لا لحنجرة العتمة، نعم لثقة الفانوس!
نحن المثقفين والأدباء والكتاب والفنانيين والصحفيين البحرينيين، الذين شاهدنا، وسمعنا، وقرأنا، وعايشنا، ما حدث وما يحدث في بلادنا ولشعبنا. نرى في هذه اللحظة من التاريخ، ضرورة الوقوف بشجاعة، وبوعي عميق لكشف وتشخيص ما حصل من انكسار عمودي في البنية الثقافية لمجتمعنا، ونتائجه الخطرة، وتبيان مرارة المحنة التي انبعثت من ثقافة محملة بالطائفية والتمييز والكراهية، تلوكها وتساهم في تغذيتها وإروائها، والنفخ فيها، وتزكيتها، أجهزة الثقافة والتعليم والإعلام، وألسنة وأقلام مجموعة من الكتاب، الذين حشروا أصواتهم ومزجوها مع أصوات الظلام والتمزيق الطائفي، وتغذية الأحقاد، والتحريض الأمني، والوشاية، مثل جوقة باحثة عن الغنيمة والأسلاب، وسرب يقتفي ضربة جناح معتمة.
ونحن إذ نقف على هذه الآثار والمحمولات الثقافية الممعنة في سوداويتها، وكارثيتها، التي نتجت عن استماتة العقل القابع في أزمنته المستبدة، لمنع أي منبع إرهاصي للحرية والاستنارة والعدالة؛ فإننا لابد أن نستوضح ما هو كامن في البنية الثقافية من أخطار، وما كان يمور في خلاياها من أمراض وتصدعات مرئية ومضمرة.
ونحن نعرف بوعي، أن غياب الإستراتيجية الثقافية المحركة بالعقل التنويري والحرية، وتغييب وتحجيم الأفكار والآراء والأدوار والأنشطة التي هي من حق المثقفين والأدباء والفنانين والكتاب؛ إنما هو إمعان في الانتماء للماضي وتقويته، ومحاربة ساعات المستقبل وتعطيلها.
ومع تفاقم استبعاد الدور الثقافي عن التنمية والتطوير، وتهميش المثقفين القادرين على صياغة مشروعهم الصلب الرافع لمعاني الجمال، القادر على تخليص المجتمع من الأنماط الاستهلاكية للثقافة والإبداع ووعكاتها، وإخصابه بضوء العقل والتفكير الحر؛ تمدد وتضخم المشروع الثقافي المنتمي للتسطح، وإشاعة المفاهيم والجمل الضيقة، المحرّضة على الهدم والانحدار، بصيغها الطائفية والقبلية، والاغترابية المعاكسة لمسار التقدم، وإشاعة الديمقراطية والحرية، واقترب المواطن من افتقاد وعيه الوجودي الفاعل، على المستويين الفردي والجماعي، ولم يعد يشعر بإنسانيته وكرامته، ولا بقدراته وطاقاته، وصار قلقاً على ذاته وهويته ومستقبله.
الإنسان يصنع تاريخه وثقافته الخاصة، كيف صنعنا تاريخنا وثقافتنا؟
لو محّصنا هويتنا وفكّرنا فيها، بتمعن واستبصار، ضمن منهاج نقدي علمي، لا يمكننا إلا أن نستنتج وبوضوح لا ريبة فيه، في عمق جوهرنا، أننا مجتمع مسلوب الحرية والعقل، غارق في دوامات الظلم والاستبداد دهوراً متتالية، بحيث أصبحت ثقافة الاستبداد ومعجمها هو ما تم صنعه، في الوعي والسلوك الفردي والجمعي.
ولقد صنع تاريخنا المستبد لنفسه ثقافة منسوجة من خيوط الخوف والغنائم والأسلاب، وعزز صيرورته بمثقفين أمنيين ومرتشين، كأفراد، وجماعات، ونظم مؤسسية، وبخطاب لا يبارح جذوره وفلسفته العمياء التي ترى في التعصب والتطرف واليقينية مادتها الأولى والمطلقة، وتستمتع باستمرارها؛ فأصبح المجتمع مفرغاً من الأمل والأحلام، مستلب الحقوق والكفاءات، والطاقات، ومحشواً باليأس والتخاذل.
