يرسم الكاتب السوداني عالم مدرس سوداني غريب قابع في القاع الاجتماعي في بلد نفطي مجاور (ليبيا زمن الدكتاتورية)، متأملا ومفصلا معاناة معلم مثقف حالم في مواجهة فساد متأصل في بنية ريف صحراوي، كما يكشف الروح العنصرية المستشرية بين العرب من خلال الحط من قيمة العامل الغريب في بنية ولغة متألقة.

بنك بجنب الخصيتين

موت مدرس متجوِّل (رواية)

المفارق الفكِهة

أسـامة الخواض


"
يا للأسف! ماذا يفيد هذا الرواح والمجيء، وماذا ينفع هذا التعب؟ وهذه المغامرة، عند أقوام غريبة، ما ذا تنفع هذه اللغات التي تغصُّ الذاكرة بها، وهذه الهموم التي لا تعرف أسمالاً، إذا لن يكون بمقدوري، ذات يوم، بعد عدة سنوات، أنْ أستريح في مكان يعجبني ولو قليلاً، وأنْ أجد عائلة، وأنْ يكون لي طفل على الأقل، أقضي بقية حياته في تربيته حسب أفكاري، وفي تربيته وتسليحه بالمعرفة الكاملة التي يعرفها عصره، و أنْ أراه يصير مهندساً مشهوراً، ورجلاً نافذاً وغنياً بواسطة العلم؟ ولكن من يعرف عدد الأيام التي سأقضيها في الجبال هذه؟ يمكنني أنْ أختفي وسط هذه الأقوام دون أن يبلغ خبري".

من رسالة لرامبو إلى أهله، كتبها في هرر في اثيوبيا بتأريخ السادس من مايو 1883 م.
********
لم يدرْ بخلد "سعيد الطيب"، أنَّه سيستحضر في لحظةٍ من لحظات حياته المهرولة بين القرى والبلاد النائية، وباختصار "الجحور العربية النائية"، كلَّ تفاصيل سنوات حياته الأربعين. ها هي اللحظة قد دنتْ، وهو مسجَّى الآن بمفرق(س) الذي تتفرَّع منه طرق وشعابٌ كثيرةٌ تؤدِّي إلى هذيانٍ طويلٍ طويلٍ طويلٍ. ها هو الآن مغطَّى بشوال سكّر قديم، وحوله كتبه التي تناثرتْ في تضاريس المفرق الذي اكتظَّ بأشخاصٍ يلقون عليه نظرة إشفاقٍ بعد أنْ دهسته سيارةٌ مسرعةٌ، نثرتْ خلايا مخّه على الشارع راسمةًً لوحة سريالية.
... وهكذا تلوَّنت المفارق أمام روحه، وهي تسرع الخطو على رصيف شهيقه الأخير. وبالفعل كان "سعيد الطيب" سعيداً و هو يتأرجح في برزخٍ ما بين الحياة والموت. كان مولعاً بالسرد. لكنْ بعد فشله في أنْ يصبح قاصَّاً أو روائياً غير مشهورٍ، كان يتمنَّى أنْ يمتهن عملا يوفِّر له فيوضاً من السرد، والاستماع إلى سرد الآخرين والردِّ عليهم، كأنْ يكون محلِّلاً نفسيَّاً أو أختصاصياً اجتماعياً. وقد صرف النظر عن ذلك لأنَّه لا يستطيع أنْ يوفِّر قوته الضروري من الاستماع إلى والردِّ على تداعيات البشر.
و ها هي الفرصة أخيراً قد واتته ليحقِّق أمنيته في ذلك البرزخ الضيِّق الذي يأمل أنْ يملأ به ما فاض من مفارقه الفكِهة.


*
مفرق الهرولة العربية:
كغيري من زملائي الذين أكملوا دراساتهم الجامعية، تلبَّستني رغبة الهرولة بين المفارق العربية بحثاً عن المال. لم أجد هنالك ما أفعله سوى أنْ أعمل مدرِّساًً، وهي مهنة، لم أكنْ أتصوّر أنْ أرتبط بها بهذا الدفء الدخيل الذي أحسّه، وأنا أنتقل من مكان إلى آخر حاملاً طبشوري وأوتار صوتي بين أقوامٍٍ لا يدرون لماذا يتعلَّمون، وكيف يتعلَّمون، ولذلك كنت مجبراً على تدريس موادٍ لا أفهم عنها ما يميّزني عن تلاميذي، لكنَّني كنتُ مجبراً على الانصياع إلى القاعدة العربية الجُحْريَّة الذهبيَّة التي تقول أنَّ المدرس الناجح جدَّاً هو من يستطيع أنْ يتواءم حسب النقْص الموجود في المدرِّسين، بسرعةٍ اكتشفتُ أنَّهم يريدون فصولاً مليئةً بمعلمين و طلاب، والمهم في كل ذلك سدُّ النقص لا غير. فَهُمْ يعرفون أنَّ النتائج مضمونةٌ بحسب ما يقول به أصحاب الشأن. لم يكنْ بإمكاني التهرُّب من ذلك، ففي ذلك خيانة وطنية – حسب ظنِّي البائس ذات مساءٍ غير ممطرٍ فكل المسئولين العرب في تلك الجحور العربية - كانوا يسردون لي قائمة طويلة بأسماء المدرِّسين السودانيين الذين كان بإمكانهم تدريس جميع المواد باقتدار وتمكُّن.

وهكذا، حفاظاً على تلك السمعة الوطنية الطيبة، كنتُ "أُباصر" الأمر، اعتمادا على معلوماتي السابقة وإطلاعي، و اعتمادا على أنَّ هؤلاء القوم لا يدرون لماذا يجب أن يتعلَّموا، وكيف. وانطلاقا من ذلك الفهم العربي الجُحْري للتعليم، صرت معلِّماً "شاملا "- كما المدرسة الهولنديَّة في كرة القدم - يهرول بين مختلف فروع المعرفة، في خمولٍ خفيٍ، ونشاطٍ دعيٍ، يُرْضي طموح المدراء الجهلة في ملء الفصول و أوقات فراغ التلاميذ.

*
عندما غدا المدرس لاعباً أو مفرق الرياضة:
كان مفرقا ًعبثياً أنْ أتحوَّل من شخصٍ خاملٍ إلى لاعبٍ قديرٍ، وأنا الذي لا تربطني بالرياضة أدنى صلة، ذلك أنَّ تقوُّس ظهري الواضح للعيان، ينفي أية علاقة لي بالرياضة و الرياضيين، وما أزال أكنُّ بغضاً عميقاً لذلك المقعد الذي أورثني ذلك التقوُّس حين ضاع كرسيَّ في المرحلة الابتدائية، فاضطررتُ إلى الجلوس على مقعد يشبه مقاعد البارات والتي هي بلا مسندٍ للظهر، كنتُ أكره ذلك التقوُّس، إذْ أنَّه دائماً ما يجعلني أبدو أكبر كثيراً من عمري. ذلك التقوُّس لم يعجب إلا "حبب" التي باحتْ لي وهي متلاحقة اللهاث أنَّ انحناءة ظهري هي أوّل ما جذبني إليها، فهي قد توصَّلتْ من خلال ملاحظاتها وقراءتها العميقة، إلى اكتشافٍ مذهلٍ، مفاده أنَّ من العلامات المميِّزة للإنتلجنسيا إضافةً إلى الصمت والسرحان الطويل، الانحناءة الخفيفة للظهر.

ما خلا كلام "حبب" الظريفة، فإنَّني كنتُ أعتقد أنَّني قطعتُ كلَّ صلاتي بالرياضة، لكنَّ المدراء الجهلاء في تلك الجحور العربية، كانوا يذكِّرونني دوماً بأنَّني لاعبٌ ماهرٌ، وأُشبه لاعبي كرة القدم بالتحديد، وكانوا يصرّون على أنَّني لاعب ممتاز، يلعب على كل الحبال، والحقيقة تقول أنَّني كنتُ غير مبالٍ بما يدور بينهم من خلافات، بسبب استحالة العثور على أي منطق عقلاني ولو بسيط لخلافاتهم. ففي غمرة انشغالهم بالتناطح حول الكراسي الإدارية "الملخْلخة"، كنتُ لا أُبدي مواقف واضحة لأنَّني لا أفهم ما يدور، كما أنَّهم حين يحاولون استمالتي إلى جانبهم، كانت مواقفي الجاهلة واللا مبالية، تُوحي لكلِّ الأطراف المتناطحة أنَّني أتّخذ سرَّاً ًمواقف مناهضة لهم، ولذلك كنتُ أبدو أحياناً (لاعباً على الحبلين)، وأحياناً على الحبال الثلاثة، و مرَّات ٍأبدو لاعباً على كلِّ الحبال.

وما عزَّز من قناعتي بتحوُّلي إلى لاعبٍ، ما يدور في بداية كل عام دراسي من إجراءات إداريَّة عقيمة، وكان عاطف الساخر يسمِّيها "فكّ التسجيلات". وهو تشبيه صائب، فمثل لاعبي كرة القدم كنَّا نصطفُّ ونهرول في دهاليز مكاتب التعليم، بحثاً عن مدرسة جديدة، بآمالٍ مبعثرة، وعرق غزير، وتعب واضح من أثر الهرولة والنقاش العقيم مع المسئولين الجهلة.

