1 - كلمات من دموع الورق
يشدكِ غلاف الكتاب وعنوانه "ثدي" وأنت امرأة ما قاوم فضولها إغراء كتاب، تركض عيناك فوق الكلمات، لكنك فجأة تضغطين على الفرامل، تتشبثين بالهدوء خشية الانزلاق، وتقرئين اسم البطلة "ماري لحام" مرات عديدة، تكتشفين تقاطع هذا الاسم مع اسمك، فهذا اسمك الأول "ماري" وشهرة زوجك "لحام" تجلسين بين فكي كماشة حديها سرور حذر ورهبة لذيذة.
يقفز السؤال:
- من تكون هذه الكاتبة التي توجه رصاصها إلي ؟.
لكنك تراوغين بالقول " يصادف أن تتشابه أسماء أبطال القصص مع أسماء أخرى "
سرعان ما يتغلب السرور فتنفرج أساريرك، قلم الرصاص في يدك يحاصر الجمل الجميلة، لكنك تندهشين، انه يحاصرك أيتها المتقوسة فوق كتاب يقرؤها، تقرئين ثانية (وقف زوجها أمام ثدييها العاريين كطفلٍ يقف مندهشاً أمام واجهة محل مليء بالألعاب)، تصرخ الدهشة فتستيقظ ذاكرتك، انه ذات المشهد الذي حدث معك في ليلة زفافك الأولى، تتقلص حدقتا عينيك ويعيد وجهك ترتيب ملامحه:
- أتكون الكاتبة إحدى عشيقات زوجك؟!. هل أسر لها بما حدث وقهقها ؟
تستجيرين بالحب هربا من احتمال قاتل، فزوجك يحبك ولا يخونك، والليالي الأولى تتشابه فيصير الرجال كل الرجال أطفالا أمام ثديين طازجين، ترشين كوب القهوة ببعض الحليب طمعا بسواد أقل لا بمذاق أفضل، ثم تواصلين ارتشاف الكلمات، تتورطين بجملة فتقفين حائرة بين مرّين لا ثالث لهما، تقرئين بصوت مسموع (وافقت ماري على إجراء عملية تكبير الثديين بعد أن هددها زوجها بالطلاق)، يستنفر قلبك فتقرع طبول الخوف فيه، لا مفر من الحقيقة، إنها تسرد ماضيك، يراودك شك بتلك الطبيبة اللعوب، أتراها تحول أثداء مرضاها من صغيرة إلى كبيرة ومن ثم إلى قصص مثيرة!، تحتالين على السؤال بالخروج من باب خلفي للاحتمالات، فمثل هذه العمليات صار شائعا في كل مكان، تجحظ عيناك وترتجفين كسمكة ستزف إلى موقد شواء حين تتهم الكاتبة ماري بأنها المسئولة عن إصابة ابنها بهشاشة في العظام، لكن رويدك، لا تستعجلي سوء الظن، فأنت أقلعت عن إرضاع ابنك تنفيذا لتعليمات الطبيب، وليس للحفاظ على ثدييك مشدودين كما تقول الكاتبة، تقترب النهاية فتقفين على حافة البكاء غيظا، تسرع رصاصة الرحمة فتحيلك شبه امرأة، تكابرين وتقرئين (لم يستطع صديقها مقاومة ثدي كبير مثقف يطل من خلف بلوزة صيفية تئن)، تصيرين نهراً منفلت الجانبين، نعم ... قد يكون الحسد في عيني تلك الخادمة التي شاهدتكما قد تحول إلى قصة، تستجمعين ما تبقى منك وتصرخين:
- لن أخاف ! فما هذي الكلمات إلا سائل مخاطي لحلزونة تزحف تحت وقع قوقعتها!.
فكرة مجنونة تبدو أكثر عقلانية مما تعتقدين، فربما كان الكاتب رجلا يسرد قصة تشبهك من أول كلمة فيها "ثدي" وحتى آخر جملة فيها
(استفاقت ماري العانس، وراحت تهلوس بعد أن تلمست ذاك الجرح على صدرها، فثديها المستأصل اثر الإصابة بسرطان، خلّف فجوة قد لا تندمل) .
2 - أرض من عجين
تصفع الريح نافذة المطبخ فيثير التلاطم صوتا يفزع الشمعة فتصمت. فوق البيانو عقرب الدقائق العجوز يتكئ على عكازه المكسور. صنبور غير محكم الإغلاق يمارس هواية الحفر في العتمة. مدفأة تلوك الحطب فتعبق أنفاسها برائحة الشتاء.
