يقربنا الأكاديمي المصري من كتاب/ مشروع مهم تناول بالدرس والتحليل الدور الذي لعبه "الأراجوز" في التأريخ والتوثيق للحياة المصرية، خصوصا في ظل عملية الاضطهاد الممنهجة التي تعرض لها هذا الفن عبر التاريخ بحكم أنه ظل أداة للنقد والتحريض. ويمثل هذا الكتاب مرجعا مهما يفتح ضمن دراسات التراث الثقافي الشعبي بابا غير مألوف هو "فن الأراجوز".

كيف وثق "الأراجوز" تاريخ مصر؟

عمرو عبد العزيز منير

لعب الأراجوز في مصر دورًا بارزًا في الحياة العامة، وظل يحتل لعدة قرون جانبًا كبيرًا من فكر كل عصر، ومع أن العامة اتخذته سبيلًا إلى ملء الفراغ والتسلية، فإن ما كان يُقدم من فقرات عبر شخوصه الهزلية مَثَّلَ أمورًا واقعية في إطار من التهكم والنقد والسخرية .

كان الأراجوز أشبه بمرآة يرى فيها الناس عيوبهم ونقائضهم وتطلعاتهم ومواقفهم من الأحداث، أي واقعهم المعاش، وما ينبغي أن تكون عليه حياتهم مما ساعد الباحثين في حقل التاريخ يمسكوا بالحقيقة التاريخية ..لنجد أنفسنا أمام  دمى الأراجوز  كجسر للوصول إليها لتعطينا الحقيقة في (كبسولة) كأي دواء ناجع له طعم المر، لكنه يعيننا على احتمال العيش في الدنيا بالضحك في موضع البكاء، والبكاء في موضع الضحك وإدراك أن الحياة مزيج متشابك منهما معاً.

ومعها ندرك أن السخرية التي يقدمها الأراجوز ـ رغم مبالغاتها ـ تعيدنا إلى أرض الواقع وتكشف لنا عن الحجرات الشعبية للتاريخ التي تعطينا صوراً أكثر مصداقية عما حوته الكتابات ذات الصبغة الرسمية  إذ كانت شخصية الأراجوز في تاريخه الطويل سلاحاً بين أيدي العامة لا للتعمية وقهر الناس بل لتحريرهم من الخوف والخور والذل والخضوع والنفاق، فلم يعرف كتبة الحكام ولا السلاطين تلك السخرية الصادرة عن الأراجوز باعتبارها نوعاً فنياً يعبر عنهم، بل كانت الجدية العابسة الناطقة باسمهم قائمة على التهديد والوعيد والتخويف ليلجم الخوف كل الألسنة، فلا يعود مجال إلا أن ينطلق طائر الأراجوز مخترقاً الأسوار والحواجز كي يصل إلى الحاكمين وينبئهم فساد ما صنعوا. مما جعل الأراجوز يتعرض للاضطهاد والحرق على أيدي سلاطين المماليك بفتاوى تحريمه! ليُسكتوا صوت الأراجوز الذي دائما يتناول بسخرية لاذعة كل ما حوله وكل من حوله، ويندد بسيادة الحاكم الفرد ويستصرخ الشعب أن يبحث عن حل لمشكلته الأبدية؛ مشكلة القهر وتأليه الحاكم والتبعية له وتحريضه عليهم إلى أن كاد يكون مهملا أو مجهولا إلا لدى قلة من الباحثين الذين تنبهوا إليه فأولوه عنايتهم وخصوه بمقالات وكتب مثل عبدالحميد يونس، وعلى الراعى، وشوقى ضيف وفاروق خورشيد، ويوسف إدريس وعثمان محمد وعلى إبراهيم أبوزيد، ومختار السويفي، وتحية كامل وفاروق سعد  وغيرهم وغيرهم ممن فطنوا إلى أهمية دراسة تراثنا الثقافى الشعبى ودوره فى تأصيل هويتنا عبر ألوان الفنون الشعبية المختلفة وكان آخر تلك المحاولات ما قدمه الفنان نبيل بهجت عبر كتابه الوثائقي (الأراجوز المصري توثيقًا ودراسة) الصادر في القاهرة عن المجلس الأعلى للثقافة بتقديم الشيخ الدكتور أحمد مرسي. في محاولة منه إلى إعادة هذه الفن إلى الحياة مرة أخرى لإيمانه بأن الأراجوز هو أحد مصادر تشكيل الوعى، وكذلك ذاكرة مصر الحضارية الحافزة الدافعة الرافعة، رغبة منه لإحياء كل ما يعينها على البقاء والحياة والشهود.