مرةً تمَّ تسجيلي في وقتٍ واحدٍ في ناديين، أقصد مدرستين، ولم أكنْ أدري بذلك، وعندما أتيتُ لاستلام راتبي، تمَّ توقيفي لأنَّني أصرف راتبين في وقتٍ واحدٍ. حين قرَّروا تقديمي إلى المحاكمة بتهمة الاختلاس وتزوير أوراق رسمية، تدخَّل فجأةً أحد الكائنات اللامرئيَّة، والتي تظهر أوان "الزنقة" في ممرَّات مكاتب وزارة التعليم. تحدَّث إليَّ بصوتٍ خفيضٍ، لكي يؤكِّد تأثُّره، وتعاطفه مع قضيتي. وبرَّر تعاطفه معي، بأنَّه يحب السودانيين، لأنَّهم "أحسن ناس"، لذا فهو متأكِّد من براءتي، وأنَّه سيخلّصني من تلك الورطة، بأنْ يسجِّلني في مدرسته، على أنْ أتنازل له عن رُبْع راتبي، نظير الرشاوى التي دفعها. وافقتُ فوراً، وهرولتُ خلفه.


*
عندما بدا المدرس مالكا للجنّ أو مفرق الكتب:
لم أكنْ أدري أنَّ هنالك علاقة وثيقة بين الجنّ والكتب، إلا عندما هبطت "النجيبة" تلك القرية النائية في سهول تهامة، أحمل أكياساً من الكتب. كنتُ آمل أن تفيدني الكتب بعض الشيء في مشروعي الجديد لتلطيف بؤس الحياة. فقد توصَّلتُ إلى أنَّ الحياة ذات نسق واحدٍ له طابع تراجيدي. لا أدري أين قرأتُ هذه الفكرة، لكنَّني كنتُ أجدها مناسبة تماماً لوصف حياتي المهرولة. وقد اكتشفتُ أنّ الكتب في علاقتها بالوقت، تجعل الحياة أقلَّ مللاً وبؤساً. لم يزعزع من تلك القناعة ما قاله صديقي "السفوري" معلِّقا على علاقتي بالكتب"إنّ مواجهة الريف العربي الكئيب، لا تتحقَّق بالكتب وحدها، فتلك المواجهة تحتاج إضافة إلى الكتب، الساتلايت، وزوجة، ومجموعة من قحاب القرية، وخمراً، وأشرطة موسيقية وسينمائية" ثم أردف قائلا، وكانت عيناه تلمعان بوميضٍ ما، "وخيالاً روائياً
".

مصداقية كلام "السفوري" وإيماني بجدوى الكتب، لم يصمدا حين سمعتُ تهامس القرويين أوان وصولي إلى ذلك الجُحْر العربي، وأنا أحمل أكياساً من الكتب. كان التهامس يزداد كل يوم، وأنا لا أجد له سبباً مقنعًاً، إلى أنْ التقاني أحد القرويين، وطلب مني في توسُّل وإلحاح بأن أُكلِّم ملك الجنِّ والتمس إليه لحل مشكلة تخصّه، وحين سألته وما علاقتي أنا بالجنِّ؟، قال متعجِّباً "وهل يملك الجنَّ إلا أصحاب الكتب؟؟ إنَّ آخر مالك ٍللجنِّ كان يملك عشرة كتب، وأنتَ تملك أكثر من مائة كتاب!. أزعجتني الفكرة، فانسحبتُ بهدوءٍ دون كلام، ومضيت مترنِّحاً، لكنَّه لاحقني قائلاً في ثقةٍ "انَّ مشيتك المترنِّحة، وانحناءتك الواضحة تدلُّ أنَّ الجنّ أيضاً "راكبك".

 

*عندما تمترس المدرس بالخيال الروائي أو مفرق السرديات الجُحْريفية:
لم تكن الكتب مفيدة فقط في تخفيف قسوة الحياة في الجحور العربية الكئيبة، بل ساعدتني في قبول حياتي، وفي تخطِّي كثير من الحرج الاجتماعي. كلُّ الكتب ليست مفيدة في تلك الأجواء العربية الخانقة. لذا صرتُ أقلِّل من قراءة الكتب ذات الطابع الحداثوي، حتى لا أشحن لاشعوري بذلك، وفي المقابل أكثرتُ من قراءة الروايات، فالخيال الروائي قد أفادني كثيرا في تقبُّل حياتي المبعثرة بين الجحور الريفية العربية، كما أنَّه أفادني في خلق صورة لنفسي تجعلني مقبولا كفأر محترم في تلك الجحور العربية. وفي كلا الحالين، كنتُ أتحوَّل إلى سارد.

وللتدليل على قوَّة الخيال الروائي، سأذكر كيف ساعدني ذلك الخيال الروائي في قبول حياتي الجُحْريَّة. كنتُ أنام على سرير بالٍ مهتوك، يكاد يصل عجيزتي بالأرض، لذلك صرتُ أقنع نفسي بأنَّني أنام على أرجوحة تشبه تلك الأراجيح المبثوثة في روايات أمريكا اللاتينية، إلا أنَّ أرجوحتي لا تُمنِّي نفسها بعطر حسناء، أو ملمس عجيزة ممتلئة، إنَّها فقط تحتفي فقط بعجائز المدراء الجهلة، وهو ما يعطيني شعورا بالمساواة، إذْ أنَّ مستقبل عجيزتي مشابه لمستقبل عجيزة مديري، لذلك فاحتمال أنْ تلدغ عقرب عجيزتي، مساوٍ تماماً لمصير عجيزة المدير.

الخيال الروائي خلق وظيفة أُخرى لحبال البلاستيك التي أُعلِّق عليها ملابسي، فتلك الحبال البلاستيكية أصبحتْ تفوح برائحة التراث، وترتدي طابعا ًفولكلورياً، وأحياناً طابعاً إستشراقياً عجيباً، يرجع بها الى مرحلة ما قبل اكتشاف "الحمار".

أمَّا على صعيد تجنُّب الحرج الاجتماعي في مواجهة السؤال الأساس للفئران العربية التي تقابلني: متزوج؟، وهذا هو سؤال الفئة الواعية المهذَّبة، أمَّا الأغلبية فتُعمل خيالها في صلفٍ:

- إمتي حتجيب العائلة؟

ساعدني "الخيال الروائي"، على إصلاح خطأ إجابتي للجماهير الجُحْريَّة.
كنتُ في البدء أُوكِّد على عزوبيتي، وأُدافع عنها بأثر العوامل الاقتصادية والاجتماعية في عدم دخولي القفص الذهبي. مثل ذلك الرد كان قاتلاً، بل وفتَّاكاً، إذْ لم يُلقِ الفضوليون القرويّون أي اهتمام لإجاباتي المتحذلقة، بل أنَّهم لم يفهموا سوى أنَّني خطر على نسائهم، في تفسير، وفي تفسير آخر خطر على أطفالهم، خاصة انَّ نسبة التحرُّش والاعتداء الجنسي على الأطفال، نسبة كبيرة جدا.
بعد إدراكي لخطأي ذاك، قمتُ بشحذ خيالي الروائي، والاستفادة ممَّا قرأته من روايات لخلق عائلة وهميَّة بأسماء أطفال، وأُحاول خلق علاقة بين أسمائهم ومدلولاتها، كي لا أنساها. وبعد تأمُّل مرتبك، توصّلتُ إلى "عبلة وعنتر"، فالارتباط بين الاسمين يسهْل حفظهما، كما أنَّ تقليل عدد أطفالي يقود إلى تمييز عن ثقافة القطيع الجُحْري، ويتيح لي فرصة الكفِّ عن الكذب، والتعبير عن نفسي، إذ أنَّني كنتُ متضايقاً من سردي الكاذب.
وللاحتفاظ بصورة نفسي في نفسي، اخترعتُ شخصيات وهميَّة تروي ما أفكِّر به وأعتقده، للتحايل على العقل الجمعي الجُحْري، وما يتبقَّى من أكاذيب أُدخلها في باب التدريب على السرد عبر إعادة تركيب ما قرأته من قصص وروايات وكتب أخرى وما شاهدته من سرد مصوَّر عبر الأفلام والمسلسلات التلفزيونية. كلُّ تلك المَنْتجة والكولاجات، كانت تعطي حياتي الرتيبة نكهة السرد الفوّاحة. كان ذلك الاحتفاء العصابي بالسرد، يعطي لحياتي الرتيبة إكسيرا يومياً أُواجه به أشباح الموت في شكلها الجُحْري العربي، كما يوفِّر لي فرصة أُخرى، أُقنع بها نفسي خفيةً بتبريراتٍ ما لإحجامي عن الزواج. كنتُ أخترع شخصيات من "المجتمع الصفوري"، تعكس نيَّتي الطيّبة في عدم جرِّ آدمية أخرى وآدميين آخرين للعيش في هذا البؤس الملطَّف بـ"القسمة والنصيب". كنتُ لا أُركِّز على فوضى العازب، وإنما على فوضى الحياة المهرولة بلا معنى. لكن في المقابل عليَّ أن أعترف أنَّ وضعية المتزوِّج التي أتصنَّعها، تعطيني مكانةً تبعد عنّي كثيراً من الشكوك والظنون، كما تتيح لي فرصة التحدُّث مع مدرِّسين آخرين لا يملكون هموما معرفية، كما غيرهم من "الفلاشا". فهم، أولئك النفر من "الفلاشا"، يعتبرون الهموم المعرفية أقرب المسالك إلى الجنون، وفي درجة أقل من ذلك، أنها مُفْسدة للحياة.