وهو ملتحيا صمته ليتوارى في شرود عميق. ما أغربه حين يمسك بقلم!.
جاء صوتها الغنج لينتشل روحة من جثة الجسد. تردد بقبول عرضها معللا ذلك بالعمر. لكنه سرعان ما استجاب لرغبته الطفولية الدفينة.
كنعامةٍ لن يحميها رأسها المدفون في التراب، دفن ما استطاع من جسده في الركن المظلم. عثرتْ عليه دون عناء يذكر لكونه يختبئ في نفس المكان كل يوم. اندمج باللعبة إلى درجة أنه فرح مثلها حين انكشف مكانه، انتصب كما لو أنه يُقلَّدُ وسام شرف، حين كانت تعصب عينيه بمنديل أسود سميك، فالابتسامة العريضة فجّرت كمائن وجهه وغمازين، تأكدتْ أنه لا يرى أي شيء، مشتْ على رؤوس أصابعها كي لا تصدر صوتا يشي بمكان اختباءها، أكمل العد إلى عشرة ثم بدأ البحث، جرته رائحة عطرها فتبع أنفه الذي صار دليلاً، انقض على باب الخزانة، فتحه وصاح بصوت تبلله الفرحة:
- لقد وجدتك!.
لكنه أمسك بورقة ما يزال عطرها كصاحبته عصياً على الرحيل، رسالةً عمرها أعوام وجرح، اختلطت عليه العطور ففتح الباب الخطأ، دون أن يغلق الباب وضع الرسالة برفق وعاد إلى جو اللعبة، توجه صوب غرفة النوم تدفعه شهوة القبض عليها ممدة على حافة الرغبة، تجنب السقوط حين استندت يمناه على الجدار، حطت يده على حافة البرواز المسور بإطار أسود، مسح ما على زجاجه من غبار، كانت صورة لأمه التي رغم ابتسامتها البادية إلا أنها أقلعت عن اللعب منذ زمن، داعب أزرار البيانو ثم خطى خطوتين إلى الأمام، مدّ يده كي يفتح الباب لكنه تذكر أن الباب معطل.
خاطبها قائلا:
- إذا كنت في الداخل فاللعبة غير شرعية لأن من قواعد اللعبة ألا تكون الأبواب مقفلة "
في المطبخ تفوح روائح ولائم محترقة فاستشاط غضبا، راح يصرخ لكنها واصلت اختباءها، نزع العصابة الحقيرة عن عينيه، مد يديه المرتجفتين أمامه ومشى، صب جام غضبه على الكرسي بعد أن تعثر بها، حطم زجاج النافذة التي تحمل ريح الماضي، تلوت خلف خطواته أفاع حمراء رسمتها كفه النازفة، تنكر للمثل القائل "أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام" فأشعل دمعة و....
استيقظ من كابوسه وراح كجيولوجي يبحث في الصحراء عن بئر، يتلمس ما كان قد كتبه من أحرف نافرة بلغة برايل.. قرأ بصوت مبلل:
" أوقفوا هذه الأرض عن الدوران ... لقد دخت ... ما عدت أريد اللعب ... فلقد تعبت "
3 - مشهد ليلي من شرفة صغيرة
كان الظلام حالكا، حتى أني تعثرت بأشياء مبعثرة هنا وهناك، على السرير المرتب تتثاءب دموع غير مرتبة، في مرآة عوراء وجه طفولي يحتمي من الحزن بلحية ناعمة، وقصيدة نصف عذراء تستلق فوق بياض ورقة، هناك اسم حبيبتي محفورا على فنجان قهوة سوداء.
توجهت صوب الشرفة، كان القمر يمارس عادته السرية، بنشوة راح يرشق جسد الليل بنجومه البيضاء، على الشرفة عصفور يسجن قفصاً، وساعة تسترخي على جدار.
على أنغام ماجدة الرومي وهي تصرخ "كن صديقي" احتسيت زجاجة الخمر.
" زجرني العصفور صارخا ":
- اصمت!.
أجبته بدهشة:
- لكنني منذ عصور لم أنبس ببنت شفة.
“أردف مفسرا:
- هذا صحيح لكنك حزين.
سألته متهكما:
- وهل للحزن صوت ؟؟ .
تنهد العصفور
- ليس للحزن صوت لكن للحزن صدى وضجيج!.
كان القمر يمسح آثار فعلته، وعلى الجدار عصفور يلعن قفصا، وآلة زمن معطلة راحت تئن، مطر ناعم داعب الشرفة فأيقظ رغبتها بالبكاء
كنا جميعا على شرفة لا تتسع لصدى.