«أعرفُ أنَّ للحريةِ ثمنا ً باهضا ًكثمنِ العبودية» (باولوكويلهو، الظاهر27)
«الواقع إني جنيتُ على نفسي، إذا كانَ الذهابُ لنيلِ الحريةِ جناية» (إبراهيم الكوني، جراحة الواجب!!)
نحنُ أمامَ روائي من طراز رفيع!! أعمالهُ شغلتْ النقاد الكبّار، والمهتمين بالأدب، وكيمياء الفنّ الروائي خاصةً، قضيتهُ الكبرى التي تدورُ عليها مجملُ أعمالهِ هي "الحرية"، مقرونة بجمال وإتقان الواجب، لأنّ المبدع "حرية مجسدة" بتعبير سارتر، وأنّ «التضحية بالسّعادة في سبيل الواجب ذروة السّعادة» كما يقول الكوني في "جراحة الواجب". ورواية (فرسان الأحلام القتيلة)* رواية تسجيلية بامتياز!! اتكأت على كيمياء خيال مصهور بالواقع، وحلم ٍ صارَ واقعاً، مفرداتها المتتابعة، وجملها الساخنة، وأحداثها المتلاحقة، وسرعة حركة أبطالها، واضطرابهم، ونزيف راويها دون توقّف، يقرّبها من هذا النوع من الرواية، ومن مايسمّيه ميلان كونديرا "المقالة الروائية" أو "الرواية – المقال" أيضاً وهذا لايقلّل من أهميتها ًلأنّ: «شكل الرواية هو حرية شبه غير محدودة" حسب تعبير كونديرا أيضاً في كتابه القيّم (فن الرواية، ص85). ومن دون شك بأنّها ترجمة لواقع معيش، نزيف كلمات حاد، واحتراق قريحة مضنٍ، ولغة جسدٍ ظاميء جريح، مصهور بآلام الواقع، وعواصف مفارقاته، ومفاجآته في الآن!! والرواية جنون أصابع ضروري، ونشيد خلودٍ صاخب، وضعت مفرداته، وصاغت جمله وإيقاعاته غربة الروح، هجرانها المزمن، والشوق السجين إلى الحرية، بل حرية الحرية: و"معاندة الحصار في شقوق الجدران حرية، ويالها من حرية» (ص13).
(فرسان الأحلام القتيلة) – الرواية الموقف والمشهد!!
شهادة على واقع حتّى الفرح فيه جارح!! ومشهد عالي النغمة، صاخب التراكيب، مستفِز في أخيلته، وجمله منحوتة بمثابرة ومهارة كاتب وروائي محنّك وخبير، طالما أخذنا في رحلات مخملية من خلال أعماله المثيرة طوال مسيرته الإبداعيّة الطويلة. إنّهُ الواقع الذي أخذ شكل الزنزانة في قسوته ومرارته، ومفارقاته العجيبة، ولكنْ على أجنحةِ حُلم ٍ مُقلِق ٍ، لأنّ «إمكانية تحقيق حلمٍ ما، هوَ بالضبط ما يجعلُ الحياة ممتعة» (باولو كويلهو، الخيميائي، ص23). والواقع المرير هذا بصفتهِ بطلاً في الرواية، بكلّ لغاتهِ الخبيثة والبريئة والفاتنة، ولا يجيد الإصغاء لها، وترجمتها إلاّ الراوي الصّادق "فأر الكتب" الذي رفض بوعي أنْ تسندَ إليه مهنة، ومهمّة الصحفي أو المراسل الحربي، وأصابعه تكتوي بنيران حرب لاتعرفُ نهايتها، ولينقذ عمله من أن يُوصف بأنّه تسجيلي وتقريري رتيب، كما أطلق على روايات الحرب العديدة التي امتلأت بها ثقافتنا العربية، وهي تعالج هزائمنا في حروبنا مع إسرائيل، والروايات المصرية بوجه خاص، وهي تؤرّخ لحربي حزيران وأكتوبر، وفضّل أن يظهر بمظهر المقاتل في هذهِ الحرب: «بالأمس كنتُ فأر كتب، واليوم أنا فأر جدران» (ص13). ويدٌ على القلب، واليدُ الأخرى على الزناد، حيث تفرغُ أوراق الذاكرة كلّ شحنتها وخزينها المعرفي من كلّ ماقرأ وقرضَ من كتبٍ، متخذاً من عمارة "الضمان" مركز الحدث، وغرفة عمليات الحرب الدائرة بينَ الأشقاء، الثوار الأحرار، وحرّاس "الأيقونة الخضراء" الذين ولدوا من رحمها، يتغذون على عذابات وفاكهة صبر أخوتهم الثائرين من أجل الحرية والحياة الأفضل: «ومدى أسلحة هؤلاء الأوباش خرافية، إنها تطالُ أبعد نقطة في شوارع المدينة، إنها تصطادُ من موقع البنيان هرّة تنبش كوم قمامة في نهايات شارع الحاضرة، إنها ملة جنونية، لاوجود لها إلاّ في أفلام السينما، هؤلاء القناصة»(ص14).