قادتني اعتراضات "الفلاشا" اللامعرفيين، إلى إعادة النظر في ما أحمله من تركيب عقلاني، نتج عن تأثُّري بالثقافة "المروقية" مثل كثيرين من جيلي المتطلِّع إلى حياة تليق بكلب أمريكي، فقد اكتشفت من مآزقي المتتابعة، أنَّني كلَّما ازددت عقلانية، كلما قذفت بي الأيام إلى هامش ضيق من المكان والزمان. فابتدأتُ أعتقد أنَّ قليلا من "العرقلانية" مفيد للصحة العامة لـ"مروقي" مبتدئ، وما شجَّعني على ذلك أنَّني لستُ وحدي في هذا المنحى الجديد وسط أبناء جيلي. فقد كتب لي "مروقيٌّ" عريق في "المروقيَّة":
"
إنَّني أبحث منذ زمن طويل نسبيا، عن كتاب "علم الجفر" ولكن بخط اليد، وسأسافر إلى سواحل البحر الأحمر كما قيل لي، لشرائه لأهدي به الشباب الضالين من أبناء جيلنا.

أمَّا أنا فكنتُ أبحث عن شيئين:المال والصفاء النفسي لأُبعد عن نفسي هاجس الانتحار الذي يراودني من حين لآخر. فعدتُ أقرأ "مجرَّبات الديربي الصغير والكبير" و "أبو معشر الفلكي"

وThe miracle power of believing،

حتّى أتواءم مع أُصولي الريفية و فكرة "الطابع التراجيدي للحياة".

 

*مفرق الأبراج: أو عندما أضحى المدرس دلواً
أنا من مواليد برج الجدي، وأعرفُ من قراءاتي في علم الكفّ والتنجيم أنَّ مواليد هذا البرج ينسجمون مع مواليد برج الدلو. لم أحاول قط في حياتي، أنْ أتأكَّد من صدْق هذه المقولة، لكنَّني جرَّبتُ بدلاً عن ذلك محاولة الانسجام مع الدلو نفسه، فقد قُدّر لي أنْ أهرول في جبال نائية مليئة بالصمت والقمل والجهل والنسيان، كنتُ أصعد إلى جبلي بدلو، ولا أهبط من الجبل إلا في نهاية العام الدراسي. كان الأمر في البدء مزعجاً، لكنَّني كعادتي الجُحْريَّة، جعلتُ من تلك الرحلة فرصة لسرد تفاصيل حياتي إلى نفسي المسكينة، والأغرب من ذلك، أنَّ علاقة الالتصاق بالدلو، تحوَّلتْ إلى تقمُّص كامل لصديقي الدلو، وقد عملتُ ذلك في منطقة تسمى "الآبار السبع" والتي يقطنها بدو شرسون.

كنتُ ضحية عادتهم الكريهة في تضييع الأختام والأوراق الرسمية. فتارة أُنقل إلى "بئر الغنم"، وتارة أخرى إلى "بئر مُعمّر"، ثمَّ بعد أسابيع إلى "بئر عز الدين"، استفزني هذا الرحيل العشوائي بين الآبار البدوية، فقلتُ للمسئول البدويّ "أنا إنسان ولست دلوا تلقون به كيفما اتفق في آباركم المالحة". لم يفهم كلامي ولا سبب احتجاجي، لكنَّه أحسَّ بإهانة كبرى، فقال لي وهو يتحدَّث كشريط مسجّل" إن في هذا إهانة كبرى لأوَّل جماهيرية في التاريخ، حرَّرت الإنسان، وبدأتْ مشروع بناء المدينة الفاضلة، وهي على أعتاب بناء الإنسان النموذجي السعيد، يا أستاذ "سعيد" " ثمَّ أخذ ورقة، كتب عليها بعض الكلمات بخط قبيح ولغة لم أفهمها، ووضعها أمامي كي أوقع، اعتذرتُ عن التوقيع لأنني لم أستطع قراءة المكتوب لنسياني للنظَّارة، فَهِم كلامي، وعلى الفور نهرني وهو يأمرني بالذهاب إلى "البئر الأعوج"، وهدَّدني بتشديد المراقبة علي، ثُمَّ أعطاني نسخة من "الكتاب البنفسجي". حملتُ الكتاب، قلَّبته كثيرا، ولم أفهم لماذا سُمِّيتْ هذه الصفحات المليئة بالبديهيات "كتابا". حاولت أن أُفهم مدير المدرسة البدوي، وهو من الثوريين الذين يؤمنون بمقولات "الكتاب البنفسجي"، انني أجد صعوبة كبيرة في فهم الكتاب، فأرشدني الى شروحات "الكتاب البنفسجي" قائلا: أنها ستجعل منك إنسانا بعد أن كنت دلوا، وأعقب كلامه الأخير بابتسامة عديمة المعنى، لكنني بادلته الابتسامة، لأنَّ نكات المدراء دائماً مضحكة.

كانت "الشروحات" تتألَّف من عشرة مجلدات ضخمة. وكانت المجلدات ذات ورق صقيل وأغلفة فاخرة مذهَّبة. من أول وهلة أدركتُ أنَّني لن أستطيع قراءتها، ومن ثمَّ لن أفلح في التحوُّل من دلو الى إنسان. قنعتُ بهويتي الدلوية الجديدة، وراهنتُُ على إيجاد فهم خاص للكتاب البنفسجي الذي لا تزيد صفحاته عن مائة صفحة من القطع الصغير، ومكتوبة ببنط كبير يصلح لضعاف النظر، وغمرني فجأة شعور طاغ ٍبأنني سأجتاز التفتيش بنجاح.

ضحى يوم غائم، حضر المفتِّش. كان يرتدي سروالا طويلا أزرق وقميصا بنفس اللون، وهو زيّ لشيوعه لا يجعلك تفرِّق بين الخفير وبين المدير. رحَّبتُ به أمام الطلاب وأشدتُ بقدراته التي لا أعرف عنها شيئا، نهض في تثاقل وشكرني في حياء مختلط بغلظة واضحة على وجهه المتهدِّل، مثل وضوح رائحة فمه الكريهة التي تشكو من هجر المسواك، لأن أولئك القوم يعتقدون أن السواك عادة نسائية. تحدَّث عن مفهوم المساواة في "الكتاب البنفسجي"، وأمرني بتوضيحه للطلاب.

تنحنحتُ قليلا، وأمَّنتُ على أهمية مفهوم المساواة وأهمية "الكتاب البنفسجي" كمرجع واحد أحد في هذا العصر الجماهيري الذهبي، وخطر ببالي فجأة أن أُحلِّي كلامي باستغلال موهبتي المدفونة في السرد، وابتدرتُ حديثي إلى الطلاب هكذا بصوت مؤثِّر:

 - في يوم من أيَّام الصيف المطيرة، ذهب الأسد ملك الغابة. "هبَّ المفتِّش من مقعده ثائراً و هو يقول مرتجفاً من الغضب"نحن يا أبنائي الأعزاء في عصر الجماهير، ولا يوجد لدينا ملوك في نظريتنا العالمية".
قلت مصحِّحا في مسْكنة متلعثمة:

- ولكنَّني!.

فقاطعني هائجاً:

"- أبنائي الأعزاء، إنَّ الجماهير هي صانعة الثورات وقاطرة التغيير، وإنَّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وكذلك الأسود اذا دخلت الغابات. "

ثم أنهى الحصة و اقتادني إلى مكتب ناءٍ، وقال لي في رثاء واضح" أدرك حداثة عهدك ووجودك في هذه البلاد، ومثل ذلك الكلام الذي قلته للطلاب سيقطع رزقك. سأنقلك إلى "بئر العسل"، فالمدير هنالك طيِّب ومتفهِّم للبرَّانيين من شاكلتك، وسيغفر لك مثل هذه الأخطاء".

شكرته في مذلَّة، وأنا أفكِّر في طريقة ما للتخلُّص من هذا المأزق الدلوي.

بعد أسابيع من حديثي مع المفتش، تخلصت من ذلك المأزق، لكن لعنة الدلو انتقلت معي عندما غادرت المجتمع النموذجي السعيد متوجِّهاً إلى البلاد السعيدة.

