ودعت الحياة الثقافية المغربية واحدا من أعلام الفن والتمثيل والكتابة في المغرب، وتعددت المقالات التأبينية التي تناولت مختلف جوانب حياته وشغفه بالمسرح وجهده فيه، ولكن فاتها التريث عند دور الراحل في المجال السينمائي، وهو ما يخصص له الكاتب المغربي هذه المقالة التي تكشف عن تجربة هذا الرائد الكبير والتي تجاوز عمرها نصف قرن من زمن السينما المغربيّة.

البُعد السينمائي في التجربة الإبداعية للراحل أحمد الطيب العلج

أحمد سيجلماسي

فقدت الساحة الفنية المغربية والعربية وجها بارزا من وجوهها الإبداعية الرائدة في مجالات المسرح الشعبي، تأليفا واقتباسا وتشخيصا وإخراجا، وفي مجالات القول الجميل والبليغ، شعرا وزجلا وكلمات أغاني وحوارات وأمثال وغير ذلك .. يتعلق الأمر بالرائد أحمد الطيب العلج، المتوفى بالرباط يوم فاتح دجنبر/ ديسمبر 2012، والمدفون يوم ثاني دجنبر بفاس التي ازداد/ ولد بها بتاريخ 9 شتنبر/ سبتمبر 1928. ونظرا لعلو كعب الراحل في المجالات المذكورة سابقا فقد واكبت حدث وفاته كتابات صحافية وشهادات مبدعين ونقاد فنيين وغيرهم ذكرت ونوهت بأعماله المسرحية الرائدة ك”المعلم عزوز” و”ولي الله”، على سبيل المثال لا الحصر، وبالعديد من الأغاني التي كتب كلماتها ولحنها أساتذة كبار كالراحل عبد القادر الراشدي وغيره، وتغنت بها أصوات أشهر المطربين والمطربات كعبد الوهاب الدكالي وعبد الهادي بلخياط ونعيمة سميح ومحمد الحياني وغيرهم كثير، وأصبحت تشكل علامات بارزة في الريبرتوار الغنائي المغربي كـ ”علاش يا غزالي و ما أنا الا بش” نموذجين..

ولاحظت أن البعد السينمائي في تجربة هذا الرائد الكبير لم تسلط عليه أضواء كافية، الشيء الذي جعلني أرجع الى بعض أوراقي القديمة خصوصا إلى الحلقات الثلاث من برنامج “المغرب السينمائي” الذي استضفتُه فيها أيام 15 و22 و 29 فبراير 2000، وهو البرنامج الذي كنت أعده وأقدمه من إذاعة فاس الجهوية قبل سنة 2004، وحاولت كذلك أن أسترجع بعض ذكرياتي مع الراحل العلج، الذي استضافني ببيته بالرباط عندما كنا معا عضوين في لجنة صندوق دعم الإنتاج السينمائي الوطني أيام الوزير الشاعر محمد الأشعري، وببيته بفاس حيث تحدثنا طويلا عن تاريخه السينمائي ونظرته لواقع السينما بالمغرب. ويمكن القول إجمالا إن تجربة أحمد الطيب العلج السينمائية يتجاوز عمرها نصف قرن من الزمان، فقد انطلق تعامله مع السينما تشخيصا أو كتابة للحوار بالعامية المغربية، أو هما معا قبيل استقلال المغرب، وبالضبط سنة 1954 في أفلام الفرنسي جان فليشي القصيرة التي صورت في استوديوهات السويسي بالرباط، وكانت عبارة عن سكيتشات ذات أبعاد تربوية من انتاج المركز السينمائي المغربي. ومن بين هذه الأفلام، التي عرضت بنجاح شعبي منقطع النظير في قاعات السينما البالغ عددها 250 قاعة آنذاك أو في الساحات العمومية عبر القوافل السينمائية، نذكر فيلم ”البير” بالفرنسية أو ”اللي حفر شي حفرة تايطيح فيها” بالعربية الدارجة، الذي شخص أدواره الرئيسية أحمد الطيب العلج وخديجة جمال والعربي الدغمي والطيب الصديقي.

وبعد ذلك جاء الفيلمان الطويلان التاليان: فيلم ”طبيب رغم أنفه، المقتبس عن موليير، من إخراج الفرنسي هنري جاك سنة 1955، وهو إنتاج مغربي فرنسي مصري مشترك صور بحدائق لوداية واستوديوهات السويسي بالرباط، وشارك فيه ثلة من الممثلين المصريين والمغاربة أمثال كمال الشناوي والعربي الدغمي والبشير العلج وعبد الله شقرون وحمادي عمور وحميدو بنمسعود وغيرهم، كما شارك في وضع موسيقاه التصويرية عبد القادر الراشدي ، وفيلم ”ابراهيم“، من بطولة حسن الصقلي واخراج جان فليشي سنة 1957، الذي كتب حواره بالدارجة المغربية كل من أحمد الطيب العلج وابراهيم السايح.

