تتحرّك الأحداث سريعاً في السّاحة السياسيّة التونسيّة. فقد شهدنا ميلاد جبهتين عريضتين جديدتين؛ الأولى ليبراليّة تجمع نخباً أكاديميّة وقضائيّة ووزراء من الحكومة الانتقاليّة المتخليّة إثر الانتخابات التأسيسيّة. وهي تجتمع تحت كاريزما الوزير الأوّل الأسبق الباجي قائد السبسي. وتحمل اسما خالياً من الإيديولوجيا "نداء تونس". والثانية يساريّة قوميّة يترأّسها حزب العمّال بقيادة حمّة الهمّامي تحمل اسم "الجبهة الشعبيّة". والجبهتان تأملان في الصراع على السّلطة وفي منافسة حزب حركة النّهضة المسيطر الآن.
حركة "نداء تونس":
إنّ ظهور "نداء تونس" فاجأ الجميع وأربك الجبهة الإسلاميّة التي تقودها حركة النهضة. فلقد أعدّت فكرة الحزب بهدوء وبتأنّ. وولد الحزب ناضجاً يتّكئ على كاريزما الباجي قائد السبسي ولكنّه أيضاً يجمع في قيادته العليا وزراء كثر من حكومة قائد السبسي الانتقاليّة ومن جملة من رموز المجتمع المدنيّ في تونس. فمن حيث التنظيم هو شبيه بحزب النهضة إذ له قائد رمز وقيادات صفّ أوّل وقواعد مستهدفة بالاستقطاب. وله خطاب واضح ولا يتبنّى أيّ إيديولوجيا خلافاً للقطبين الآخرين الإسلاميّ واليساريّ.
لقد أفلت حزب نداء تونس ممّا وقعت فيه التشكيلات السياسيّة الكبرى في تونس نعني عبادة الإيديولوجيّات اليساريّة واليمينيّة السلفيّة الرجعيّة الميّتة. فالوفاء والانضباط الإيديولوجيّان هما ما أضعف اليسار التونسيّ وما جعله عاجزاً عن النفاذ إلى القواعد الشعبيّة الواسعة. أمّا نداء تونس فحزب يدّعي أنّه حداثيّ شعاره الدفاع عن الجمهوريّة وعن النمط المجتمعيّ التونسيّ وعن مكاسب المرأة وحقوقها وعن المجتمع المدنيّ.
ويرى بعض الليبراليّين والأكاديميّين أنّ هذا الحزب عدّل المشهد السياسيّ في تونس إذ أعاد الصراع الحقيقيّ إلى الواجهة وهو صراع الوسطيّة والحداثة ضدّ الرجعيّة والدوغمائيّة. فالصورة السّائدة في تونس بعد الثورة أنّ الاستقطاب السياسيّ والإيديولوجيّ فيها ثنائيّ بين اليسار وبين الإسلاميّين أو بين المحافظين على الدّين وبين العلمانيّين. وهذا غير صحيح. فلقد كانت هناك جبهة خاوية أو لنقل ضعيفة وغير مؤثّرة في الانتخابات التأسيسيّة هي الجبهة الوسطيّة الحداثيّة. ويأتي حزب نداء تونس ليحاول ملء هذا الفراغ والاستفادة من حالة الاستقطاب الحادّة بين العدوّين الإيديولوجيّين.
لكن على نداء تونس أن يردّ على الاتّهامات المكالة إليه من خصومه لاسيما الترويكا من جهة واليسار من جهة ثانية. ومن هذه الاتّهامات أنّه امتداد للبورقيبيّة التي ترى النهضة أنّها خرّبت عقيدة المجتمع التونسيّ حيث مارس بورقيبة نزواته العلمانيّة وتجنّى على إيمان النّاس. أمّا العائلات اليساريّة فترى أنّ مع البورقيبيّة عرفت تونس بدايات الانحراف نحو العنصريّة الجهويّة والحيف الاجتماعيّ. ومع حزبه الاشتراكيّ الدستوريّ، بدأ المجتمع التونسيّ يعرف نشأة العمل الميليشيويّ الليليّ. كما أنّ أواخر عهده شهدت بداية الصراع العنيف مع اتّحاد الشغل. وافتتح الاستبداد والقمع والتعذيب تاريخه الطويل في تونس.
كما يتّهم اليسار التونسيّ حزب نداء تونس بأنّه حزب يمينيّ ليبراليّ سيكرّس خيار الخضوع لرأس المال العالميّ بما يعنيه ذلك من التفريط في ثروات البلد ومزيد الارتهان للجهات الخارجيّة المتحكّمة في المال والأعمال. فيما تتّهمه الترويكا بأنّه وكر للفلول والأزلام (من أين استعاروا هذه الصفة القذرة!؟؟) وبأنّه يشكّل البوّابة التي منها سيحاول النظام المخلوع أن يعود من جديد.
