الى من اكتشفت على لسانها نغم الحروف وأسرار الحكايات
الى الراحلة/ الحاضرة: والدتي..
بطل من ورق
منذ صرختي الأولى، وأنا ميال للتهريج، والألاعيب الصغيرة، أو بعبارة أدق هكذا كنت، ولكنني نفضت يدي الآن من هذا كله، ولم يعد يريق لي. في هذه السطور، سأروي كيف حدث هذا التغيير، في مزاجي وسلوكي، والسر في ذلك حكاية مخجلة لكن هذه الحكاية المخجلة نسجت أدوارها في أحد البيوت الكبيرة المتناثرة في إحدى ضواحي البلدة حيث تقيم الأسر العريقة بالبلدة. فليس الثراء وحده الذي تمتاز به تلك الأسر وإنما هو الشرف الوقار والمهابة.
في ذلك الوقت، لم يكن لدي أصدقاء ولا أجالس أحد، ولكني كنت مغرما بنوع من التهريج والمزاح الانفرادي، في كثير من الأحيان كنت أدرك سوء نتائج مزاحي ولكن لا أكثرت بذلك ولا سيما أن هذه الألاعيب الصغيرة تصدر عن نية بريئة ولأنها وسيلتي الوحيدة للترفيه عن نفسي، ويمكنني إذن أن أقول أنني كنت بطلا ولكن، لا على طول الخط..وفي كثير من الأحيان كنت أشعر كأن شيئا ما يدفعني من الداخل للإقدام على تلك المهزلة، أيا كانت نتيجتها، وهذا ما عانيته لأنني كنت مكرها إلا أنه إكراه من نوع خاص، إكراه أشعر معه بمتعة كبيرة، لا يمكن أن يتصورها من لم يجربها لهذا اهتمامي كله منصرف الى العائلات التي تمسك بأيدي أطفالها الصغار، ومن يلقي نظرة الى هذا النوع من الأطفال في تلك السن، يلاحظ عليهم أنهم دائما أعناقهم الى الخلف ناظرين الى الوراء..كنت أمشي وراء العائلات الصغيرة بكل هدوء حتى إذا نجحت في لفت انتباه نظر الطفل، انحنيت الى الأمام بكل جد، وأخرجت لساني وقلبت سحنتي في أبشع صورة مخيفة مع التزام الصمت التام وأول ما يبدو على الطفل الصغير هو الدهشة لما يرى وأنا أتابع على مهزلتي الصغيرة الى أن يستولي الفزع على الطفل وينفجر باكيا ويصرخ وفي الحين تلتفت الأسرة كي ترى ما الخبر وقد يشكوني الطفل مشيرا إلي بأصبع الاتهام وتتطلع العيون إلي فلا ترى إلا البشاشة والابتسامة العذبة وتلطفا في معظم الأحيان‼ تصب الأسرة جام غضبها على الطفل السيء الأدب الذي لا يقدر اللطف والأدب ويقابلهما بالجحود..في ذلك الحين يرقص قلبي فرحا بما حققته مهزلتي الصغيرة من نجاح وأواصل طريقي وبطبيعة الحال يلتفت الطفل مرة أخرى ليتأكد من زوال أسباب رعبه فتعود سحنتي الى عادتها فيصرخ المسكين وتنهمر دموعه أشد من ذي قبل يلتفت الأبوان فلا ينظران الى كل اللطف والرقة فقد أخرج من جيبي قطعة من الحلوى أعددتها خصيصا لذلك وأتقدم بها الى الطفل ملاطفا وأنا أعلم مقدما أن اقترابي منه سيطير صوابه ويجعله يملأ الدنيا صراخا وتعتذر لي الأسرة عن سوء خلق صغيرها وأتقبل الاعتذار في تسامح ثم أمضي في طريقي الى جانب آخر في الحديقة أو الشارع الكبير المشجر لألتمس لنفسي متعة جديدة ولكم أن تصدقوني أو لا تصدقوني أن هذه كانت تسليتي الوحيدة في أيام العطل..إلا أني كنت أعلم مدى السخافة في إضاعة الوقت بهذا الشكل ولكني كنت مغلوبا على أمري كما قلت وظل هذا شأني الى أن وطأت أقدامي ساحة إحدى البيوت الكبيرة بالبلدة حيث كنت الحارس الخاص لطفلين لهما أم فاتنة لا تزال على قدر من الجمال وأكبر الطفلين في الرابع عشر والآخر في العاشرة إلا أن تعلقهما بأمهما تعلق شديد ممزوج بالحب والاحترام، أما أبوهما فكان بحكم عمله خارج البلدة فلم يتح لي أن ألتقي به إلا أن الطفلين كانا يسهبان في وصفه.
حدث أن نزل بتلك الدار الكبيرة شخص سخيف المظهر للغاية عجوز مسرف التأفف يبدو عليه الزهو الشديد لما كان يحرزه في شبابه من نجاح لدى الجنس اللطيف فلا يفتأ يروي القصص عن ذكرياته والدعاية لنفسه، وكلها قصص مملة إلا أني علمت من الطفلين أن هذا صديق أبيهما الغائب ولكنه فضولي وثقيل الظل، تضيق به أمهما حيث بلغ الأمر إلى أنه يفرض وجوده على الرغم مما يبدي الجميع نحوه من جفاء وسخرية واضحة، حيث يتبادلون النظرات والغمزات ويهزون أكتافهم كلما انحنى فوق طبق أو دس رأسه بين أوراق اللعب وتنتهز السيدة غفلته وتتنهد معربة عن ضيقها فيشتد غيضنا منه لأنه يحرج السيدة الكريمة بسلوكه، لهذا بدأنا نفكر في وسيلة تحمله على الرحيل لذلك لجأ إلي الطفلين لكي أعثر لهما على مخرج من هذا المأزق وكنا نعلم أن السيدة لن تسمح لنا بتنفيذ المهزلة التي قمنا بتأليفها وإخراجها وقد عزمنا أن لا نحيطها بشيء عن هذه المهزلة والتي تصادف هوى شديدا لدى الطفلين في ذلك السن لذلك بدأنا لتمهيدها فأخذنا نتحدث في موضوع الأشباح والعفاريت وكنا قد عرفنا أن غريمنا شديد التطير فظهر عليه القلق ومن غير أن تدري اشتركت معنا بنصيب فعال وراحت تردد ما سمعت من نساء البلدة عن أشباح تحوم في بعض الليالي وازداد فزع غريمنا إذ اعترف أنه يخاف العفاريت وطلب منا أن نطوي هذا الموضوع لأنه خليق أن يطير النوم عن جفونه طول الليل، وتبادلنا النظرات نحن الثلاثة إعرابا عما في جوانحنا من سرور عظيم بنجاح الفصل التمهيدي الأول من المسرحية وكان الفصل الثاني معدا من قبل إذ اتفقنا على أن يأتي الطفلين الى غرفتي عند منتصف الليل تماما ومع كل منهما ملاءة سريره البيضاء ومصباح الجيب الكهربائي تم نهبط الدرج في الظلام وفي لحظة معينة نفتح باب غرفة الضيف ندخل عليه ملتفين بالملاءات فأما أن يموت فعلا من الخوف أو يصيبه الشلل أو على الأقل يحمله الفزع على الرحيل في أول ساعة من ساعات النهار.. في ركن من الدار الكبيرة توجد غرفة الضيف يفضي إليها بهو كبير وهو غير بعيد عن غرفة السيدة، لذلك أخذنا حذرنا لأن يكتشف الأمر أو تنتبه للضجة، وتفضح اللعبة.
بعد منتصف الليل جاء الطفلان الى غرفتي وخرجنا حفاةً نحمل الملاءات البيضاء على أكتافنا والمصابيح الصغيرة في أيدينا وكأني طفل في سنهما أجد مثلهما عناء شديدا في كتم الضحك في البهو الكبير ذي الأعمدة الضخمة وقفنا متقاربين أمام غرفة الغريب وأخذنا نلتف بالملاءات وكان المتفق عليه أن يشعل الطفلان مصباحيهما تحت الملاءة متى أشعلت أنا مصباحي تم أدير مقبض الباب ونندفع نحن الثلاثة الى الداخل ونطلق أبشع عويل مستطاع لكن، في تلك اللحظة بالذات لمحت مقبض الباب يتحرك من الداخل ببطء شديد فأسرعنا في الاختفاء وراء عمود ضخم في الظلام، وانفتح الباب وانبسط نور الغرفة أمامنا وخرجت السيدة بلحمها ودمها في قميص نوم من الحرير الشفاف
- لحظة واحدة يا حبيبي أنا واثقة أن الصندوق في حقيبة يدي فوق مائدة الصالون والاحتياط أفضل من المجازفة أيها الحبيب..
وانطلقت نحو الصالون ومرت على قيد متر واحد منا وعادت تجري حافية القدمين فواحة العطر مشلولة الشعر وفي يدها حقيبة وعند الباب سمعناها تقول..
- ها قد عدت ولم أغب دقيقة..
وسمعنا الرجل يقول من أعماق الفراش
- لا ترفعي صوتك هكذا
- يا لك من عنيد الكل نيام والأحاديث العفاريت التي رويتها لهم على المائدة لا شك في أنها أخافتهم ومهزلة التأفف من وجودك خدرت أعصابهم تمام التخدير.
وتراءى شبح الرجل عند الباب محاطا خصرها بذراعه وبيده اليمنى أغلق الباب، فيما هي أخرجت من الحقيبة شيئا بسطت به يدها إليه أغلق الباب وساد الظلام وسمعنا من خلفه السيدة تتنهد وأحسست عندئذ بالأرض تنسحب من تحت قدمي وشعرت بالخجل الشديد من الطفلين اللذين هدمت كل شامخ وعزيز في حياتهما بمهزلتي الصغيرة لم يفتح أحدهما فمه بكلمة ولم يشيرا إلى ما حدث في تلك الليلة، ولكني، لم أنس ما حييت نظرة الأسى الصامت المرير في عينيهما في تلك الليلة والنظرة اللتان غيرت حياتي وأقلعت الى الأبد منذ دلك الحين أقلعت عن المهازل الصغيرة وصرت أشعر بغثيان كلما رأيت أحد يمزح مزاحا بريئا من هذا القبيل..