وجدَ البطل – الراوي نفسه يرصدُ، وهو قناصٌ أيضاً، ولكن بعتاد ذاكرة تقاوم النسيان، ويسجّل كلّ مايدور في قطب الحدث – عمارة الضمان وما جاورها، تارةً بحبر القلب، ورماد الجسد، وعطر الحلم، وتارةً أخرى بصوت الرصاص القريب والبعيد الذي يسمعه، ودخان الحرائق، وغبار الأبنية التي تدمّر، الذي يزكم الأنوف، ويسرق كلّ حرارة وعزيمة في مفاصل الجسد وقماش الروح: «فلم يجدِ الأهالي مفرّاً من الاستعانة بالحبال لجرّ الجرحى إلى الأبنية الخلفية، ولكن الحبال لمْ تكنْ لتنقذ إلاّ القلة»(ص15). فماذا يفعل الراوي الذي وجدَ نفسه، مضطراً أن يكون مقاتلاً، ولكن بمسدس وطلقةٍ واحدة، يدخرها للدفاع عن النفس على أقل تقدير، ولأبسط مهمّة قتالية، للبقاء على قيد الحياة "ليروى"، وعند التعرض للخطر، وهو يملأ المكان والزمان، كي يعيش بما بقيَ لهُ من دمع ونبض ورعشة، كي يروي ما سيشل لسان وأصابع الرواة، ويربك حروف التاريخ، وعليه أن يحاربَ بنظرة العين، ورجفة القلب، ونحول الجسد، وأن يقضي بدواء الصبر على فيروس النسيان الذي يهدّد ذاكرة مدربة على حنان الكتب، وأوركسترا الأفكار، فالذاكرة في هذه الحالة، هي القلم والحبر والورق، وجهاز الكمبيوتر – كهرباء الجسد المثخن بجراح السنين، وآلام حاضر مطرّز بألوان أحداث فوق التصور: "زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الدور أثقالها، لتعمّ القيامة، اختفى من المكان شبح، ليحجب الأفق جيشٌ من الشباح" (ص17).
(فرسانُ الأحلام القتيلة) – رواية الحُلم/ الواقع، والواقع/ الحُلم!! ولا بديل في حيرة الروح، وقلق الوجود عن الأحلام – منطاد النجاة في عالم مصنع كوابيس، و"للأحلام أهمية قصوى في عملية الخلق والإبداع الفني" – بودلير. وإذا أصبحت الأحلام لغة الواقع، فلا طموح يتثاءب، ولا أمل يتكاسل، وتصبح للوعي أكثر من لغة وأبجدية، لترفع راية السعي والمقاومة والإصرار على تحقيق أمل، بهوية الصباح وخطاه الأكثر دفئاً وغناءً وصخباً: "ولكن يوم اندلاع نار الحريق، كان يوم سقوط بعبع الكراهة، فهل أحبَّ الناسُ بعضهم بعضاً لأنهم لم يكتشفوا بعضهم بعضاً إلاّ يوم قدح الزند بسقط الحريق" (ص21). إنها فسيفساء واقع قاهر، مجسّدة بألوان ومشاهد تثقلُ وتنهكُ عصب العين، وتربكُ ضربات القلب .. مشهد الغضب في أغرب أشكاله، والثورة في أشرس صورها، ناقوس الخطر في المدن المتعبة بحمى الانتظار، المهيأة للاشتعال والحريق، بلْ هي سورة الحريق التي ترتلها هذه المدن مجتمعة في صلاة واجبة على قِبلة الثورة، حينَ تكون في قبضة العسكر، وملء عين قنّاص مخادع غادر: «فإنّ الحرب هي مقياس الإنسان، لا قيمة لإنسانٍ لمْ يحارب، ولنْ يفهم الأشياءَ مَنْ لمْ يحارب، فإنْ لمْ نمتْ في تلك المغارة، فأننا نعود أناساً آخرين بعدَ التحديق في عيون الموت»(ص 30).