لكنّ نداء تونس يردّ على النهضة بدعوته إلى محاسبة الفاسدين. ولم ينفكّ يعلن أنّه ضدّ العقاب الجماعيّ وأنّ كلّ مواطن لم تلحقه شبهة يمكنه الالتحاق بالحزب. بل إنّها تتّهم حزب النهضة الحاكم بأنّه يماطل في مسألة المحاسبة لغايات استقطابيّة ترويضيّة لأصحاب المال الفاسد. وشرع نداء تونس في العمل صامّا أذنيه عن كلّ الاتّهامات متمسّكا بالقانون وبإخراج عمليّة المصارحة والمحاسبة من دائرة المزايدات والمناقصات السياسيّة. ورفع شعار المحافظة على مكاسب تونس الاجتماعيّة والمدنيّة وشعار استئناف معركة التّحديث المعطّلة المهدّدة من قبل الإسلام السياسيّ الرّجعيّ الذي ينخرط في مشروع استخلافيّ الولاء فيه للمشروع التوحيديّ الكبير على أساس العقيدة لا للوطن.
نقد حركة نداء تونس:
نشأت حركة نداء تونس في المشهد السياسيّ التونسيّ نشأة سريعة. وتكوّنت هيئتها التأسيسيّة الوقتيّة من رئيس الحكومة الانتقاليّة السّابق الباجي قائد السّبسي ومن جملة من وزراء حكومته المتخلّية إضافة إلى شخصيّات أخرى. وحركة نداء تونس ليست حركة إيديولوجيّة كما صرّح بذلك مؤسّسوها. كما أنّها ليست وليدة الثورة التونسيّة بل وليدة المرحلة الانتقاليّة الأولى. فقد استقالت حكومة الباجي قائد السّبسي لتترك مكانها لحكومة جديدة شكّلتها الأحزاب الفائز أغلبها في انتخابات 23 أكتوبر التأسيسيّة عملاً بمقتضيات الوعد والعهد اللذين قطعتهما الحكومة المتخلّية على نفسها حين استلمت مهامّها في الفترة الانتقاليّة الأولى التي تلت فترة حكومتيْ محمد الغنّوشي المسقطتين في آذار/ مارس 2011.
ويبدو أنّ الباجي قائد السّبسي رئيس الحكومة المتخلّية كان يعمل، بإقالة حكومته نفسَها، على الاستجابة لشروط ثقافة ديمقراطيّة ثار من أجلها الشعب التونسيّ أساسها التداول السّلمي على السّلطة حيث أنّه يعدّ أوّل حاكم يتخلّى عن السّلطة لغيره بمحض إرادته في التاريخ العربيّ. والحقيقة أنّه لم يكن أمامه غيرُ ذلك اعتباراً للحالة الثوريّة المتفجّرة التي كان عليها المجتمع التونسيّ والتي جعلت الحاكم ينصاع لشعبه لأوّل مرّة في تاريخ تونس الحديث. ويبدو أنّ قائد السّبسي كان يودّ أن يرسل رسالة تفاعل مع الشعب التونسيّ باعتبار للحالة الثوريّة التي هو عليها ورسالة امتثال لخياراته ومطالبه في الحريّة والديمقراطيّة بديلين لا محيد عنهما للاستبداد والشموليّة والحكم الفرديّ الأزليّ.
الباجي قائد السّبسي: كيف عاد إلى المشهد؟ لابدّ من الإشارة إلى أنّ قائد السّبسي كان غائباً عن الحياة العامّة منذ سنة 1990 تقريبا. فأغلب التونسيّين لا يعرفون عنه شيئاً. وشباب تونس لا يعرفونه أصلاً. ولا يعرف النّاس حتى إن كان حيّاً أم لا، لاسيّما أنّه كان من رجال دولة الاستقلال. ولا يكاد يكون له دور يذكر في الفترة النوفمبريّة سوى أنّه كان عضواً في اللجنة المركزيّة لحزب التجمّع المحلول ورئيساً لمجلس النوّاب قبل أن يتوارى عن الأنظار نهائيّاً، كما ذكرنا.
ثمّ تفاجأ التونسيّون به من جديد في صدارة المشهد السياسيّ والإعلاميّ محتلاّ أعلى هرم السّلطة وزيرًا أوّلَ بعد أن سُحب القرار من مؤسّسة الرّئاسة باتّفاق مجتمعيّ ضمنيّ تحوّل بموجبه النظام التونسيّ من رئاسيّ إلى حكوميّ (وليس برلمانيّا لأنّه لا برلمان حينها فقد حلّ برلمان بن علي المنصّب). فلقد كلّفه رئيس الجمهوريّة المؤقّت حينها فؤاد المبزّع بتشكيل حكومة انتقاليّة ثالثة بعد استقالة محمّد الغنّوشي. ولقد فاجأ قائد السّبسي التونسيّين بدعابته وابتسامته في لحظة كانت أعصاب التونسيّين فيها مشدودة خوفاً من المجهول. كما حاول قائد السّبسي أن يبدو صارماً مع ما لاحظه من تطاول مستمرّ على الدّولة ومن عجز أجهزتها عن التعامل مع الواقع وعن إيقاف التمادي في تجاوزها وفي تجاوز سيادتها. فتحدّث في أوّل ندوة صحفيّة عقدها في آذار مارس 2011 عن "هيبة الدّولة" الضّائعة التي لابدّ أن تستعاد كشرط أساسيّ للعمل الحكوميّ. واعتبرها من أوكد مهامّ حكومته.