قصة حب واقعية جدا
لم يعد هناك مطر يتساقط..كأنما أعلنت السماء هدنة من جانب واحد مع الأرض. لكن المطر المجتمع في الطرقات يزيد عمقه على بعد سنتمترات.. وهو عمق خطير الشأن بالنسبة لي على الأقل، لأن بهذا العمق اللعين يتغلب على آثار الإصلاح "الهيكلي" في نعل حذائي وواجهته الأمامية الأسطورية الشكل. وسيتسلل بخبث ودهاء الى قدمي، فيجعل منهما بحيرتين. مع هذا، وجدت ما يستوجب الشكر والحمد مع توقف المطر عن السقوط، وإلا وجدت نفسي بين نارين. لكن وميض البرق المتصل بين النار والماء.. هو الذي يظلل أفكاري ويجعلني أخلط بين الماء والنار رغم هذه المتاعب تناولت بيسراي حقيبتي المصنوعة من الثوب والتي أضع فيها وجبة غذائي وأوراقي أيضا، وكتبي.. ولي فيها مآرب أخرى. وبيمناي تناولت مظلتي وأسرعت الى محطة الحافلات. ويقتضي واجب الأمانة، أن أبصر القراء بحقيقة أخشى أن تفوتني فيخالونني مخادعا ولفاقا، فأنا حين أقول مظلتي لا ينبغي أن ترتسم في أذهانكم الصورة المألوفة للمظلة الواقية، فهي لا تستمد أحقيتها إلا من تاريخها العتيد، فقد كانت مظلة فعليا، منذ سنوات خلت، أما الآن فتبدو لعيني الرائي ما يشبه المظلة. أما إذا فتحت فستبدو في النور الواضح حقيقة مجردة، فيها العديد من الثقوب مما يجعلها أشبه بمصفاة مقلوبة يتوسطها حامل من الحديد، ينتهي بمقبض خشبي، ولهذه المصفاة فائدة ليست من الخساسة إنكارها لأنها إن كانت لا تقيني من المطر فهي على الأقل تنقيه من الشوائب العالقة ومن أوراق الشجر الجافة، ولعلكم تتساءلون الآن عما يدفعني الى الإطالة في الحديث عن مظلة تافهة القيمة، السبب يكمن في أن هذه المظلة البائسة بالذات كانت سببا في تعارفي يوما مع تلك الحسناء الفاتنة، والتي ستكون بطلة قصتي.. والمظلة البائسة إذ تشارك بطلتي الحسناء الفاتنة وظيفة البطولة، فلأني لا أبالي أن تكون مظلتي ملأى بالثقوب ولا أرضى أن يكون من أخلاقي ما يجعل شخصيتي تبدو بمنتهى الدماثة.
ـ لكن، دعنا من مظلتك وعقدة احترامك وحدثنا عن الحسناء الفاتنة والتي تزعم أنها بطلة قصتك...
ـ معذرة لكن يؤسفني أنني أطلت عليكم أمر انتظارها ولكن ثقوا بي أن انتظاري كان أثقل وطأة في ذاك المساء الممطر، عند محطة الحافلات فقد بقيت ساعة من الزمن ولم تأت الحافلة، في عتمة الغسق رأيتها تمشي الهوينا.. والأمانة تقتضي أن أقول، لقد سبق أريج عطرها في ذلك الغسق مرأها قبل أن تراها عيني أو تسمع وقع خطاها أذني، لقد كان عطرها أخاذا وسحريا فيه أريج الأنفاس وريق الياسمين مما دفعني الى أن أدير رأسي.. وجدتها بجانبي تكاد تلمسني بكتفها، وضعت على ظهرها شالا شفافا رقيقا أخضر اللون تأبطت حقيبة جلدية خضراء، ولأنني رجل محترم ومترفع التزمت الصمت بعض الوقت، إلا أن أرسلت السماء، وشكرا لها، بقطرة واحدة كبيرة كانت مبررا كافيا كي أفتح معها الحديث عن قلة المطر، فالتفتت إلي بوجهها حينها سقط الضوء، فاختلج شيء ما في صدري وأنا أرى من وهج وجنتيها وشفتيها ثمار الخوخ الناضجة..وفي الوقت الذي زاد شعوري حدة بملابسي القديمة. وأنا أشع وطأة تحت صهيب عينيها البراقتين، وقد عمق شعوري حدة سوء حال حذائي وإهمال لحيتي وسمرة وجهي الداكنة. فطويت الكلام في حلقي ولم أستطع النظر إليها الى أن تعطفت السماء وأرسلت إمعانا في تشجيعي، ثلاث قطرات كبيرة دفعة واحدة استقرت فوق صلعتي. بعد دقيقة فتحت السماء صنابيرها، وصار هناك مبرر قوي جدا لإظهار مروئتي اللامحدودة بالتدخل لحماية هذه المخلوقة الجميلة، عندما رفعت بصرها إلي، اكتشفت أن نظرتها خالية تماما من كل ازدراء فهل يا ترى كنت واهما؟ وأنا أراها تبتسم لي تلك الابتسامة العذبة. لم أكن واهما البثة، لأن صوتها كان عذبا كابتسامتها حتى أنه أوشك على الذوبان وهي تقول لي:
ـ لماذا لا تفتح مظلتك؟
مددت يدي الى المظلة، فتحتها تم قلت
ـ آه طبعا المظلة..
وفي لحظة شرودي سمعت صوتها الذي يوشك أن يذوب السكر بنغماته
ـ كيف لي أن أشكرك على هذا اللطف والكرم، فلو لم تبادر بتقديم هذه الخدمة أيها السيد المحترم، النبيل لتبللت بالمطر حتى أخمص القدمين..
وجدتها فرصة كي أتبادل معها الحديث فسألتها عن عملها فأجابت..
ـ في وسعك أيضا أن تسمي ما أشتغل فيه عملا على نحو ما؟ أنت حر في تحديده بخيالك...
لا أحفي عليكم كم وددت من كل قلبي أن أسألها عن اسمها وعنوانها، و..و..وأحصل منها على موعد للقاء آخر. ولكن عقدة الاحترام المبالغ فيه جعلتني أصمت واكتفيت بأن قلت لها
ـ طابت ليلتك..
انصرفت وأنا مرتاح لأنني لم أستغل الظروف استغلالا انتهازيا لا يليق برجل محترم مترفع وكانت حالة النشوة مسيطرة علي تحول بيني وبين العودة الى حجرتي الحقيرة الموحشة، فاتجهت الى أحد المقاهي المقابلة لسكناي لأحتسي فنجانا من الشاي المنعنع لكي يزيد من نشوة أحلامي وفي لحظة من اللحظات رحلتي والتي تشبه السفر الى عوالم أخرى، تناولت مظلتي وأنا أريد الانصراف وإذا بالنادل يصيح خلفي
ـ ماذا عن ثمن المشروب يا سيدي؟؟؟
احمر وجهي خجلا، ولعنت شرودي فماذا سيظن بي هذا النادل، هل شك في منظري؟ فظنني متسولا أو نصابا؟، وضعت يدي في جيب معطفي ولكني لم أجد محفظة نقودي. ورّنت في أذني نبرات توشك أن تذوب رقة وعذوبة "أشكرك كثيرا..في وسعك أن تسمي ما أشتغل به عملا على نحو ما... خيالي" ولكني طردت هذه الفكرة من ذهني فهي على كل حال حسناء جميلة وفاتنة وأنا بعد كل شيء رجل ذو مبادئ مترفع وستقولون عني أني مصاب بعقدة الاحترام ولكن، لا يهم الآن...
لا يهم إطلاقا..
تلاوة إيطالية
كانت زخات المطر تزيده توترا عاودته التقلصات، أمامه القليل من الوقت لخلع بيجامته وارتداء ملابسه، فتح الباب جرب الجرس.. كانت دقاته ترن واضحة، أقلقه أن الضوء قد انقطع، وقد تدق هي الجرس فلا يسمعه، أضاء ضوء الغرفة ليتأكد دائما من حالة التيار..ألقى نظرة أخيرة..
همهم.. " بقيت اللمسات النهائية.. "
انتبه الى أن الزهور البلاستيكية متسخة اختطفها وراح يغسلها بالماء والصابون، أرجعها الى الإناء ونظر إليها من زاوية بعيدة جلس في مقعده انتابه يقين إنها لن تأتي وإنها ربما لا تهتم وتساءل كيف ستقطع هذه المسافة الى مكانه هذا؟ وكيف ستخترق الأزقة الضيقة والعيون المتلصصة؟.
مد رجليه استند بظهره الى مسند المقعد. سمع دقات خفيفة على زجاج النافذة. وقف يحملق في بيجامته المتسخة. هاجمته تقلصات أمعائه. فتح الباب على مصراعيه دفعة واحدة، كانت أمامه تبتسم وشعرها المفروق من الوسط منساب على خذها كأن به أثار بلل..
شيء من البلل
لم يكن بعد قد بلغ الحلم عندما أقنعه ابن عمه أن يذهب معه الليلة إلى منزل تلك المرأة التي تستقبل رجال قريتهم بعد أن يغفو القمر. ظل طوال الطريق يحدثه عن عدد النسوة اللائي ضاجعهن في سفرته. حرك رأسه الصغير. داعبته فكرة إمتلاك كتاب مغامرات نسائية يكتبه بنفسه ليصير بطله الأوحد، تحسس عصفور عشه الصغير ثم تابع تخطيطه لفصول كتاب لا يعرف سوى عنوانه..
حينما وصلا الى بيتها، أقنعه مرة أخرى أن ينتظر حتى يهيئها له، إذ أنه ما زال صغيرا قالها له واعتذر كثيرا، فابتسم هو دون أن يدري لماذا ؟. لم يكن يعرف معنى الكلمة أم لأنه اكتشف أنه مازال دون أجنحة تمكنه من اعتلاء فضاء تلك المرأة، وقبل أن تصبح ابتسامته قادرة على حمله بغرض إعادته الى بيته لم يكن يدري كيف جاءه كل هذا البلل..
متاهات
في مدينة ذات شوارع إسفلتية تؤدي الى أزقة جانبية خافتة النور في زقاق ضيق، ذو مدخل واحد في أخر صف البيوت العتيقة ذات الأبواب المقوسة حيث السور العتيق..
خلف باب معلق عليه كف نحاسية، وحدوة حصان، في غرفة صغيرة بها سرير وطاولة ومقعد.. أمام مرآة مثبتة على الجدار مؤطرة بعقد من الزهور البلاستيكية، جلست تنشج نشيجا متقطعا، لقد تيقنت اليوم أنها انتظرت طويلا، وأن فرصتها قد ضاعت..
ضاعت الى الأبد.
دون وجهة تماما
كل صباح تحملهم الحافلة الى قراهم البعيدة، يخرجون من الحافلة، يسيرون، وجوه ترابية، ينسلون إلى المدينة، يخترقون سراديبها وشوارعها وأزقتها، وفي المساء يجرون أنفسهم الى رحلة المساء، يحملون الحافلة فوق أكتافهم الى قراهم ولا ينظرون خلفهم..
مرآة لا تصلح للقصة
ما اعتاد أن ينظر في المرآة كل صباح، ربما خوفا من الزمن، أي خوفا من الموت ربما أيضا ليتأكد، أنه ما يزال على قيد الوجود.
- ها أنت واقف أمام المرآة مرة أخرى، تبحث عن معنى لهذه الكلمة، أعوام مرت وكأنها لم تمر، أيام قامت واستقامت وتراكمت، رماد تبغ تطاير ودخان ليل انسربت عيونه. ومن عينيك أيضا قطرات من بكاء، شخوص انسلت من ذاكرتك مع القيء والدمع وأبخرة النسيان، وأماكن تعلقت بقلبك واستقرت، عمر يتململ في حضرتك كالضيف العجول، ووجود ينتقد مسجة من شظايا مرايا.. لا تطالعك على صفحاتها سوى ومضة حزن التي خيمت على وجهك الآن. نفس الومضة التي بترت قبل سنين فرحتك الأولى بارتفاع قامتك الى مستوى حوض الاغتسال..
