نعم .. لازلت أذكر كل شيء، وأتقلّب في فراشي كثيراً قبل أن أنام، حتى إذا فشلت في إبعاد تلك الذكرى عن عقلي رفعت الغطاء على رأسي وأغمضت عيني، ولكن هيهات، أرى كل شيء بوضوح، كأنه قد حدث بالأمس، أشاهد كل حركه وأسمع كل صوت.
وبالرغم من هذه الأيام الخاملة التي تتعاقب يوماً بعد يوم دون أن يحدث فيها ما يلفت الانتباه، لازال الأرق يقلق ساعات نومي ويملأ هواء المكان بكهرباء التوتر، حتى القمر الأصفر المكتنز المعلّق بين السحب- بحّار الليل البارد- والريح التي تندفع بعنف خارج الدار كاسحة في طريقها كل شيء، حتى عقلانيتي، كل هؤلاء فشلوا في أن أنسى ولو للحظة.
كان المطر ينهر منذ الصباح، وكانت الأيام البهيجة المشمسة تبدو كدعابة غير مؤثرة أو نوعاً من الذكرى، كان كل شيء في البيت منسقاً بشكل مستفز، أما التغيير فلا يحدث إلا في الخارج، يصفو الجو حينا وتزمجر العاصفة أحياناً، الخطر دائماً في الخارج، مع الوحل والبشر والمطر يدق على زجاج نافذتي فكأنه ينقر على أليافي العصبية ذاتها.
هل هو نفس المطر الذي كان يسقط على زجاج نافذتي في بيتنا القديم في السويس؟
* * *
نعم..لازلت أذكر كل شيء...
كنت في حجرتي، ولم يكن زجاج نافذتي هو زجاج نافذة بالمعني المفهم، أصابه شرخ قديم وعدة كسور وثقب لن يلتئم أبداً مهما حاولت سده بالأوراق وعلاجه الوحيد كان أن أتركه كما هو ثم أغلق على نفس باب الحجرة، هكذا لن يدخلها تيار من الهواء البارد يبدد كمية الدفء التي أقنعت نفسي بها، كان هذا يناسبني على أية حال، إذا تناسيت أمر العاصفة التي تزأر بالخارج والبرد الذي يفتت العظام بالداخل، وكنت قد انتهيت بالأمس من رواية "عن الرجال والفئران" وبدأت اليوم فقط في رواية أخرى لـ"سومرست موم" – "حد الموسي"- الغلاف أصفر مهترئ يصور رجل خائف يضيع في دائرة، يحمل حقيبة أوراق وينظر خلفه إلى اللا شيء، واحدة أخرى من تلك الروايات عتيقة الشكل والتاريخ والتي تكوّمت على مكتبي تحت النافذة، فبدت ككومة من فئران ميته تهتز أذنابها مع الريح التي تدخل من ثقب النافذة، روايات كثيرة لـ"جوليان جرين" و"فلورنس راندول" و"بيير بنوا" وكان "لاري داريل" – في قصة "موم" الآن- يبدأ رحلته في البحث عن مبدأ يؤمن به، عندما فتحت أمي باب الحجرة– وباب حجرتي يصر كالأنين– فدخل صاروخ من الهواء يلفح جانب وجهي، وأطلّت هي برأسها من فرجة الباب، الواقع أنني قد سمعت وقع أقدامها قبل أن تفتحه، لكني لم أفكر في أنها قادمة إلى هنا، بل إنني كنت أعرف أنها تنام في هذا الوقت فظننت أنني أتوهم..
-"لماذا لم تضئ ضوء غرفتك مادمت مستمراً في القراءة؟"
(استبدت الدهشة بـ"لاري" فأغلق كتابه وحاول النهوض..كلا لا تنهض، ماذا تقرأ؟ مهموماً يرد: كتاب، ولم يكن في ابتسامته مجهولة المغزى إساءة معينة ... وطوي الكتاب بحيث لم تتيسر لي رؤية عنوانه.)
-"اندمجت قليلاً في القراءة فلم أشعر بمرور الوقت."
(لعله يخشى ذاته، وقد يكون غير مؤمن بما يراه وبما يدور في خلده.)