ورغم أنّ الاعتصامات المهنيّة والإضرابات والانتفاضات وحتى العروشيّة والمعارك القبليّة لم تتوقّف في عهد حكومته، فقد نجح قائد السّبسي في بعض المهامّ؛ منها إنجاح السّنة الدراسيّة والجامعيّة وإنجاز الامتحانات الوطنيّة دون مشاكل وعقد هدنة اجتماعيّة مع الاتّحاد العام التونسيّ للشغل وإيصال المرحلة الانتقاليّة إلى الانتخابات. وقد عمل قائد السّبسي بسياسة التشاور مع الجميع عدا الأطراف اليساريّة الرّاديكاليّة. ثمّ سلّم السّلطة إلى الفائزين في الانتخابات بشكل حضاريّ أنعش حلم التونسيّين في الديمقراطيّة والتداول السّلميّ على السّلطة.
مرجعيّة حركة نداء تونس: قراءة في الخطاب:
لماذا ولدت حركة نداء تونس؟ وكيف؟ إنّ الأحزاب السياسيّة التي انفلقت كالطوفان على التونسيّين يمكن أن تصنّف، من حيث أسباب النشأة إلى أصناف ثلاثة ليس بينها ما يخصّ حركة نداء تونس.
الصّنف الأوّل: أحزاب كانت موجودة فعلاً ومهيكلة وتعمل في السرّ بلا ترخيص.
أحزاب لم تكن موجودة وولدت بعد الثورة بفعل الحماس الذي هزّ الكثيرين لممارسة الديمقراطيّة أو بفعل الطمع في السّلطة التي كانت شاغرة مشتهاة أو بفعل التجريب .. إلخ
أحزاب نشأت من اندماج أحزاب من الصّنفين الأوّل والثاني.
حركة نداء تونس لم تكن نشأتها مطابقة لأيّ من الأصناف الثلاثة المذكورة. وإنّما نشأت كما ذكرنا بعد الانتخابات لا قبلها شأن بقيّة الأحزاب. نشأت الحركة بعد أن تسلّمت الترويكا السّلطة واتّضحت صورة المشهد السياسيّ. وقد ذكر قائد السّبسي أنّ نشأة الحركة جاءت بعد قراءة للمشهد السياسيّ المنبثق عن الانتخابات التأسيسيّة. هذا المشهد الذي بدا لمؤسّسي الحركة غير متوازن بل راجح بشكل كبير لفائدة حركة النهضة. وهو ما يشي بإمكانيّة التغوّل السياسيّ وبتوفّر أسباب إعادة إنتاج الاستبداد. وقد ذكر مؤسّس الحركة أنّه ومجموعة من أصدقائه ووزراء حكومته المتخلّية تشاوروا وقرّروا إنشاء هذا الحزب بحثاً عن التوازن تدفعهم في ذلك المصلحة الوطنيّة حسب تعبيره، وكان يقدّم حركته على أنّها حركة معاضدة لا حركة معارضة.
ولكن لا يبدو ذلك كافياً لتبرير اجتماع أغلب وزراء قائد السّبسي حوله من أجل إنشاء هذا الحزب. فمن بين الأسباب أنّ قائد السّبسي عومل بجحود ونكران لامتناهيين. بل إنّه تعرّض إلى حملات تشويه وإدانة واتّهام من قبل حكومة الترويكا. وكانت حملات معلنة شارك فيها الوزراء أنفسهم. ومن التّهم الموجّهة إليه أنّه لغّم السّلطة وأجهزة الدّولة والإدارة والدبلوماسية ونصب الفخاخ للحكومة القادمة بعده، ولم يترك لها إلاّ كلّ أسباب الفشل. بهذا يمكن أن تكون حركة نداء تونس نوعاً من ردّ الفعل على اتّهامات الترويكا ونوعا من المقاومة لسوء التقدير وقلّة الاحترام وسعيا إلى استعادة السلطة عبر القنوات المدنيّة القانونيّة.
والمتابع لخطاب قادة حركة نداء تونس المؤسّسين (الباجي قائد السّبسي ولزهر العكرمي ومحسن مرزوق خاصّة) يلاحظ أنّها تستمدّ مشروعيّة خطابها من جذورها الدستوريّة المعلنة. وترى نفسها سليلة الحركة الإصلاحيّة الوطنيّة. والحقيقة أنّ الأحزاب الدستوريّة جميعها تقول نفس الكلام. وتتحرّك حركة نداء تونس في أفق ليبراليّ حداثيّ علمانيّ كما يفيد خطابها السياسيّ والإعلاميّ.
ولكنّ قراءة متمعّنة في الخطاب السياسيّ والإعلاميّ للحركة تكشف أنّه خطاب يصرّ على المرجعيّة الدستوريّة ويصرّ على احتكار دور قيادة الدساترة للحركة الوطنيّة واحتكارهم دور بناء الدولة الحديثة. وفي هذا الاحتكار مغالطات واستيلاء غير مقبول. فالحركة، وكلّ من يدّعي احتكار حركة الإصلاح والتحرير من الدساترة خاصّة، تتناسى دور النقابيّين والقوميّين واليوسفيّين والشيوعيّين والفلاّقة وغيرهم في مقاومة الاستعمار. وهذا ما يدعو المؤرّخين إلى إعادة قراءة تاريخ تونس الحديث لإخراجه من دائرة الاستقطاب والتوظيف السياسيّ.