ها هو جسدك منتصبا في مواجهتك عاريا على صفحة المرآة، ونفسك راكعة أمام سطحها المصقول اللماع، الذي لا يجيب، أعوام مرت وما هناك إلا المرايا.. ليس لديك بعد ما تريقه قربانا سوى عريك، امتصت منك المرايا جموح التساؤل وما تركته فيك مذلة السؤال، غرقت في ظلمة ليس لها قرار، تعبت من صراخك ويبس حلقك، كانت عيناك فما عدت تعرف هل ما يخيم على وجهك من عكارة هو روحك أنت تبحث عنها أم محض وسخ على سطح المرآة أم وهم يختلقه ضعف بصرك، نهرب الى مضجعك لينزع عنك كربتك، فيستحيل السقف فوقك مرآة ثقيلة تهبط الى صدرك، وكلما رفعتها هوت، لتكتم أنفاسك مرة أخرى، أين من هذا العري.. تختبئ هذه الأنا؟. ومن هذا الجسد، أهو أنت ؟.
وجهك البعيد.. جعله الزمن شاحبا باهتا كوجوه الموتى، أم صدرك الذي تراكمت عليه طبقات من ترهل يتوارى تحتها قلبك الواشم بمرارة العجز والقنوط، أم ذلك الراقد تحت بطنك منكمشا كأنه لا شيء، كأنه جنيا يشدك إذ يصحو في عاصفة من جوع الى غابات من غزلان وبحيرات من نار.. ؟؟أم ماذا ؟؟وأين.. ؟؟كم مضى من الوقت وهو واقف هكذا أمام..؟ لا يدري.. فالزمن مخدر يعبث، أول من يعابث إحساس المرء به ويجعله ريشة تتلاعب بها رياح متعاكسة.. أين من هذا العري يا... ؟.
انزلق السؤال هذه المرة، على الجدار الداخلي لجمجمته بطيئا أو ملونا، كما تتدحرج كرة البلياردو قبل سكونها مباشرة، كان المخدر قد أذاب محتويات دماغه كلها وحولها الى سحابة من غبار مضيء معلقة بفضاء رأسه، وبدأ يفقد القدوة على الاحتفاظ بجسده منتصبا على سطح المرآة التي أخذت تضيق وتتسع وتقترب وتبتعد ببطء، شديد حينا وبسرعة خاطفة حينا أخرى، وكان المخدر.. يضغط عليه هابطا بجسده الى الأسفل، فانكفأ على المرآة محتضنا خياله الذي ضمه وانزلق سريا الى القاع..
الخطيئة
تواصل سيدة الأمر عدوها السريع تتضخم بصورة لافتة تلك المرأة، تحاول جذب اللذة من عمقها وإبادتها تحت غطرسة عينيها الماردتين. تم الطرد خارج الحجرة. أخرج حاملا وجودي وحقيقتي المتآكلة تدريجيا دون إجبار اللسان على إتيان خرطوشة صغيرة تشق سماء المقابلة.. وكعادتي كل صباح نزلت الدرج مطأطأ الرأس، محاولا رفع هامتي ودفع صدري الى الأمام غير أن الفشل يكشف أسنانه بسخرية فالرأس ثقيل وكأنه محشو بالرصاص وبقدمين متخاذلين اتجهت نحو الحديقة. إنه المكان الذي يهبني محبة دون مقابل..كأنه يقول لي خذ الروعة أيها الحزين. تركت ذلك الجسد يتمدد على العشب المبتل ويأخذ الذهن وقته بخيوله في عدو سريع الى بداية المتاهة. تمر لحظات مضغوطة. ما هذا الضعف الذي يتناسل إنها دموع الحقيقة التي دقت جذورها أعماق التربة. حقيقة المرأة التي سلبت أعماق رجل كان يعشق المقاهي والأزقة الملتوية والفتيات الحالمات من خلال النوافذ. ماذا يوجد الآن غير ذلك المنزل الفسيح الأرجاء. وحديقة ملونة بالورود والثمار بالغصون والعقل في الرأس والسيدة الجميلة في حجرتها تلملم زمانها فرحة بما امتلكت مطلقة سهامها صوب رجل حمل وجوده دوما ما لا يطاق فصار نحو عشقه الذي هاجر الى أرض بعيدة فخسر زمانه عائدا خالي الوفاض ليطلق بذاكرة تعزف الألحان في سماء الحجرة حيث الزمن الغابر في أزقة المدينة العتيقة مع الأصدقاء ودخان السجائر الرخيصة مشاجرات النسوة المضحكة والأطفال بملابسهم القطنية البالية..الى ذلك العالم الذي تحتضنه الذاكرة بحميمية أزف شريط من الدموع النقية وترنيمات عاشق حالم..الباب يقرع والخادمة تسابق الطرق ثمة أوامر حديثة الولادة على أهبة الصراخ..
ـ عفوا سيدي ابنك يود مقابلتك..
إنه الحريق الذي يفترس أرضا عند الحصاد، لهيب يطوق هيبة العمر التهمة نفسها تتردد منذ ذلك الزمن، كذبة آمن بها الخلق لم أضاجع السيدة كيف ولد ذاك النحس.إنها أبوة كاذبة والخادمة تختفي التف حول طقوسي اليومية وتعاود الألحان بالانزلاق الى الذاكرة بعذوبة
ـ لقد امتلكت وحدتي، وبالأحرى تمتلكني وآخر المطاف هي حلقة مفرغة أدور حولها. لكني جبان، ذلك ما أمتحنه في عين الخادمة، لا تستطيع قذف ما تملكه كيانها من وفاء.
سيدة المنزل لا تود إنسانا يبصق سخريتها علي، وحدها التي يمكنها ذلك، هي التي لها حق غرس الاحتقار عند موكب الليل حينما تتعرى أمام غريزة منهارة، ثم تطردني بحذائها عندما تأخذ الرغبة طريق القمة. عندما أذهب الى أحد الأماكن كأي مراهق ينتزع اللذة بطريقة رخيصة!.. يفتح الباب بعصبية المرأة تحدق بملامحي المتأثرة بالألحان. كفها اليمنى على الباب، والأخرى سائبة. السيدة بكامل أناقتها أمامي العيون تتشاجر ربما صدرت أصوات بفعل عملية الاحتكاك..
ـ جسدك رائع يا رجل!.
وانطبق الباب تاركا الصمت يدعو وحدتي للاسترسال في إطلاق العذوبة. حيث لم تؤثر كلمة السيدة في تلويث ألمي.
لذلك فإن الوقت من أصحاب هو الكفيل بإرجاع الأشياء اللذيذة وعقارب الساعة لتواصل العمل... وجريان نهر لا ينقطع الى الأمام وفي فورة الاشتياق لضم الورود واستنشاق عطرها الذي لم يتغير طوال فترة التطويق. لقد خرجت الى عشاقها الذين لا حصر لهم شبابا وشيوخا يتناوبون في زرع الإهانات اتجاهي. "أيتها السيدة القذرة، ما يزال في العمر بقية، وحلمك الطويل الذي تحقق بفعل دناءة البعض سيتحول الى كابوس يجثو على أيامك الزاحفة وألحاني هي النقاء وقلبي بيت جميل يتسع للأمنيات..
كرة النهار تدور، والشمس تتذمر لسقوطها في قعر المغيب لا أحد في هذا الفضاء الشاسع غيري، والابن المزيف في البستان الخلفي، فقد ذاب وقت العصر، في خضم تنقلات بدني، في الأماكن من لغة البشر المتخمة، بأصوات العصافير التي تدس أغنية سرية في الآذان، وترسل لك كلمات معجونة بقهقهات الأصدقاء، امرأة تداعب أرض الزقاق ببهائها والعيون تتسع من خلال زجاج المقهى، جدال عنيف في معرفة أسرة المرأة بنت من؟ أخت من؟ تم الاضمحلال في آخر الأمر ليعود كل شخص في سرد بطولاته والتي غالبا ما تأخذ طريق المبالغة لتنحرف الى ساحة الكذب المدهشة.
الابن المستعار يدخل حدود الشرفة يبصق تحية احترام وعيناه تحملان ما يحمل الذهن من مكر..
قلت:
- أرجوك دعني وحدي..
- لماذا يا أبي؟ كلمني فقط أود أبوتك التي لم أذقها أبدا..
كان يبكي أنفاسه تتقطع بنسيج ثقيل، جاثم على ركبتيه ورأسه يكاد يلامس حجري إنه الازدواج الذي ورثه عن أمه الملعونة بحيث يجعل الحقيقة دوما الى جانبه..
ـ اتركني
ـ كلا لن أتركك أنت مريض تكره أناسا يكنون لك خالص المحبة، قتلت أمي بهجرك لها وتريد قتلي بلوثة أقوالك.
ـ أرجوك أرجوك أخرج..
ـ إني أتألم، نملك كل شيء ولا نملك شيئا، نود من حلم العائلة أن يتحقق إنني تائه الذهن في مكان آخر والولد يتحدث بنبرة أشبه بالأنين لم أستوعب ما قاله أرى شفتيه تتحرك فقط لكنه كذئب حتما يحاول إدانتي وتحميل أخطاء أمه، أنا النقاء، وأنتم الشوائب، لما لا تعترفون بتلك الحقيقة وبينما الولد يقئ ما تبقى من مفردات دخلت المرأة الى الشرفة انتبه الولد لها فخاطبته:
ـ كفاك منه لقد أتعبني أبوك المجنون امتد قدومه برحيله الى هنا كالذليل توقفت عن الكلام تحاول صيغ ملامحها بخجل طفيف، تم قالت:
ـ لم ينم معي لحد اللحظة إلا بضع ليالي هذه هي الحقيقة إنها تتحدث عن أشياء نامت في بطن الماضي لكن الذي سيثبت هذه الأشياء التي نسجت خلال فترة علاقاتنا ؟ لم يخطئ كلانا إننا واضحان إننا دنيئان لأننا أخطأنا معا..
الجسد
الجسد الواهن ملقى على الأريكة والروح هائمة قلقة تريد أن تنفذ عبر الحاجز الذي يفصل بين اليوم والغد بين الواقع والمجهول بين المعقول واللامعقول، تريد أن تظفر براحة أبدية بعد أن ذاقت مرّ السقم، أملة أن ترى النور بعد كل هذا الظلام والتعب، تقطع أخر خيط يربطها بتلك الكتلة البائسة المليئة بالحرمان والطموح والوهن فتعبر متشوقة إلى الجهة الأخرى وتضيع وسط سديم لانهائي وفراغ مروع.
انتخابات على طريقة الصغار
ترشح التلميذ لبرلمان الطفل وضع صوره على سبورة الحائط وسور المدرسة ووعد زملائه بكتب مجانية ودروس خصوصية، ونزهة جماعية في كل شهر، سألته المعلمة ناصحة لماذا تعد التلاميذ بما لست قادرا على تحقيقـــه؟! وأجاب بكل هدوء هكــذا فعل أبي وفاز في الانتخابات البرلمانية.
مطر ناعم
رائحة المطر تسجل في القلب أشياء كثيرة مبهمة...
