يتناول الباحث بالتحليل العجائبية القصصية عن القاص المغربي المرموق أحمد بوزفور، فيقارب مفارقات الزمان والمكان والشخصية وفضاءات الحبكة في نصوصه. ويرى أن هذه الكتابة توفق في الجمع بين الثنائيات الضدية، والانعتاق من إكراهات الواقع وتأسيس واقعها العجائبي الخاص. فضلاً عن خلخلة اليقينيات الكبرى.

المتخيل العجائبي والغرابة

قراءة في التجربة القصصية لأحمد بوزفور

محمد رمصيص

يترجم المتخيل كمنتوج للمخيلة والخيال رغبة دفينة في الانفلات من إكراهات الواقع وترميم انكساراته وسد ثقوبه اللامتناهية. وهو بذلك يؤسس واقعه الخاص على انتهاك الوقائع المتكررة والأحداث المعتادة، فالمتخيل له قدرة هائلة على استدعاء المكبوت والمعطل، وتعرية رصانة الواقع المزعومة. ويعد المتخيل العجائبي جزء من هذا الكل، فقط أنه يتسم ببصمات طافحة بترسبات اللاوعي ومشمولاته المفارقة للعقل، حيث مملكتي ما فوق الطبيعي واللاعقل تستعيدان عافيتهما. الأمر الذي يعني إعطاء الكلمة للانفعال والغرائز والشهواني والأهواء والاندفاع نحو تحقيق الرغبة بغير حساب مفصل حساس، وحساسيته نابعة من اشتغاله على الجنون والأشباح والهذيان والوساوس والسحر وعالم الجن والتحول والمسخ وتحقيق الرغبة والحلم. لكن هل في تحقيق هذه الشهوات فوضى وتدمير لصرامة المنطق والبداهة؟ وهل يسعفنا العجائبي في الاحتراس من تقديس العقل سبب ازذواجية الإنسان في الكثير من الأحيان؟ وإلى أي حدّ تستدعي غرابة أحداثه وشخوصه فعل التأويل والتخمين، وتستبعد اليقين والقطع في دلالة الخطاب مادام الفنطاستيكي مرتهناً للغموض والالتباس والترميز. جملة من الأسئلة سنعمل على استثمارها في الإنصات لنبض المجاميع القصصية الأربع للقاص أحمد بوزفو.

1- مفارقات الزمن العجائبي
نشدد بداية في هذا السياق على أننا سنشتغل على زمن وقوع الأحدث كزمن داخلي خاص بمغامرة وقائع النص في بعدها الخارق، ولن نعير الاهتمام للأزمنة الخارجية كزمن التلقي والكتابة. ويتصف هذا الزمن السردي ببعد عجائبي لكونه ملتبساً في الغالب، تتداخل فيه الحياة بالموت ويتشابك فيه حدي الوجود بالعدم. الأمر الذي يجعل منه زمناً صادماً ومقلقاً في ذات الآن، بسبب إعادة طرحه سؤال مصير الإنسان ومآله. فضلاً عن اقتراحه حياة الموتى للتأمل إنطلاقاً من زمنهم هم المفارق للحياة، مذكراً إيانا أن الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود، لكنه سرعان ما يعود ليسخر منها بقلب تلك المعادلة التي تصور المنية دائماً متربصة بالأفراد إلى تربصهم، حيث تتحول الموت لحدث فرجوي مسحوباً عنها صفات الرعب والألم وقسوة الانفصال، لنتوقف عند هذه الرسالة الواردة من عزرائيل، يرد فيها على سيدة لازالت على قيد الحياة، تسأل عن رجل توفي منذ مدة، يقول السارد في (ص12-11): "سيدتي، إنه عندنا هنا في العالم السفلي، ولكن حالته غريبة تماماً، كل الناس هنا أصحاء مستبشرون. أما هو فشاحب اللون دائماً مرتجف الأطراف. قلت لنفسي حين رأيته: "سيكون هذا خطر على مجتمع الموتى، قد يكون مريضاً، وقد يكون مرضه معدياً. وليس من المستبعد أن يموت بين لحظة وأخرى."(1).