الاختناق المزمن للعدالة:
إن سؤال العدالة وتحقيقها سؤال مزمن، وهو من الأسئلة التي دقّت مبكراً فكر الإنسان وتطلعاته، لكن الأنا المتسلطة قد أوجدت لنفسها نظماً وطقوساً اجتماعية وثقافية تعاكس طموح العدالة وتعادي المساواة، وتشرعن هذا العداء ضمن مقولات وأنساق دينية وثقافية وفكرية غارقة في جمودها ومصرة على استحضار الماضي وفرضه على الحاضر، واعتباره بوصلة للمستقبل، كما تجعلها من مسلمات الحياة الاجتماعية والسياسية، داخل إطار الطغيان. ولعل من أهم ما أسسه الطغيان من أحكام، هو تكريس فكرة التمييز الطبقي والاجتماعي والعرقي والطائفي، وهي فكرة ترسخت كسلوك استبدادي مازال فاعلاً ونشطاً في تاريخنا وثقافتنا، أنتج قوانينه وأعرافه القامعة والمصادرة لحرية الإنسان وكرامته، وكرّس سلوكيات الذل والمهانة، والعنصرية، وتعزيز فكرة الراعي والرعية. نافياً ومحارباً فكرة المواطنة، ومحلاً فكرة الرعية التي تستوجب الطاعة والتنفيذ محلها؛ وهي فكرة تصادر حرية الإنسان وتضعه تحت مظلة السلطة المطلقة التي تعمل خارج الأطر الحقوقية والإنسانية.
تشويش الهوية:
إن التاريخ والذاكرة والثقافة الحضارية والتراث الشعبي للمجتمع البحريني، في الأدب والفن والفكر والعادات والتقاليد والدين، هو ما يمثل هويته العربية والإسلامية، والتي توطّدت في مستوياتها العميقة على مدى طويل من الزمن، ومن التفاعلات الاجتماعية والثقافية والدينية. ولكن هذه الهوية تتعرض وبوتيرة متسارعة للتشويه، وللمحو والاستبدال، بفعل عمليات التجنيس السياسي الفوضوية. فإغراق البلاد بأعراق متباينة الثقافات والهويات، وأكثرهم من غير المتعلمين، ينذر بأخطار جمة على الهوية الاجتماعية والثقافية لمجتمعنا ويمسخها، وستصاب ثقافتنا من خلال التجنيس السياسي الفوضوي بانكسارات واختلالات عميقة، وهذا ما برزت إرهاصاته جليّة في الاصطفافات العرقية والطائفية، وأصبح الوطن مجرد غنيمة تستلزم الصراع الوجودي العنيف للحصول عليها وتقاسمها؛ حيث لاحظنا انشطار الوطن طائفياً، وعرقياً، وثقافياً، مما أباح للفكر الطائفي المظلم أن يستغرف من أغواره، ويتصارع بها وعليها، لدرجة أنه حفّز بعض المجنسين بالدخول في هذا الطقس، باعتباره مرجعاً للهوية، والمطالبة علناً وأمام وسائل الإعلام بطرد السكان المواطنين، باعتبارهم خونة، ولا يستحقون التواجد على هذه الأرض.
مع أننا نؤمن إيماننا راسخاً، بأهمية التنوع والتعدد الإثني والديني والطائفي والثقافي والفكري والسياسي، لما يمثله هذا التنوع من إغناء للمجتمع، ومسارات تطوره، شريطة أن يتماشى هذا التنوع مع حاجات الوطن ومتطلباته، ويكون متوافقاً مع القانون ومبادئ حقوق الإنسان، ولا يكون مفروضاً بأشكال قسرية، وقرارات فردية، ولأهداف سياسية ضيقة.