يمتصني الشارع الطويل، فأمضي مبللا" من قمة رأسي إلى أخمص قدمي. أتذكر دون تركيز وجه أبي كان يجب أن يستمر تدفق المطر، الناس مسرعون أتوقف فجأة عند محطة الحافلات أتطلع إلى الوجوه المبللة، أدقق في الملامح أسألها عن حبها للمطر... تضحك تتحول إلى قطرات متتابعة وتمضي حتى باطن الأرض... أشعر بالدفء في كياني. ... أضحك وأركض....
أركض تحت المطر....
العدم
يمشي ببطء على الرصيف... يحدق في الوجوه.... يتطلع بصمت إلى الواجهات المكتظة بالأشياء الجميلة.... يتنهد... يتمنى أن يشتري كل شيء لابنته الصغيرة التي تنتظره في البيت... يتحسس ما تبقى معه من النقود... يتنهد من جديد.... دراهم معدودة لا تكفي لشراء أي شيء... وقف أمام إحدى الواجهات.... كانت اللعبة مغرية... قالت له قبل أيام "متى ستشتري لي لعبة??" ولكن النقود تطايرت مع الأيام الأولى من الشهر الجديد...
بريق
لما كنت طفلا صغيرا" لم أستمتع باللعب ولا أستطيع الخروج من البيت أو رؤية نفسي في المرآة أو تمييز الألوان أو مشاركة أقراني شغبهم الطفولي، ذلك لأني قد أصبت بالعمى جراء مرض معد، لقد قضيت طفولتي رهين المحبسين، واعتدت على البقاء وحيدا" في المنزل وأعبث بكل ما تصادفه يداي إلى أن تلمست أناملي ثقبا" صغيرا" في الجدران ونظرت من خلاله وكم كانت دهشتي عظيمة، بريق شعلة يتلألأ في الظلام لم أعرف مصدره ربما كان بريق مصباح وهمي أو خيالا قد تسجد في الضياء طالما استأنست وعشقت هذا الثقب الذي أصبح عزائي الوحيد في الحياة، لقد كنت استمد منه النور لعيني المكفوفة مما تبعث في نفسي الدفء وعلى طول اليوم كنت أستغرق في تأمل ذلك الضوء الدافئ إلى أن أجريت لي عملية جراحية لعيني لم ألبث سوى أيام حتى ارتدت بصيرا ورأيت نفسي في المرآة وميزت الألوان عن بعضها البعض، ولكنها لم تثر في أي فرح أو دفئ كما لم تمنح عيني نورا" لذا لازمت البيت أحدق دوما" من خلال ذلك الثقب في الشعلة القابعة في الظلام التي ربما هي شمس الحقيقة.
الإخطبوط
وجه طفولي بملامح هادئة متأملا الأمواج وهي ترسل ذبذبات صوتية إلى الصخور وبين الفينة والأخرى ينقل بصره إلى الأفق الأزرق حيث النوارس تغازل المراكب،ولا يعكر تأمله سوى خشخشة
عند موطئ قدميه.....واسترعى الصوت انتباهه فرأى سرطانا ضخما، ولم يكد السرطان يحس بدنـو
الشاب منه حتى غاص سريعا... إلا أنه سارع إلى مطاردته إلى أن بلغ صخرة تحت الماء، غيـر أن السرطان كان أسرع منه فغاب عن عينيه، واندس في فجوة تحت الصخرة، وكانت هناك كما توهــم
الشاب ثغرة واسعة اتخذها السرطان لنفسه ملاذا.
لم يكن الماء الذي تحت الصخرة عميقا فاستطاع الشاب أن يرى الحصي في قراره... فوضـع
سكينه بين أسنانه،وطلع على رأس الفجوة، ثم نزل إلى قرارها إلى أن بلغ الماء منكبيه...لكنه لم يلبـث
أن رأى عند سطح الماء شقا مستويا يمكن أن تبلغه يده،فقال مع قرارة نفسه إنه قد فرٌ منه فدس يـده
اليمنى قدر استطاعته داخل الفجوة وأخذ يتلمس جوفها المظلم... وفجأة أحس بأن شيئا قـــد أمسك بذراعه. فاعترته قشعريرة من رعب غريب لا يكاد يوصف! إنه شيء حي دقيق عريض خشن الملمس
بارد، لزج يلتف حول ذراعه العارية الممتدة في أعماق الظلمة، وكان ضغط هذا الشيء كضغط حبـل يربط، وحركته لولبية دائمة كمسمار يدار باستمرار! ثم أخذ هذا الشيء اللولبي العجيب يلتف حـول معصمه ومرفقه ثم بلغ كتفه في ذلك الحين أحس الشاب بطرف دقيق ينفذ إلى تحت إبطه.
حاول أن يرتد راجعا، لكنه لم يستطيع لقد تجمد في مكانه ! وراح يبذل جهد اليائس لكــي يخلع ذراعه غير أنه لم يفعل سوى إثارة غضب عدوه الذي أخذ يشتد في التفافه حول ذراعه، لقد كان لدنا كجلد، صلبا كالحديد، بارد كظلمة الليل، وإذا به يخرج من الشق شيء أخر مسنون دقيق ممتداً كأنه لسانه أحس الشاب بأنه يلحس بدنه لحسا، ثم أخذ يلتف عليه وما هي إلا لحظة حتى سرت في جسده قشعريرة من ألـم لـم يحس بمثلها في حياته، ألم هائل جعل عضلاته كلها تتقلص من شدته!
ثم خرج من شق الصخرة شيء ثالث يتموج كأنما يتلمس طريقه حول بدنه، لم يلبث أن إلتفت علــى ضلوعه إلتفاف حبل متين. ومن حسن حظه أن هناك بصيص من الضوء تاح له أن يرى هذه الأشياء الغريبة البشعة التي أخدت تلتف عليه!.
لم يلبث أن رأى قطعة مسطحة مستديرة ضخمة الحجم ظاهرة اللزوجة قد أطلت من جوف الفجوة، هي منبت هذه الألسنة الخمسة التي التفت عليه ورأى من الجهة الأخرى من هذه القطعة البشعة ثـلاث ألسنة شبيهة بالخمسة الأولى ولكن أطرافها كانت لا تزال تحت الصخرة، ورأى في وسط هــذه القطعة المستديرة عينين حادتين تنظران، وإستقرت هاتان العينان عليه، وحينئذ أدرك أنه الإخطبوط!.
والمرء لا يستطيع خلاصا من قبضة الإخطبوط، بل تجلب عليه محاولة النجاة غـير اشتـداد قبضة الإخطبوط عليه، وليس هناك من النجاة إلا وسيلة واحدة، يعرفها الصيادون.... إنهم يعرفون الضربة التي تطيح برأسه وذلك لأن مقتله الوحيد في رأسه، ولقد كان يعرف ذلك تمام المعرفة.
ومصارعة الأخطبوط كمصارعة ثور هائج تقتضي من المرء أن ينتهز لحظة بعينها ليصيب منــه مقتلا حينما يحني الثور رأسه للنطاح.... حدق الشاب في الوحش الرهيب وكأنما أحـــس الأخطبوط بذلك.... فركز عليه عينيه الناريتين، وفي لمح البصر أطلق الوحش لسانه الخامس من الصخرة وأهوى به عليه، فقبض على يده وفي اللحظة ذاتها، مد الإخطبوط رأسه سريعا لكي يطبق بمصاصاته البشعــة على صدره! وانقض الوحش عليه، فانقض الشاب عليه بالسكين...
وأخذ الوحش والشاب يميلان مرة بعد مرة، وفي حركة خاطفة كالبرق أغمد الشاب نصل سكينه في تلك القطعة المسطحة اللزجة، وحفر دائرة حول العينين بأسرع من فرقعة السوط في الهواء، ثم انتزع الرأس من مكانه... وهدأ الصراع وتراخت تلك الألسن الملتصقة حول الشاب. أما المصاصات المصوبة نحوه فقدت قوتها بعد أن زال سر تلك القوة وهوت لساعتها عند الصخرة التي كانت متشبثة بها وغاصت الكتلة كلها إلى قرار الماء، ومع ذلك خشي أن تدب في بدن الوحش حلاوة الروح فينقض عليه مرة أخرى، فتراجع بسرعة لكي يكون بمنأى عن ألسنته الرهيبة، غير أن الإخطبوط كان قد برد برودة الموت.
المرآة
أقف ساهما شارد الفكر مضطرب الفؤاد حائرا، فيما أرنو إليه فأجده يزداد إصرارا وتطلعا إلي، أردت أن أتبين أنه يقصدني، فحركت يدي اليمنى ووضعتها على جنبي...فحرك يـده اليسرى وفعل مثلما فعلت، فسحبت يدي فارغة وبسرعة تفوق سرعتي فتعجبت كثيـرا، فكيف علم أنني سوف أسحبها فارغة وكيف فعل ذلك بسرعة تفوقني، وقفت ذاهلا أعصـر عقلي وأحثه لكي يعطيني تفسيرا فإذا به يرشدني إلى حيلة بسيطة وهي معاملته بلا مبـالاة فنظرت إليه ببرودة فرد علي بالنظرة نفسها.
وبهدوء أكثر نظرت إليه غاضبا ففعل مثلي، وبطريقة صبيانية أخرجت له لسانـــي فأخرج لي لسانه في تحد جعلني أخجل من نفسي، بل حاولت أن أخفي خجلي فضربــت الأرض بقدمي اليمنى فضرب الأرض بقدمه اليسرى ونظر إلي لكي يرى فعلي، وكان قد اعتلاني غضب شديد واحمر وجهي بل كاد الدم أن ينبثق منه، فبصقت على وجهه فبصق علي قبل أن أنتهي منها فأخفقت هذه المرة في السيطرة على أعصابي، وانهلت عليــه بقبضة قويـة فإذا بالمرآة تتحطم.
المرأة
تجوب الشوارع تبحث عن شيء ضائع في الذاكرة عن جرح نازف، تصحو كل صباح لتستقبل يوما جديدا، وتغني وتبتسم من دون عناء فتسأل؟
- ترى أهي شمس واحدة من تسدل خيوطها على هذه الأرض؟!.
دون أن تترك مجالا لأي جواب، أعادت ذكرى تلك السمفونية المرشومة بحجم شمسها الصاعدة إلى السماء. تساءلت لماذا تتسخ الذاكرة؟! صمتت لحظة وتصورت لتوها أن كل ماحولها يكسوه عشب أخضر، أشجار الزيـتون والبرتقال، لا شوا رع فقط شمس، وقمر وانفجرت ضاحكة ببراءة في وجهها ! هكذا كانت وسـط المعالم والمزارع تحاصر هنا وهناك، تبحث عن بسمتها في عيون الطبيعة تجدها أكثر شـرودا وأشد اشتعالا، تسأل في نفسها وتبحث في جراحها الدامية عن أسماء نقشت في الذاكرة.
غسلت عينيها وأضاءت الطريق ودخلت منكسرة إلى نفسها، أصبحت لهيبا مشتعـلا تحرق كل وسخ هذا العالم لتسكن الجراح وتدفن الألم، تأملت نفسها التي تشكل مزيجا من الألوان المتنافرة، تفتح قوسا آخر عبرت، لتكتـب على الجدران طقوسا أخرى للحكاية.
يوميات " حسن سبينوزا"
هذا الموقف ما فكرت فيه ولم يخطر لي على بال، وإلا لاكتفيت بالقلق أنيسا وما جازفت بهذا الخروج الذي أوصلني لما أنا فيه.