كما أنّ ربط الحركة الإصلاحيّة بالحركة الدستوريّة أمر غريب ومريب. فما علاقة خير الدّين باشا والطاهر الحدّاد وأبي القاسم الشابي والشيخ سالم بو حاجب والشيخ الطاهر بن عاشور وغيرهم بحزب الدستور؟ هل ثبت تاريخيّا أنّهم أدركوه وانخرطوا فيه وناضلوا في صفوفه؟ لماذا يصرّ نداء تونس على أنّه وريث الحركة الإصلاحيّة؟ نقرأ ما كتبه محسن مرزوق أحد أهمّ قياديّي الحركة على صفحته على فايسبوك يوم 2 أكتوبر 2012:
"نداء تونس حركة وطنية شعبية ديمقراطية تقوم على تجسيد الهوية العربية الاسلامية العصرية لشعبنا والمندرجة في فضاء الانسانية الأرحب وفي إطار المنظومة الكونية لحقوق الانسان وتمثل حركة نداء تونس تواصلاً واستمرارية وتلخيصا مع مكونات الحركة الوطنية التونسية الدستورية والنقابية والديمقراطية هذا في مستوى الهوية أما في مستوى البرنامج فإن ركائز الحركة أربع: أولاً، فتح فرص الرقي أمام التونسيات والتونسيين بدون تمييز في الجهة أو الجنس أو المنشأ الاجتماعي في سياق الديمقراطية الاجتماعية والسوق الاجتماعي وهذه ركيزة اقتصادية اجتماعية. ثانياً، مواصلة عملية التحرير الاجتماعي للفرد التونسي على قاعدة المساواة خاصة بين الرجل والمرأة والعدالة الاجتماعية باعتماد نظم تربوية وثقافية تطلق القدرات والشبابية منها خاصة. ثالثاً، التأسيس من جديد للأخلاق العامة في الحكم والمجتمع على أساس مبادئ علوية القانون بعد أن أفسدت سنوات الاستبداد ونفاق تجار الدين بالمشروع القيمي الأخلاقي التونسي المنفتح والسمح والقائم على القبول بالاختلاف واحترام القانون والحكم الصالح. رابعاً، إعادة الاعتبار للمسألة الوطنية والمشروع الوطني التونسي المتواصل منذ أجيال من خلال بناء مؤسسات الدولة السيادية والنظام الديمقراطي وضمان الحريات العامة والفردية وتعزيز موقع تونس في السياق الإقليمي والدولي لتونس".
إنّ كلام محسن مرزوق ليس أكثر من نوايا وشعارات يرفعها الجميع بما فيهم الخصوم الألدّاء النهضويّون. ولا يمكن أن نرى في هذا الكلام برامج ومشاريع. هذه هي المشكلة بالضبط: كيف يخرج الخطاب السياسيّ في تونس من الشعارات إلى المشاريع؟ ولنراجع فقط ما كتبته الصحافة العالميّة حول زيارة وزير الخارجيّة التونسيّ رفيق عبد السلام إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة. لقد سخرت جميعها من خطابه الضعيف المضطرب المعمّم. فما الفرق بين كلام محسن مرزوق وبين كلام رفيق عبد السلام من حيث خصائص الخطاب؟ وقد قال في ذلك الأديب الأستاذ عبد الواحد ابراهم بمرارة في نافذته الأسبوعيّة بجريدة الشروق: "هناك أغنية لبنانيّة ناقدة عنوانها "خرّبتوها الجمهورية". نحن لم نخرّب جمهوريّتنا بعد، وإنّما "شلّكناها" وقرّبناها لأرخص أنواع الأحذية، وكلّ الفضل يعود لحكومتنا النّهضويّة وأياديها التي ما مسّت شيئا إلاّ تعطّل أو تعطّب. ولصاحب القدح المعلّى في أغلب المصائب وزير خارجيّتنا الهمام، الذي بسبب تصريحاته التّافهة يسلخنا نقد الإعلام الخارجي ويهزأ بنا كلّ يوم. فالعرف الدّبلوماسي صارم الأحكام، يمنح كلّ دولة رتبة حسب أداء وزير خارجيتها من حيث ثقافته وتفكيره وطريقته في النّقاش، بل ويذهب الفحص حتّى إلى مراقبة سلوكه المجتمعي وذوقه في الأكل واللّباس وردّ التّحيّة، وكيف يجلس في المآدب".