ترى هل يؤشر مرض هذا الميت بالعالم السفلي على أن الذي مات هو الجسد بخلاف أزليّة الروح؟ أم أنه يشدد على أن الموت نفسه لا يمكنه أن يحرر الأفراد من الاحساس بالألم حيث ظلت شكوى هذا الميت متواصلة وهو بمنآى عن الحياة. لكن بالمقابل لهذا، اذا اعتبرنا أن زمن الانسان مرتهن بحيز الحياة على الأرض. فكيف استطاع أحد أفراد مجتمع الموتى الشكوى؟ ونحن نعرف أن الموت رهين بارتفاع التفكير واللغة والكلام  إن فرادة الزمن العجائبي تكمن في تكسره ترتيب الزمن الاعتيادي وتوحيده لحظة الماقبل والراهن والمابعد، حيث يقترن زمن الموت بالرغبة والارادة كما في قصة "عودة تبن أبيض" في مجموعة" "ققنس"(2). يقول السارد في (ص66): "بقي طعم الوسكي المثلج في فمي منعشاً ولذيذاً كما كان دائماً، والموسيقى الهادئة تعمق السكون. كل ذلك كان في وعيه، ولكنه لم يعد نفس الرجل. أحس بأنه في هذه اللحظة بالذات مات. ذلك هو الشعور بالضبط: أحس بأنه ميت تماماً. ورغم أنه لم يكن قد عرف الموت من قبل إلا في قراءاته وأحاديث الناس عنه، إلا أن ذرة شك لم تخامره في حقيقة موته. كان يسمع ويرى ويتنفس، ولكنه لم يكن من الغباء بحيث تخذعه هذه السخافات لقد أدرك بعمق أنه ميت وكانت الكلمة الأولى التي رد بها على مضيفيه الكريمين هي قوله: "أريد كفناً حريرياً".

إن عجائبية زمن هذا الحدث تأسست على تداخل الموصول بالمنقطع والمنتمي بالمقصي من أحواز الحياة، فبإعلان الميت عن رغبته في كفن حريري يعيد جثته إلى حيز الجسد، الأمرالذي يعني انفصال الموت عن حالة الصمت والبياض والغياب. فانطاق الموتى هو تفكير في الموت من داخل زمنه، ونوع من ترويض جديته وتقليص من صدمته وقساوة امتداداته، فالأموات ضمن السرد العجائبي يرفضون تجربة السلب والصمت، فاذا كان الأفراد لا يستطيعون اختيار شكل موتهم في الواقع الاعتيادي -إذا اسثتينا فعل الانتحار- فإنهم في الزمن العجائبي يختارون العودة إلى الوجود ويستبدلون الغياب بالحضور والنسيان بالتذكر والانفصال بالاتصال وعلى حد تعبير فرويد: "يمكننا عالم الأدب من رسم شخصيات لا تخشى الموت، وتعرف كيف تختار المنية التي تناسبها، وأخرى لا تخشى الموت، بل تختاره لغيرها"(3). وبهذا فالعجائبي يؤسطر الواقع ويسخر من المألوف، ويلتقط العبثي ويحتفي بالغريب منتجاً معرفة مختلفة بالعالم والذات والعلاقة بينهما، لأنه "رؤية مغايرة للأشياء، ولا يمكن أن يتركنا في نفس الحالة التي كنا عليها قبل ان نقرأه. الفانطاستيكي يحطم تلك الرؤية التبسيطية الفاصلة بين الواقع واللاواقع، بين المرئي واللامرئي. وبذلك تكون الكتابة المشبعة بروح الفانطاستيكي مغامرة واستجلاء للبقايا والهوامش والمقصي من كينونتنا المحاصرة بالقوانين والمحرمات وشتى أنواع الرقابة."(4).