تقلبت في فراشي ولم يغمض لي جفن بل لم يحمل إلي الليل نصحا بل إن النوم استعصى علي وقتا طويلا، ظلتْ عيناي مفتوحتان تحدقان في الظلام، وكلما خطر لي المستقبل ينقبض قلبي في ذعر كمن مست يده ميتاً. حركت مؤشر المذياع القديم لكني كتمت أنفاسي لحظات وأمعنت التفكير قليلا. مذياعي الشاهد الوحيد على عمري الذي مضى والصديق في عصر الأمواج، عيناي مملوءتان بالفزع وأنا أتفوه بكلام مختلطٍ كمحموم، أمد يدي إلى إبريق الشاي الذي لم أنظفه منذ أيام... أشعل سيجارة التي تشكل مع المذياع والقط نغمة في لحن يأسنا.
النوم يذكرني بالموت وكثيرا ما أتساءل ما الفرق بينهما؟ ومضة حزن تسبح على محياي عندما تنتابني هذه التساؤلات وفي بحر هذه الأفكار أخذ معطفي وأعلقه على هيكلي العظمي... ينسل السعال إلى صدري المفعم بغيوم السجائر الرخيصة... إحساس بالألم ينفذ عبر قدماي اليسرى، يذكرني بالحادثة التي وقعت لي والتي ما زالت صورتها مائلة أمام عيني التي لايمحوها الزمن، والإعاقة التي أضافت إلى فقري ووحدتي رصيدا أطال فرصة العثور على زوجة تقاسمني الأيام المتبقية من العمر. حتى مسامات جلدي أشعر بها تفرز حسرة عندما تخترق أذناي وشوشات الفتيات من خلفي ضاحكات على الأعرج الذي يبحث عن زوجة.
أسير في ضوء القمر حيث نسيم بارد ينخلع له قلبي وعكازتي هي ناظري تشدني إرضاء لخاطري، وإذا استعصى أمر أجد الحل فيها لكل مأربي حيث أجتر زماني بسيجارة رخيصة بين شفتاي بينما يزداد الكون سكونا وكأنما استلت منه الحياة بعدما أخدت الأصوات تخمد في الظلام تم تبدت السحب واشتد لمعان النجوم وضوحا وسط السماء الزرقاء. وعلى سطح البحر المنبسط بدأت أضواء المراكب وصور النجوم المنعكسة.
الأيام متشابهة وهبات الريح الخفيفة تداعب الأشياء المتراكمة فوق السطوح، والصمت شامل لا يعكر صفائه إلا بعض الصراصير التي خرجت من منافذ المجاري ورائحتها الفاسدة تصيب الأعين بداء الرماد قبل الأنف، الليل أرخى سدوله ويغمض جفونه لا يزعجه سوى نباح كلب أحس في طبقات صوته ألوانا من عذاب الوحدة، وبرودة تسري في جسدي وقلبي عصفور يرف داخل صدري وحبات عرق يرسلها جبيني مسامير الدنيا تغرس في قدماي تشدني إلى الأرض حيث أحاول أن أخلع نعلي فلا أستطيع. .. دقائق قليلة حيث مصابيح يدوية ضوئها مركز على وجهي أقف مبهورا أحاول أن استرجع شريط أيامي. لكن الذهول والحيرة تشل عضلاتي ومرارة شعور إنعدام وضوح الرؤية، أين أنا؟ لماذا أنا هنا؟ كيف وصلت إلى هذا الموقف؟ إلا أن عشرات العيون تحاصرني وسهام الاتهام تتجه نحوي، نظرت حولي وقبل أن أقرر متى سأخطو خطوتي التالية اصطدمت نظرتي بسيارة تناديني باب مؤخرتها مفتوحا على اتساعه يرحب بي...
حوار سردي{°}
ها أنت وقد استعدت وحدتك..
- وهل غادرتك؟
ولم تبق لك غير الكتابة ولم تحب سواها، وليس لك غيرها في هذا الزمن الذي سميت أنت السارد والشخصية في آن، هذا المراوغ ذئب البراري الذي قدر لك لكي تواجهه..
- وهل باستطاعتك أن تواجهه>..
لقد كنت وحدك كما كتب عليك أن تكون منذ خلقت الى أن تموت، براءتك الأولى التي يريدون تشويهها. .
- لعلهم شوهوها.
فيك بعض من دون كيشوت أتحارب طواحين هواء؟ أتتحدى نفسك؟ لا تملك الإجابة عن ذلك،...
- ومن أين لك أن تجيب ؟ ومن بمقدوره أن يجيب؟؟...
فيك بعض من أبي ذر وقد تآكلت خلاياه بحلم لم يتحقق قاده إلى النفي! هل يؤديان بك الى ذلك أيضا؟؟ قال السارد.. أويت الى كهف أحاورها وكل ما حولي نار وفتنة حتى من أقرب المقربين إلي، يبتعدون عن مشاعري بسنوات ضوئية، ولم أجد منهم غير الويل والتبور! هذه إساءتهم الجارحة أثارها في النفس باقية، ولم أجد أمامي من يمكنني أن ألجأ إليه أحكي ألمي الصادي الذي يصول ويركض. نار حارقة.. ومنذ الأبدية حتى الآن لم أجد من يفتح ليس صدره الحاني كيف أبكي مما يفعله السفهاء..
الآن أدرك عزلتي وعزلة دو المحبسين، أدرك منفاه أدرك حالته، أراه كما أراني وحيدا ليس أمامي غير الكتابة، ولا شيء سوى الكتابة، أتساءل الآن هل كان يمكنني أن أكون شخصا آخر أقصد السارد، أكان يمكن لو خيروني أن أكون غيري ؟
هذه الأسئلة وغيرها شائكة وحادة، لعلها أيضا شرسة سأترك الإجابة عنها للزمن، أن أحيا إنسانيتي، هذه المشاعر التي تسكنني، وتملكني والتي ليس سواها، كيما أكون أنا ولا أحد سواي، هذا الزمن أتبت أن الأمل ضئيل، وأن النفق ليس له نهاية، يبدأ بظلمة تغشاها من فوقها غبار داكن ليس ذلك تطيرا وإنما حزن متعال، ممتدا بداخلي هو ما لا يريح ولا يبوح، أدخل عالمي، كوني الحميم الذي ليس باستطاعة أحد أن يكشف أسراره، إنه لي وحدي ولن يستبيحه أحد، منفردا معزولا، وهذا حس نبض القلب الشاهد، قلبي الذي لا أملك سواه وحده كان معي في أحلك الظروف بوصلتي ودليلي، أمي تقول لي "قلب المؤمن دليله" ها أنت وحدك ملوحا، لا أحد بانتظارك (من يمكن أن ينتظرك؟) منذ متى كان لك أحد؟ أنت الآن في المدينة /الغبار، أعطيتها من عمرك الفاني، حبوت على ترابها، أصبت نساءها، أسماؤهن الفارعة تناسيتها أم تناسوك ؟ من هؤلاء؟ صوتك هنا أقوى مما تصور يوم لم يكن لهم صوت، تهاوت الأقنعة، تآكلت، واكتشفت أنك تحرث الماء، وأن عمرك الفاني قبض الريح، وهؤلاء أقرب المقربين إليك الذين احتويتهم في نبض القلب، وأسكنتهم صدرك يغدرون بك، وليس بمقدورك أن تواجههم أنت عاجز...
الزمن ليس لك/ أيمكن أن يكون ضدي؟/ قدرك أن تظل أنت بكل عقدك وليس بإمكانك أن تغيرها هذا هو مجرى النهر، وعليك أن تتبعه، فلست خيرا من غيرك وممن سبقوك ومن سيجيئون من بعدك! لن يخرج السارد من جلده، ولن يقول إلا ما يجب أن يقول، وليس للكاتب الحقيقي أو المفترض الحق في أن يوقف انتشال هواجسه، استذكاراته، تجاربه، تاريخه ولعل الكاتب لا يدريها، يقول الذي يريد أن يقول، وسيترك للقراء والنقاد يسهرون جهارا ويختصمون يلمون النفايات من هنا ومن هناك يجمعون شتاتها باحثين عن موقع الراوي من الحكاية وعن النيزك. .
حصلت على جائزة مجلة العربي الشهرية – الكويت -. والتي تنظم بتعاون مع مؤسسة بي بي سي البريطانية.
نجمة الراعي
الكل يناديه "هبري" لارتباطه بذلك الجبل الشامخ حيث يقيم في عزلة تامة مع قطيعه لا يرى طيفا ولا يسمع همسا إلا فيما نذر، ومن قمة الجبل يتأمل الرحل وهم مع معزهم في بحث دائم على الكلأ..لقد كانت مؤونته تصل كل أسبوع على ظهر دابة تشق الطريق بين شعاب الأودية. ولا ينفك صاحبه يحثها على المسير لكي تصعد الجبل، ولكن ما يشغل باله هو معرفة أخبار "يطو" ابنة عمه الوحيدة المعروفة بجمالها الآخاذ في قريتها والقرى المجاورة. كان يجد السعادة ويستشعر بالغبطة عندما يحدثه أحد بما يجري في القرى المبعثرة حول الجبل. ولظروف ما تأخرت المؤونة عنه، وعبثا أرهف السمع لعله يسمع حركة أو يرى خيالا إلا أن عقدة الدهشة عقدت لسانه وهو يرى "يطو" تسوق الدابة إليه من شعاب الجبل، وهي في أبهى حلة بثيابها المزركشة كأنه عائدة من رقة أحيدوس ثم راحت تجوب بنظرها في دهشة واستغراب وقالت باستحياء "يبدو أن الحياة هنا تسعدك.." ولما هذا التأمل وفي أي شيء عساك تفكر؟ وتمنى لو يجيبها قائلا: إنما أفكر فيك يا ..ي..طو..و، إلا أن اضطرابه كان قد بلغ حدا لم يستطع أن ينبس بكلمة واحدة. وبما أنها عادت أدراجها وتوارت عن الأنظار، ظلت أذنيه تستمع بسيمفونية توقعها حوافر الدابة على صخور الجبل. الى أن اختفى شعاع الشمس وبدت الأودية معتمة أو ضاربة الى الزرقة وأخذت الماشية تلتصق ببعضها البعض. في تلك اللحظة سمعها وهي تناديه لقد خلت طريق العودة الى القرية..
عندما أرخى الليل سدوله وبدت نجومه تتوامض في فجاج السماء، لم يغمض لها جفن فجلست غير بعيدة عن النار الموقدة، وألقى عليها جلبابه الصوفي، وأخذ يحدث نفسه إن لليل سحر وجمال لا يعرفهما إلا من راح يسامر النجوم في ذروة الجبل العالي حيث لا تعود تسمع غير نشيد الكون المنبعث من خرير المياه وحفيف الأشجار، وكانت كلما أحست بشيء تنتابها القشعريرة فتزداد التحافا به، إلا أن تراءى لها نجما ينساب متقوسا من الأعلى وهمست "ما هذا؟؟". وأجابها وهو يرفع أصبع الى السماء..