تغذية النهج الطائفي:
في اللحظات التي يتم فيها استبعاد وإقصاء وتهميش المثقفين والأدباء والفنانين، وإضعاف مؤسساتهم، فإن الثقافة الدينية الطائفية، والقبلية، والعرقية، يسمح لها بالفرص والإمكانات التي تسهل من انتشار وتوسع أفكارها وأنماطها السلوكية، وتغلغلها وسط الناس. ونتج عن هذا المشهد انحياز طائفي ضيق، في الموروثات الشعبية، والثقافية والفنية؛ الأمر الذي شوّه التراث والثقافة البحرينية، وأحدث فيها نقصاناً، وحرمها من قوة تنوعها وتعددها.
وعلى إثر هذا المحو والتفكيك للثقافة المجتمعية، وحصرها ضمن أنابيب طائفية ضيقة، نما الشعور بالغبن والاضطهاد الثقافي على ضفة، وتضخم الوعي الزائف، البعيد عن جوهر الحقيقة على الضفة المقابلة. وأخذ هذا الشرخ يستفحل ويتقولب ليغوص في نبش ماضيه، ويجتر معجمه وسردياته المنتمية للقرون الماضية.
وهذه التمزقات والتشوهات المتتابعة في الهوية الثقافية والاجتماعية هي ما عبرت عن ذاتها ومصائبها بالانكسار العظيم الذي حدث في الصورة.
ولعل الأخطر الذي نتج عن هذه الوعي الزائف، هو الإقدام على ممارسة الانتقام الجماعي الممنهج للمختلف مذهبياً وفكرياً وسياسياً، ليس فقط كأجساد مواطنة لها كرامة في حقوقها الإنسانية، وإنما أيضاً بهدم مؤسساتها العبادية والدينية وما احتضنته من كتب تراثية ونسخ من القران الكريم تم إحراقها، كفعل ثقافي انتقامي، يرسخ صور الاجتثاث والمحو لما هو مغروس في المكون الديني والثقافي والاجتماعي، وفاعل فيه على مدى طويل من تاريخ هذا الشعب ومعتقداته.
لحظة الانكسار العظيم:
كل شيء كان يشي بحدوث الانكسار، وعند أي لحظة تهتز فيها الأرض، أو مفترق لا يسمح بالتراجع، بفعل ما أنجز من هدم، وما شيّد من تشوّه في الثقافة البحرينية. ففي لحظة ارتفاع الحناجر الحقيقية، وتفجر الأصوات المنادية بالحرية والعدالة التي اندغمت مع مطالب الناس بضرورة إعادة صياغة التاريخ، ووضع رأسه ناحية المستقبل، في هذه اللحظة التي انشق فيها بطن الظلمة على كل رقعة الوطن العربي، ومنها أرخبيلنا، كان لابد أن يأخذ المثقفون والأدباء والفنانون والكتاب والصحفيون مواقفهم، مع لا، أو مع نعم للتغيير.
وكان لابد للمثقف المخلص للحرية والعدالة أن يحدد خطواته نحو المستقبل، ويستثمر حقه المفترض في التعبير عن آرائه، ويمارس نقده للراهن المستبد، ويطرح أفكاره ومطالبه التي تتدفق مع مطالب الشعب؛ وهذا ما قمنا به عن قناعة وإيمان بعدالة مطالبنا، وآرائنا، المتفقة مع المبادئ والقيم التي تعلمناها وتربينا عليها ومن أجلها، دون أن نصادر أو نسفّه، أو نقلل من أي رأي كنا نشاهده يذهب في الاتجاه المضاد؛ حيث كنا نتأمل ثورات الربيع العربي، بتنوع مطالبها واختلاف سقوف شعاراتها العقلانية والمتطرفة، وكان في تلك اللحظات كل حنجرة وعقل يصدح بما يراه صائباً دون قمع أو إقصاء لحرية الرأي ما دام ينطق قولاً ويمارسه سلماً لا عنفاً.