-"هل أشعل لك المصباح؟"
(إنه يترك في نفسي دائماً هذا الانطباع، إنني أراه كمن يسير أثناء نومه أو كمن يواجه شيئاً لا يدري كنهه..)
-"لا داعي لذلك."
(ألا يمكن أن نقوم بما هو من شانه أن يعفيه من هذه الآلام؟)
-"حسناً ... كما تشاء."
وأغلقت أمي الباب خلفها، ليصر – مرة أخرى- كالأنين ...
توقّف اندفاع الهواء البارد على جانب وجهي، وغرقت الحجرة في دفء نسبي وصمت تام إلا من صوت عواء الريح بالخارج. قطرات المطر تنقر على زجاج النافذة بلا انقطاع ثم تتجمع في خطوط وتحتشد لتدخل الثقب في نهاية الشرخ، وتسيل على الإطار الخشبي الداخلي الذي اهترأ كذراع عجوز مصاب بالغنغرينا، ويسير خيط الماء قليلاً على الجدار ثم يموت قبل أن يصل إلى أرض الحجرة، وللحظة لاح في الحجرة ضوء طيفي وسمعت صوت خدش على النافذة، واعتصرت قبضة الخوف الباردة قلبي، وأحسست بالشعيرات في مؤخرة عنقي تنتصب كالإبر (وأنّى لي أن أعرف هذا؟ قد يكون أحياناً لأتفه الأشياء أعمق الأثر) لم أر ضوء البرق لكني سمعت رعداً يدوي كالانفجار، نظرت إلى الظلام الدامس بالخارج فسرت قشعريرة في كل جسدي، كيف توقعت أن أكمل القراءة في هذا الظلام؟ قمت من مكاني وثمة إصبع بارد من الرعب يعبث في حلقي، رعب أولي لا مبرر لذاته (هذا بالطبع إذا رأيت الريح والمطر وصوت الرعد دون ضوء البرق أسباباً غير كافية.)
قبل أن أقرر ما يجب عمله جاءني صوت الارتطام على النافذة. ثم الأنين..التفت إلى الباب بحركة حادة، فوجدته مغلقاً كما هو، وبحركة أخرى أكثر حدة التفت إلى النافذة. عبثت نسمة باردة ثلجية في وجهي وبللت عيني، والارتطام صار الآن احتكاكاً، كأن قزماً بالغ الضالة يحاول تحطيم النافذة بكتفه، العالم أسود بالخارج لا يمكن أن ترى في حدوده أي شيء لكن على ضوء مريض يأتي من نهاية الشارع، خيّل إلى وكأن الليل يحاول دفع نفسه دفعاً ليدخل حجرتي، حقاً هناك تكثيفاً غريباً من القتامة بصدد نافذتي، كأن طائر الرعب الأسود يحاول اقتحام الثقب الضيق بها!
شيء ثقيل للغاية تتماسك ضده نافذتي، لكن الوجود الكئيب كان يحشر رأسه في ثقب النافذة، الريح تعوي وتعوي وأنا أموت رعباً، أبلع ريقي المر وأتحسس فخذي، فأعرف أن هذا ليس حلماً.
* * *
ما الذي جعلني لا أضئ نور الحجرة؟
كنت أخشي أن تكون أوهامي صادقة، خفت أن يملأ الضوء الحجرة فأجد أمامي مخلوقاً مريعاً يفوق ما أراه في أبشع كوابيس، أو أن يكون خلفي، فأرى كفه الهائلة المشعرة تسد فمي بينما مخالب كفه الأخرى تنتزع أمعائي، خفت أن أجد نفسي في المرآة مسخاً أو ذئباً أو أن لا أجد صورتي في المرآة أو أن أرى وجهي الهلع، خفت أن أضع أصابعي على زر الإضاءة فتقبض على معصمي سلاميات هيكل عظمي...
خفت أن أضغط على زر الإضاءة فلا يخرج النور من المصباح...
عبرت سيارة الشارع، فغمر ضوء كشافاتها الحجرة للحظة، وكانت هذه فرصتي لكي أرى ما هنالك عند النافذة...
لا شيء..!