ـ إنها الأرواح تدخل الفردوس يا ئ..ط..و
صمتت لحظة ثم قالت: أصحيح إنكم فلكيون أيها الرعاة... فرد وعيناه مشدودين إلى الأفق البعيد "ليس هذا صحيحا.." إلا أننا فوق الأعالي نعيش أقرب الى النجوم ونعلم بما يحدث فيها واستمرت مشدودة الى السماء وهي تقول ما أجمل السماء، وما أروع نجومها أتعرف أسماءها، أجل ها هي المجرة أم النجوم تتلألأ فوق رؤوسنا ونحن نسميها "نجمة النور". بل أجمل تلك النجوم هي نجمتنا نحن "الرعاة" نسميها "نجمة الراعي" فهي التي تضيء سبيلنا ساعة نخرج مع الماشية عند الفجر أو نعود بها مع المساء..وفيما يفسر لها حركة النجوم أحس بشيء ناعم يحط على كتفيه بهدوء، وكان هذا الشيء هو رأسها الذي مال على كتفيه، مثقلا بالنوم دون حركة في حين بدأت النجوم تتسلل وتخبو مع الصباح الوليد وهو يتأملها نائمة على كتفيه والنجوم تخطو خطوها الصامت نحو المغيب في إذعان ووداعة كأنها قطيع أغنام..بينما تراءت له أنها إحدى نجوم الليل بل أجمل تلك النجوم وأروعها وأكثرها نورا قد ضلت سبيلها فأتت تستريح وتنام فوق كتفيه.
* هبري: جبل بنواحي أزرو.
عيون تائهة
كنت أجري في خلاء موحش يتصاعد من جوفي شعور بأن ثمة من يطاردني غير أنني لم أكن أعرف من هو ؟؟ ومادا يريد ؟؟ ولكن كنت أشعر بحقيقة واحدة لا جدال فيها هي ذلك الإحساس بالرعب.
أطلقت ساقي للريح، كأن شيء يطوف تحت رأسي، لم أعد قادرا على التمييز بين العرق والدموع فكلاهما يسيل بتدفق مزعج ومؤلم، قلت لنفسي إن العرق ربما كان دموع الجسد، والدموع ربما كانت عرق العينين لذا كنت محتاجا للاسترخاء فما أن لمس ظهري الأرض حتى وجدت نفسي في قلب خندق عميق، خفت لحظتها أن يكون ذلك من خطيئة غابرة لا أذكرها الآن ولا أكاد أعرف عنها شيئا..
وللصدفة وجدت نفسي أطفو شيئا فشيئا نحو حافة الخندق، وكان من الواضح أن فيضانا مفاجئا قد حل بالخندق رفعني بقوة صعوده، فعرفت أن الخندق الذي وقعت فيه تابع لواد الحار، وقلت فليكن ما يكون، تشبثت يداي بحافة الخندق، وأخذت أتسلق التراب الى أن وصلت الى نقطة أمان، وما إن خطوت خطوة حتى وجدت درجا حجريا عريضا منحوتا بدقة ومهارة يأخذ في الهبوط الى أسفل، شرعت أهبط الدرج في حذر، وكان الخوف قد شرع يعتريني من جديد لسبب غامض فنفيته بقوة، لحظتها انكشف لي الدرج لم يكن درجا ولم يكن حجريا، بل كان أليافا سميكة منحوتة لشجرة عظيمة الحجم لم أكن أهبط بل كنت أصعد الشجرة بمهارة فلما استوت قدمي على أول فرع أخذت أمشي فوقه، إلا أنني ألقيت بصري على شبكة الفروع العريضة فوجدت عشرات من الأبقار السمان، تقف فوق الفروع تأكل وترسل عيونا براقة لا تمل من التحديق كما لا تمل أفواهها من المضغ. .
تذكرت أمي حين كانت تحلم بواحدة من هذه الأبقار، وكانت تترجاني، إذا ما طلعت الى هذه الشجرة أن أتي بواحدة لها، انبثق بداخلي فرح غامر، ورأيت الخضرة تعانق الشمس في قبلة حارة من فرط حرارتها تبدو بلا نهاية، لم تكن الأبقار مربوطة، وليس عليها حرس راودني شعورا أن لي حقا أزليا فيها، وهاهي إحدى الأبقار تومئ لي صائحة بل أكاد أظنها، تبتسم لي وتناديني اقتربت منها وأخذت أربت عليها بحنان وأفاضل بينها وبين أخريات، سحبتها، ومضت ورائي تتبختر وتنقل الخطو على الأفرع المتشابكة في رشاقة..
استطالت الأفرع تحت أقدامنا، فلما نظرت الى الأرض رأيتها أكواما من النفايات يجلس فوقها جمع غفير، منكس الرؤوس يتصاعد من خناجرها هديرا، لحظتها شعرت بالغثيان، فرفعت رأسي قليلا لأرى في مواجهتي عمارات جدرانها من الزجاج تمتلئ غرفها بنساء عاريات تماما وموائد تحلقت حولها كروش ذات وجوه غليظة، يبدو عليها الطابع الحيواني، في هذه الأثناء حاولت التعرف على نفسي، وأنا واقف هنا فبدا لي أنني أنتظر شيئا ربما كانت الحافلة التي بدت أنها ربما لن تأتي، وإن أتت سوف تنقلني الى حيث لا يرحب بي أحد، لكنني مع ذلك امتلأت تحفزا رغم كل العناء، وشرعت أخطو من جديد في كل اتجاه، وكنت مصرا وموقنا بأني لا بد أن أتعرف على نفسي.
الحكيم
من يصدق منكم هذه الحكاية ؟ أعلم أنكم سترددون حال انتهائي منها
- هذا هذيان وجنون. .
وأنا ينتابني مثلكم أحيانا الشك بحقيقة ما يدور في ذاكرتي ليل نهار، لم أكن أعلم أن عجائب الزمان قد تهزأ بالخيال، ما شطح وما جمع، حين سمعت أن بغلا يحتج ويجادل كما يفعل عباد الله من بني الإنسان، وذلك حينما داعبتنا أمواج البحر ونحن على ظهر السفينة الى جزيرة نائية، لن يزيد سكانها عن بضع مئات اختلفت طباعهم عن طباعنا، ولغتهم عن لغتنا بحيث لم أدهش لاختلاف الشعوب، ولكن ما أدهشني هو حكاية يتناقلونها خلفا عن سلف منذ سنين خلت، أنه منذ مئة عام عرضت في ساحة السوق جماعة من البغال للبيع والشراء جيء بها من إحدى الجبال النائية، حيث أخد الخبراء يجسون عضلاتها، ويختبرون مفاصلها ويفتحون أفواهها لينظروا الى أعمارها في أسنانها ثم يركبونها، ويدورون في ساحة السوق دورة أو دورتين، لكن البغال فيما يظهر لم تعجبها هذه الطريقة في التقويم والتسويم، لأنها تختلف عما ألفته في بلادها وهنا كانت المفاجأة التي أدهشت صديقي وأدهشتني، وستدهش كل قارئ وهي أن البغال تمردت على سيدها وشقت عصا الطاعة على نحو يشبه ما يصنعه البشر، إذن غضبت منهم طائفة لأمر ما لم يكن احتجاج البغال جموحا، كلا، ولا رفسا ولا ركلا، بل كان احتجاجا يقوم على علل وأسباب وأوشكت عملية الرفس والركل أن تنتهي بتاجر البغال أن يضع في أسفل السلم التقويم بغلا هزيلا رخو العود إن جرى تعثر، وإن حمل على ظهره هوى.. لكن سرعان ما أشار هذا البغل الهزيل لزملائه. .
- ليس الرأي عندي أن نترك القوم يتحكمون في أقدارنا كما شاءت لهم أهواءهم فقد أراد الله لنا أن نكون بغال لكنت الذي لا ينبغي أن نلين له هو الظلم والحيف والإجحاف فما هكذا يكون تقويم البغال..
لذلك اجتمع رأي البغال أن ينوب عنهم البغل الزعيم، تقدم كبير البغال في أثره الزملاء والناس إزاء ذلك متعجبين وأعينهم مفتوحة من رعب وخوف، قال البغل لصاحب الأمر. .
- لقد نزعتم عنا اللجام والسروج.. فماذا أبقيتم لنا مما تتم به المفاضلة بين الجيد والرديء؟ فما بغل بغير سرجه ولجامه؟ وفيما هذا الجس في عضلاتنا، وهذا الإرهاق كله في فحص أجسادنا؟ إن ذلك بدع لم نعتدها في بلادنا؟؟
أجابه الرجل وقلبه في حلقه فزعا:
- لست أرى في ذلك بدعا، فتلك طريقتنا في التقدير، الشيء عندنا قيمته فيما يصنعه، فالطبيب طبيب بمقدار ما يطلب للمرض لا بالسماعة التي يلفها حول عنقه، والكلب السلوقي ممتاز فيما يصنعه في حلبة الصيد لا يتوقه البراق والسيف البتار بحده لا بغمده فأي عجب في أن يكون البغل في قوته وسرعته لا بلجامه وسرجه؟؟
فقال البغل:
- في بلادنا يكون تقويم البغال في قدرتها على الرفس رفسا أرقاها مقاما، لأن أصلحها في تنازع البقاء، وأحسبك لو سألت في هذا لأجبتك بهرائك، الذي فهمت به منذ حين زاعما أن البغال لم تستخدم لترفس إنما لتحمل الأثقال فأعرضها دهرا وأقواها عضلا هو أجدرها في الصعود الى أسواق الشراء لكن ذلك تفكير ملتوي نصيغه في بلادنا على أننا نستخدم كذلك وسيلتكم في جس العضلات واختيار المفاصل لكننا نقصرها على الطبقة الدنيا من البغال، فالفرق بيننا وبينكم هو أننا نفرق بين البغال في التسعيرة وأنتم لا تفرقون..
قال الرجل. .
- إذا كان هذا هو تقويمكم للبغال فكيف هو تقويمكم للرجال ؟
رد البغل مستديرا الى الجهة المعاكسة :
- في بلادنا.. ليس ثمة فرق كبير..