انطلاقاً من حقنا، ومن مواقفنا، شاركنا في المسيرات التي دعت إليها مؤسسات المجتمع المدني ومنها أسرة الأدباء والكتاب، والمسارح الأهلية، والفرق الفنية، والجمعيات الأهلية والمهنية والنسائية والشبابية والحقوقية، للتعبير عن مواقفنا مع الحرية ومع الثقافة العقلانية المتخلصة من الفساد والاستفراد والطائفية. وعلى أساس هذا الموقف في التعبير عن الرأي تم الانتقام من الأصوات الثقافية ومن الثقافة الحرة. كما تم إشاعة خطاب الشتائم، والتنقيص الطائفي، والانتقام المذهبي، والتخويف والتخوين، والتشهير، والمصادرة؛ فأصبح المجتمع مشطوراً مناطقياً، وثقافياً، وينغمس شيئاً فشيئاً في برودة الجهل والتنفس المظلم، بفعل أقلام كانت في يوم ما تتفجر حناجرها بالحرية والحداثة، وهي الآن تمجد الانتقام والحقد وتؤلّب على البقع المضيئة.
الآذان الصماء:
علينا أن نوجّه أصواتنا إلى الآذان التي يفترض بها أن تسمعنا، إلى الجهات المعنية بالثقافة والإعلام، والمسؤولة عما حدث ويحدث للثقافة والمثقفين؛ وذلك من خلال طرح التساؤلات المعمقة التي تتصل باستراتيجياتها ومشاريعها الثقافية والإعلامية، هذه الاستراتيجيات والمشاريع التي أظهرت مستخرجاتها ونتائجها غياباً لاستثمار الطاقات والكفاءات الثقافية، والإعلامية، والفنية، والأدبية الوطنية، التي نشأت على مسافة من السلطة، والتي تتصف بالعقل النقدي، بل العمل على إزاحتها وإقصائها. كما أنها استبعدت أو حيدت المؤسسات والتنظيمات الثقافية المرتبطة بالشأن العام، والتي تكونت ضمن مبادئ وأهداف ثقافية تقدمية، وغير سلطوية، ولها هموم مشتركة مع الشعب. وأخذت تستبدلها بكيانات مصمّمة للحاجة المؤقتة، وساعدها على ذلك ظهور وانتشار ظاهرة المثقف النفعي، بما تحمله هذه الجملة من سلبية، والمتحوّل الذي يطلق خطاباته ومواقفه من ضرورة استثمار اللحظة التي يعيشها، مهما كانت متباينة أو متناقضة. ورغم رؤيتنا بأن مثل هذه الظاهرة الثقافية قد وجدت تاريخياً منذ القدم، واستفحلت في مجتمعنا مع زيادة الريع النفطي بمكرماته وعطاياه ومغانمه للمثقف النفعي والمتحول والمترحل، إلاّ أن ما حدث أثناء فترة السلامة الوطنية كان استثناءً فاضحاً ومعيباً ومخجلاً للتراث الثقافي الوطني.
وقد مارست المؤسسات الرسمية أدواراً تهميشية مثلما بينته، برامج ربيع الثقافة، ومشروع بيت الشعر، وأدواراً رقابية متشددة، تمثلت في قانون الجمعيات رقم 21 لعام 1989، وفي حجبها للعديد من المواقع الإلكترونية وبالأخص مواقع الجمعيات السياسية، ومنع نشراتها المطبوعة، إضافة إلى المدونات الأخرى.
ولعل أخطر ما تعرض له المثقف والمبدع والإعلامي، في هذه المؤسسات هو مطاردته على آرائه، بالتحقيق، والتوقيف، والفصل، والتهميش، والتخوين، والإقصاء، وهذا المرار تجرّعه الكثير من المثقفين والأدباء والفنانين والصحفيين في مواقعهم العملية بوزارة الثقافة، وبهيئة شؤون الإعلام، وبالمواقع الإعلامية الأخرى.