كما لابدّ من التوضيح أنّ هذا المقال ليس ضدّ نشأة الحركة. بل بالعكس، فقد كتبتُ في ما سبق في القدس العربيّ أنّ الحركة قد تكون استئنافاً لمعركة التحديث المعطوبة. ولكنّي ضدّ الدوغمائيّة والاستيلاء التاريخيّ على ما ليس لك. لقد عانينا طويلاً من الاستيلاء؛ ألا تستولي حركة النهضة على المرجعيّة الدينيّة فتلغينا باسمها؟ ألم يستول حزب التجمّع المقبور على التراث الدستوريّ وعلى المرجعيّة الإصلاحيّة فأكلنا بها؟ إنّ الاستيلاء عمليّة لا أخلاقيّة لأنّه لا أحد منحك ما أخذت. لقد أخذت وحدك ما أردت وهو ليس لك. وهذا الأخذ هو مقدّمة لسيل لا ينتهي من المغالطات. إنّه باب موارب للاستبداد.
نداء تونس والأحزاب الثوريّة:
بالعودة إلى فترة حكم السيّد الباجي قائد السّبسي، نذكّر بأنّ علاقته بالأحزاب الثوريّة كانت علاقة متوتّرة باعتبارها أطرافاً راديكاليّة لا تقبل التنازل السياسيّ. فكثيراً ما كال الاتّهامات لحزب العمّال ولحركة الوطنيّين الديمقراطيّين متّهما إيّاهما بأنّهما كانا وراء الكثير من الاعتصامات والاحتجاجات التي كانت تعطّل حركة العبور أو حركة الإنتاج. فيما كانت علاقته بحركة النهضة علاقة مجاملة ومغامزة حذرتين إذ كلّ منهما يمسك علبة الكبريت بيده.
ولا يبدو أنّ هذه العلاقة قد تغيّرت بين القوى الثوريّة وبين نداء تونس. فما يروج إعلاميّا أنّ نداء تونس قريب من التحالف مع المسار الديمقراطيّ (حركة التجديد ومن والاها سابقاً) والحزب الجمهوريّ (الحزب الديمقراطيّ التقدّمي ومن والاه سابقاً)، فيما تبقى القوى الثوريّة جسداً محصّناً ضدّ الليبراليّة والإسلامويّة متمسّكاً بأهداف الثورة وبقيم العدالة الاجتماعيّة والمساواة الجهويّة وببناء دولة ديمقراطيّة مستقلّة القرار والسيادة لا تتبع أحداً ولا ترتهن لأيّة قوّة. وتبقى المسألة الإيديولوجيّة في حاجة إلى النقاش والتفكيك والتحليل والتجاوز.
نقد اليسار التونسيّ:
إنّ مشكلة اليسار التونسيّ هي مشكلة مواءمة الإيديولوجيات الشيوعيّة والقوميّة مع طبيعة المجتمع التونسيّ أوّلاً، ومشكلة تأسيس فكريّ هشّ ثانياً، ومشكلة مراجعات نقديّة غائبة ثالثاً. فلابدّ من الإقرار بأنّ اليسار التونسيّ ظلّ نخبويّاً لا يمتدّ خارج رحاب الجامعات والمكاتب الوثيرة المغلقة للمحامين. ومع ذلك لم ينجح اليسار في تأسيس طبقة فكريّة يساريّة واضحة ومتميّزة بأطروحاتها وبآرائها وبنقدها للمجتمع ولمظاهره ولساسته. ولم يستفد اليسار السياسيّ من النخب الأكاديميّة اليساريّة ولم ينجح في إدراجها في العمل الميدانيّ الجماهيريّ. بل إنّ اليسار الأكاديميّ والفنّي والثقافيّ والعلمانيّ لا يرى في اليسار السياسيّ ممثّلا له. والأسباب واضحة هي أنّ اليسار السياسيّ التونسيّ يسار رجعيّ كلاسيكيّ تقليديّ لم يبلغ حتى المرحلة الألتوسيريّة للماركسيّة. بل تغلب عليه الستالينيّات والزعامات الموهومة وعبادة الأشخاص. لقد انتظرت قواعد اليسار مشاريع التوحيد طويلاً. وكثيراً ما خذلتها قياداتها التي غلبتها أوهامها الزعاماتيّة السكيزوفرينيّة حتى تكاد القواعد تنفض يدها منها. فهي لا تتوحّد ولا تتخلّى شأنُها شأن غيرها من الأحزاب الهرمةِ قياداتُها جميعاً. أمّا الديمقراطية والتداول على المسؤوليّة فليست إلاّ شعاراً لا يعنيها.
إنّ اليسار التونسيّ بعد الثورة كاد أن يُباد بفعل نتائجه المخيّبة في الانتخابات. ولكنّه استمدّ جذوته من خيبات الترويكا الحاكمة وسوء إدارتها للشأن العامّ وفشلها في تحقيق مطالب النّاس ومراكمتها المشاكل على الفئات الضعيفة. لقد أمدّت حكومة النهضة ومن والاها اليسار أسباب النشاط والعودة إلى الحياة السياسيّة من جديد. لقد استفاد اليسار من ضعف الأداء الحكوميّ وتلقّف فشل الحكومة لُقية فريدة لن يتركها لتعميق جراحها وإزعاجها ورصد أخطائها ومواطن فشلها للتشهير بها.
