مثّل وجود الكيان الصهيوني للشعب العربي معضلة أخلاقية وسياسية وثقافية، وقضية احتلال في أول الكلام، وقد ضحى ذلك الشعب بالكثير الكثير من أجل استعادة فلسطين. وبقيت فلسطين قضية العرب الأولى وفي بعض الفترات التاريخية، الأولى والأخيرة، ولا تزال تمثل جرحاً نازفاً، وألماً عظيماً حالماً يأتي ذكرها. العدوان الهمجي الأخير لإسرائيل على غزة هو جزء من تاريخها الاستعماري، وهو أمر أقل من طبيعي وسيتكرر ما دامت إسرائيل لم تغيّر طبيعتها الصهيونية، ولن تغيّرها!
تعدّ الأنظمة العربية، الحامي الحقيقي لإسرائيل. فمنذ أن تأسّست في خمسينيات القرن الماضي، تأسست كأنظمة شموليّة وببنى اقتصادية تابعة، ما سهّل قمع الشعوب العربية في سعيها ضد تلك الأنظمة وضد إسرائيل في آن واحد. نعم، الأنظمة العربية، هي من حمى حدود إسرائيل، وصمت على اعتداءاتها المتكررة، وهي من عقد اتفاقيات الصلح معها، وهي من أذاق الثوار الفلسطينيين والعرب المناهضين لإسرائيل ويلات السجون وفنون التعذيب والقتل. ولو كان الأمر لمصلحة إعداد الجيوش أو الاقتصادات التنموية أو غير ذلك، أو من أجل محاربة إسرائيل، لوجدنا مبرراً ما لتلك الممارسات الإجرامية بحق المناهضين لإسرائيل، لكنّها استخدمت كل تلك الذرائع ومنها حجة الممانعة والمقاومة من أجل تعزيز سيطرتها الطبقية.
الثورات العربية الآن هي ثورات مناهضة لإسرائيل بقدر ما هي مناهضة للأنظمة العربية. من يتخيّل غير ذلك، ويتخيّل أنّها ثورات ستقبل التصالح مع إسرائيل هو واهم بالكامل. فالثورات ستصطدم لا محالة بالمصالح الإمبريالية والصهيونية بحكم كونها متضررة من أنظمة متصالحة معها، وهو ما سيعزز البعد التحرري فيها، لتصبح ثورات شعبية من أجل مطالب اقتصادية وسياسية ووطنية وقومية.
منذ بدايات تسلّل العصابات الصهيونية إلى فلسطين، رفضتها الشعوب العربية، ولم يكن موقف الزعماء العرب آنذاك موقفاً وطنياً مناهضاً لتلك العصابات، ولا للسيطرة الإمبريالية الاستعمارية، وهذا بسبب تشابك مصالحهم معها. وهو من أسباب دفع الشعوب العربية إلى إسقاط أنظمتها آنذاك في مصر وسوريا والعراق وغيرها، فتأسست الدولة القطْرية الجديدة، بسبب غياب القضية القومية والوطنية عن طاولة العمل السياسي، وعدم حل المسألة الزراعية، وعدم تنمية الريف بالعموم، ولاحقاً أصبحت السلطة الجديدة ضد القضية الفلسطينية وتوظفها كأيديولوجيا لتأبيد سيطرتها، رغم أنّها أعطت نظامها السياسي صفة التقدمية والقومية، وراحت تتشدد بقمعها للحركات الثورية المناهضة لإسرائيل أو المطالِبة بحقوق الطبقات المفقرة، وهو ما جرى في سوريا ومصر وغيرهما. وتمت أثناء ذلك المصالحة العربية بأشكال متعددة مع إسرائيل ولا سيما بعد كامب ديفيد، ومورس القمع العاري للأنظمة ضد الشعوب خدمة لمصالحها، ولمصالح إسرائيل وديمومتها في قلب العالم العربي. وبالتالي شاركت كافة الأنظمة بذلك، على نحو موضوعي أو بإرادة قصدية وعُقدت اتفاقات الشراكة بين الطرفين لتدمير أية إمكانيات للنهوض العربي. واعتراف الأنظمة بكليتها بحدود 67 هو اعتراف كامل لاسرائيل ككيان استيطاني بفلسطين المحتلة، وهنا جذر المشكلة التي لم تتقبلها الشعوب العربية ولن تتقبلها.
الثورات العربية هي ثورات شعبية، تغيب عنها البرامج الاقتصادية والسياسية والوطنية والقومية بوضوح كامل، لمصلحة شعار مركزي، هو أيضاً ليس عبثياً «الشعب يريد إسقاط النظام». وأي تدقيق في هذا المصطلح، نجده يقدم إلينا دلالة أكيدة، على هدف الخلاص من كامل منظومة السياسات التي اتبعها النظام العربي، ورغبة ملحة في إنشاء دول حديثة بالكامل. دول أقرب إلى العلمانيّة منها إلى المدنيّة التي تعمل التنظيمات المتأسلمة على تشويهها، لتكون مدنية وفق الشريعة بقراءة متأسلمة بالضرورة، فتصبح الشريعة والدولة المدنية مقروءتان برؤية سلفيّة أصوليّة ومتحالفة مع اتجاه جهادي تحت الطلب. هنا من الضروري القول: إنّ من حق الكل السياسي والاجتماعي أن يناضل من أجل دولته التي تعنيه، لكن لا يمكن إلا أن نرفض أية قوى سياسيّة وبرامج تمايز بين المواطنين على أساس الدين أو القومية أو الجنس أو غيره.