مشهدُ الناس الآمنين المشدودين بحنان إلى تربة مدنهم التي تصحّرت لطول لياليها العسيرة، ويعرفون أنّ دماءهم، ورماد أجسادهم هو الذي يغذي أشجار حياتهم القادمة، الحالمة بصباح ممطرٍ جديد!! مشهدُ الأشباح – الأبالسة المعسكرين فوق بناية "الضمان" مّنْ هم؟ ولماذا يحرقون، بكل حقدٍ، الأخضر واليابس، ولا يفرقون في قنصهم بينَ شخص وآخر بينَ مَنْ يتسلح بالأمل ويُصلّي للحريةِ، وآخر يسجن عصافير الأمل، ويسخر من مواكب الحرية في شوارع تلك المدن الظامئة إليها، إلى الانعتاق النهائي: «وعندما تنفجر الحرية في روح إنسانٍ، فإنّ الآلهة لا تستطيع شيئاً ضدّ هذا الإنسان» (سارتر بقلمه ص27). هي الحرية التي تحول الموت إلى ولادةٍ أكثر صخباً: «إنّ الأبطال همُ مَنْ ينام تحتَ شواهد القبور، ولا وجود لأبطال على قيد الحياة» (ص31) و«أولئك الذينَ يحررون الأوطان همُ روح الأوطان» (كما يقول الكوني في "جراحة الواجب"!!..) وبينَ الرصاص الطائش الذي ينطلق من فوق بناية "الضمان"، ورصاص الشرطي الساذج الذي وجدَ نفسه في أحضان موتٍ محتّم، ورصاص الشرطي الأكبر – النظام هناك شلال أسئلة كثيرة، وإعصار علامات استفهام حائرة، تظل الإجابة عنها أكثر حيرةً .. وألماً .. ودماً .. ودمعاً!: «فكيف لا يختار الموت (الولادة) ذلك الجيل الذي عاشَ في وطنٍ هو سجن وليسَ وطناً، ولمْ يكتفِ سدنة الأيقونة بتحويل الوطن سجناً، وأهل الوطن سجناء في وطنهم، ولكن احتالوا ليقيموا لهم سجناً يصاحبهم أينما حلّوا (ص32). ويداوي داء الأسئلة المزمن، عسيرة الإجابة، الصّبر الأسطوري لجيل بهوية الضياع واليأس والشك في كلّ شيء، وفقد الإيمان بكل شيء، وكأنه يستقبل الحياة بقلب ناحل، لانبض ولا دم، وعيون بلا ضوء، فشطب من دفتر حياته تماماً السكينة، واختار الصّلاة –دون وضوء- لإله السخط والغضب، وهو يرتّل آيات التمرّد والثورة، حين يصبح الجوع جلاده الأشدّ قسوة: "الجوع هوَ جلاد الجسد الوحيد» (ص33). وعلى فراش الصبر الذي لايبدو حريرا ً، تولدُ في ليالي الوطن الأكثر حلكةً، أسئلة عمياء.. فالحياة الديكورية الزخرفية التي عاشها الوطن صناعة مَن؟ أهي صناعة الناس أم النظام أم الاثنين معاً؟ وتسيّد الكذب والزيف وليلهما، وسخريتهما من نهارات الأصالة والصدق مهمّة مَنْ؟ وهذهِ الصور الحياتية اليومية، وكرنفالات الابتهاج المفتعلة المبالغ فيها من صنع مَنْ؟ النظام المتوّج بهتافات التأييد الكاذبة، ووثائق العهد المكتوبة بحبر الزيف والخوف أمْ الناس الذين استعذبوا نبيذ خداع أنفسهم وزمنهم؟ "فأنا من جيل لمْ يعد يُؤمن بشيء، جيل وُلِدَ ميتاً لأنهُ فتح عينيه على دنيا ميتة.. دنا جرداء برغم أنّها تتغنى أناء الليل وأطراف النّهار، بفردوس ذي لونٍ أخضر، وطالما زادَ اليقين بالمستقبل الأخضر، زادت الأرض تصحراً، والحياة في البلاد شحّاً وشحوباً، ليت الشح اقتصرَ على الأرض وحدها، ولكنهُ تسلل ليصيرَ بصمة مطبوعة في النفوس (ص18).