إن الدهشة التي ينتجها العجائبي تجد مبررها في قدرته الفائقة على تخلصه من مقولة الصدق والكذب، والربط غير السببي بين الأحداث، وبسبب ذلك يتوفق في عرض وقائع غير قابلة للوقوع في الحياة، الأمر الذي يجعله زمناً مأهولا بالغرابة والالتباس، ولذلك فهو يقتضي الشك والارتياب، "فالعجائبي يضعنا أمام مأزق ذي حدين نصدق أو لا نصدق؟ ويحقق هذا الجمع المستحيل، دافعاً القارئ إلى التصديق دون أن يصدق في حقيقة الأمر."(5)، ولعل الزمن الأثير في الكتابة الفانطاستكية هو الزمن الموغل في القدم إذ كل ما ابتعدت هذه الكتابة عن الزمن الراهن كل ما ضمنت لنفسها قوة اقناعية خفية، مادامت مرجعية الواقع تظل ترواد المتلقي بين الحين والآخر وتجعله يقارن بين المتخيل والواقع، وإن كان منطق الأدب غير مشروط بمنطق الواقع.يقول السارد في (ص161): "وكان حتى كان، في قديم الزمان، كانت العرجا تنقز الحيطان، والعورا تخيط الكتان، والطرشا تسمع الخبر فين ما كان. قالت الطرشا: سمعت حس الخيل دازوا، قالت العورا: أنا حسبتهم سبعا، قالت العرجا، تحزموا نلحقوا بهم"(6).

إن الأوضاع الثلات الواردة في هذه القرينة النصية الخارقة، والمتحدية لمنطق العقل بتفجيرها للمستحيل وترجمة الرغبة الدفينة في محو النقص والعطل، تحيل على أن المخرج الوحيد والممكن لهذه الأزمة هو المخرج العجائبي الذي يجمع بين الحاجة للشيء والاستغناء عنه، بين الإعاقة والتفوق عليها، الأمر الذي يحدث كثافة انفعالية قوية أساسها الحيرة والدهشة، فمفارقة المواقف القصصية السابقة لا تقف عند عتبة المبالغة بل تتعداها لحيز المستحيل، إذ لا يعقل أن تلحق الكسيحة بالخيول وأن تعد البصيرة عددها. غير أن انتساب هذه الأفعال لزمن مضى وانقضى يصبغ عليها سلطة اقناعيّة على اعتبار أنها وقعت في زمن سالف وكفت عن الوقوع في الزمن الراهن. كما أنها بحكم تقادمها تمنح المتلقي اطمئنانا زائفاً على اعتبار أنها لن تعاود الحدوث في الزمن الحاضر. وذات الانفعال والترقب والحيرة تتكرر في قصة "الكأس المكعبة"، حيث يقترن زمن الطفولة لدى السارد بزواجه من جنية بمباركة الأم التي تتكسر صورتها الطاهرة، على اعتبار أنها مصدر الخير المطلق. وتأخد صفة المرأة الشريرة التي تتحرق شوقاً لتزويج ابنها من جنية خاصة. يقول السارد في (ص96-95): "الشعر؟ كلا ليست شعرة شمشون ولا شعرة معاوية إنها شعرة جنية تزوجتني حين كنت صغيراً، زوجتني أمي ضريح سيدي رزوق فأحرقها السيد وفي الرماد وجدة الشعرة فاحتفظت بها سوداء كالرغبة-وطويلة كالزمن".

إن دخول الجن دائرة البشر يثير الدهش بحكم انتسابه لزمن فوق طبيعي واشتماله على ظواهر خارقة تستبعد التفسير المادي لتعاقب الأحداث، ويجعلها خارجة عن المنطق والزمن الادراك العقلي.