اليسار التونسيّ يسار تقليديّ محافظ يحلم بالاشتركيّة الطوباويّة وبتحقيق نموذج الشيوعيّة اللينينيّة أو الماويّة أو التروتسكيّة أو الستالينيّة. إنّه لا يختلف عن النهضة من حيث الولاء الأعمى للإيديولوجيا والطموح إلى تطبيقها في تونس. ليس لليسار بدائل اقتصاديّة وسياسيّة خارج ما تقدّمه إيديولوجيّته. إنّ له رؤى عاجلة يمكن مناقشتها والاستفادة منها. ولو يتسلّم اليسار السّلطة فلن يكون أقلّ تخبّطاً من حكومة النهضة الحاليّة. فلقد فشل اليساريّون في توحيد صفوفهم منذ النشأة وليس بعد الثورة كما يبدو. فالانقسامات والاختلافات وحتى المعاداة بدأت بالظهور منذ سبعينيّات القرن الماضي. فكيف سيوحّد اليسار المجتمع التونسيّ المتعدّد المتنوّع؟
نقد الجبهة الشعبيّة لتحقيق أهداف الثورة:
ولكنّ الإعلان عن انبثاق جبهة يساريّة متكوّنة من الأحزاب اليساريّة والقوميّة أمر يدعو إلى التوقّف والنقاش. فيبدو أنّ ميلاد هذه الجبهة كان نتيجة عوامل ثلاثة أساسيّة. الأوّل هو الاستجابة لنداء القواعد الملحّ في التوحّد. والثاني يتمثّل في الاستعداد لضمان مكان في المشهد السياسيّ خلال الانتخابات القادمة تجنّبا لكارثة الانتخابات التأسيسيّة. والثالث هو الاستفادة من اهتزاز مكانة الأغلبيّة الحاكمة ومن أخطائها وفشلها في الإيفاء بتعهّداتها الانتخابيّة والتزاماتها مع ناخبيها.
يقول حمّة الهمّامي "إنّ هذه الجبهة سياسيّة وليست انتخابيّة"، يعني أنّه يرسل رسالة طمأنة إلى الرّأي العامّ مفادها أنّ الجبهة ولدت قويّة وأنّها مبنيّة على أسس متينة تضمن لها الانسجام والدّوام وأنّ النقاش الإيديولوجيّ والسياسيّ قد تمّ استيفاؤه. والأكيد أنّ ميلاد هذه الجبهة قد أبهج اليساريّين وأتاح لهم أخيراً أن يشعروا بأنّهم رقم مهمّ في المجتمع التونسيّ سينال نصيبه من السياسة التي تفكّر بشكل مختلف وتطرح رؤى مختلفة عن السّابق.
لكنّ الجبهة الشعبيّة اليساريّة الوليدة لا تجمع كلّ الطيف اليساريّ. ولا نعرف إن كانت جبهة مفتوحة أم مغلقة. كما نجهل العوامل المحدّدة لها من عدمها خلافاً للعامل الإيديولوجيّ. ولم تقدّم الجبهة قراءة مغايرة ولا عميقة للمشهد السياسيّ التونسيّ اليوم. فهي لا ترى السّاحة إلاّ استقطاباً بين حزب حركة النهضة وحزب نداء تونس. وهي ترى في نفسها الضلع المكمّل لمثلّث الاستقطاب، في حين يبدو أنّها حكمت على أطراف فاعلة اليوم بالموت السريريّ سياسيّا على غرار حزبيْ المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحزب التكتّل من أجل العمل والحرّيّات وتيّار العريضة الشعبيّة. وهو ما يعني أنّ الجبهة تقدّم قراءة تقليديّة تبسيطيّة للمشهد السياسيّ التونسيّ. فلا ترى فيه التنوّع والتعدّد. وهي بذلك تطمئنّ إلى المفاجآت. وتركن إلى الخطاب المطمئن لها دون عناء التفكير والبحث في الاتّجاه المعاكس.
من جهة أخرى، يلاحظ المتأمّل في الجبهة الشعبيّة اليساريّة الوليدة أنّها لا تبتعد من حيث الفكرة والأهداف من هيئة 18 أكتوبر الشهيرة باستثناء حركة النهضة. فهيئة 18 أكتوبر كانت هيئة سلميّة للاحتجاج على الاستبداد. وكان هدفها إزعاج النظام ودقّ مسمار في خاصرته. وقد زالت الهيئة بزوال شروطها كما عبّر حمّة الهمّامي. لقد اجتمع أقصى اليسار (حزب العمّال الشيوعيّ التونسيّ) مع أقصى اليمين (حركة النهضة الإسلاميّة) مع مناضلين مستقلّين (المحامي والحقوقيّ والنّاشط السياسيّ العيّاشي الهمّامي، مثلاً) في هيئة 18 أكتوبر. والشيء نفسه تقريباً نراه يتكرّر في الجبهة الشعبيّة إذ تجمع شيوعيّين مع قوميّين مع يساريّين مستقلّين. غير أنّ الفرق بين الهيئة والجبهة أنّ الأولى كانت جبهة سياسيّة لمقاومة الاستبداد في حين أنّ الثانية هي جبهة سياسيّة تطمح إلى الوصول إلى السّلطة عبر الإيديولوجيا. وهي في ذلك تلتقي مع حزب حركة النهضة ذي الإيديولوجيا الدينيّة الإسلاميّة.