* * *
وساد الظلام الحجرة مرة أخرى في اللحظة التالية، وفي الوقت نفسه هدأت العاصفة نوعاً ما، ماذا إذاً؟ هل جننت؟ هل كانت هذه بعض الهلاوس المريضة؟ حسناً، من لا تنتابه مثل تلك الخواطر في جو كهذا؟ ولكني سمعت صوت الخدش على النافذة، وكانت حقيقة أنني )سمعت شيئاً)- أضعف قليلاً من حقيقة أني (لم أر شيئاً)، هذا الواقع الذي شجعني على أن اقترب من النافذة في وجل، وألمس الزجاج البارد بأنامل ترتجف، ... لا شيء هنالك، لا شيء على الإطلاق.
قررت أن أهدأ أنا الأخر قليلاً كما هدأت الريح بالخارج، وللعجب أنني لم أرغب في إضاءة الحجرة. هل لازلت خائفاً من أن أرى اللا شيء في حجرتي؟ لا أعرف، لكنني جلست على المقعد الصغير عند المكتب، كأنني زائر غريب على حجرتي، لمحت بطرف عيني "حد الموسي" فاختمر بداخلي الإحساس بالوحدة مع شعور غريب آخر لم ألفه من قبل، كأني في حلم، أسبح في الظلام، وارتجف في الضباب، وأنني سوف أمشي على السقف لأفق من هذا الكابوس فأجدني معلقاً في الفراغ، رعب من نوع جديد هو، رعب ينشأ من الإحساس بالعدم والتوقع الممض لحضور شخص ما بين ساعة وأخرى من النهار أو الليل، وبأنك سوف ترى أحدهم، فلا يحدث شيئاً على الإطلاق، للمرة الأولى اكتشف وحدتي التي كانت تحاضرني منذ البداية، جثم على أنفاسي فجأة الشعور بأنني لست على ما يرام وبأنني لن ألبث أن أقع مريضاً، شعرت بأنني أتضائل كثيراً في الحجم، وبأن كومة الروايات على المكتب تفقد شكل حدودها الخارجية وتمتزج في كتله واحدة صفراء تتماوج.
هذه الروايات سوف تقودك للجنون." هكذا قالت لي أمي يوماً، وسخريتي من هذه العبارة وقتها تصير خوفاً حقيقياً الآن. حاولت النهوض. وجهي يعتلي المرآة من تحت لأعلى، بدت عيناي في وجهي الممتقع وكأنهما على وشك ابتلاع وجهي الشاحب وجبهتي البارزة – شعرت كما لو أنني اسمع دقات قلبي في هذه اللحظة بالذات، شعرت بأنفاس تزداد ثقلا، وبدبيب أسود يمشي بحذر حزين في روحي كلها، أتحلل ببطء في أعماق الصفحات التي امتلأت بسواد الحروف حتى كاد يطغى على ظلام الحجرة، مزيج شنيع من النفور والتقزز والخوف، كأنني أسير على ...على حد الموسي!!
ظلام بلا عاصفة الآن..، ولكن الأمطار مستمرة تصطدم بزجاج النافذة وتتناثر عليها كما تتناثر خواطري من حولي لكن تنزلق لأسفل في خطوط لامعة، ولازلت قصة "موم" ملقاة على حافة الفراش كحيوان صغير ميت، لطالما اعتقدت أن مجموعة رواياتي هي كائنات حية لا يعرف الآخرون أنها كذلك، أنا فقط، أمنت دائما أن ما يحدث بين صفحاتها لا يزال حياً يمارس تأثيره على الموجودات من حولي، شعرت في هذه اللحظة بامتعاض لا حد له وبأنني أرتجف من الأعماق، وسرت بداخلي موجة حارة كأنها مغلّفة بالجليد دارت في الدنيا من حولي، وبأمطار مثلجة تسقط على أمعائي. استندت براحتي يدي على المكتب، تقلصت أصابعي قابضة بينها على الأوراق المهترئة لكومة الروايات، غثيان لا حد له. سوف اقذف ما بجوفي في اللحظة التالي و...، وهنا حدث أعجب ما يمكن أن يحدث..جاء القيء من الخارج بدلاً من أن يأتي من الداخل، هذا مستحيل الوصف!!