تمَّ قذفي إلى إحدى المدارس في قرية جبليَّة وعرة، كنتُ أعرف من الكتب المدهشة ذلك الارتباط سابق الذكر بين مواليد برج الجدي والدلو، لكننَّي لم أكنْ أتصوَّر أنَّ تلك العلاقة ستتطوَّر إلى علاقة شخصيَّة مع الدلو نفسه. ففي تلك القرية الجبليَّة كان الدلو هو الوسيلة الوحيدة للمواصلات، وبواسطته كُنَّا نعرف كثيراً من الأحداث المهمَّة لحياتنا الجُحْريَّة الجبليَّة، وكنَّا لا ننزل من الجبل إلّا لمهام جليلة مثل صرف المرتَّب. ولذلك كانت مناداتنا لركوب الدلو أمراً يسرّ البال. وبحسب لغة لاعبي "الكُنْكان"، فإنَّ نزلات صرف المرتّب أثناء العام الدراسي هي تعريجة، أمّا النزْلة الأخيرة فتسمَّى نزْلة مصحوبة بفكَّة تيكتين والقفول انتظارا للخمسين أي صرف الدولار.


*
مفرق المعاهد أو "الحلومر" في خيبته:
طيلة عملي في البلاد السعيدة، كنت أعمل في مدارس وزارة التربية، وهي تختلف عن "المعاهد العلمية"، وانْ كان المرتب واحد، والمعاهد العلمية كما يرى المدافعون عنها لا تختلف عن مدارس الوزارة إلا في تكثيف منهج اللغة العربية و التربية الإسلامية لزيادة الاهتمام بأهمّ مكوِّنات الثقافة العربية الإسلامية. ويرى آخرون أنها أُنشئتْ لمواجهة المدِّ اليساري في الجزء الجنوبي من البلاد السعيدة، وتمزج تلك المعاهد بين دور المدرس و الفقيه، و هو ما وطّد عند العامة من سكان البلاد السعيدة، أن "الأستاذ" قادر على الإفتاء. وقد أربكتني هذه الصورة الفقهية للمدرس، حين سألني راكب جلس بجواري في حافلة، في حماس غير الواثق من نفسه "مش صحيح يا أستاذ في حديث بقول "ساعة لربك، وساعة لقلبك، و ساعة لز...ك"؟، فما كان منى إلا أن لعبت دور أعجمي من الأفارقة الذين يتسللون خلسة إلى البلاد السعيدة تتبعهم رائحة أعشاب البحر.

وقد جعلتني خلفيتي "المروقيَّة" نافرا من تلك المعاهد. وظلَّ هذا النفور قائما إلى أنْ تعرَّضنا ذات مَرَّة مُرّة إلى "التفنيش"، وهي كلمة محوَّرة عن الانجليزية والمقصود بها تلطيف عملية الاستغناء، والذي هو بدوره حسب خبرة "الفلاشا" وخاصة المعارين منهم، ليس نهائيا، وهو ناتج عن الربكة الإدارية المريعة في البلاد السعيدة. ولذلك كثيرا ما كان يتمُّ إرجاع "المفنَّشين" إلى أعمالهم باسمين، ومثل هذا الإجراء كان يُسمَّى بالحلو مر، لاجتماع قطرات السعادة مع حبيبات الأسى على ورقة الهباء المتدلية من شجرة الروح الذابلة.
لكنّ الأمر في تلك المَرّة المُرَّة لم يكن "حلومراً". ولم يكن من بد سوى التقديم للعمل في "المعاهد". لم يكن اتخاذي لقرار التقديم سهلا، خاصة بعد التهكُّمات التي صدرتْ من بعض زملائي عن جدوى الكتب، وهو سؤالٌ أربكني كثيراً، إذ كنتُ دائماً أكتشف الفارق الضخم والخرافي بين حياتي والحياة التي تحكي عنها الكتب. وكانت روحي "المروقية" تتأزَّم، كلّما اكتشفتُ أنّ العالم المحيط بي لا يشبه أبداً الحياة الموجودة في الكتب المدهشة. كما أنَّ التحليلات "المروقية" التي تتحدّثُ عن دخولنا مرحلة جديدة واقترابنا من الحياة المبثوثة في الكتب، لم ترقْ لي، بل واكتشفت أنها كاذبة. فكلما سِرنا في المظاهرات الاحتجاجية، وهنْدسنا الانتفاضات على حياتنا غير المتَّفقة مع الحياة التي في الكتب، وكُلَّما كثر عدد الكورالات والأغاني التي تعدنا بنوافير وبناتٍ كالحدائق، كُلَّما دهستنا الوحشة والكآبة. وقد توصّلتُ إلى أنّ الحياة التي نعيشها الآن، هي دليل دامغ على أنّ الشرط الوحيد لبقائنا الآن هو الابتعاد عن الحياة التي تعدنا بها الكورالات، والأغاني، والكتب المدهشة، و"الأولاد أبَّانْ خُرْتايات"،

وقد قادني اكتشاف وجود حياتين إلى أنَّ هنالك حياة ما بين الحياتين، و أنَّ الحياة الوحيدة الممكنة هي التي يتحقَّق فيها "الضرب العادي من السعادة". كان توصُّلى إلى تلك الحياة بين الحياتين مقروناً بنشوةٍ مفكَّكةٍ تشبه نشوة القفز من المقلاة إلى النار مباشرةً. وبناءً على وعيي الجديد قرَّرت التقديم للمعاهد. كان قراري ذلك قرارا تاريخيا في سيرة حياتي المترجرجة، فهو يشكِّل بداية دخولي مرحلة جديدة أسميتها "الاستعداد للخيبة"، لكنَّني اكتشفتُ بعد ذلك، أنَّني لم أكنْ مستعداً بما فيه الكفاية لمعانقة الخيبة، فقد رُفض طلبي بحجَّة أنّني صاحب شخصية غامضة لا يمكن تحديد سماتها بدقّة، كما أنّني أُكثر من اقتناء الكتب التي تحتوي على علمٍ لا ينفع.

****
اكتشف الكاتب بعد انتهائه من تدوين هذيانات سعيد الطيِّب، أنَّ هنالك كثيرا من الكلمات غير المفهومة للقارئ العادي، مما يساهم في استغلاق النص. فقام ببحثٍ مُضْنٍ عبْر المقابلات الشخصيَّة، والرسائل البريدية، و المحادثات التليفونية، والإيميلات، و "مذكرات"سعيد الطيب التي تم ترميمها بعد أن غمرت خلايا مخه المتناثرة أجزاء منها. وكان أنْ توصّل الكاتب من منفاه الكاليفورني إلى القاموس التالي:

 

-1-الفلاشا:
تسمية أطلقها في الثمانينيّات من القرن العشرين موظَّفو مطار الخرطوم على المدرسين السودانيين المعارين القادمين من دولة عربية سعيدة، لأنّهم أي أولئك المعارين يأتون ويذهبون أفواجاً في رحلات "التفويج"، مرتدين ملابس رثة. وقُصِد بهذه التسمية عزل وفرْز أولئك المدرسين عن مغتربي البلدان العربية الناعمة، مثلما حدث لأقرانهم وأبناء أعمامهم من "السلْكاويَّة"، ولا تتم معاملة المعارين من قبل أولئك الموظفين على قدم المساواة، ومن العوامل المركونة في لا وعيهم "أغاني البنات".

في البداية صعد نجم الهاربين، جميعا بدون فرز، فارتفع النشيد النسوي:

"أنحنا ما دايرينْ 
يا العزَّابة 
إلأ مغتربين
يا العزَّابة"
ترمترم ترم ترمترم ترم ترمترم ترم"
و بالغنَّ في الإطلاق حتى أنهن أنشدن:
مغترب كان كديس كان ك ل ب
مممامما ممما ممما ممما مممما
ثم انكشفت الغشاوة البترودولارية، فتوصلنَّ إلى طبقات المغتربين:
بقوا نوعين:
نوع أصلي:
"
يا أبو ظبي
يا بلد النبي
يا أقعد كدي"
توتوتوتو تاتاتاتا تي تي تي تي تي تي 
ونوع تايواني، ضعضعه الدهر، فتضعضع مثل "الفلاشا"، في مقارنة مع النوع الأصلي:
"
ليبيا و اليمنْ ضياع زمنْ
الكويتْ
عربية و بيتْ"
توتوتوترارا توتوتوترارا توتوتوترارا
ثم ذهب "الهاربون" جميعا إلى مهاوي النسيان، وعلى مسرح الأماني النسوية ظهر الصاعدون الجدد من البرابرة الملتحين إلى سماء الأهازيج السرية:
أتحجَّبْ وألبسْ طويلْ
عشان أعرِّسْ عمر البشيرْ
تررررم ترررررم ترررررم
"
الكوز مريِّشْ
الكوز بعيِّشْ"
لالالا لالالالا لالالالالا
حبيبي ظريفْ 
يا ناسْ
الكوز لطيفْ 
يا ناسْ"
هشِّكْ بشِّكْ هشِّكْ بشِّكْ هشِّكْ بشِّكْ
وحين بحَّتْ أصوات النداء الأنثوي، لم تجد غضاضة في لعب دور الضرَّة:
"
جاياك يا أبشرا 
و جاية أفتو معاك و بالضره
يا أبشرا 
إن شاء الله راجل مره"
تللا لالا تللا لالا تللا لالا لالالا
و جاوبها صدى حبشي جبلي:
الليل
مغرزة
راجل المرة حلو حلا
تنتنا تنتنا تنتن تنتنا تنتنا تنتن
وبمرور الأيام تمَّ توسيع ماعون "الفلاشا" كتسمية، لتشمل أيضاً الباحثين عن عملٍ كمدرِّسين في دواوين الوزارة بتلك الدولة السعيدة. وربّما للإيحاء للمسئولين عن توظيف المدرسين الأجانب بثقل الوجود، أو لسبب آخر، يصرّ الفلاشا على تأكيد هويتهم السودانية بلبس العراريق المكرفسة والجلاليب المتَّسخة والسراويل ذات "التكك" المزركشة ويكوِّرون فوق رؤوسهم عمامات لُفَّتْ على النمط الأنصاري في أحايين قليلة، وكانوا يفضِّلون، لأسباب عملية في الغالب، النمط الهلامي، وهو نمط حر، لا يحكمه قانون، وفيه تلفُّ العمامة كيفما اتّفق. ذلك أنّ عجلتهم الدائمة لا تتيح لهم تدوير العمامة على الطريقة "الترباسية" أو الأقل تعقيدا منها: "الحسينخوجلية".

