاريره إلى دولته حول فحوى العرض الأوبرالي الذيتدعمه اليونسكو والجميع أوصى بعدم السماح بالعرض في بلده لأن هذا الأمر قد يسببحرجا كبيرا أمام الدولة الليبية مما قد يؤدي إلى إلغاء كل العقود التجارية أوتعليقها.. بالإضافة إلى أن شخصية جاب الله التي تسرد معاناتها بمرارة ليست شخصيةليبية خالصة فمن الممكن جدا أن نجد لها شبيها في كل بلد عربي آخر.. ففي كل الدولالعربية توجد سجون بوسليمية أخرى ترتكب فيها جرائم من هذا النوع والاختلاف فقط فيالعدد والاسم فقط إنما القتل والذبح والموت والألم واحد.. في ليبيا مثلا أكثر من1200 مقتول.. نجد في دولة عربية أو مغاربية مثلا خمسمائة قتيل.. مثلا ثلاثمائةوعشرين مذبوحاً.. مثلا خمسة وخمسين اختفاءً غامضاً ولو جمعنا أعداد هؤلاء القتلي والمختفينوالمغيّبين لتجاوزا بالطبع 1200 ضحية التي ذبحت في سجن بوسليم.. حتى مندوب إسرائيلأوصى بعدم السماح بعرضها لأن العلاقات مع ليبيا بعد أن تصالحت مع الغرب في طريقهاإلى التحسن ولا يمكن أن نفسد هذه العلاقات بعرض أوبرالي.. بعد ذلك الليبيون اقترحواأن تكون في فلسطين دولة واحدة ديمقراطية تضم اليهود والعرب اسمها إسراطين وحيث أنهموضعوا اسمنا في الدولة هو الأول أذن علينا احترامهم وتقديرهم وعدم تسميم العلاقاتبيننا وبينهم والحروب الماضية والمشاكل والقضايا العالقة مثل قضية يهود طرابلس منالسهل حلها لاحقا.. وكتاب إسراطين بصفتي مسؤول الثقافة وقد قرأته وهو رسالة سلامعميقة.. لكن هات من يفهم.. ساستنا تجار قبل كل شيء.. أنظر إلى قضايا الفساد التيلحقت بمعظم الساسة اليهود الذين تعج بها المحاكم أسبوعيا.

مديرالثقافة المصري رفض رفضا قاطعا أن يتم عرض هذه الأوبرا على أرض الكنانة.. قاللماركو يا صديقي أنت فنان وتفهم.. قدر ظروفنا.. المندوب الليبي هنا أستاذ أحمد قَذّافالدم صديقنا وحبيبنا.. لا يمكننا أن نزعله بعرض مجنون زي ده.. وبعدين اليونسكو نحنوإياهم علاقاتنا الآن زي الزفت.. كس امهم.. لا نرغب في التعاون معهم بعد أن تآمرواعلى وزيرنا الفنان فاروق حسني وسرقوا منه الأصوات حتى لا يكسب رئاسة المنظمة الدولية..طلعوا أولاد كلب وخولات وصوتوا للخواجاية البنت البلغارية.. ومارضوش يدونا رئاسةاليونسكو رغم أن مصر لها تاريخ عريق وثقافة عالية وأهرامات و أبو الهول وتوت غنجأمون ونفرتيتي ومكتبة السكندرية العالمية وعملت سلام شجعان مع اليهود.. لكن أناعندي حل.. مادام اليونسكو حيدفع مبلغا محترما.. أنا ححل المشكلة بطريقتي.. ما رأيكلو نعرض لك الأوبرا في مسرح الأوبرا بالعتبة لكن من دون جمهور.. انتم تخيلوا جمهورقاعد في القاعة وغنوا وارقصوا له.. مثل ما يوجد مباريات كرة من دون جمهور أيضاهناك عروض اوبرالية من دون جمهور وذلك لأسباب أمنية وسياسية.. وإن كنت مُصر علىوجود جمهور بإمكاننا تركيب ميكروفونات كبيرة في قاعة العرض تنطلق منها تصفيقات بعدانتهاء كل فاصل وأيضا صرخات استحسان وسوف نعطى لوحة التحكم بهذه المؤثرات  لعضو في فرقتك علشان يضغط متى ما أراد تصفيق أوصفير أو صراخ.. أيضا من الممكن أن نملأ لك الكراسي كلها بالمانيكانات (مجسم بشريلعرض الملابس الجاهزة).. حنجيب كل مانيكينات البلد الموجودة في فترينات الأزياء وأنتتغني تشوف القاعة مليانة لفمها والمانيكانات نلبسها ملابس رجال ونساء من كلالأعمار والألوان وحسب رغبة حضرتك بالطبع.. حتى إن عايزهم لابسين زي ليبي فمعنديشمشكلة..  وحنعمل للمانيكينات بطارية علشانتتحرك وتتفاعل مع فقرات الأوبرا.