هذه الثورة تستهدف كما أشرنا، الخلاص الكلي من كل سياسات الأنظمة العربية، ومنها سياساتها «الوطنيّة والقوميّة» وأن تعيد توجيه كل البناء المجتمعي الجديد، وفق أساسات تنطلق من نظام سياسي ديموقراطي وفق مبدأ المواطنة، وأساس اقتصادي تنموي يضع العرب على اختلاف دولهم في مصاف دول كاملة السيادة، وأساس وطني يرفض بقاء أراضٍ عربية محتلة، بما فيها فلسطين المحتلة، والسعي إلى اتحادات عربية تُنسج لمصلحة الشعوب. ربما هذا في أساسات الثورات العربية، التي جاءت على خلفية إفقار عام، بسبب سياسات اقتصادية ليبرالية همشت أكثرية الشعوب العربيّة، لمصلحة ثراء مافياوي تتحكم فيه قلّة محدودة.
الشعارات السياسيّة الخاصة بالجولان وفلسطين وغزة لم تغب عن الثورات العربية، لكنّها حضرت على نحو خافت، وهذا طبيعي من ثورات شعبيّة انعدمت عند حاملها البشري، أفق العيش، لا الأفق السياسي فقط، فكانت في طبيعتها الغالبة عموميّة، وأقرب لاستعادة الروح، والبدء بالعودة إلى التاريخ الواقعي، بعد تغييب كارثي عن السياسة والثقافة والتعليم العملي والاقتصاد التنموي. الثورات ستسعى نحو ذلك، وإن مصادرتها من قبل تنظيمات إخوانيّة في تونس ومصر، لن تسهم سوى في تأجيجها من جديد. فلا تحتاج شعوب تلك الدول وشعوب الثورات العربية، إلى دروس في الدين، فهي مؤمنة وتعرف أصول الدين جيداً توارثاً أو تعليماً، لكن لها مطالب اقتصادية واجتماعية وسياسية، أشرنا إليها أعلاه. ولن يكون ممكناً تحقيقها برؤية إخوانية... وهو ما سيدفع الجماهير الثائرة إلى الشارع من جديد. وقولنا هنا يتأتى بسبب نوعية السياسات التي بدأت تكرسها كل من الدولتين، والتي لا تتجاوز السياسات التي انتهجتها الأنظمة السابقة في كلتا الدولتين، عدا أن التنسيق مع الدول الإمبريالية لم يتوقف؛ فلا تزال معاهدة السلام الإسرائيلية المصرية قائمة ولا تزال العلاقات التونسية الاسرائيلية على حالها. وهناك شكل المعالجة الاقتصادية المعتمدة على البيوتات المالية من جديد، وبالتالي ستتجدد الثورة، وسيكون الشعب حينها قادراً على تجذير سياسي لجهة تكوين سياسات وبرامج تخص القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ونحو المسائل الوطنية والقومية.
القضية الفلسطينية، ليست نزاعاً حدودياً وليست أمراً دينياً قابلاً للحلّ بطريقة «لكم دينكم ولنا ديننا»، ولا تحلّ عبر أنظمة تابعة وريعية؛ وما فعله الإخوان المسلمون من تعايش مع إسرائيل وبقاء العلاقات المصرية الإسرائيلية على حاله، قبل غزة والآن، وقبل الثورة وإلى الآن، ونرجح عودة الأمور إلى حالها من جديد بعد الانتهاء من العدوان الجديد على غزة، الأمر الذي يثبت مراراً وتكراراً، أنّ الخلاص من إسرائيل ككيان صهيوني وعنصري وإجرامي، وتفكيكها لمصلحة دولة لكل من يتقبل العرب واليهود وبقية الإثنيات على أرض فلسطين، مرتبط ببناء أنظمة عربية ديموقراطية وثورية، وأن تضع في رأس اهتماماتها بناء دول عربية حديثة، وهذا ما لا يمكن القيام به، بوجود إسرائيل في منطقتنا. فهي تعلم مقدار الرفض العربي لها، وبالتالي ستحاول حرف الثورات نحو مشكلات داخلية وحدودية بين الدول العربية وتكريس كل أشكال الانقسام الداخلي العربي، وهي متوافقة في ذلك مع الأنظمة الريعية العربية، التي هي بدورها غير قادرة على الحكم بدون تلك الانقسامات. الثورات ضد كل ذلك، ومن هنا ستؤدي إسرائيل دوراً جديداً يتمثل في التنسيق مع الأنظمة الجديدة، عبر علاقات مباشرة أو بواسطة الدولة الأميركية والدول الاوربية من أجل السيطرة على الروح الثورية الجديدة عند العرب، وتطويقها بمشكلات وأزمات متعددة الأوجه تعمل على منع التجذير الديموقراطي والوطني والطبقي، وبالتالي تكريس السيطرة الإمبريالية الصهيونية على المنطقة من جديد.
هذا ما ترفضه الثورات العربية موضوعياً، وهي ستعي الآن، أو لاحقاً: أنّ الأنظمة التي ثارت ضدها، أو التي تتشكل بأفق ليبرالي كما حال أنظمة الإخوان أو الليبرالية الجديدة مصادرة الثورة، هي أنظمة وسيطة للسيطرة العولمية، وسيكون الصدام حادثاً بينهما بالتأكيد. وبالتالي ستندفع الشعوب العربية نحو تجذير ثوري جديد؛ مؤشراته ضعيفة لكنّها موجودة، وهي الأسباب التي أنتجت الثورات وجرت مصادرتها لأسباب متعددة!