القبض على أسرة الأدباء والكتاب:
لقد تأسست أسرة الأدباء والكتاب في عام 1969، كمؤسسة ثقافية مستقلة، وعلى مسافة حذرة من السلطة، وتستند على مبادئ إنسانية، تنشد الحرية والتقدم والإبداع، تهدف إلى تطوير ثقافة المجتمع البحريني وتنمية ذائقته الفنية والأدبية، متخذة شعاراً لها : ( الكلمة من أجل الإنسان). وتحت هذا الشعار، وإخلاصاً لمبادئها وأهدافها، عملت الأسرة طيلة تاريخها، بحذر شديد من الاقتراب من السلطة والوقوع في قبضتها، ومن أجل ذلك عانت الكثير من المضايقات والتهميش، وقدمت الكثير من التضحيات الجسام.
وتحت وهج مبادئها وأهدافها التي صاغها المؤسسون، لم تتأخر الأسرة من تبيان موقفها المشرف، من الدم المراق، ومن رفضها للعنف، ومن تحديد موقفها ورؤيتها فيما هو حاصل، وما يجب تغييره، والذي أوضحه بيانها بعنوان ( بيان أسرة الأدباء والكتاب- من أجل الحرية)، ومن مشاركتها في مسيرة مؤسسات المجتمع المدني باتجاه دوار اللؤلؤة، تحت نفس الرؤى والأهداف.
في هذه اللحظة، التي كانت الأسرة فيها منسجمة مع مبادئها وأهدافها، وعبّر فيها أعضاؤها عن آرائهم، ورؤيتهم، ومطالبهم الثقافية، رافضين للعنف، كان هناك من يمارس دور العين واللسان الأمني على زملائه بتصويرهم وبعث صورهم إلى الجهات التي يراها مسؤولة، ومنهم من يشتم ويحرّض عليهم، على مواقعه في شبكة التواصل الاجتماعي، ومنهم من ينتظر لحظة الانتقام، حتى أن بعضهم وصف التغيير في مجلس إدارة الأسرة والاستقالات التي تمت، بالتطهير من الفيروسات.
وما أن أغلقت السماء شفتيها، وعمّ الظلام والرعب، تحت قانون السلامة الوطنية، وتيقن المثقفون والكتّاب المناهضون للتغيير والتقدم، أن لحظتهم قد حانت، حتى بدأوا يظهرون شغفهم ومهاراتهم الإعلامية والكتابية في التليفزيون والإذاعة والصحف، في التحريض على الانتقام، والوشاية، والتحقيق مع زملائهم، وتفجير حناجرهم الطائفية بإطلاق النعوت الكاذبة، ووصفهم بالخونة والصفويين، والمجوس، وأتباع ولاية الفقيه، والمنفذين للأجندات الخارجية، كفعل انتقامي، ينتمي للثقافة السوداء المعتمة.
وبتاريخ 1 مايو 2011، بث تليفزيون البحرين على الهواء مباشرة محاكمة للأسرة ولمجلس إدارتها، وللمثقفين والفنانيين والأدباء ضمن حلقات برنامج الراصد، وتم إبراز صورهم وتقريبها للمشاهد، وهي محاطة بحلقات ودوائر، وكأنهم مجرمون وخونة، وليسوا أصحاب رأي.
نعم، لقد تكاتفوا أمنياً، وبدأوا يشتغلون على البراءة من زملائهم، والتلويح لهم بيد القانون والأمن، وضرورة محاسبتهم حساباً عسيراً؛ كتعبير عن وفائهم لثقافة القمع والاستئصال، وتجسيداً مطابقاً للمكارثية التي سادت الولايات المتحدة الأمريكية في الخمسينيات من القرن الماضي بل أشد منها انتقاماً، مما حدا ببعض الأعضاء بالاستقالة من الأسرة، كي لا يخوضوا في هذا السديم.
وفي تاريخ 9 يوليو 2011، انعقدت الجمعية العمومية للأسرة بنصاب غير قانوني لا يتجاوز 12 عضواً، لينتخب مجلس إدارة جديد، وليغير مسمى الأسرة من أسرة الأدباء والكتاب، إلى اتحاد كتاب البحرين، في خطوة يمكن تأويلها بالتخلص من الاسم الذي حمل تاريخاً مضيئاً، وأسوة بهدم وتغيير مسمى ميدان اللؤلؤة.