الأيقونة الخضراء هي بيت القصيد!! حكمت بغبار الوقت وذهبه معاً، قرابة شمسين، وهي تهيأ الناس إلى تقبّل حياة زخرفية، يعيشون لحظاتها، أحياناً بالصّبر، وأحياناً ببهرجة فاضحة محزنة، وبدلاً من أن تضيف للتاريخ الإنساني شيئاً – فعلاً يمكن الإصغاء إلى عواصفه، وهو يحرّك الدماء المعطلة في مفاصل الزمن العربي، أربكت حروفه ببلاغة أفعال خاوية، جعلت عجلته تدور في حلقات مفرغة، غير آبهة بنيران مدافع المستقبل – القريب، وهموم الإنسان الذي استظل بها، وهو يرجو أملاً نحيلاً : «التاريخ أيضاً رجمتهُ الأيقونة الخضراء بحجر، هلْ رجمتهُ بحجر؟ كلا!! الواقع أنّ التاريخ رجمتهُ الأيقونة الخضراء بألف حجر.. بألف ألف حجر» (ص22). وحينَ تصبح الحياة خانقةً .. مّملة ً، ويعيش الإنسان غياباً، بلْ تغييب قسريّ، يصبح الفراغ المفروض داءً صعب الشفاء منه، وليسَ أمام بطل إبراهيم الكوني – الراوي أمام جيوش البلادة الزاحفة في ليالي الأيقونة الخضراء إلاّ السخرية، ولكن بمرارة، كأداة مقاومة لكسر شوكة زمن خؤون، على طريقة هنري ميللر المتمرد الذي يرى في السخرية والتعرية والفضيحة أبلغ طريقة لمقاومة حياة ميتة، والردّ على خيانة الواقع والانتصار عليه، ولم تبخل أصابع وقريحة الروائي الكبير إبراهيم الكوني في هذا أبداً. «لقدْ استجرتُ بالكتب في تنفيذ بنود هذا العهد، ولكن انتعاش التاريخ سمّمَ ذاكرتي، بلْ غربتي عن دنيا الناس حولي، لدرجة أبحتُ فيها مرة ًلنفسي بالسّخرية من سفاسف المنهج الدراسي علناً» (ص23). و«يجب التسليم بكلّ امرٍ مستهجن في عهد الأيقونة الخضراء، وقدْ تعلمت خلال الأعوام التي قُدّرَ لي أنْ أحيا في ظلها أنْ أقبلَ كلّ ما يحدث بروح ِ السخريّة (ص25). وما يبدو من سلوك للرواي هو الرفض.. رفض ممغنط بنوبات سخرية، لديه حرص بروميثيوسي لنْ يفعلَ شيئاً، ولمْ يستطع، وظل حالة تمرّد على ماهو واقع ومعيش من ثقافة مُترهلة.. هزيلة.. مفروضة وبلا أبجدية: "ويبدو أنّ الثقة في دنيا تغيب فيها الثقة لعنة ٌ أخرى.. رذيلة أخرى» (ص27). وبينَ الحلم ِ العسير والواقع الخانق، تتداخلُ الأزمنة، فيدخل الماضي ليعبث ويُغير في سطور الحاضر، ويضبّب المستقبل، فما كانَ يطلقهُ الراوي في الماضي على نفسهِ من أنهُ "فأر كتب" صارَ في الحاضر- الواقع حقيقةً، حين وُصِفَ المتمردونَ على الأيقونة الخضراء بأنهم "فئران": «لاشك بأنهٌ اعتراف سوف يروق لصاحب الأيقونة، وهو الذي نعتنا بلقب من الفصيلة نفسها في الأيام الأولى لاندلاع الحريق» (ص29).
"لا قيمة لإنسان ٍ لمْ يحاربْ" (الرواية، ص30..!!)