فالعامل الإيديولوجيّ مع النقاء الثوريّ من شروط تكوّن هذه الجبهة. ويمكن لنا أن نلاحظ بيسر أنّ الجبهة اليساريّة تتكوّن من الإيديولوجيّتين القوميّة والاشتراكيّة. ولئن تشترك الإيديولوجيّتان الاشتراكيّة اليساريّة والقوميّة في عبادة الشخص وفي فكرة الزعيم المخلّص الكاريزماتي (عبد النّاصر وصدّام حسين عند القوميّين والبعثيّين، من جهة، ولينين وماو تسي تونغ وفيدال كاسترو وباتريس لومومبا وحتى ستالين عند اليساريّين، من جهة ثانية)، فكيف ستحلّ الجبهة الشعبيّة إشكالاتها السياسيّة النّاجمة عن الخلفيّة الإيديولوجيّة لمكوّناتها كالموقف ممّا يحدث في سوريا، مثلاً؟
فالقوميّون يرونه مؤامرة على النظام السوريّ باعتباره نظاماً ممانعاً. واليساريّون يرونه ثورة شعبيّة ضدّ نظام شموليّ استبداديّ لا شرعيّ. وما هو الهدف الاستراتيجيّ للجبهة الشعبيّة اليساريّة التونسيّة؛ هل هو تحقيق حلم الوحدة العربيّة (حلم قوميّ) أم تحقيق الاشتراكيّة والعدالة الاجتماعيّة والمساواة في الثروة والملكيّة (حلم يساريّ شيوعيّ)؟ ما هو تصوّر الجبهة الشعبيّة لنظام الحكم الأصلح لتونس؛ هل هو النظام العروبيّ الهوويّ الملتفت إلى الشرق أم النظام العمّاليّ البروليتاريّ الملتفت إلى المطرقة والمنجل؟
كما يُطرح سؤال المسألة الدينيّة بإلحاح عند الحديث عن الجبهة الشعبيّة الوليدة بين اليساريّين والقوميّين. فاليسار، بحكم مراجعه الإيديولوجيّة، مستمرّ في مناقشة المسألة الدّينيّة باعتبارها إنتاجاً بشريّاً يخضع للتقييم وللمراجعة والنقد. فيما يرى القوميّون أنّ المسألة الدينيّة لا تطرح للنقاش باعتبارها متّصلة بالإيمان والعقيدة الفرديّة والجماعيّة. فكيف ستحسم الجبهة الشعبيّة هذه المسألة الخلافيّة؟
ويحسنُ التذكير بأنّ مكوّنيْ الجبهة الأساسيّيْن، اليسار بعائلاته المتعدّدة والقوميّين بمختلف انتماءاتهم، قد ورثا التنافر والعداء الإيديولوجيّ في العمل النقابيّ في الجامعة وفي القطاعات المهنيّة. بل يمكن أن نقول إنّ هذا العداء كان قائماً حتى بين أبناء الإيديولوجيا الواحدة فيما بينهم. فلم يكن اليسار يوماً منسجماً ولا متّفقاً. ولا يمكن التيّار القوميّ يوماً متّحداً. بل كثيرا ما شهدنا تحالفات مشبوهة بين أحد هذه التيّارات مع خصوم إيديولوجيّين له من أجل إسقاط قائمة رفيقة. كلّ هذا يعني أنّ أمام الجبهة عملاً كبيراً للتعافي من الوهن الإيديولوجيّ المزمن. وتبقى الوثوقيّة الإيديولوجيّة صليباً تحمله الجبهة الشعبيّة.
رسالة شخصيّة إلى الجبهة الشعبيّة:
أنا سعيد بميلاد الجبهة الشعبيّة التي تضمّ أغلب القوى اليساريّة التقدميّة الثوريّة. وحتى لا تكون الولادة من الخاصرة، كنت قد طرحت جملة من القضايا والمسائل والإشكاليّات الأساسيّة المتّصلة بهذه الولادة. ومازلت أنتظر الخطاب المقنع بعيداً عن الشعارات السياسيّة المتّصلة بمعارضة الحكومة وبأخطاء النهضة وغير ذلك. أنا أتحدّث عن التأسيس الذاتيّ بقطع النظر عن الآخر الخصم أو المنافس. طبعا أنا لا أهتمّ بالجانب الدعويّ البروباغانديّ الاحتفاليّ الكرنفاليّ للحدث. وإنّما تشغلني كما قلت الإشكاليّات المنهجيّة والنظريّة المتّصلة أساساً بالاختلافات بل التناقضات الإيديولوجيّة المحرّكة لأغلب مكوّنات الجبهة. وأهمّ أسئلتي:
كيف ستتعامل الجبهة مع النهضة ومع نداء تونس؟ كيف تنظر الجبهة اليوم إلى الإسلام السياسيّ؟ ما هي أطروحات الجبهة لبناء السلم الاجتماعيّ؟ ماهي السياسة الخارجيّة التي تراها الجبهة؟ ماهي خيارات الجبهة التنمويّة؟ ماهي علاقة الجبهة بالأنظمة الراديكاليّة في العالم (عدوّة أمريكا)؟ هل ستكون جبهة حداثيّة أم يساريّة راديكاليّة؟ هل ستكون جبهة إيديولوجيّة أم وطنيّة؟
ولدت الجبهة الشعبيّة، ولكنّي خائف..