ونتيجة لهذا الواقع المفروض قسراً على الأسرة، الذي رهنها لصوت غير صوتها الحقيقي، بصورة غير قانونية، ونتيجة ما يتضمنه مجلس الإدارة من بعض الأعضاء، منهم من عملوا ومازالوا منهمكين في شتم كل من خالفهم في الرأي، والتحريض عليهم ووصفهم بنعوت من معجم الاستبداد والتخلف؛ أقدم الكثير من الأعضاء الفاعلين على تقديم استقالاتهم.
وعليه نرى أن أسرة الأدباء والكتاب قد تم القبض عليها واختطافها في لحظة لم يكن بالإمكان السماح للصوت المقموع بالتعبير عن رأيه، وتمت معاقبتها على مبادئها وأهدافها وتاريخها المشرق، ومواقفها التقدمية، وهي الآن، وللأسف فقدت استقلاليتها، وتتجه إلى المساهمة في ثقافة عكس مبادئها وأهدافها.
إن اختطاف الأسرة تم في سياق اختطافات عديدة لمؤسسات المجتمع المدني وبسواعد بعض أعضائها، وإن كنا نقدّر للبعض ممن صبروا وسكتوا ولم يستقيلوا احتجاجاً، ضمن رؤية خاصة يؤمنون بها.
شاشة الدوائر ومحاكماتها التفتيشية:
إن فلسفة ثقافة الصورة، تتطلب الرشد والوعي في كيفية التعامل معها وتوظيفها توظيفاً ينبش طاقتها المحمولة، وإلاّ من الممكن أن تخرج جوانبها السلبية في لحظة الانفلات. وربما هذا ما أظهرته شاشة تلفزيون البحرين في تعاملها مع الشعب ومطالبه، ومع فئاته المجتمعية وقطاعاته المهنية، والثقافية، ومؤسساته السياسية، ومؤسسات المجتمع المدني؛ فهو لم يكن تلفزيون الواقع، وإنما وقع في مصيدة الصورة المقلوبة للواقع.
فالصورة المشوّهة المحمّلة بالعنف اللفظي، والإساءات، والسخرية بمكونات الشعب الاجتماعية والطائفية، وإطلاق الأحكام الجاهزة، هي ما زخرت به هذه الشاشة، وجعلها بعيدة كل البعد عن المبادئ والأهداف الإعلامية والثقافية التي استوجبت ظهورها.
لقد صنعت هذه الشاشة لنفسها صورة ممسوخة، مستنسخة لمحاكمات تاريخية توبيخية وتهديدية للرأي والفكر، ضمن برنامج الراصد، طالت القطاعات والمؤسسات، كالرياضيين والصحفيين والأطباء والمثقفين والفنانين والأدباء والكتاب والنقابيين. إلى جانب مجموعة من البرامج مثل برنامج كلمة أخيرة، وبرنامج حوار مفتوح الذي أخذ يكيل التهم والأحكام في كل مكان وعلى أي من يتخيله.
ومثل هذه البرامج والصور، بدلاً من أن تحضّ على التنوير وصراع الأفكار كانت ومازالت تغذي الثقافة السلبية، والتحريضية والانتقامية، وتحضّ على صراع الطوائف؛ هذا الصراع الذي يقوّض المجتمع ويفلته في مدارات مجهولة.
صحافة معروكة الأذن:
إن تعبير السلطة الرابعة لم يأتِ عبثاً، أو مزايدة، وإنما يتقصد أدوارها النقدية والشفافة، ومطاردة الفساد، وكذلك خلق وتنمية وتعضيد الثقافة الجيدة والمبدعة، إلى جانب مهمتها في صياغة توجهات المجتمع نحو الأفضل. و هذه السلطة لا تتم إلا في طقس ديمقراطي حر.