تعاويذ أميرة فينيقيا
يسدل الستار وينطلق المركب، الليل مظلم والبرد يلسع مثل أفعى الأمازون، الريح يفوق جهده أربعين حصانا، تمر الأشجار بسرعة، عيون السنافير تملأ بصره مثل النيازك الحارقة، يغادر المرفأ لثوه بين بويضة زبد البحر الخادعة، يلتفت ورائه تم يعود للجذف ولا يعرف أين سيطأ اليابسة، تودعه النوارس بحزن عميق، إذ ذاك يحس ببداية المغامرة، تقذفه موجة لتلقفه أخرى عند المنعطف، يشغل مذياعه ذا الصوت الخافت يستمع لإذاعة المحيط، حيث حديث السندباد فالموشحات الطوال، كل ذلك مع تلازم الخطر، والمغامرة التي ركبت موتها خلال بضع السنين، كم هي المغامرة خطيرة لكنها على كل حال تنسينا الزمن، وفوضاه، والحب القيصري والحلاوة المصبوغة وجمال النساء في حقائبهن، وعار الكلاب على لسانها والنباح الجارح حين يفترق الخيط الأبيض من الخيط الأسود. يقترب الليل عند تضاريس البحر، يقبل الصبح، الشمس من وراء الضباب، تعود الذكرى لينفتح سجلها مرة أخرى كانت جميلة وكنت أحبها فأكرهها،... لكني أحبها كانت لا تفرقني أبدا حييت في كنف عشقها ولعت بها حتى الحلول، وعبدتها الى حين ركعت لجبروتها الفتان، وأحببتها الى حين مفارقة الروح للجسد العاق كانت تطوي المسافات بدون احتساب فرفضت هذا الحب الأحمق المعتوه، كانت تحب المآثر ولا تركب البحر لأنها تخاف الأعماق، أرافقها بذاتي حيث حبها للمرفأ وكرهها ركوب الدهر، كانت تتمرس وفق نظام المادة الصرفة رافضة لكل العروض المقدمة حيث إرثها في جمالها إنها أشبه بأميرة مملكة فينيقيا عشقتها حيث قبحها سلاح لمن لا سلاح له وفيه إثم كبير ومنافع للناس وعشقتها الى يوم البعث، ستسبح بك العالم، عالم الجمال وعالم القبر لا عذابه، بين خسوف القمر وكسوفه تسافر بك فتاتك في عالم السكينة ذي الأجواء الريحانية عبر بساط الريح، هي الحب في الحياة والممات، فعش أيها الدهر ولا ترحم رفاقك إنهم راحلون عنك مغتربون هذه المرة، فطوبى للحال والارتحال أيها الزمن المقيت..
أغطية اليتيم
تتألم الأعناق المشرئبة من النوافذ والقلوب، وهي تحاول عبثا معرفة مصدر الضجيج، "المعطي" يهدر ويزمجر.. يدفع بطنه البارزة أمامه ويحمل عصاه الغليظة، والصبي اليتيم يسير أمامه بخطى متعثرة، في حين تتبعه والدته العجوز بخطى بطيئة.. هي لا تكاد تستطيع الوقوف على قدميها خصوصا في هذا الشتاء القارص.. كان صوتها يعلو ويعلو يدعوه للعودة وتجنب المشاكل. لكنه أصر على عناده وركب غضبه، ظلت الأعناق المطلة من النوافذ تنظر الى المشهد بسرية تجنبا لغضب المعطي الذي عرف بسلاطة لسانه، إنه لا يعرف غير السب والشتم والعنف الشديد ولا ينجو منه أحد حتى النساء والفتيات..ظل الجميع ينظرون الى اليتيم بعين الشفقة، المسكين بالأمس فقط كان يجري فرحا بقدومه، ولم تمنعه عظامه الطرية من أن تعترضه ويأخذ منه الحقيبة التي كان يحملها معه، ما أقساه، وما أقسى الحظ العاثر، حظ هذا الطفل، وما أشد مرارة حياته. المعطي لا يعرف معنى الحنان أبدا ولا يشعر بالأبوة أو الطفولة، قلبه قاس ولا يتورع على ضربه أمام الملأ بعصاه الغليظة، نعم إن حياته تمرنت على نفس الوثيرة، توفيت والدته في حدث غامض، وقيل إنذاك أن المعطي قتلها، ولكن الحقيقة لم تظهر..
لم يكن للمعطي من حل سوى تركه مع والدته العجوز، عمته الطالبة التي ما زالت آنذاك تدرس وتعلم حميده. ما إن اشتد عوده حتى وجد نفسه مضطرا الى قضاء شؤون جدته في حين قرر المعطي أن يرسله للدراسة..مرت سنوات والطفل يعيش الخصاصة وبعض الجيران رأوا فيه أمه التي كانت امرأة طيبة وشيئا فشيئا أصبح يعول عليه في أمور البيت ويطمئن على والدته العجوز حينما يسافر بحثا عن العمل. تلك هي أسعد أيام احميده التي يستريح فيها من الضرب المبرح والكلام المهين، وينطلق فيها نحو ساحة الحي يلهو كيفما شاء..
توارى المعطي واحميده عن أنظار العجوز فعادت غاضبة ولكنهما واصلا المشي وواصلت الأنظار التحديق فيهما في حيرة شديدة الى أين يأخذ معه هذا المسكين، في هذا المساء؟؟ ماذا اقترف حتى يضربه بهذه الطريقة؟ لم يتحرك إلا الحاج المختار، لم يخجل من المعطي ولم يخش غضبه، فحاول منعه. لكنه تمتم بكلمات جعلته يصمت ويكتفي بالحولقة والتسبيح..كان المعطي يمشي والدم يغلي في شرايينه..
- هذا الحي كله مشاكل، أمس فقط وصلت طمعا في بعض الراحة. لكن المشاكل داهمتني، وهذه أولاها جيلالي بقال الحي يطالبني بأداء خمسين درهما، إن المبلغ المدون في الدفتر هي ديون الشهر المنقضي. هل صرفت العجوز واحميده كل هذا ؟؟؟ لا أظن، لا أظن..
قالها بينه وبين نفسه، لكن القضية تبدو أخطر، إذ أن القائمة تحمل أثمان سجائر ومشروبات غازية والعجوز لا يمكن أن ترسل احميده ليشتري هذا. تأمل الأمر مليا. وعاد الى البيت..لقد صدقت تكهناته..
- لم نشتر من البقال سوى العدس، وفي مرات قليلة..
هتفت العجوز:
- الجيلالي لص!!.. مخادع!.. زوفري!.. سلعته مغشوشة حرايمي!!!..
سيرة الجيلالي سيئة والجميع يتحدث عن فساده وعدم صلاحه، لا يعرف إلا الفضائح، كم واحد غشه في الوزن والحساب، كم مرة أغلقت مصلحة الغش متجره، لم يستح ولولا الفقر لما أقبل عليه، فهو الوحيد هنا الذي يقبل البيع بالدين ومع ذلك ظل المعطي غاضبا واتهم احميده بأنه السبب، لقد خطر له بأنه قد يكون اشترى السجائر والمشروبات في غفلة من الجدة، لذلك حاول أن يحصل منه اعترافا، لكن احميدة تمسك بموقفه، "لم اشتر هذا أبدا.." والمعطي لا يصدقه، ضربه في البيت بعصاه الغليظة، وحاول على امتداد الطريق أن يسحب منه اعترافا لكنه، اكتفى بالدموع، ولم يعترف..عند باب الدكان وقف احميده مرتعدا وباكيا في حين زمجر أبوه وأقسم الجيلالي بأن احميده قد اشترى السجائر والمشروبات مرارا، كما أن جدته تريد علبة سجائر لقريب زارهم..الرجال المفترشون الحصير داخل الدكان يلعبون الورق ويتهامسون..
- حرام عليك أجيلالي..
- واجيلالي..والله يهديك!!..
- والله، انجينا من الباطل !!..
- والله يحفظنا من كذوبك !!..
استمر الرجال يدافعون عن احميده حتى أذن له والده بالعودة الى البيت فتراجع الى الوراء مغتبطا، لقد نجا من عقوبة قاسية، آه لو اشترى السجائر سيقتله المعطي ويمزقه إربا، لكن الرجال تدخلوا وجعلوه يغضب من الجيلالي ويلعنه، أقسم على مقاطعته واتهمه بالسرقة..
مضى احميده في طريق عودته، لا يصدق نجاته، لكنه تذكر. منذ أسابيع والسجائر هاجسه الذي يفكر فيه لقد انتظر هذه اللحظة القاسية. منذ ذلك اليوم الذي تجرأ فيه على الجيلالي، كان ينتظر عقابا عن تلك الفعلة. لكن، أغطية اليتيم أنقذته..
أيام رتيبة
الساعة الثانية عشرة ليلا، إذن علي أن أوي الى فراشي. هو من سرير قطعت أسلاكه المتشابكة التي تربط جوانبه وفي أطرافه بذلة زرقاء قديمة اشتريتها قبل أربع سنوات من سوق الملابس المستعملة ألبسها اتقاء البرد أثناء النوم..فكرت أن أخيط لها أزرارا لكني أهملتها، ربما لأنني متعب. وككل مرة، إذن ستظل البذلة بدون أزرار كما أني أتهاون في تنظيف جدران الغرفة. فقد طليت منذ فترة طويلة بملصقات نجوم السينما منذ كانت الصور ذات اللونين الأبيض والأسود. لكن من يدري؟ ربما هناك من سكن هذه الغرفة قبلي، منذ أربعة سنوات..طرقت أحد المنازل استقبلتني أرملة بيضاء طويلة بابتسامة خجولة قالت..
ـ أنت أعزب؟؟..
ـ ...
ـ أليس كذلك؟؟؟؟..
ـ...
ـ وتبحث عن غرفة،..؟؟
ـ ...
لحظتها اكتشفت للتو أن هذه المرأة عندها حاسة التقاط الغرباء للنزول عندها منذ ذلك اليوم لم أعد أراها إلا نهاية الشهر..
الساعة الثانية عشرة والربع
لقد نسيت أن أرمي علب السردين في القمامة، علب فارغة منقوعة بالزيت. إنها أقل تكلفة وأسهل إعدادا مجرد دقائق لفتح الغطاء المعدني، وتقطيع رغيف الخبز، هذه وجبة غذاء. أما في الصباح فإنني أكتفي بكأس شاي ساخن، ونصف رغيف خبز وأحيانا أستفيد من العلب الفارغة بعد تنظيفها واستعمالها كمنفضة للسجائر..
الساعة الواحدة إلا ثلثا.
علبة معدنية مستطيلة، احتفظت بها منذ مدة طويلة بداخلها أوراق ورسائل قديمة. على وجه العلبة صورة امرأة تقف مزهوة بنفسها على جانب ورق شراعي، ذراعها الأيسر على البحر، فيما أرنو إليها والى ابتسامتها العذبة أتلمس شعرها الأسود المفحم، تنزل من الفضاء المعدني، تنزلق بهدوء على الرف الخشبي كعادتها كل يوم، تحدثني عن البحر الأزرق المتلاطم الأمواج، تصف الأسماك الصغيرة والكبيرة ذات الزعانف المتحركة، وهي تبتسم كعادتها تلمس شعري الأسود تضع يدها على خذي تضمني الى صدرها الثلجي تبلل شفتي الجافتين بشفتيها المبللتين بالملح الأزرق، تختلط زرقة عينيها الواسعتين مع ابتسامة وجهها الوردي اللامع، تحتضن رأسي أشم رائحة صدرها الندي، تضمني الى صدرها..
حينذاك ألم جسدي في داخلها الطري وأنام..
كل الوجوه التي لا أعرفها
حين تركت وجهي على المرايا، ونحرت عشق النساء في دروب الأطلال بحثت عمن يشبهني. قالت المرايا لا وجه يشبه وجهك. في لجة الزحام بحثت عمن يستنطق جرحي فكل المسافات مغلقة لا وقت للحلم. تذكرت أن لوجهي حق عدت للمرآة نظرت في وجهي فأرتج قلبي وجهي صحراء رمضاء دون بوصلة من يعيرني غفوة، لأكمل حلما ينسل بين الدروب وصقيع الأصابع، قالت المرايا لا تمر من شرفات البحار، لا الموت يوقظ موتي ولا أطيار الرمادية تفتح شباكا لغربتي كي أرقب طائر الشمس البديل.