وينتعل الفلاشا السفنجات للشعور بخفَّة الوجود، فـ"البرطعة" بالسفنجات، كما يرى أحدهم من المثقفين، هي مؤشِّر على تفضيل الحياة في الهواء الطلق. وهذا السلوك "المُنْطَلِق" كما يرى "السفوري" هو من التأثيرات الخفيَّة لثقافة المومسات على الحياة السودانية المعاصرة. فأوّل من "برطعن" بالسفنجات، كُنَّ من مومسات "أبو صليب"، وبعد ذلك انتقل هذا التقليد إلى مومسات "المزاد" و "سبعة بيوت".

لكنَّ ذلك السلوك "المُنْطلق"، من جانب الفلاشا، يختلط بإصرارهم على العيش والسير والسفر في جماعات كثيرة العدد. وساهم ذلك في اكتسابهم عادة التحدُّث بصوت عال. وترتفع أصواتهم أكثر عندما يركبون سيَّارات النقل العام، وهم عادةً يتحدّثون بذلك الصوتٍ المرتفع عن النجاحات التي حقّقوها في سبيل التوظيف، ويتحدّثون في اقتضابٍ وبصوتٍ خجولٍ عمّا يسمّونها "المضايقات" التي قابلتهم في شبَّاك الوزارة حيث يتزاحم طالبو الوظائف، والمدرسون في آخر العام في طوابير طويلة لصرف مرتباتهم. وهذه الطوابير عادةً ما تتمخّض عن سيلان آلاف الليترات من العرق، وقليل من الليترات من الدم الآدمي إذا ما نجحتْ سياط الشرطة السعيدة، في الوصول الى أُنوف وأرجل و ظهور المتدافعين المتنافسين في شراسة المُعْدم، للوصول إلى شبّاك "التصفية" أي صرف الدولارات.

وأحياناً كثيرةً تتمخَّض عن سقوط مئات الزراير، وتمزيق أنواع مختلفةٍ من الملابس، وسقوط عشرات الضحايا في حالة إغماء.

يقول الراصدون لتسمية "الفلاشا"، أنّ المعارين يصرِّون على إخراج أنفسهم من دائرة "الفلاشا". و حسب رأيهم، فإنّ "الفلاشا"، تضمُّ فضْلا عن "الدخلاء على المهنة" من المتعاقدين، فئات "الخضرجية" والعتّالة" و "مدرِّسي الابتدائيّات"، الذين "تبكْبَكوا" في "عام البكْبَكَة".


2 – العرقلانيّة:
خلاصة ما توصَّل إليه "سعيد الطيب"، حين فشل في تبنِّي إستراتيجية "الضرب العادي من السعادة". وسكنتْ تلك الخلاصة في نفسه، ذات "طشمةٍ"، حين كان يفكِّر في المصائر المستريبة التي سكنتْ تفاصيل هرولته العربية "التراجيكوميدية"، فالحياة لا تبدو "كما توهَّم سلسلة من المحاولات الناجحة والفاشلة معا لإعمال العقل" كما أوحتْ له بذلك الكتب المدهشة. إنّ الحياة على النقيض من ذلك تماماً هي سلسلة من العراقيل، إنَّها مسيرٌ ممضّ من عرقلة إلى أخرى أكثر تعقيداً. وهي أي العراقيل تروح وتجيء وِفْقاً لمنطقٍ يجهله، ولم تسعفه الكتب المدهشة في اكتشاف ذلك المنطق، كلما تعرقلت رغباته. وقرّ في نفسه بعد تأمُّلٍ عميقٍ، أنّ قليلاً من العرقلانية هو السعادة نفسها، لكنّها السعادة الموسْوسة المتوجِّسة دوماً من "هادمة المسرات ":

"العرقلانية الغامضة"..


-3-
المعارون:
هم كما يرى "السفوري"، فئة من المعلِّمين السودانيين كبار السن، ظهرتْ في السبعينيات من القرن العشرين في عدّة دول عربية. وقد تكاثرتْ تلك الفئة عندما لم يكنْ بإمكان" فقرا السودان" اقتسام النبقة. ولذلك صاروا من عَبَدة المال، وهم أوّل من قدّس "الدولار" في التاريخ السوداني المعاصر. ولذلك كانوا يتفنّنون في حفظ الدولار، وتفتَّقتْ عبقرياتهم عن طرقٍ شتَّى للحفظ أهمَّها "بنك بجنب الخصيتين".
وقد أخرجوا الدولار من دائرة النقود، ويروون في ذلك أنّ أحد المعارين المرضى ادعى أنّه مفلس، ولذلك كان أصدقاؤه يتولّون الصرف عليه في أثناء إقامته في مستشفى ما، وذات يوم سقطت منه صُرَّة اتَّضح بعد فحصها أنّها مليئة بالدولارات، وحين نظر إليه الحضور نظرة استنكار واحتقار، قال محتجّاً، والدموع تترقْرق في عينيه:

- دي ما قروش، دي دولارات!.

وبالغ في تفخيم "الراء" في كلمة "دولارات"، حتّى سقط مغشيَّاً عليه.


4
- المجتمع الصفوري:
من تخريجات "عاطف الساخر" ويقصد بها المجتمع المنعزل الموحش الذي لا يتواصل فيه الأفراد، ولا يتأكَّدون من وجود ذواتهم إلا عن طريق المضاجعة.

وقد جاءت تخريجة "عاطف الساخر" على وزن المجتمع الذكوري، وإنْ كان في الأصل أنّه اقتبسها من حديث إحدى المغتربات القادمات من دولة عربية ثريّة، وهي تروي ما قالته إحدى المغتربات من سكّان الجبال العربية، وهي تحاول تلخيص حياتها الجبليَّة:

". وهكذا يتكرَّر هذا المشهد يوميا:

يأتي زوجي المدرِّس ظهرا، فنتغدَّى سويَّاً، ثم نغطُّ في نوم متقطِّعٍ حتّى أذان العصر... حينذاك يخرج زوجي ليجلس على صخرةٍ وحيدةٍ، ثم يطلق صُفّارة طويلة، بعدها ينحدر آيباً لنرقد سويَّاً، ثم ينهض، ويغتسل، ويخرج ليجلس على صخرته الوحيدة ثم يطلق صُفّارته المعتادة ثم يؤوب لمجامعتي، وهكذا يتكرَّر يومياً ما يحدث حين يعود زوجي المدرِّس ظهراً.......

وهكذا توصَّل "عاطف الساخر" إلى تخريجته تلك، قارناً لقاء السرير والصفير بالبحث عن التواصل، وأكثر من ذلك التأكُّد من وجود "الأنا".

وهذه التفصيلة الأخيرة أي "التأكُّد من وجود الأنا"، ليست مفهوما فلسفيا أضافه "عاطف الساخر" من خياله، وإنَّما هي الجزء الثاني ممّا سمعه من حديث المغتربة القادمة من دولة عربية ثريّة، وهي تروي ما قالته تلك المغتربة القادمة من سكّان الجبال ردّاً على سؤال المغتربة الثريّة :

"ألا تسأمان من الصفير والجماع؟، وكان أن ردّتْ :

"يحدث ذلك أحيانا، وعلاجه كان سهلا أول الأمر:

تناولنا بالتشريح والتحليل كلّ الذين عرفناهم حتى أنّني صرت ألقبه بأبي نمّام، وصار يلقبني بأم نمّام، وحين تفرغ جعبتانا من الأسماء، كنّا نكسر الصمت بالتسابق على فعل ما. ابتدأنا بالبكاء، وحين جفّتْ مآقينا، تسابقنا على الضراط، وحين جفّت مصاريننا كنّا نرجع مرة أخرى حين يعود زوجي المدرِّس ظهرا إلى......... ".

وما قال به "عاطف الساخر"، ينسجم تماما مع ما قالته مغتربة في المجتمع النموذجي السعيد، حين سألتها مغتربة من دولة عربية ناعمة، عن حياتها هنالك، فقالت لها:

"الأكل بطاطس، والز.................. غاطس". و الإجابة الأخيرة للمغتربة، اختلف حولها مثقفو الخرطوم - و خاصة مقتفي آثار "الأولاد أبَّان خُرْتايات" - في ما إذا كانت تندرج ضمن مصطلح "الشطْح الجُحْري".