2- الفضاء العجائبي والمغايرة
يتصف الفضاء العجائبي بكونه مثيراً للدهشة والغرابة بسبب إتيانه بالأشياء المفارقة للواقع، وتحويله للمكان الأليف إلى حيز معادي، فاذا كان البيت مثلاً يتسم بحميمية أجوائه، لكونه يحمي ساكنيه من تقلبات الطبيعة، فإنه لهذه الاعتبارات "يحمي أحلام اليقظة والحالم ويتيح للانسان أن يحلم بهدوء (لكن في غيابه) يصبح الإنسان بدون بيت كائناً مفتتاً. إنه يحفظه من عواطف السماء وأهوال الأرض. فحين نحلم بالبيت الذي ولدنا فيه، وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا المادي.هذا هو المناخ الذي يعيش الإنسان المحمي فيه"(7). وعلى خلاف هذا التنصيص على البعد الأمومي للبيت المستدعي لزمن الطفولة، ولتلك العلاقة الحميمية لقاطنيه، علاقة محرضة للذاكرة باسترجاع الرباط الرمزي الذي ترسب في وجدان الأفراد. يأتي البيت في قصص أحمد بوزفور مأهولا بالأشباح وأصوات الموتى، فيغيب عنه الأمان والاطمئنان وهو لهذا يخلخل ايحالاته المعتادة. كما في القرينة النصية التالية حيث يصاب فيها طفل قصة (نانا) بحالة رعب حقيقية. يقول السارد (ص203): "ذات ليلة، وكما ينصحونني، خرجت إلى مراح الدار لأبول قبل أن أنام، وأنا أبول في الظلام والصمت والسكون، وأشباح الحكاية تحيط بي: تدفعني إلى الإسراع، سمعت فجأة صوتاً غريباً كان ينادي علي كان الصوت ينطق اسمي، ولكن بطريقة خاصة، ارتعدت فزعاً وصرخت.
وبدل أن أعود هارباً إلى الداخل قفزت إلى الأمام إلى خارج الدار. لأن الصوت المنادي كان صوت (نانا) وسقطت ربما أغمي علي. من يومها تبدلت العلاقة بيني وبين نانا.أصبحت أخافها أكثر مما أحبها. السيدة التي تحدثت عنها فيما سبق، ماتت منذ زمن بعيد".

إن عجائبية الفضاء القصصي عند أحمد بوزفور لا تتوقف عند جعل التواصل ممكناً بين الأموات والأحياء بل يتعداه لاستدعاء رموز من عمق التاريخ الغائر في القدم وجعلها تعيش في الحاضر وتمارس وجودها الاعتيادي كما وقع للسندباد مع سارد قصة "الهندي" في مجموعته "الغابر الظاهر". والطريف أنهما التقيا في حانة. وهو فضاء له خصوصيته النفسية. فضاء المفارقات المتعددة على اعتبار أنه يجمع بين البوح الجارف والانكفاء على الذات. فضاء التمزقات الخفية وإطلاق العنان للاستهام والحلم فضاء يجمع بين الاسترخاء واليقظة، بين الاطمئنان والتوجس لأنه مكان مرتهن للمتابعة والتعقب وتوقيع العقاب. فالحانة -في نهاية الأمر- مكان للمتاجرة باللحوم الرخيصة وتصريف الكبت. لنصغي لنبض هذا الفضاء القصصي الذي تتخلق عنه سفريات رمزية مختلفة في (ص229): "لقد لقيت السندباد فعلاً. ونظر إلى مبتسماً. السندباد لا يموت، إنه كالخضر، يعيش في كل العصور، مع كل الأجيال. الخضر ينتج العلوم، والسندباد ينتج القصص. حسناً كيف لقيته؟ لقيته في بار. كنت أيامها مدمناً، وجمعتنا الكأس على طاولة، ولفت نظري أنه كان يكتب بين الحين والآخر في ورقة الكلنيكس، كلما شربنا كأساً كتب سطراً، ثم يطوي الورقة ويضعها في جيبه. قلت له: ماذا تكتب؟ قال: إحدى رحلاتي. قلت: خدني معك، قال تعال وأمسك بيد هكذا".

وبالموازاة للبيت كفضاء مفارق لصفاته الأصل، نصادف الغابة في مجموعة "الغابر الظاهر" حيث تتخلص من إحالاتها على الطمأنينة والهدوء لتحمل طابعاً عدوانيا مستدعية الخوف والارتياب وعداب العزلة لكونها مرة أخرى مسكونة بالجن الأمر الذي يلون أجوائها بسيكولوجية الرعب: "فنحن لا نحتاج أن نقضي وقتاً طويلاً في الغابة لنعيش ذلك الانطباع القلق، إلى حد ما، بأننا سرنا بشكل أعمق وأعمق في العالم غير المتناهي. وبعد قليل ندرك أننا مادمنا لا نعرف أين نتجه فنحن لا نعرف أين نحن"(8).