احتشد الظلام في الخارج في قوة طاغية لا تقاوم، وانفجر في هيئة كيان هائل لا يمكن تحديد ملامحه، اتخذ شكل قذيفة سوداء عنيفة اندفعت من ثقب النافذة واخترقت صدري، أو بالأحرى اخترقت جسدي بالكامل وأطاحت به، وجدتني في لحظة أصارع طاقة جهنمية لا قبل لي بها، وفي لحظات كالدهر مضت غرق الكون كله في تلك القوة الغامضة المظلمة، وكان أن سقطت مرتطماً بساق المكتب فصار الظلام وكل شيء آخر دقائق سوداء متماوجة...ثم غبت عن الوجود تماماً.
كنت أغرق..
أغوص في ماء أسود راكد ملأ الحجرة حتى نصفها، والظلام – لا أراه – يتدفق من ثقب النافذة، يطير في فراغ الحجرة كقطن خفيف داكن اللون، ثم أنه ينفصل عن بعضه كحشرات سوداء لامعة تزحف حيث رقدت على أرض الحجرة بلا حراك..
(إنها العقيدة القائمة على الرأي بأنه لا بداية لهذا الكون ولا نهاية، بل يمر منذ الأزل بمراحل نمو من التوازن إلى الانهيار، ومن بعد الانهيار إلى التحلل، أطوار بدأت من قديم الأزل إلى الأبدية والخلود..)
لم أشعر بصلابة الأرضية ولا بقسوتها على عظامي لأنني كنت أذوب في قلب الليل النابض الملوث بدماء الرعب السوداء، خواطر قديمة وحديثة تتنازع عليّ فيما بينها ...
(ثم امتدت الأطياف التي لم أستطع أن أتبين شيئاً عن حقيقة أمرها، لشدة بعدها عني، وبعد قليل، أخذت هذه الأطياف في الاختفاء وتحوّلت من دائرة الضوء إلى دائرة الظلام التي ابتلعتها، وقد يقال بأنني قد غفوت، وأنا هذه الأطياف لم تكون سوي مجموعة من الصور التي استقرت في أعماق وجداني غير الواعي، وقد تكون هذه الأطياف هي صور متلاحقة من ماضي حياتي تقمصتها روحي على مر الأجيال ..)
هل جننت؟، كلا، هذا كابوس ... بالتأكيد كابوس.
* * *
كم مر علىّ من الوقت وأنا على هذا النحو؟ لا أدري.
كنت أفق من الكابوس، لكني لازلت تحت وطأة الصداع المؤلم الذي بدأ هو الآخر في الذوبان ببطء، كمن يشق طريقة إلى عالم النور بين جذوع أشجار عملاقة في غابة سوداء كثيفة ماضياً نحو فتحة من الضوء لا يمكن إلا أن أصل إليها..
رفعت رأسي لأعلى، ببطء وكأن هواء الحجرة يهمس في أذني عبارات مبهمة على عجل لا أفقه منها شيئاً، حاولت الوقوف معتمداً على يدي وركبتي، حمداً لله، كان كل هذا مجرد حلم رديء...
ها هي تفاصيل حجرتي الصغيرة، الفراش والمكتب ومجموعة الروايات، وها هي الليلة الممطرة قد انتهت، وملأ ضوء النهار الدنيا، ومن ثقب النافذة اخترق الحجرة عامود من نور الشمس، عامود مائل امتد من النافذة وغمر الروايات التي ابتل بعضها من ماء المطر الذي تسلل من ثقب النافذة، وجزء من المكتب، حتى سقط أخيراً على الفراش فوق حد الموسي تحديداً ... وبينما كانت آخر سفن الظلام تغادر رأسي، وجدتني أستند إلى مكتبي في ما يشبه الإعياء، لكني كنت راضياً، لانتهاء الليلة السابقة على الأقل، ولغير ما سبب واضح رحت أتتبع رحلة عامود النور في اتجاه عكسي...
من القصة على الفراش إلى المكتب إلى منبعه عند النافذة، وهناك...
هناك على حواف ثقب النافذة حلقة من اللون الأحمر القاتم، تتجمع حوله ثم تسيل في خيط سميك لزج لأسفل ليلمس حافة المكتب، خيطاً ثقيلاً من الدماء...
دماء تنزف.. من ثقب النافذة.