فالإنسان مقياس كلّ شيء، كما يعبر كبير الفلاسفة السفسطائيين - بروتاجوراس وهو بحدس الروائي بينَ الحياة والموت، فالحياة كرقم ٍ مهمل ٍ بينَ الجموع لا قيمة لها، والموت لجني ثمار هذهِ المغامرة – الحرية، حياة وولادة مموسقة باحتفاءٍ كوني: «نعرف عمّا إذا كنا أهلاً لأنْ نحيا أمْ أهلاً لنْ نموت.. نعرفُ عمّا إذا كنا بالبقاء أجدر أمْ أنّنا نفاية بالمكب أحقّ، الموت لا يقبل في حرمهِ النفايات، ولكنهُ يختار الأخيار، يختارُ العظماء» (ص30). وحينَ يصبحُ الوطنُ سجناً، وتلغى كلّ ذاكرة صباحية للحدائق، ويهملُ كرستال أضواء الشوارع، وإيقاع تواريخ الأجداد، وصدى أحلام مَنْ يولدون، فلا شيء يقوّضُ جدرران هذا السجن، وهي هالكة، ويذيب أصفاده، وأبوابه الصدئة إلاّ مواجهة الموت – الليل الطويل، والانتصار عليه، ومَن امتلك هذهِ الجرأة والشجاعة، غير الجيل الذي ظننا أنّهُ وُلِدَ ميتاً بل كان "شهادة على موت جيلنا نحن": «فكيف لا يختار الموت ذلك الجيل الذي عاش في وطن هو سجن، وليسَ وطناً، ولم يكتفِ سدنة الأيقونة بتحويل الوطن سجناً، وأهل الوطن سجناء في وطنهم، ولكن احتالوا ليقيموا لهم سجناً يصاحبهم أينما حلّوا» (ص32). صورة فاجعة جنائزية لأناس في حالة غياب مزمن، موت معنوي، مستهجن بقدسية الروح، وورود الأحلام والأماني، وموت مادي حينَ يختارهُ الراوي بإرادتهِ، وبكامل وعيه، انتحاراً أفضل وأقلّ بشاعة من أن يقعَ بينَ يدي الخصم ذليلاً مهاناً، وبينَ ما تقولهُ "ذات الرمال"– الأرض، وما يسكب في حبر الرواية، وينغم بقريحة الراوي سرّ وطن .. بلْ وسيرة وطن جريح، وإنسان أعمق جرحاً: «لأنّنا آمنا منذ الأيام الأولى بانّ الموت أهون كثيراً إذا قورنَ بالوقوع في أسر هؤلاء الهمج» (ص32). فالتاريخ المكتوب بالدم والدمع ورماد الجسد شيء، وما يكتبهُ الحكام والسلاطين بصدأ كراسيهم، وقبح ظلالهم، وأحلامهم ألإسفلتية شيء آخر .. ما تكتبهُ الأمّم مقهورة .. مجبرة ليسَ تاريخاً، أكذوبة نهارية فاضحة صريحة، تنتهي بلاغتها الخاوية، ومفرداتها المترهلة، وزخارفها بنهاية الحاكم المستبد.. وما يكتبه الحكام بسياط الظلم والجبروت ليسَ تاريخاً، والوطن الذي يولدُ من رحم الصباح ليسَ للحاكم، ولا لنظامه، والقول أنهما يتماهيان أكذوبة تاريخية عظمى، ولعنة زمنٍ خؤون "نسمّيها: تماهي النظام بالوطن طمفهوم" (ص90).
"الفنّ هوَ الحدس، وكلّ حدس لابدّ أن يكون تعبيراً، ولايمكن فصل التعبير عن الحدس، لأنّ لكلّ منهما نفس طبيعة الآخر" (كروتشة، المجمل في الفلسفة والفن، ص38).
في (فرسان الأحلام القتيلة) يجتمعُ التعبير والحدس في نهاية مزرية.. حزينة.. مبكية لوطن ٍ وُلِدَ في ظل شجرة الأجداد الجهادية العريقة، وكانَ ينبغي أن يكون ويعيش أبداً في ولادة صاخبة، وتجدّد دائم، وسعادة حقيقة بلا قماش بهرجة زائفة،.. الذكريات بكيميائها تنقذ وجه الوطن أنْ يظل بملامح تنبيء بالآتي الآمن البهيج، والكتب في سحرها أنقذت البطل – الرواي من الموت بحسرة وطن ٍ يُسرق ويُغيّب، ومواطنين في حياة تشكو من الحياة: «لالحضور في السلم نحنُ أناس من لحم ودم وروح، بالحضور في الحرب نحن لسنا أناساً، نكفّ أنْ نكونَ أناساً من لحم ودم ولغز اسمه روح، لنقلب ظهر المجن لأنّنا لمْ نكسب حرباً إنْ نعتنق قانون الغاب الذي نتشدق بهِ دوماً استعارة» (ص54).