لذلك تجد أن الذي قام به نبيل بهجت في الأراجوز وفي خيال الظل وأهميته الفنية الحضارية والإنسانية عامة يكتسي ثوب الجدة والرصانة والعمق ليصل بنا إلى منابته الأولى ويقف بنا على تطوراته وعلى مدى ارتباطه بحياة المجتمع العربي والمصري وبعادات هذا المجتمع وتقاليده ومزاياه، ولا سيما أن فن الأراجوز أحد الفنون الجميلة التي ينتظم في مقوماتها الشعر والنثر والحوار والتمثيل والعمل المسرحي والإخراج الإلقاء والغناء والرقص والموسيقى فضلا عن النقد الاجتماعي والخلقي والديني والسياسي والاقتصادي وغير ذلك . ولما كانت دراسة هذا الفن وتوثيقه على نحو ما أشرنا من قبل لم يكن بد لبهجت من أن يعرف بادئ بدء بالأراجوز وتاريخه وتسمياته ومراجعه ونشأته وأجاب في الفصل الأول والثاني من كتابه على العديد من الأسئلة التي يتردد صداها بيننا ..هل الأراجوز من أشكال الفنون الشعبية؟ هل هو وسيلة تعبيرية قادرة على استيعاب المعاني والأفكار وإيصالها للجمهور شأن أية وسيلة فنية أخرى؟ هل تتوجه إلى الأطفال ولا تستطيع مخاطبة البالغين؟ هل تغني دمية الأراجوز عن الممثل البشري؟ وهل تلتزم بالحركة الطبيعية والشكل الطبيعي للإنسان؟ وهل فن الأراجوز فن طارئ؟ وهل فن الأراجوز يعد مصدرا من مصادر التاريخ ؟! .

في القسم الأول من الكتاب إجابة عن كثير من هذه الأسئلة من خلاله يعرض لنشأة دمى الأراجوز، ويقدم العرض التاريخي والفني لنشاط الأراجوز قديما وحديثًا، وأثر بعض الفنون الشعبية على الأراجوز والروافد الشعبية والغربية لهذا الفن، كما يعرض للغة الحوار والأغاني وسيميائية الأسماء والتلاعب اللفظي والشخصيات حتى وصل بنا إلى إمكانيات الاخر في عروض الأراجوز ..مما يعد جهدًا أساسي للتفكير فيها فأية دراسة لجماليات العرائس يجب أن تعتمد على التراث المتراكم لهذا الفن على مر العصور وفي مختلف بقاع العالم كما يجب أن تعتمد على حاضر هذا الفن المتطور والذي يتخذ أكثر من سبيل .وفي القسم الثاني من كتابه وعبر ما يقارب ستمائة صفحة سجل فيها خمسين نمرة من نمر الأراجوز  المختلفة، والتى جمعها ووثقها ميدانيا من أكثر من لاعب عبر لقاءات مباشرة باللاعبين في أماكنهم الطبيعية لتوثيق ما تختزنه ذاكرتهم وجمع مواده من أفواه القراقوزتية ( لاعب الأراجوز) وكان يدون ويصور ما يسمع ويرى، وكان يرتحل في سبيل الحصول على ضالته لذلك جاءت المعلومات ميدانية موثقة منسوبة مما يجعل لكتابه قيمة تاريخية وتأريخية في آن ؛ ووثق نمره باللغة المحكية كما قيلت من باب الأمانة وحفاظًا على الجو الشعبي المبني على العفوية في تعامل الناس التي كانت تنتظم حياتهم  محاولا وضع صورة كلية لنمر الأراجوز وأثبت الراويات المختلفة (بلهجاتها المتنوعة) على اختلاف اللاعبين، كذلك لبعض النمر لنفس اللاعب مع اختلاف الزمن ليقف بنا على صورة مدى التباين الارتجالي الذي يعكس المساحات الإبداعية المتباينة بين كل لاعب وآخر بل ولدى اللاعب ذاته، ليقدم حلاً – جزئيًا – لأزمة النص المسرحي لصالح الأراجوز وخيال الظل في مصر والوطن العربي  . ورتب نمر الأراجوز حسب دورة حياة الأراجوز نفسه حيث بدأ بنمر زواجه في نمرة "جواز بالنبوت" وانتهاء بموته في نمرة "العفريت" مرورًا بمختلف النمر التي تشكل حياته وأفراحه وآلامه وثوراته وانتصاراته وانكساراته التي هى في حقيقة الأمر أفراح وآلام وانتصارات وانكسارات الشعب المصري الذي قاوم ولا يزال كل عوامل الفناء .

 وتجيز لي معرفتي بالفنان نبيل بهجت. منذ تزاملنا في قاعات الدرس بكلية الآداب ووقوفي على اتجاهاته وإنجازاته أن أقرر أن موضوع الأراجوز ينسجم هو وشخصيته وميوله، وأظنه بالتالي عالج موضوعًا يحبه، ولا بد للنجاح، كما هو معلوم من محبة العمل، والتزامه طوعًا لا قسرًا . وإضافة هذا الكتاب إلى المكتبة العربية يعد خطوة أولى نحو جهود واجبة لتدعيم المكتبة العربية بمزيد من المراجع عن فن الأراجوز من الوجهة العملية والنظرية، وخاصة أن الانتشار الواسع الذي يلقاه هذا الفن عندنا يقتضي خلق نوع من التوازن بين التوسع العملي والثقافة النظرية.

 

كاتب وأكاديمي مصري