لقد شكلت فترة 1954 ـ 1957 لحظة تأسيسية في تاريخ التشخيص السينمائي بالمغرب ، إذ لأول مرة سيقف أمام كاميرا السينما ممثلون محترفون مغاربة من عيار الطيب الصديقي والعربي الدغمي ومحمد سعيد عفيفي وأحمد الطيب العلج وحسن الصقلي وحميدو بنمسعود وخديجة جمال وغيرهم، جلهم استفادوا من تداريب المعمورة المسرحية قبيل استقلال المغرب، وكان لهم حضورهم الملحوظ آنذاك على خشبات المسارح داخل الوطن وخارجه. وتعتبر مشاركتهم في هذه الأفلام بمثابة الانطلاقة الأولى لهم التي ستتلوها مشاركات أخرى لاحقا في أفلام مغربية وأجنبية عديدة.

ومن الأفلام الروائية الطويلة الأخرى التي شارك فيها أحمد الطيب العلج كممثل نشير الى فيلمي عبد الله المصباحي ”الصمت اتجاه ممنوع” سنة 1973، إلى جانب عبد الهادي بلخياط ومحمد الخلفي وعبد القادر البدوي والعربي الدغمي وعائشة ساجد وغيرهم، و”غدا لن تتبدل الأرض” سنة 1975، إلى جانب حبيبة المذكوري وبديعة ريان ويحيى شاهين وعزيز موهوب وأمينة رشيد وإحسان صادق وآخرين، وفيلم عبد الله الزروالي ”أنا الفنان” ، الذي صور سنة 1978 ولم يعرض لأول مرة في المهرجان السينمائي الوطني إلا بعد استكماله سنة 1995. وقد شخص أدواره الى جانب العلج كل من العربي الدغمي والشعيبية العذراوي وحبيبة المذكوري وزهور المعمري ومصطفى الزعري ومصطفى الدسوكين وغيرهم ، وفيلم ”صلاة الغائب” لحميد بناني سنة 1995 رفقة الممثلين حميد باسكيط والسعدية أزكون وعبد الكبير الركاكنة والطيب الصديقي وآخرين ، وأفلام محمد عبد الرحمان التازي التالية : ”البحث عن زوج امرأتي” سنة 1993 و ”للا حبي” سنة 1996 و “جارات أبي موسى” سنة 2003 .

والملاحظ أن حضور العلج في أفلام التازي الثلاثة كان حضورا مزدوجا : حضور الممثل في أدوار رئيسية وحضور كاتب الحوار بلغة جميلة وسطى بين العربية الفصحى والعربية الدارجة. ولعل عنصر الحوار المحبوك الذي وضعه العلج لفيلم ”البحث عن زوج امرأتي” بشكل خاص الى جانب عناصر السيناريو بمسحته الكوميدية، الموقع من طرف فريدة بنليزيد، والتشخيص التلقائي للبشير سكيرج وأمينة رشيد ونعيمة المشرقي ومنى فتو والطيب العلج وغيرهم والموسيقى التصويرية التي وضعها الموسيقار عبد الوهاب الدكالي والملابس والديكور وفضاءات فاس الأصيلة والجميلة وغير ذلك من الجوانب الفنية والتقنية هي التي ساهمت في النجاح الجماهيري الكبير لهذا الفيلم في مختلف قاعات السينما بالمغرب . وهو نجاح حقق مصالحة بين الفيلم المغربي وجمهوره المحلي وأغرى مخرجه بانجاز فيلم ثاني بعنوان ”للا حبي” كنوع من الاستثمار لنجاح الفيلم الأول، مدشنا بذلك لظاهرة الأفلام المتسلسلة التي ستترسخ مع حكيم نوري وابنيه سهيل وعماد في أفلام ”فيها الملحة والسكار" .

ومع كامل الأسف لم تستفد تجربتنا السينمائية الفتية من قدرات أحمد الطيب العلج الهائلة في مجال كتابة الحوار السينمائي؛ وذلك لأن جل السينمائيين المغاربة كانوا ولازال الكثير منهم يعملون خارج اطار احترام مبدأ الاختصاص من خلال مراكمتهم للعديد من التخصصات، فمنهم من يكتب السيناريو والحوار ويشخص ويصور ويركب وينتج ويخرج في آن واحد. وهذا أمر غير معمول به في الدول التي تمتلك فعلا صناعة سينمائية حقيقية. لقد كان الراحل العلج يعيب على كثير من أفلامنا ضحالة وضعف حواراتها وعدم انسجامها مع أجواء وشخصيات الوقائع والقضايا التي تتناولها بالصوت والصورة. ومن الطرائف التي حكاها لي، رحمه الله، أن أحد المخرجين اتصل به من أجل كتابة حوار لفيلمه قبل تصويره كلية بفضاءات فاس التقليدية الأصيلة، فطلب العلج مقابلا ماديا محترما، الشيء الذي جعل هذا المخرج يقبل في البداية، لكنه بعد استشارة زوجته ومحيطه عدل عن فكرة التعامل مع العلج توفيرا لهذا المقابل المادي، وكانت النتيجة أن الفيلم عندما عرض كان بمثابة جسم بلا روح.