الثورة مابعدَ اللغة، وبعد الفعل، هي خيالُ – الواقع، وواقع – الخيال، جمر الصّبر وقدْ صارً بركاناً، هدوء الساقية وقد أضحت سيولاً،.. حدث المعقول واللامعقول، المستحيل واللا مستحيل، وهي الربيع، ولكنْ على جناحي صقرٍ، الربيعُ الذي ليسَ بعده خريف حزين، كانَ مثقلاً بتعاليم شتاءاتنا القارسة، مُفاجئاً لمدن أراواحنا الحزينة، بدفئهِ.. وخضرته.. وعصافيره.. وأغانيه.. وموكب انطلاقته.. وطبول حريته – الحلم المقرون بيقظةٍ عسيرة: "حرية أنْ أتنفس بهدوء، وأملأ رئتيّ بالهواء بعمق، لأنَّ هذا هو كلّ ماأحتاجه لأحلم، وأنْ أحلمَ يعني أنْ أحيا" (ص61). و"إنّهُ لقاء الحرية التي لا أمل من أنْ أردّد أنّها القيمة الوحيدة التي تجعل من الموت ميلادً" (ص81).
"عندما صنع (زيّو) من جسدهِ صليباً دمّرَ بهِ ثكنة المعسكر ليُحوّل نفسَهُ القربان الذي فتح الطريق للأمّة العزلاء كيْ تستولي على أداة الدفاع عن النفس، لمْ نعُدْ نحتملْ.. انتفضنا دونَ أنْ ندري" (الرواية، ص102).
صوتُ (بنغازي) الثائرة، وأنهار صبرها الأسطوريّ التي فاضت بتوقيت ساعة الخلاص والحرية، وكسّرت كلّ السدود، ولبّت نداء كلّ نبتة مهدّدة باليباس،.. وهاجس أهلها المتوجين بالأمل كلّ هذهِ السنين، هو( زيّو) بطل حاضرة الشرق الذي لمْ يكن امتداداً للثائر (محمد البوعزيزي) الذي اشتعل جسدهُ النحيل بنيران الفقر، قبل أنْ يشتعل ثورة تنهي تاريخاً طويلاً من الإذلال والمهانة، بلْ هو تطوير جسدي وعقلي مُتقن لتلك الحالة العربية التي أصبحت تاريخاً وحياة ومرحلة متوجة ببهجة وسعادة حتّى الدمع والبكاء، فانهيار معسكر (أبو فضيل) يعني بقراءة العين الهلكى انهيار نظام، يعني بدء حقبة جديدة في تاريخ ليبيا، منذ بدأ نزيف الدم، ولمْ ينتهِ، وتحولت الكتابة بالدم والدمع والنار، بدلاً من الفسفور والحبر، ووجدَ نفسَهُ "فأر الكتب" مُقاتلاً اضطرارياً حتّى ولوْ بمسدس صغير وطلقة رحمة واحدة. "لقدْ رأيت في عملهِ ثأراً لكلّ الأعمار التي أهدرتها الراية الخضراء، وانتقاماً لكلّ الضحايا الذي سقطوا في ظلمات ذاك الدهليز، وفتحاً!! فتحاً ليس لبوّابة معسكر لواء السوء، ولكنهُ فتح لطريق الحنين الأبوي الّذي غيبته الشعارات الميتة عن جيلنا كلّ هذه السنين، الطريق إلى الحرية" (ص103). وفي واقع "تسود الظلمات بسبب غياب شمس الشموس وهي الحرية" يصبحُ (زيّو) رمزاً.. اسماً شمسياً في سجلات التاريخ، وسير الأبطال و(البوعزيزي) «مسيح هذا الزمان» كما يرى إبراهيم الكوني!!