ولكن لا يمكن وصف هذه الصحافة، سوى بالمتسلطة؛ نظراً لما أقبلت عليه من فصل تعسفي لموظفيها الصحفيين والعاملين الفنيين، بتهم باطلة ونوايا طائفية، وأخضعتهم لتحقيقات مهينة، وحرمتهم من حقهم في التعبير عن آرائهم، وقطعت أرزاقهم؛ ماسخة بذلك كل المواثيق الحقوقية المتعلقة بالإعلام والصحافة .
وتشنّ هذه الصحافة الصفراء حملة ضد الثقافة الحرة النظيفة، وتجهد في استبدالها بثقافة وأفكار طائفية مريضة، تنشد إضعاف بنية المجتمع وإخضاعه لأوهام عقائدية، ومصالح فئوية وشخصية ضيقة. كما تسطّر بشأن المثقفين سيلاً من الافتراءات والتضليلات، والأباطيل، والنعوت السلبية، التي لا تنتمي للضمير ولا للعقل المستنير.
المنامة عاصمة للظلام:
أن تكون المنامة عاصمة للثقافة، فهذا حلم راودنا، وتمنينا أن يتحقق منذ أزمنة، لتصبح مضاءة بحراك ثقافي حر، عقلاني وتعددي، غير خاضع لشروط وإملاءات قسرية ورقابية تصادر مشاريعه وتجبره على التخلص من خطابه التنويري. وكم ناضل المثقفون بكل أطيافهم من أجل أن يسود المنامة مناخ ثقافي يسهم في تنميتها وتطويرها واستثمار كفاءة مبدعيها؛ ولكن للأسف الشديد بقيت المنامة عاصمة مفتقدة للبنية التحتية للثقافة، وللتشريعات غير المقيدة، وللاستراتيجيات والمشاريع المتقدمة الهادفة إلى وضع الثقافة في مقدمة أهداف التنمية، ومفتقدة أيضاً لطاقات مثقفيها ومبدعيها. ولقد أخضعت المنامة إلى ربيع مزيف يستنزف مقدراتها، ويجعلها ليست أكثر من مكان فيزيقي يزوره المبدعون من أقاصي الدنيا ويحجب عنه مثقفو ومبدعو البحرين. وقد ناقش هذا التهميش المبرمج العديد من المؤسسات الثقافية والمثقفين خلال “ملتقى الثقافة البحرينية واقع وتطلعات” والذي عقد في الفترة من 11- 12 مايو 2008 بنادي العروبة.
ففي حين أننا نتمنى ونطالب بأن تكون المنامة عاصمة للثقافة بصورة مستمرة، فإنه وفي ظل ما حدث للثقافة وللمثقفين من إرغام على العزل، والتهميش، وقطع الأرزاق، والتشهير، والاعتقال، والتعذيب، والقتل، لا نجد المنامة، الآن، إلاّ عاصمة لثقافة الظلام القسري، الذي يمثل استمراراً أشد قتامة، لبناء ثقافة مُصادرة، وعقل خاضغ لنظّارات التسلط.
ولعل الصورة التي ظهر عليها معرض الكتاب الدولي، وهو محاط بالأسوار الشائكة، وبالحواجز الأمنية، تبقى دليلاً على شكل الثقافة التي لم يتقبلها وعينا.
أيها المثقفون المنتفعون:
كيف لنا أن ننسى أو نتغاضى عما حدث منكم، ومن مواقفكم الخاذلة لصوت الحق والعقلانية، وسلوكياتكم الذاهبة صوب هدم وتدمير الهوية الوطنية، وخطاباتكم المشحونة بالانتقام والتشفي؛ فقد شاهدنا وسمعنا وقرأنا ما تناديتم له وعملتم عليه، وتفاخرتم به، عرفنا جوهركم الذي أخفيتموه سنيناً، بخطابات ومواقف، أظهرت تناقضاتها الصارخة إلى حد الفجيعة؛ فلم تكن الحرية والحداثة والعقلانية، والاشتراكية، والعلمانية، والديمقراطية، والتقدمية التي هتفتم بها ومعها، سوى بنات معجم فارغ من دلالاته، ومتخم بنقائضه، التي طالبت وعلى ألسنتكم بالبطش، والانتقام، والتطهير، والقصاص، وسردت في كتاباتكم شتائم مجانية! نعم، لقد أظهرتم كينونة تمجد التسلط وتقاوم حرية واختلاف الرأي.