5 - الضرب العادي من السعادة:
إستراتيجية تبنّاها "سعيد الطيب"، من تعبير لبطل "البحر والسم"، لشوساكواندوا حين قال:
"انّ ما هو عادي، يمكن أنْ يمنح المرء أعظم سعادة" ص 34.
وقد توصّل إلى مغزى الإستراتيجية ومحتواها و حدودها من كلام بطل الرواية، حين قال
:
كم هو جميل أنْ يكون له ولد بعد فترة، وأن يستقرّ مع زوجته في ضاحية محدودة التكاليف، في مكان ما، ليستمتع بضرب عادي من السعادة
".

أراحه هذا الاكتشاف قليلا، لكنّه لاحظ أنّ العاديين لا ينزعجون عندما تواجههم تساؤلات أو شكوك، بل يكتفون بأقوال مثل:

"هذا شيء طبيعي" أو "من الطبيعي أنْ... " أو " ليس من العادة.... ". أو... . وهكذا تخلّى "سعيد الطيب" عن تلك الإستراتيجية عندما عرف أن ذلك الضرب العادي من السعادة لا يهتمّ كثيرا ولا قليلا بما تقوله الكتب المدهشة.

 

6 – موسِّخ، وصيف، عِبَيد، عَبْدو:
ألفاظ لم تردْ في سرد سعيد الطيب البرزخي، ولكنّها من الألفاظ التي استقرَّتْ و توطَّدتْ في لاوعيه البدوي الجُحْري.
الألفاظ الثلاثة الأولى يطلقها الدهماء في أول جماهيرية في التاريخ على العاملين فيها من أهل السودان، فـ "موسِّخ" تعني الأسود ذا البشرة المتَّسخة من كثرة السواد، وهي نقيض كلمة نظيف، وتعني في خطاب الرجرجة من افراد المجتمع النموذجي السعيد: ذا البشرة البيضاء.
و "وصيف" عندهم هي إشارة لطيفة إلى العبد.

أمّا "عَبْدو" فهو اسم الدلع لـ"ِعِبيد"، و الذي حين نطق به أحد المعارين، كإجابة عن سؤال ضابط جوازات جماهيري "شن سمَّوك"؟ ردَّ الضابط الجماهيري متأفِّفاً و متضايقاً "أدري انك عِبيد، شنو اسمك"؟
وقد تفتّق خيال الأطفال الجماهيريين عن ذلك الاسم، عندما أكثر السودان الموسِّخون من امتشاق أسلحتهم البيضاء لدى سماعهم ألفاظ التعيير باللون الكلاسيكية.


7 - المُرُوقِيّون:
هم جماعة عالمية ذات نوايا طيِّبة و طوباويَّة، مخلوطة بنزعةٍ علميةٍ صارمةٍ.
وهم كما يرى "عاطف الساخر"، أوّل من حاول ضبط المواعيد في السودان بعد رحيل الإنجليز، ساخرين من "الصباحات الحميمة".

واشتطّوا في ذلك، حتى وصل بهم الحال إلى تقديس الاجتماعات والتكاليف الحزبية.

واستند "عاطف الساخر" في ذلك التخريج على ما ذكرته إحدى "المروقيَّات" في نقاش عاصف ذات صحو حينما صاحت في تشنُّج "نحن الذين يقودهم وهج الشمس نحو صعود لا يرث الهبوط، نحن الذين على أكتافنا "مِرِق" الحياة إذا تراخينا، انكسر المِرِق و اتشتتْ الرصاص، وخسرنا كل شيء".
وقد أجرى "عاطف الساخر" النسبة من الجمع أي "المروق"، بدلا من المفرد "المِرِق" للأسباب التالية:
أ‌- إن النسبة من المفرد "المِِرِق" أي مِرٍقي قد تختلط بالمرَق أي الحساء أو المَرْقُ أي إِكْثارُ مَرَقَةِ القِدْرِ. وهؤلاء القوم تطهيّريون في علاقتهم بالمَرق، وإنْ كان أنّهم يطالبون بأنْ يكون المََرَق للجميع. ويُعْتَبر المَرَق عنصرا أساسيا في التحليلات الاجتصادية لنفر كثير منهم، وكرهابنة راديكاليين يسْخرون من المثل الدارج "أهل العِرِس مِشْتهين المَرَقة".
ب‌- إنّ الجمع يشير إلى أنّهم لا يحملون مِرقا واحدا. وهذا يثبت أنّهم أيضا موعودون بحمل "مروق" أخرى لا يعلمونها، وهي تظهر فجأة عندما يتّضح لهم في مسيرهم الصاعد نحو وهج الشمس، أنّ الحياة لا تجري حسب المخطط ذي المروق الثلاثة.
ج- وقد اختار المروق لان القواميس تقول أن المارِقةُ: الذين مرقوا من الدِّين لغُلُوّهم فيه.
والمُرُوق سرعة الخروج من الشيء، مَرَق الرجلُ من دِينه ومَرَقَ من بيته.
و مما عزّز كلام القواميس، أن مخيال السوقة من السودان والبيضان، يحوك و ينسج أساطير عن المروقيين من بينها أنهم يتزوجون أمهاتهم و أخواتهم، و لا يؤدون الشعائر المفروضة. و إن قاموا بغشيان المعابد، كما يقول علماء الحيض و النفاس من السودان و البيضان، أطلقوا زفرة المُضطهَد، و غرقوا "في رواية لعلماء السوء و السلطان" في سرحان متصل عن المخطوطات الفلسفية و الاقتصادية لذلك الفيلسوف الألماني الشاب، وبيانهم التأسيسي الأكثر انتشارا في التاريخ الإنساني قاطبةً بعد كتب شرقأوسطية مقدسة، وقبل مختارات ماوتسي تونغ و كيم إل سونق الزعيم المحبوب من أربعين مليون كوري.


-8-
الحمار:
هو حمار الملابس وسمِّي بذلك لظهره المستوي الذي يحمل أثقالا كثيرة من الملابس. وقيل للسكْسكة الصادرة عنه، وهي تبدو متقطِّعة الصوت كما النهيق.
وقد دخل الحمار قرية "سعيد الطيب" بعد طقم الشاي، وقبل "التانج" والآيسكريم. لكنّه لم يحظ بالاستقبال الذي حظى به "طقم الشاي"، الذي أحضره لأوّل مرة، جد صديق "سعيد الطيب" أحمد أفندي "أب شبّال" الذي كان يعمل بالسكة الحديد في عطبرة قبل عقود من "السودنة". آنذاك توافدت الجماعات من شرق النيل وغربه من القرى المجاورة لترى الأكواب المزخرفة ذات الأحجام المختلفة، ويتوسّطها برَّاد كبير، يشبه ديكا فيّوميَّاً، وكلّها جاثمة على صينيّة برّاقة البياض. بدا المشهد كله للقرويين جذَّاباً ومثيراً، وشبيهاً بدجاج يمرح في حقل أبيض، فأسموا الطقم "حقل الدجاج الأبيض".
وقد جُوبه "الحمار" باعتراضات كثيرة، مثل شَغْله لحيِّز كبير و ارتفاع سعره. لكنَّ أهم تلك الاعتراضات كانت من جانب فقيه القرية الذي اعترض على عرض الملابس، خاصة تلك التي تذكِّر بعورة الانسان أو تثير الفتنة، كما اعتبره وسيلة للـ"فخفخة " و "البوبار" واستفزاز مشاعر الفقراء المساكين. وقال أيضا أنّ الحمار يغيِّر من خِلْقة الملابس التي أرادها الله إما ملبوسة أو متوسَّدة تحت الأذرع. ولذلك "قال الفقيه خاتما كلامه" فإنّ الله قد مسخ الحمار فجعله "يسكْسك" مثل الشباب "المخنّثين" في حفلات خرطوم سبعينيات القرن العشرين.
لم تفتّ تلك الاعتراضات من عضد الحمار، بل تطوَّر من الخشب إلى الحديد بأنواعه، إلى أنْ جاءه ملك الموت"الشمَّاعة"، فقبضتْ روحه التي صعدتْ إلى سماء بارئها: "النسيان. "

9 - السلكاويَّة:
هم النسخة المصرية للفلاشا السودانية، وكلهم إما عديمو المهارات، أو أن مهاراتهم تجعلهم في أحسن الأحوال من ذوي الدخل المحدود و الجيب المقدود و العُسْر المشهود. و قد دأبوا على الدخول خلسةً إلى المجتمع النموذجي السعيد عبر اجتيازهم للأسلاك الشائكة التي أقيمت عبر الحدود بين البلدين الشقيقين.
و من مذكرات "سعيد الطيب"، نجده قد ميَّز نفسه من "الفلاشا"، و ما استُنْسخ منها مثل "السلكاوية"، في إطار محاولة "الفلاشا" السودانية لعولمة نفسها. و قد حدس الكاتب أن "سعيد الطيب" أشار إلى ذلك مواربةً-عبر مقطع أثير لديه- كتبه في وريقة مهملة وُجِدتْ مطوية برفْق داخل مذكراته- يقول:

"بري بري بري
بري بري بري
بري بري بري
حبيبي لا جنجويد لا عسكري
دا زول "فاهِمْ" و رضي"
و يبدو أنه أوّل "فاهِمْ" تأويلا في صالحه، من خلال ربط "الفهم" بالكتب المدهشة.