فرسان الأحلام .. أبناء زمن الغضب الملائكيون، زمن الغضب والتمرّد والثورة واليقظة العسيرة لصنع الحياة الجديدة الذي أهال التراب على زمن الغفلة والترهل والنوم والبطالة والاستسلام بكل أنواعها، وبدا البطل – الراوي متفائلاً وهو يترجم جرح هذين البطلين إلى لغات لم تلوث أبجديتها بعدُ، حتّى وهوَ في مكمنه، وعلى بعد أمتار من خطوات الآخرين العاصفة بالعدوان والخراب والموت والاقتتال من أجل الحرية والحياة الأفضل والزمن المذهب بالأمنيات والأحلام الطازجة، وهي أولى من الرغيف، هي إنسكلوبيديا الأمان، التي تجعل لحروف وجمل الحرية الرشيقة أكثر من معنى، حينَ ينتهي النظام بظلامهِ الدامس، وأحلامه الأخطبوطية، حيث تقام مسلّة للحالمين: «فساعات الاقتتال كانت بالنسبة لي هي (استراحة المحارب) كما يقال، فما يُلهي عني هو الفسحة الوحيدة (الاقتتال) التي أستطيع أنْ أغففو فيها ما شئت أن أغفو.. أغفو في اللحظات التي تنتزع فيها جدرران البنيان بالقذائف، إحساساً مني بوجود الأمان» (ص115). ولكن الراوي ربّما بأعراض ذاكرة متعبة بالأحداث ومفارقات الاقتتال، وربّما رغبة ً منه أن يعطي الرواية بعداً أكثر درامية، أو شيئاً من اللامعقول، أربك كيمياء الكلمات ونبض الفكرة، وخدش جرح (زيّو) ورفقائه الثوار، وهو يجدُ في الإعلام العربي السريع المبرمج النوايا، والمهيّأ مسبقاً، مادة ً وهو يتلقط أخبار ومفارقات حرب الأشقاء من قنوات قليلة جادة، تنقل الحقيقة، وأخرى مأجورة بضمير كارتوني، هدفها المزيد من الفتنة والموت والدمار والدم والشقاق، يحاولُ أن يجدّد بها نسيج ذاكرته، مؤملاً بلحظة انتصار وقتي على النسيان والنوم والغثيان، وكانت زلة قلم، وجنوح خيال، وكبوة مبدع خلخلت التكنيك، وهو الأهمّ في الرواية: «إنه مجون من نوع خاص، مجون من نوع جديد، مجون جيش ملفّق من جنود محليين وآخرين مرتزقة أتوا من كلّ أركان الدنيا، ونساء مجندات محليات وأجنبيات ومختطفات، ومؤونة كافية من أنواع المخدرات، وحبوب الفياغرا، والخمور ذات الصنع المحلي، ويقال أنّ الزعيم تنازل عن كبريائه مرة أخرى ليسمح باستيراد الخمور الحقيقية أيضاً» (ص116).
نعم!! الأدب بمجموعه خيال – كما يرى أندريه مورو، ولكنهُ الخيال المبتكر المنتج، الأكثر تركيزاً في الواقع، ولوْ بشكل درامي مقنع، إذ هو "القوة الحيوية في كلّ إدراك إنساني"- بتعبير كولريدج.. وهذا ما أطلق عليه النقاد بـ"الواقعية الخيالية" و"في خيال النزعة الواقعية أو الطبيعية في السرد الروائي يعمد الكاتب إلى الإحالة على أماكن وظواهر واقعياً مازجاً تلك الإحالات بما هو من قبيل الخيال"- فيليب بلانشسيه. ويُخيل للقاريء أنّ رواية "فرسان الأحلام القتيلة" وهي تجمع بين الخيال والواقع، بين الحلم واليقظة، في سبكٍ متقن هي أقرب إلى هذا النوع من الرواية، بمبدأ "إعادة خلق الواقع وإعادة تركيبه خيالياً" حسب قول توماس هادري: «وكانت المرأة ذات النبرة الفخمة تحاول تهدئة الرجل، مقترحة قرعة ً، لمْ أفهم في البداية عن أيّ قرعة تتحدث، كان الحوار يدور فوق رأسي بالضبط، كانوا يلتئمون على نصب الأكياس، فأتبين خيالاتهم من خصاص الأكياس الجانبية، فأنكمش حول نفسي حابساً أنفاسي لئلا يفضحني نهمي الأبدي إلى الهواء» (ص 117).
(فرسان الأحلام القتيلة) – فاصلة كبيرة بينَ الحق والباطل، الحقّ الذي لاتهدأ نيرانه الصخرية، والباطل الذي يشيّع إلى مثواه بغبار آثامه العصية، وفاصلة أخرى بين الإيمان والشرك، الإيمان الموصول بحنجرة العدالة والحق، والشرك الموصول بإسفلت التيه والظلمة والضياع. وهي كرنفال شمسي للعدالة، الأوركسترا الإلهية التي لابدّ أن تعزف لترتّب ماسادَ من فوضى البشر، وتجرّد الظلم والاستبداد من بقايا ذاكرته، وهذا فات الروائي الاحتفال به، وقد أغراه فسفور الحروف، ورقص الكلمات على أصابعه: "ولولت الفتاة بأعلى صوت وهي تحاول الإفلات من جلاديها، فكانت صرخاتها إدانة لغياب العدالة.. لغياب عدالة السماء لأنّ صراخ الأبرياء حكم إدانة موجه ضدّ عدالة السماء، لاحول الضحايا دوماً حكم غيابي في حقّ السماء" (ص119).