إن الغابة في هذا النص جمعت بين عدة صفات مفارقة جعلت بطلة النص السابق مثلاً تستشعر الإحساس بالخوف والحب في ذات الآن، بل ان اجتماع النار بالجن المنتسب لعوالم العتمة والغموض ولّد دهشة خاصة في تلقي هده القرينة النصية. تقول كوثر طفلة القصة (ص114): "لم تر في الليل والغابة إلا تلك النار الصغيرة تغمر بالخوف والحب. قالت الطفلة يانار، إن كنت نار إخوتي فاقتربي اقتربي، إن كنت نار الجن فابتعدي ابتعدي، وكانت النار تبتعد كلما اقتربت كوثر. فلما أجهدها السير والخوف والوحدة سالت على خديها الدموع الصغيرة المرتعشة وقالت يانار اقتربي حتى لو كنت نار الجن اقتربي. وسارت الطفلة والنار نحو بعضهما".

إن الفضاء القصصي عند أحمد بوزفور يستمد عجائبيته من جمعه للجن بالبشر، وتعايش الموتى بالأحياء خالقاً واقعاً ملغزاً، يستوجب الاستكشافات، مثيراً لمشاعر ملتبسة ومتعارضة، محدثاً كثافة انفعالية خاصة مصدرها الحيرة والغموض. الأمر الذي يسحب صفة "القصة السوداء" على جملة من نصوصه، بحكم اشتغاله على عوالم الأشباح والجن والهذيان، وبالتالي وضعها للقراء في حيرة من أمرهم مادام ليس "لنا حق التساؤل فيما إذا كان ذلك صحيحاً أو زائفاً. فسؤال مثل هذا لا معنى له، ذلك أن اللغة الأدبية لغة اتفاقية أو اصطلاحية يستحيل فيها اختيار الحقيقة، والحقيقة هي علاقة بين الكلمات والأشياء التي تدل عليها، بينما لاوجود في الأدب لهذه الأشياء"(9).

3- الشخصية العجائبية بين التحول والمسخ
يتميز هذا النوع من الشخصية بالنمو والتحول وخضوعها لمسار من التطور، بخلاف الشخصية الجاهزة التي تبقى تابثة ومتكاملة طيلة أحداث القصة غير أن تحولات الشخصية العجائبيّة تمس جوهرها، ولا تقيس الأعراض فقط كما هو شأن بطل رواية "المسخ" لفرانز كافكا والذي تحول إلى حشرة  كبيرة تثير الارتياب والرعب، وهو ذات الأمر الذي يقع للشخوص القصصية لأحمد بوزفور، حيث تخبرنا قصة "الغراب" مثلاً في المجموعة الأولى أن الغراب في الأصل كان رجلاً، ومسخ لأنه توظأ باللبن. فضلاً عن تحول الطاكسي لبرتقالة تحت ضغط جوع بطل القصة في نص "الرجل الذي وجد البرتقالة"، ودونه كثير علماً أن التحولات العجائبيّة للشخصيّة القصصيّة وظفت أحياناً للنقد والسخرية من الفكر الأبيسي، الذي يختزل المرأة في بعدي الانجاب والتنشأة الاجتماعية. لنتوقف عند هذه القرينة النصيّة من قصة الغراب (ص16): "قالوا يا ولدي إن الطيور كلها كانت بني آدم، ومسخت. وقالوا إن الله حين أراد أن يمسخ النملة أعطاها جناحين. كانت امرأة -كانت امرأة يا ولدي وتزوج عليها رجلها، فرفعت يديها إلى السماء وقالت: اللهم اعطيني جناحين لأطير بهما من هذه المحنة، فأعطها الله جناحين وطارت، ولأنها سمحت في أولادها وتركتهم ربائب مع الناس مسخها الله نملة".

وذات التحول نصادفه في قصة "زروق" ضمن مجموعة "ققنس". يقول السارد (ص50): "حين استدار مقبلاً نحوي صار الحصان الأدهم تيساً أسود مربوط في الشجرة من قرنيه، وصرت أنا في الفراش مريضاً، والشيخ يتقدم نحو فراشي مبتسماً بابتسامته الملغرة".

وبهذا يحقق التحول والمسخ تجاور الواقعي باللاواقعي، خالقاً أجواء غير مرتقبة يصير فيها المستحيل واقعاً. ولهذا فهو يسعف على تقديم جسر للتواصل مع الماوراء في نفس الوقت الذي يجعل العقل موضع التباس، حيث كلام الحيوان، ووصال الأحياء بالموتى، وزواج الجن بالبشر، وأنسنة الجماد كما في قصة "آخر أيام سقراط ". يقول السارد في (ص182): "التمثال الطيني أمام الكاميرا يحيا تحت لمسات الضوء، تدريجياً، وتتأنسن بشرته".