سنبقى مخلصين لثقافة الحرية
إيماناً منا، بأن ما حدث لثقافتنا ولمثقفينا ومبدعينا من مداهمات واستقصاد على مواقفهم وآرائهم، لا يفسر بغير كونه غلواً في التدمير للهوية وللإرث الثقافي والحضاري لهذا الوطن، وإن استمراره والتوغل فيه، هو عين الكارثة.
ولهذا فإننا، وبإخلاص للحرية والعدالة، نطالب بأن يوضع الوطن كمشروع وطني وليس مشروعاً قبلياً أو طائفياً، من خلال ثقافة الديمقراطية الحقة، وأن يبنى كدولة مدنية عصرية، تنتمي للإدارة الحديثة، عناوينها، حقوق الإنسان، وحقوق الكوكب، وحقوق الأجيال.
كما نطالب بوقف وإلغاء سياسة وثقافة التجنيس السياسي الفوضوي التي تدمر ثقافتنا و هويتنا، وتساهم في هدر ثرواتنا وثروات الأجيال اللاحقة من أبناء هذا الواطن.
ولا نقبل بأن تكون السجون هي الأمكنة التي تغيب فيها العقول والآراء، وتطمس الأرواح.
وضرورة إسكات الأصوات التي تحرض على الطائفية، وتروج لها في منابرها الصوتية والكتابية والإلكترونية، والعمل على إشاعة وتكريس مبدأ المواطنة.
ومن أجل إشاعة ثقافة الحرية والتسامح والعقل، والحوار بدلاً من ثقافة التشرذم والمهاجمة، لا بد من تحقيق مناخ العدالة والمساواة والحق الذي يلبي طموحات شعبنا، وذلك من خلال كسر حقيقي لاحتكار السلطة والثروة الوطنية، وما ينتج عن ذلك من مؤسسات دستورية – تشريعية وتنفيذية وقضائية- تجسد مبدأ الشعب مصدر السلطات كلها.
وفي هذا السياق، نهيب بالمنظمات الأدبية والفنية والثقافية وبالمؤسسات ذات الصلة بها، دولياً وعربياً، وبكل المثقفين والمبدعين الأحرار والشرفاء، أن يكونوا على قدر المسؤولية التاريخية مما حدث من تدمير وانكسار للبنى الثقافية في البحرين نتيجة قسوة اليد الفولاذية، وانفتاق الحنجرة المظلمة، وأن يقفوا معنا، من أجل تعطيل دوران العجلة المدمرة للهوية الوطنية والثقافية، التي يحركها الخطاب المتحصن خلف أمراضه الاستبدادية والطائفية.
ومن المهم كشف وتعرية الأصوات المحسوبة على الثقافة والفن والصحافة والكتابة، التي اختارت وبكامل وعيها أن تكون صوتاً حاقداً منذوراً ومكرساً للوشاية والتحريض وتلفيق التهم لكل من وقف موقفاً مغايراً لموقفها، وعبر عن رأي لا ينسجم وقناعاتها أو مآربها، موظفة كل وسائل الإعلام، وقواميس الانتقام في ذلك.
كما نثمن كل احتضان داعم للثقافة، وللمثقفين البحرينيين، الذين ينشدون الحرية والديمقراطية والتنوير، يخرجهم من أسوار الحصار، ومما يتعرضون له من استلاب وتشويه وانتقام وعنف.
نحن من عانى، أو رأى أو سمع، أو قرأ، الموقعون أدناه نعبر عن موقفنا وتضامننا مع ما جاء ذكره في هذا الخطاب:
******* تنوية : يمكنكم التوقيع عبر الرد على هذا البيان ادنى*******