بعدأن أطفأ السيجارة المحشوة الخامسة قال له.. ليه ساكت يا خواجة ماركو.. معجبكشالاقتراح.. طب خوذ الاقتراح ده: ما رأيك لو تأتي أنت والفرقة في طيارة كبيرةايرباص أو بوينغ أو حتى يوشن روسية وحنعمل عملية إخلاء للجو علشان خاطرك.. مشحنسيب أي بعوضة أوذبابة تطير..  وتطير ياعم في أجواء مصر من الشمال إلى الجنوب ومن الشرقإلى الغرب وتعود كلما وصلت الحدود كيف مانت عايز.. وعرض الأوبرا في الجو كمانيعتبر حداثة وموضة جديدة و وما تفكرش في الجمهور.. حنملأ لك الطائرة بمتفرجين.. زيما أنت عاوزهم.. صعايدة  وجه قبلي أو فلاحينمن وجه بحري وحتى من جماعتكم عرب أولاد علي.. وهنا لن نكون قد اقترفنا ذنبا في حقأي دولة وأي كان.. إن سألنا أي كان  نقسم بربالعزة أن الأوبرا ما اتعرضت على أراضينا.. أتعرضت في الجو وانتهت مثل هذا الدخانالصاعد إلى أعلى والمتلاشي اه هه ه ه ه هههههههههههههههههههههه.. كان سيضيف مارأيك لو نعرضها لك في سفينة تجوب المياه الإقليمية إلا أنه صمت لأن ماركو كان قدغادره وتركه يهذي.

     لبنان.. سوريا..  فلسطين بحماسها وفتحها.. إسرائيل..  مصر.. ليبيا.. تونس.. الجزائر.. المغرب.. موريطانيا..الصحراء الغربية.. الكل رفض عرض الأوبرا على أرضه ومن هنا عاد ماركو لمقابلة مسؤولاليونسكو وقدم له تقريرا حول الرفض.. حاول هذا المسؤول عبر رئيس منظمة الأممالمتحدة السيد كي مون.. من أجل الضغط على هذه الدول للسماح بالعرض لكن كل جهودهباءت بالفشل.. وهنا جلس ماركو مسندا ظهره على شجرة نَمّ كي يفكر مع زوجته وجابالله  وأعضاء فرقته حول إمكانية عرض الأوبرابأي طريقة وفي ليبيا بالذات.. وبعد أسابيع وصل إلى حل واقتنع جميع أعضاء الفرقة بهذاالحل وصمموا على تنفيذه وأُخْطِر مسؤول اليونسكو بالاقتراح فوافق عليه وتحمس لهودعمه ووعد بالوقوف إلى جانبهم على أعلى المستويات إن تعرضوا لأي مشكلة أو خطر حيثإن السيد الدكتور سيف الإسلام القذافي رئيس مؤسسة القذافي العالمية للجمعياتالخيرية و التنمية قبل كل شيء فنان ومثقف و صديق له وبينهما تقدير واحترام وتفاهمكبير حول مختلف القضايا الدولية خاصة المتعلقة بالآداب والفنون.. إن حدثت مشكلةلأي فنان أو أديب بسبب الإبداع حتما سيتدخل ويعالج الموقف منحازا لحرية التعبيروحرية الإبداع.

قررواأن تعرض الأوبرا من دون ديكور ولا إضاءة ولا مؤثرات صوتية ولا ملابس.. ولا أي شيءيوحى بأن ما يقدم الآن مسرحية.. فالشيء عندما تنفذه في مكانه الأصل لا يحتاج آنذاكإلى أي عمليات فنية مصاحبة.. كل الفرقة سافرت إلى ليبيا بحرا.. ماركو وحنان وجابالله وضعوا قيد المراقبة ما إن خرجوا من بوابة الميناء وسرعان ما التقى الملحقالثقافي الذي حضر العرض في روما بعد عشرين خطوة من البوابة متعللا بالصدفة الحسنةالتي جعلتهما يلتقيان مجددا في بنغازي.. قال لماركو.. عرفت أن كلامي صح وأنالأوبرا تمس الأمن والدليل أنه لم توافق على عرضها أي دولة من دول العالم.. بقيةالفرقة من أجانب تفرقوا في الفنادق التي حجزتها لهم الشركات السياحية المنظمةلرحلتهم.. لا يوحى شكلهم أو ما يحملون معهم من مستلزمات بسيطة لا تتجاوز بعض حقائبالملابس والمستلزمات الشخصية بأي سوء أو نية مضمرة للإزعاج.. ليس معهم آلاتموسيقية ولا نوتات موسيقية.. ولا ملابس تمثيل.. ولا كتب.