كنت هناك يوم ميلاد الجبهة (7 أكتوبر 2012) ورأيت الوجوه نفسها التي كنت أراها في ساحة محمد علي وفي شارع بورقيبة قبل الثورة بكثير وأثناءها وبعيدها قبل أن تحاول اللحى وربطات الأعناق إيهام النّاس بغير ذلك. كنت هناك.. ورأيت أصدقائي جميعاً وأحبّتي ورفاقي. كنت هناك.. واستعدت لحظات الفرح البكر.. الفرح بالثورة الذي كان مشوباً بالخوف من المجهول.. كنت هناك فسعدتُ وانتشيتُ وسعدتْ وانتشتْ جماهير شعبنا المناضلة.. كنت هناك ورأيت الطقوس نفسها التي ألفناها دائماً: الخطب الحماسيّة والأغاني الملتزمة والشعارات الناريّة.. فخفت لأنّي تذكّرت الماضي، فقد كنّا دائماً نفعل ذلك حتى في عهد الدكتاتوريّة؛ نحضر نغنّي نتعانق مستمع إلى الأغاني الملتزمة و.. وينتهي كلّ شيء. خوفي من ألاّ تكون قيادة الجبهة في مستوى انتظارات القواعد التقدّميّة. وخوفي ألاّ تكون النقاشات التأسيسيّة لاسيما الإيديولوجيّة والتنظيميّة منها متقدّمة. فلو انتكست هذه الجبهة فستأكلنا القروش. ومع ذلك سعدتٌ وانتشيتُ.. ولكنّي خائف.
وأودّ االتذكير بأنّ الشعار لا يكفي لبناء الأحلام. لابدّ من التفكير في تحويل الشعارات الجميلة إلى برامج فعليّة قابلة للتحقّق حتى لا يقع لكم ما يقع لأصحاب السّلطة اليوم، ألا ترون الشعب يحاسبهم على شعاراتهم ووعودهم التي عجزوا عن الإيفاء بها؟
كيف تكون الجبهة الشعبيّة تقدميّة؟
سمعت يوم ميلاد الجبهة بعض الخطب المخيفة يغلب عليها اتّهام الآخرين وتخوينهم واحتكار الثوريّة والوعد بتطهير الوطن من أعداء الثورة واعتبار الجبهة بديلاً مخلّصاً للشعب. وسمعت حمّة الهمّامي يوضّح قائلاً: "نحن لن نتعامل مع النّهضة ولا مع نداء تونس، فهما وجهان لعملة واحدة." رفيقي حمّة أسألك: كيف ستتعامل الجبهة مع بقيّة مكوّنات المشهد السياسيّ التي تمثّل أجزاء واسعة من هذا الشعب؟ ماذا يعني أنّ الجبهة لن تتعامل مع النهضة؛ أيعني ذلك محواً وإقصاء أم عدم اعتراف أم تخويناً؟ ألا ترى أنّ النّهضة والنّداء موجودان يالفعل وبالقوّة ولابدّ من التعامل معهما بشكل من الأشكال؟ بدل الرّفض القاطع الذي لن يخدم الجبهة في الدّاخل ولا في الخارج، ألم يكن من الأجدى إعداد استراتيجيا مرنة للتعامل مع شركاء السّاحة السياسيّة؟
رفاقي الأعزّاء:
الإسلاميّون هنا ونداء تونس هنا أيضاً. ولابدّ من التعامل معهم. ولن يكون الحلّ في إلغائهم فهم لن يُلْغَوْا بهذا وإنّما بالخوض معهم في الجدل الفكريّ والسياسيّ وبافتكاك الأرض من أمامهم بالعمل والإنجاز وليس بالشعار.
رفاقي الأعزّاء
إنّ هذا التعامل وهذا الخطاب لا يدلاّن على رحابة الأفق السياسيّ ولا يعدان بالديمقراطيّة ولا ينفيان وجود النهضة والنداء ولا يضمنان الفوز القريب.
رفاقي الأعزّاء
لماذا لا تعيدون قراءة ماركس ولينين وألتوسير وديريدا ودولوز وبورديو وشيئاً من فوكو ولوكاتش وفرويد ويونج؟
رفاقي الأعزّاء:
إنّ خطابكم هذا يعِد بالفاشيّة والاستئصال والاستبداد وأنا لست معه.
رفاقي الأعزّاء:
أنا أدعوكم للنقاش وللتأسيس الفكريّ والنّقديّ الفعليّ الجادّ الذي ينطلق من تجميع المعطيات ودراستها تفكيكاً وتحليلاً وتأويلاً ونقداً واستشرافاً. أمّا طوباويّة الستّينيّات ورومانسيّة السبعينيّات وخطابات القرن 19 فإنّها جميعاً رجعيّة وتؤسّس للاستبداد. فكيف يكون خطاب جبهة تقدميّة رجعيّاً؟؟
رفاقي الأعزّاء لكم محبّتي واستمراري في نقدكم
(كاتب من تونس)
mustapha.kalii@yahoo.fr