إن تحولات الشخصية تصل مداها عندما يصير الجن مدينة بكاملها. ومن ثم منحها إمكانية الاستطراد والامتداد على خلاف القصة التقليدية، التي يتوقف السرد بموت البطل فيها. لنتوقف مجدداً عند تحول الجن إلى مكان مليء بالفتنة والدهشة في قصة "الهندي" (ص227): "كان يقول (الهندي) مثلاً فجأة، دون أن يمهد لذلك: (وأكل الجني السندباد)، ويسكت. كيف؟ وهل انتهت القصة؟ ولكنه يتابع شارحاً أن الجني كان واسعاً من الداخل كمدينة، وأن السندباد بعد أن ابتلعه الجني كان يتجول في شوارع أحشائه كسائح، ويكتشف أصقاعاً بكراً حافلة بالفاتن والمدهش والغريب"(10).

نستنتج من هذه المقاربة أن عجائبية الزمن القصصي تكمن في سيره في كل الاتجاهات وكسره لخطية الزمن الواقعي، إذ يعود بالأموات لحيز الحياة، ويتعايش الشخوص المنتسبة للتاريخ الموغل في القدم مع الأفراد المعاصرة، تماماً كما هو شأن الفضاء العجائبي الجامع بين عالم الماوراء والكائنات الواقعية، مؤسساً نفسه على اللاترابط المنطقي بين مكوناته، وقس على ذلك مسخ الشخوص وتحولاتها اللامتناهية. وبهذا فالعجائبي يؤسس لكتابة متمردة على الذوق التقليدي، بسبب تجاوزه للعقل وأسطرة الواقع، واحتفائه بالرعب والأشباح، وتمجيد الموت، وتوقيعه صك مصالحة بين المنية والحياة. فظلا عن اشتغاله على فضاءات نهائية منتزعاً إياها من زمنها المطلق بغاية أنسنتها، كما حدث مع فضائي الجنة والجحيم في العديد من القصص.

إن الكتابة العجائبية، لكل هذه الاعتبارات، تتوفق في الجمع المستحيل بين الثنائيات الضدية والتي باتت فارضة وجودها، حيث بتنا نصادف شخصية الأحمق/ العاقل، والميت/ الحي. كما أمسى للتافه والمهمل معنى، كهذيان المريض وهلوسات الممسوس، وبالتالي سحبت صفة الشفافية عن كثير من المفاهيم كالعقل والإرادة والمعنى، بل والذات نفسها، التي أضحى مشكوك فيها بحكم تواتر قناعة الانسان بأن بينه وبين نفسه ألف حجاب!

إن العجائبي، فضلاً عن كل هذا، اكتسب بريقاً خاصاً بسبب تجديد اشتغاله على اللاوعي، الذي شكل صدمة عنيفة لليقينيات الكبرى.

 

إحالات:
(1) ديوان السندباد، أحمد بوزفور، المجموعات الثلات: "النظر في الوجه العزيز" و"الغابر الظاهر" و"صياد النعام"، منشورات الرابطة، 1995.
(2) ققنس، أحمد بوزفور، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، ط2، 2007.
(3) سغموند فرويد: الحرب والحضارة والحب والموت، تر: د. عبد المنعم الحنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص37.
(4) عن تقديم محمد برادة لكتاب "المدخل للأدب العجائبي (تزفتان تدوروف)، تر: الصديق بوعلام، دار الكلام، 1993، ص5.
(5) نفس المرجع السابق، ص111.
(6) ديوان السندباد، أحمد بوزفور، ص161.
(7) جمالية المكان، غاستون باشلار، تر: غالبا هلسا، المؤسسة الجامعيّة للدراسة والنشر والتوزيع، 1984، ص3.
(8) جمالية المكان، م. م، ص171.
(9) مدخل إلى الأدب العجائبي، م. م، ص110.
(10) ديوان السندباد، م. م، "النظر في الوجه العزيز"، ص96.

 

ناقد من المغرب