بعدأيام  من وصول الفرقة إلى ليبيا  التقى ماركو مدير الأمن في رواق من أروقةالسفارة الإيطالية فسأله عن مصير الأوبرا فقال ماركو مازلنا نبحث عن مكان يوافقعلى عرضها.. وجئنا إلى ليبيا لنناشد مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنميةورئيسها السيد الدكتور سيف الإسلام أن تمنحنا الإذن حتى نعرضها على الناس.. فهذهالمؤسسة مهتمة بقضايا الحرية وحقوق الإنسان وتشجع حرية التعبير وتدافع عنها في كلمكان وتساعد في إطلاق سراح السجناء وعلاجهم وتحرير الرهائن وغيرها من الأعمالالإنسانية التي سيسجلها لها التاريخ في أنقى صفحاته.. لكن للأسف مر وقت طويل و الإذنلم يأتِ بعد.. أضاف مدير الأمن مبتسما ولن يأتي أيها الموسيقار النزيك.. لأننانعارض عرضها في ليبيا ولو على جثثنا.. فالقضية مازالت لم تُقفل.. وأي تحريك فني أوثقافي لها لن يصب في مصلحة الدولة وسياستها.

لمتستطع فلول الأمن اختراق ساعة الصفر التي اتفق فيها أعضاء الفرقة الأوبرالية علىعرضها.. لأن ساعة الصفر خالية من الحروف الأبجدية.. وصباح اليوم المعلوم وهو اليومالذي تنتهي فيه إجازة الفرقة في ليبيا وبينما هم يتجمعون أمام الميناء من أجلإتمام إجراءات السفر والصعود إلى الباخرة للمغادرة أطلق جاب الله المستند على جذعشجرة النَّمّ بحديقة الملح القريبة جدا من الميناء صرخة قوية.. كصرخة إنسان يُعذبويُقتل.. فهرع إليه أعضاء الفرقة البالغ عددهم أكثر من 1200 فنان صارخين رادِّينعلى صرخته بصرخات أعنف.. جاء ماركو أيضا وفي يده المقص وتسلق أعلى الشجرة وصاريقود أوبرا الصراخ  التي اختصرت كل فقراتأوبراها الفنية وكثفتها في أكثر من 1200 صرخة بليغة.. كل فنان يصرخ صرخته ويبتسموتوالت الصرخات وانتقلت هذه الصرخات إلى العامة.. كل شخص سمع صرخة صرخ بطريقته..صرخات متنوعة..  صرخات من الشرفات.. صرخاتأمام الأبواب.. صرخات في الشوارع.. صرخات خمس نجوم.. صرخات عادية.. صرخات حمراء..صرخات خضراء.. صرخات صفراء.. صرخات سوداء.. صرخات زرقاء.. صرخات برتقالية.. صرخاتمائية.. صرخات هوائية..  صرخات بنغازية..صرخات مصراتية.. صرخات سبهاوية.. صرخات سرتاوية.. صرخات درناوية مرخيّة اشوية.. صرخاتمن كل أرجاء ليبيا.. طيور الحديقة أيضا صارت تصرخ.. كل صارخ يبكي على ما يهمه..المتألم صرخ متألما والفرحان صرخ فرحا والمرح صرخ مرحا والعاشق صرخ عشقا.. والمفلسصرخ مفلسا.. والمريض صرخ مريضا.. والرياضي صرخ رياضيا.. والفلاح صرخ فلاحيا.. والجزارصرخ جزاريا.. والحوات صرخ حواتيا..  إلخ.. لكنأكثر الصرخات كانت متألمة.. كانت باكية.. كانت حزينة.. كانت كسيرة الخاطر.

لمتمض ربع ساعة عن هذا الصراخ حتى طوّق الجيش المجحفل الحديقة.. تساعده الشرطةوالمخابرات والحرس البلدي والمليشيات المدنية التابعة للجان الثورية.. ولأن الصارخينفي الحديقة معظمهم من الفنانين الأجانب وقائد الفرقة نفسه أجنبي.. فسيكون علىرأسهم ريشة.. ولن يتم رشهم بالرصاص مثل الليبيين وتم رشهم بغاز مخدر لا يضر البشرةولا الرئتين.. كان قد اخترع حديثا لاستخدامه ضد الناس الذين من طبقة مميزة أوالنخبة أو أناس خمسة نجوم.. يحول الصرخات إلى همسات أو آهات خرساء ويحول الأجسادإلى مجرد أصنام رخوة ساكنة تقودها إلى أي مكان تريد برفق فتنصاع لك.

امتلأتالحديقة بالأصنام البشرية المخدرة وهنا وصلت حافلات الإسعاف الفوري الطائر علىجناح السرعة ونقلتهم جميعا إلى مركز بنغازي الطبي الذي افتتح احتفالا بالعيدالأربعين لثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة والذي يسع لـــ  1200 سرير.. والصارخون كانوا أكثر من 1200..العدد الذي  لم يجدوا له أسرّة في المركز الطبي..وزعوه بين مستشفى الجمهورية للولادة  ومستشفى الجلاء للجراحة.. شخص واحد وزعوه علىمقبرة الهواري هو سي جاب الله.. الذي عندما صرخ ورأى أعضاء الفرقة والناس  تهرع إليه من كل حدب وصوب وتشاركه الصراخ..  مات من الفرحة.

تمت...

كتب هذا الكتاب في  2008 -2009  في: بنغازي – الجزائر - أصيلة – جزيرة ساميد بتايلند