مُلْحق تفسيري للقاموس:
نتيجةً لهياج وهرج و مرج بعض القرّاء غير النموذجيين من أشباه المتعلمين، لاستغلاق "هذيانات سعيد الطيب" على إفهامهم، حتى بعد قراءتهم للقاموس، اتصل المدوِّن أسامة الخوَّاض بالكاتب التقليدي أسامة الخوَّاض للمساهمة في تهدئة الجماهير الاسفيرية الهائجة. وعد الخوَّاض التقليديُ المدوِّنَ خيرا، و قام بأخذ كورسات في اليوغا والتقنيات الروحيَّة الشرقية بهدف التواصل مع روح "سعيد الطيب".
بعد انتظار قلِق، بدأتْ إشارات تصل الكاتب التقليدي من "سعيد الطيب" في شكل دمدمات و همهمات مصحوبة بصليل أجراس و دوي نحل، و ذبذبات صوتية معطونة في عسل فتنة الوجود الأثيري. أوحتْ روح "سعيد الطيب" كلامه علي قلب الكاتب التقليدي. وقام الكاتب التقليدي بنقله من قلبه إلى لسانه بكلام متلو مسموع بالأذان، ثم خطّه بالمداد في القرطاس، وكان اليراع يتفصَّد عرقا، فكان الملحق التفسيري التالي:

أ-بنك بجنب الخصيتين:
هو مقابل شعري لجيب سروال المعار. ويرى "عاطف الساخر" أنّ سروال المعار هو من اكتشافات المعارين في تلك الدولة العربية السعيدة، حيث كان الترزية السعداء يصمّمون سروالا ذا جيب سري، في داخل السروال، وقريب من الخصيتين، يدسُّ فيه المعارون دولاراتهم في آخر العام الدراسي حين يصرفونها دفعة واحدة.
وقد قال أحد المدرسين المعادين لذهنية المعارين بيت الشعر التالي في صديق له من لابسي ذلك النوع الجديد من السراويل "مادحا" له:
ولأنْتَ أوّلُ مُنْشئٍ بنْكاً بجنْب الخصْيتينِ فذاكَ فَضْلُ اللهِ للبخلاءِ
وفي أحيان قليلة لم يكن "بنك بجنب الخصيتين" حرْزا حريزا للدولارات. فقد تمقْلب معارون كثيرون قلوبهم معلقة بالمساجد، و كانوا يعلِّقون سراويلهم خارج المسجد على عادة السكان الأصليين الذين يعلِّقون سراويلهم في الخارج لعدم طهارتها الناجمة عن السوائل التي تُفْرز نتيجة تعاطيهم لعشبة مخدرِّة. و حين يخرج المعارون كانوا يلبسون سروايل السكّان الأصليين عن طريق الخطأ. و قِيْل ان أحد الفلاشا أصيب بإغماءة في طائرة "التفويج"، حين اكتشف انه نسى سرواله في حمام عمومي.
ب- الصباحات الحميمة:
هي الصباحات التي استدعاها متحسِّرا "السفوري" المحاضر في علم التأريخ في إحدى الجامعات العربية غير ذائعة الصيت، حين اشتمّ "ذات مفاجأة" رائحة صباح خائب، ظلَّت تزوره بعد ذلك كل يوم، عبر ستائر غرفته المزوقة بأشعار من "العودة إلى سنار" و"أمتي" و "صحو الكلمات المنسية
".
فالصباحات الحميمة كما يرى السفوري هي سلاح عامة السودانيين ذوي الأصول العربية الإسلامية، حين تربكهم الحياة بفعل "العرقلانية"، فيهمسون إلى بعضهم "صباحات الله بيض" و أو "صباحات الله بي خيرا".
ويرى هو المتخصِّص في علم تاريخ العرقلانية، أنَّ الصباحات الحميمة هي في نفس الوقت عامل من عوامل إرباك الحياة، في موجة "ألفن توفلر" الثانية.
فهي صباحات قديمة قِدم الموجة الاولى، عليها هالة من قبس الألوهة، ورذاذ من جمال الطبيعة العذراء، و فيوض من خيال القروي الساذج، وتفاؤله الغامض.

ج-عام البَكْبَكَة:
بحسب رواية المعارين، هو العام الذي تبكْبَك فيه الخضرجية و"العتَّالة" ومدرسو الابتدائيات في تلك الدولة السعيدة.
والبكْبَكة تعني الحصول على درجة البكالوريوس فجأة.
و المفاجأة "في هذا السياق" هي التلطيف الذي قام به بعض الفلاشا لكلمة "التزوير". واللطيف في الأمر أنه لم يتم اكتشاف ذلك التزوير الجماعي، من قِبل المُرْتشين الهبنَّقات المشرفين على "التعليم" في القطر السعيد. وأدّى ذلك الجهل البيروقراطي الجماعي إلى ضياع فرصة العمر الماسيّة: مئات الآلاف من دولارات "المُتبكْبكين".


د-الاستعداد للخيبة
:
استقى "سعيد الطيب" فكرة "الاستعداد للخيبة"، من كلام عن المنفى للبولندي "جيسواف مييووش" في حديث، يناسب طموحات "سعيد الطيب" عن طلب السعادة في الجحور الريفيَّة العربية.
قال مييووش في ذلك:
"
والمرجَّح هو هذا الوعي المتزايد ونحن نبحث عن السعادة في البلدان النائية، بأنَّ علينا الاستعداد للخيبة، بل حتى لنشوة مفكَّكة، نشوة القفز من المقلاة إلى النار مباشرة".
وبالرغم من الصدمة التي أصابتْ "سعيد الطيِّب" ذات غشوةٍ لـ"معهدٍ علمي" في البلد السعيد، فإنَّه قد رأى أنّ الاستعداد للخيبة ميكانزم مهمٌّ لمواجهة "العرقلانية الغامضة".


هـ - الأولاد أبَّانْ خُرْتايات:
مصطلح نحته و صكّه علي المك، لوصف بعض شباب كُتاب خرطوم الثمانينيات من القرن العشرين. و أورده بولا في مقدمته لكتاب صلاح الزين "عنهما و الإكليل و الانتظار"، و الذي كان آخر كتاب أعاد سعيد الطيب قراءته لكي ينفتح له ما استغلق عليه من نصوص صلاح الزين المعقَّدات، حتى يحظى بمنزلة القارئ النموذجي عند أمبرتو أيكو.
و سيتحوَّل المصطلح لاحقا على يد "رسَّام من ضفاف السين" إلى "مُتبنْيويِّ الخرطوم".
و مثلما أنَّ بولا أبدى رضاه عن "الأولاد أبَّانْ خرتايات"، إلّا من عُجْمةٍ ميَّزتْ خطاب أحد من أولئك المساخيط المطموسين المسنوحين في عُرْف جدّة سعيد الطيب حسبما ورد في مذكراته، فإنَّ "سعيد الطيب" كان مهتما بالمصير المأساوي الدياسبوري الذي آل إليه "أبَّانْ خُرْتايات" الذين أقاموا شمال الأطلسي. فجوهر الإقامة في الجحور العربية الريفية، معادل لجوهر الإقامة شمال الأطلسي، مما عزَّز عنده فكرة "الطابع التراجيدي للحياة". وقد توصَّل إلى ذلك من عنوان رواية لم تُكْتب بعد:
"
السعادة لا تعبر الأطلسي شمالا".