مفارقة
ينفث الدخان من أنفه ومن جوانب من فمه دون انقطاع ويطلق التأوهات العميقة الى أن سمع دوي انفجار هائل قربه..
مفارقات
يحكي الراوي، والعدة عليه، أن القرية التي يؤمها الشيخ الضرير يعلم،..
زرع..
حصد..
أكل.
ولكني لم أفهم من زرع ومن حصد؟، ومن يأكل في النهاية؟ والقرية كلها، لا تفهم معنى هذه الكلمات حتى الآن. عن جارتنا؟ عن جيراننا؟؟ عن كل النسوة؟ لم يعد في السوق بصل ولم يعد هناك الثوم، لم يعد هناك عدس. تسللت من فوق سطح المنزل قذفت الكلب بحجر لم ينس الكلب ما فعلت به، ظل يتربص بي حتى وجدني في الحقل، فأخذ ينبح وأخذت أقذفه بالحجارة، وجدت للكلب ألف رأس وكل الرؤوس تمتد حولي، كانت جميعها تنبح، بدأت أهرول سقطت في الخندق، اتسخت ملابسي، ضربني يومها معلم الكتاب. آه ذكريات أيام غابرة، من شمس الغروب تحملين لي بعض الذكرى استيقظت مذعورا على كف يدي مكتوب عليها..
الطريق ممنوع
لكني مشيت في الطريق ونباح الكلب لا زال يصلني من بعيد..
* * * *
في السوق سار الابن التائه، يبحث عن أمه، ويبكي. أخذه بائع الخضر الى جانبه، يتفحص وجه النساء وعيونهن ترسل إشارات ضوئية الى جثث الرجال المغفلين بينما الرجال ينادي "من ضاع لها ابن؟ من ضاع لها ابن؟"..السوق ممتلئ بالعربات والأجساد والطفل يبكي والشمس تفور والنساء يساومن بائع الخضر عن السعر، بينما المرأة تصرخ مبحوحة "لقد سرقوني،.." والطفل ينادي "أمي.." وصوت شيخ عجوز ينادي "بقرة للبيع.." لكن خيط ينسل من يد العجوز، يصرخ المسكين يخرج السوق كله بالسكاكين، والنسوة تهرولن بأكياسها وأطفالها. بينما الطفل لا زال ينادي "أمي.." ولا أحد يعرف أحد..
****
في تلك المدينة ذات الأزقة الضيقة، راودتك فكرة الذهاب الى الضفة الأخرى إلا أن الأمر الصادر "ابحثوا عن كل من يحمل في وجهه علامات استفهام..." لكني غسلت وجهي عشرين مرة ولم أفلح في إزالة علامة استفهام على وجهي. حاول أن تفر على سحابة، على مركب أو دابة. حاول أن تخرج من ذاتك وغط وجهك بعباءة جدك العجوز، أما هي فلن تنساك وقد تنساك ودعك من الحوارات حول ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. فالكون هو الكون، ولكني يا أخي على ما أظن "آخوي راسك احسن!!.."
ما يشبه الشرخ
نقطة صغيرة سوداء على سطح المرأة تمد يدك بطرف ثوب لتمسح عنها ما تعتقد انه التصق بسطحها، وتحاول إبعاد يدك على سطح المرآة من جديد تحدق في المرآة فتظهر بوضوح ندبة سوداء على الخد الأيمن......
تمد يدك وتتحسس ببطء جانب الندبة السوداء، فتلتصق بأطراف أناملك قشور من الجلد الذي يحيط بالندبة، والتي تزداد مساحة وتتحول إلى ما يشبه الشرخ، وعلى امتداد خدك الأيسر حتى شفتيك تظهر ندبة أخرى، وبسرعة تنزلت نحو الأسفل مكونة شرخا جديدا، وباندهاش تحدق في المرآة، بانتظار توقف الشرخ او على الأقل تعرف من اين تنبع الندب تفكر بإغلاق عينيك. لكنك تلغي فكرة النهوض من امام المرآة خوفا من العيون، أو على الأقل قد تتابع شعيرات شاربك، وهي تتساقط وتظهر معها معالم جرح صغير اخفيته منذ سنوات الشباب الأولى، ترغب أن تتحسس الجرح لكن خوفك من ازدياد الوضع سوءا تكتفي بوضع يدك اما وجهك لتخفي الجرح عن عينك وعن المرآة أيضا.
ومع كل حركة سريعة تريد بها سحب يدك من أمام المرآة .... وترى الجرح وقد وتغيرت معالمه، فتشعر بالارتياح لتخلصك منه، اختفاء الجرح القديم يدفعك إلى التفكير في ملامح وجهك الذي يتغير بفعل الشروخ... وما يضايقك هو نظرة الآخرين إليك، فهل سيتقبلون التغير بسهولة أم انك ستحتاج إلى إقناعهم، إلا إن ما يقلقك هو كيفية تخلصك من حياتك الأولى، وتفكر بالاسم الذي ستحمل، وفي نوعية الذكريات التي تتلاءم مع الملامح الجديدة، وأنت تحاول موازنة حجم جسمك النحيل معها، تضايقك فكرة وضع وجهك ذو الشروخ امام الآخرين، تقرب وجهك من المرآة، لترى إمكانية تجميل وجهك، لكن الأمل ضئيل، فتغرز أظافرك في وجهك، وتنزع بقايا قشور الجلد، فتفتح قميصك الى الاعلى بانتظار انزلاق الشروخ باتجاه عنقك الى أعماقك، لكن ندبة سوداء تظهر على وجه المرآة، ويمتد الشرخ بامتداد سطحها، وينزلق مع الجدار في الاتجاهات.
وطار التمساح
قال الراوي:
- اجتمع كبير القرية بحكمائها، وتداولوا في امور القرية وشؤونها، وكما جرت الأعراف، فقد تكلم جميع من حضر ذلك الاجتماع، اما كبير القرية فقد اكتفى بتحويل رأسه، وتأييد هذا والإثناء على ذاك وحيث ان الجدل والحوار طال لذا، بذا ينقل نظره بينهم ولا تصدر عنه سوى همهمات خفيفة إلا أن استهل الكلام بنحنحة قصيرة، فلزم الجميع الصمت وصاروا اذانا صاغية.
فنطق قائلا:
والآن اطمئن قلبي، وتعززت ثقتي بكم، أريد منكم أن تعطوني بعض اسماء الحيوانات التي تطير،
فاخذوا يذكرون أسماء الطيور وأنواعها ومزاياها وصفاتها وقدرتها على التحليق والطيران وهجرتها بين البلدان.
ويضيف الراوي:
- إلا أن ابن كبير القرية الذي حضر مجلسهم، اخذ يعصر فكره الى ان تمخض قائلا؛ لم تذكروا التمساح
إلا أن لم يكد ينطق بالحرف الأخير حتى عقدت الدهشة ألسنة الحكماء حيث تبادلوا نظرات الاندهاش والاستغراب التي ارتسمت على وجوهم، إلى أن كسر الصمت احدهم قائلا
- ما هذا؟ التمساح يطير .... أعجب وأي عجب
ويضيف الراوي قائلا:
- إلا أن كبير القرية استاء من كلام الحكيم وردة فعله، فحدق فيه بنظرة متوعدة، فالتقط الحكيم الإشارة امسك رأسه وأغمض عينيه مدركاً أنه رقع في مأزق واخذ يفكر لعله يجد حلا، وبعد صمت قال عفوا يا سيدي لكل حكيم هفوة، أنا أخطأت، نعم.. التمساح يطير يا سيدي في ذلك الوقت، فغر الحكماء أفواههم دهشة وتبادلوا نظرات فيما بينهم فوقع في حيرة من امره فقال بصوت منكسر ذليل ولكنه لا يحلق عاليا.
عجـز
شرعت أبواب النوافذ، لكي أتأمل رئة الليل، وأحظى بأنفاس الصبح، راجعت شريط الذكريات، تأسفت لعمر تجاوز الأربعين، توسلت الظلام ما عدت احتمال السكون، كأنه يمضي ويجرد نحولي، يجرد ثوب أملي، التهمت ما لدي من الكتب عشرات المرات، قرأت صفحة السماء بكل اللغات، كل شيء يفزعني في هذا الليل الذي يتراءى مارد يمزق الفضاء بحثا عن رقيتي.
صفقت اعماقي طربا، وأنا أبصر شعاع الصباح يخترق نافذتي، إذ بدالي العالم فسيحا، واضمحلت عزلتي، وصار كل البشر شركائي، تبسمت في داخلي حين ادركت اني لست وحيدا، وتعالت الضوضاء رويدا.. رويدا مما جعلني ابصق على الباب وأنا أغادر مودعا وحشته.
اعتدت المكوث في اماكن الصخب والضوضاء، لا أريد لذاكرتي الثكلى إرغامي على الإحساس بزيف وجودي، ومن غير شعور احيانا اجدني اركض الى شاطئ، مهرولاً خلف بقايا عمري، اشحذ همتي بالأمل منتصبا أحاول تقويم تقوس ظهري، أمارس طقوس الأحياء بكل قوة، لذا يجتذبني ساحل البحر، أهرول طويلا أنزل إلى الماء، أعاند الموج وجبروته، وما أن أحس بالتعب والإعياء، حتى أعود منتكسا، احتمى بإحدى المظلات، كانت إلى جانبي تحت مظلة بجسدها الممشوق، مستلقية فوق منشفة، وجدتها فرصة في اختبار مقدرتي على الحياة، تأملت تضاريسها، وجدتها فرصة في اختبار مقدرتي على الحياة، تأملت تضاريسها، فتمنيت التهامها، انتبهت إلى نفسي وأنا أقع في فخ عينيها تتفحصان فضولي. لكنها تبسمت فوجدت فرصتي في تحيتها، استجابت بفرح شبقي، انتفضت متجها نحوها، هي في نهاية الثلاثين تفيض اعضائها عنفوانا وشبابا غمزت بعينيها وضحكت. أدركت أني قريب من غايتي، اتجهت إلى خلوة بعيدا عن الأنظار.
منذ عشرين عاماً لم ارتمي في احضان أنثى، واليوم سأستعيد جنوني، لم اصدق اني في خلوة مع أنثى، وليس أي أنثى؛ قوام ساحر، وجسد شهي همست مع نفسي:
- هل أنا في حلم ؟
لمستني بكفيها وهي تلوي جسدها، لم يتحرك شيء في جسدي سوى عيني تتأمل تفاصيلها المبذولة، ضربتُ بيدي على عنقي كي استيقظ.
صرخت بصوت ثور افتعل الهياج، وألقيت بنفسي عليها، سبحت في جسدها الناعم، كمن يصارع روحه، نفتت زفيراً بينما راحت كلتا يدي تحدت ضوضاء على جسدها.
مزقت غطاء النهدين، ضربت الأرض بيدي ثأرا لجمود أوصالي، عيناها تستعطفان حالي وأنا ابحث عن فحولتي. تمنيت لو ان تنشق الأرض وتبتلعني، أشيائها تنتظر، فبدأت بقلع أعضائي عضوا.. عضوا ورحت أرمى بها إلى البحر
قاص من المغرب
صدر له :
"صباح سوريالي" مجموعة قصصية. ط1/2003.
"لا أرى وجوها" منشورات وزارة الثقافة. ط1/2010