و- الشطْح الجُحْري:
من اجتراحات مثقفي الداخل الخرطوميين، لتوصيف خطاب ما بعد عودة الطيور المهاجرة من سلالة "الفلاشا" الموشكة على الانقراض بعد مؤشرات التقرير الدولي للسعادة عن الوضع المتدهور للسعادة في البلاد السعيدة. فقد دأب المدرسون السودانيون العائدون من الجحور الريفية العربية حين تداهمهم وقائع سابقة من حياتهم الجُحْرية العربية في شكل هلوسات و كوابيس كالتي تداهم ضحايا التراوما، دأبوا على حوك سرديات شاطحات. وهي مثل نهر ضيق الضفتين ينطلق فيه الماء بسرعة، فيفيض على جانبيه أو مثل نخل الطحين و طفحه على الجانبين. ولا يفهم كلام العائدين من الجحور العربية الريفية، إلا أصحاب القدرة على التأويل من مدرسة السُّكْر(1). و في أحايين نادرة يُنْكر "الفلاشا" شطحاتهم الجُحْرية متذبذبين كما العبارة الزئبقية الأشهر في الخطاب الحزبي السوداني المعاصر"تهمة لا ننكرها، وشرف لا ندَّعيه".
و من أشهر الشطحات الجُحْرية أن المشرفين على التعليم و إدارات المدارس و المدرسين والطلاب و أولياء الأمور و الرأي العام السعيد و الجماهيري يسمّون الغش في الامتحانات "مساعدة" للطلاب، وتندرج في باب البِرِّ والإحسان والصدقات. ومن أشهر أنواع "المساعدة"، أن "كونترول" الامتحانات يذيع في الدقائق الأخيرة من المباراة، أقصد الامتحانات، ما تيسر من الإجابات النموذجية للطلاب، مستخدمين أحدث ما أنتجته التكنولوجيا اليابانية من مكبرات صوت في مراكز الامتحانات. ويستخدمون الهواتف المحمولة من بعد، "لمساعدة" أبناء شيوخ القبائل من الطلاب أثناء الامتحانات، و يقيمون بعد ذلك الولائم و الاحتفالات و ينشرون التهاني في وسائل الإعلام الجماهيرية بمناسبة نجاح طلابهم و تفوق مدارسهم. و لم يقصِّر أبدا المدرسون العرب الآتون من سبعة آلاف سنة من الحضارة، في تلخيص تجاوبهم الحار مع أعمال البِرِّ والإحسان البيداغوغية من خلال استراتيجية مركزية هي "علِّم الجحش يطلع حمار". و حين سمع ذلك الشطح والد فلاشي تخرَّج من "كلية غردون التذكارية" و درّس في " معهد التربية بخت الرضا"، أُصيبَ بنوبة قلبية.
و من شطحات الفلاشا القادمين من البلاد السعيدة أنّ المدير يمكن أن يكون تلميذا في نفس المدرسة و قد بلغ الحلم توا، واستحقاق الإدارة المدرسية قد يكون لان والده المتوفى كان مدير المدرسة، و هو الوارث الشرعي الوحيد له، أو أن التلميذ ابن شيخ قبيلة.
لا يقتصر الشطح الجُحْري على أرض السودان، بل يمد سردياته إلى البلاد السعيدة مثلما حدث في تشابه بديع مع ما يجري في مسرح العبث، حين سأل مثقف سعيد أحد المخضرمين من الفلاشا ممن قضوا ردحا من الزمن بين الجحور العربية الريفية طالبا منه زبدة "خبرته"، فتردَّد الفلاشي المخضرم قائلا "ما فينا زعل"؟ فطمْأنه المثقف السعيد عبر لغة الجسد الصامتة لإثبات رحابة صدره، فقال الفلاشي المخضرم "ربع قرن لا انتوا اتعلمتوا ولا نحن غِنِيْنَا". والبحث عن الذهب في البلاد السعيدة، يقود الفلاشا إلى سياسة تقشفية تعتمد على العيش فوق فوهة بركان، كما الفلاشي الذي اكترى شقة فخمة بثمن بخس ريالات معدودات، فسئل عن سرِّ "شطارته" في الحصول على ذلك الكنز، فقال"هي رخيصة لأنها تقع فوق مخزن للأسلحة الثقيلة و المتفجرات". و مثله فلاشي آخر تحت شعار "أكْل العيش صَعَب"، احتملت ركبه السائبة تجربة العيش على شفا حفرة من النار، إذ كانت ركبتاه تطآن شوالا يشفُّ عن أشكال مدوَّرة صلبة، وسأل عنها الراكب السعيد الذي أجاب قائلا في برود "هي شوية قنابل يدوية". و حين اصطكَّتْ ركبتا الفلاشي، وأصدرتا ارتعاشات وارتجافات و كركبة متصاعدة الذبذبات، طمْأنه الراكب السعيد "ما تخاف يا أستاذ، هي مؤمَّنة". فتدلَّى لسان الفلاشي، وارتختْ رقبته، وظنَّ الراكب السعيد أنه قد غطَّ في نوم عميق، بينما هو كان في غيبوبة لم يفقْ منها إلا لحظة إيقاظه أوان وصول التاكسي بعد عشر ساعات إلى الجُحْر الذي يعمل فيه.
ومرات قليلة يترافق الشطح الجُحْري مع الإرباكات التي تحدث نتيجة لاختلاف الثقافات، مثلما حدث حين أرْبك التثاقف مع لهجة البلاد السعيدة، الحياة عند "فقرا السودان" الذين لم يستطيعوا اقتسام "نبقة" الثروة والسلطة والسلاح. فقد أرسل "فلاشي" عتيق في الحياة الجُحْريَّة شريطا مسجَّلا لأهله يعدهم فيه بإرسال "عربية" و"ثلاجة" جديدتين لنج.. فعمّ السرور عائلة "الفلاشي" العتيق، و باعت الثلاجة و السيارة القديمة بل و هدمتْ السور الخارجي، و بَنَتْ بالدَّيْن قرَاشا للعربية المنتظرة. وحين وفى الابن الفلاشي بوعده، أسقط في أيدي العائلة المتشوِّقة، فـ "العربية" عند سعداء شبه الجزيرة هي "الدرداقة"(2)، بينما أنَّ "الثلاجة" هي حفّاظة الثلج والمشروبات. وما حلّ بالأسرة من كارثة أنضاف إلى ضيق والد "الفلاشي" العتيق حين كان ابنه البار، يسرد بعضا من تفاصيل حياته الجُحْريِّة:
"
تعرفْ يا حاج، نحنا بنطلع القرية بي دلو، و ما بننزل إلا آخر السنة لاستلام "التصفية". وإنت راكب في الدلو مرات بتشوف السحاب تحتك، و مرّات في الفصل تكتب في السبورة، تجي سحابة داخلة بي الشباك تمسحا ليك"، فما كان لوالد الفلاشي العتيق سوى أن ينفجر في ولده قائلا" يا ولدي قِلّ القروش عرفناهو، الكضب ليك شنو"؟

*****************
-
انتهى النص بحمد الله تعالى و توفيقه،
مع تحيَّات سعيد الطيب من برزخه،

والكاتب التقليدي أسامة الخوَّاض،

من منفاه الكائن في شقته الكائنة في الطابق الثاني، في شارع مونرو، في مدينة مونتري، على المحيط الهادي، في ولاية كاليفورنيا.

 **************
(1)
بتصرف من "أبو يزيد البسطامي-المجموعة الصوفية الكاملة-و يليها كتاب تأويل الشطح-تحقيق و تقديم:قاسم محمد عباس، دار المدى للثقافة، الطبعة الأولى، 2004

(2) يكتب وليد التلب في موقع أبناء منطقة الهدى بوستا معرِّفا فيه "الدرداقة"، ومبيِّنا توسُّع استخداماتها العملية وحقلها الدلالي معا:
عربة يدوية صغيرة بمقبضين وعجل ووعاء حديدى يسع لحمل خفيف..
تمتاز بسهولة استخدامها وانسيابها خصوصا فى أماكن الزحام والتي يصعب دخول العربة أو الكارو إليها 
وفى الآونة الأخيرة أخذت رواجا وشهرة..! وذلك للخدمة التي تقدمها حيث توجد في كل بيت 
تساعد في نقل الطوب التراب الغاز الدقيق وكثير من مستلزمات البيت !!
وأيضا تدر دخلا معتبرا لصاحبها في الأسواق وذلك بتأجيرها لنقل بضائع المسافرين والمتسوقين 
حيث أصبحت تباع توكيلات عطاءات( تشغيل درداقات) وذلك فى كبريات الأسواق.. والذي يفوز بالعطاء 
له حق الامتياز في تشغيل ما يقارب من ال500 درداقة في السوق ويقوم بتأجير الواحدة مقابل 3 جنيه لليوم الواحد
إذن هي تدر دخلا معتبرا وهى مفيدة....... !!
وكذلك المعلمة.. لى بلدنا مفيدة.. المعلمة.. ربنا يزيدا.. المعلمة !!
وفى الاونة الاخيرة ومع ظهور هذه الآلة العجيبة تمت تسمية معلمة الأساس بالدرداقة نظرا لما ذكر سابقا
حيث المقارنة تمت فى وجود الدخل المشترك من كليهما.. !! 
وأحيانا تسمع من أراد الزواج يقول: ( داير لى درداقة ) يعنى انه يسعى للزواج من معلمة !
وكل ما كبر حجم الآلة كبر دخلها ولذلك سموا معلمة الثانوي الأكثر دخلا من معلمة الأساس بالركشة 
بالله شـووووووف !!! 


و التوسيع الدلالي لـ"دردق" كفعل من اختراع السودان من الناطقين بالعربية الذي أشار إليه "وليد التلب" ينضاف إلى "دردقني في النجيلة" كتسريحة شعر اشتهر بها المطرب الذرِّي إبراهيم عوض في رواية لاسفيري، ومذيعة شهيرة في التلفزيون السوداني في رواية لزوجة الكاتب التقليدي أسامة الخواض. كما يشمل الحقل الدلالي "الدردقة"* كسعي حثيث ماكر لإغواء بنات الناس في لغة الذكور السودان، محيلة إلى "جكسا في خط ستة" ك "euphemism لل"ميني جيب"، و"جعبة سكينة" كتسمية لحلوى من باب المقاومة السلبية و النكاية الجماهيرية بديكتاتور صغير.

************
*تعرّف رواية "نكبة الجضعلاب" لصلاح حامد هبّاش "الدردقة" هكذا " الاستدراج رويداً رويدا حتى تقع الفريسة في الشباك المنصوبة"، ص 41.