«لكلّ روايةٍ حالتها» (أندرسن نيومان)
وللروائي الحقّ، وهو يستحضر وصايا مالارميه، يعطي الكلماتِ حرية المبادرة، متوجة بكهرباء أصابع ساحرة، وعسل قريحة منغمة، ولكنّ الإنشاء الذي يأتي حشواً أحياناً، ليسَ دائماً مقوياً لعضلة السرد، ربّما تؤدّي الغرض تلك الكلمات ذوات الاستعارات السحرية، والجمل التي تلبسُ زيّ الحكمة، وهي تقطف زهرة الفكرة، ولكنها لاتضيف إلى البعد العشقي للكلمات كثيراً، و"اللغة في مثل هذهِ الوضعيات لا تستعمل بشكلٍ جدّي" (كما يقول فيليب بلانشيه)، فروائيو الانفجار الأدبي الأمريكي اللاتيني ساحرون في لغتهم الشعرية، متفردون في كونهم الروائي، وفي أوركسترا مفرداتهم وجملهم وتعبيرهم الإيحائي، ولهذا عندما تقع بين يديك رواية «الفردوس في الناصية الأخرى" لماريا فارجاس يوسا، فأنك تقرأها أكثر من مرة ولا تمل من قراءتها، والسبب بسيط، فهم أعداء الحشو، ولا يلجأون إلى الإنشاء الباذخ في بلاغته: "عدوان الشهوة مقابل نكبة الجمال، لأنّ بداية الإحساس بالشهوة، هي الشهادة على نهاية الإحساس بالجمال» (ص121). وتفقدُ الرواية بعض حرارتها وتأثيرها، حينَ يقدم الكاتب على نقل خبر عادي، تسقط الفكرة من خلاله في دهليز التكرار، وتصبح تفاصيل الواقع منقولة عبر شاشة مضبّبة. باهتة، من دون مفاجأة ودهشة وهما العنصر المهم، وجزء من التكنيك، ففكرة اقتحام المعسكرات للحصول على السلاح تبدو عادية، ليست موحية. مستفزة أمام حكمة الرواية التي تحدّث عنها ميلان كونديرا في كتابه القيم "فنّ الرواية"، لأنّ المعسكرات أصبحت بلا حرس ولا أبواب، وبمجرد اشتعال النار هرب الحرس والجند، لأنهم هامشيون كارتونيون، منهكون قبل الأحداث وبعدها، لأنّ فكرة "الشعب المسلح" ساذجة.. زخرفية، جاء بها النظام ليحمي نفسه من الانقلابات والانتفاضات العسكرية، والشعب في الحقيقة غير مسلح، هي فكرة – كاذبة فاضحة، الشعب نفسه يعرف حقيقتها، ولهذا لم يؤمن بها، كانَ مجبراً عليها، ولهذا حين أتت الفرصة سفّهها بألم ٍ وتشفٍ: «إنّ فكرة اقتحام المعسكرات لانتزاع السلاح لمْ تكن وحياً أو إلهاماً من أحدٍ يومها لأنّ ما حدثَ في حاضرة الشرق بنغازي، كان على كلّ لسان حتى صار قدوة ومثالاً أعلى يُحتذى» (ص132).
«إنَّ إمكانية تحقيق حلم ٍ ما، هيَ بالضبط ما يجعلُ الحياة ممتعة» (باولو كويلهو، ص23).
ومَنْ يكنْ زادهُ الحلمُ المفضي إلى صباح وطنٍ جديد، وربيع بتاج كلّ الفصول، وسماء مضيئة بكواكب عدالة لا تغيب، فأنّ محاولات أشباح الظلام، ومؤامراتهم الدنيئة على قتل الأحلام الفتية، تبدو مستحيلة، لمَنْ يكتفي بحلمه، ولايتخلى عنهُ، ويتحصّن بدفء وطن وإنسانٍ حالمين. إذ ليسَ هناك سلطة حالمة، ومَن يصنّع ويصدّر الكوابيس لا يحلم، بلْ بينه وبين الحلم عداء أزليّ، وبينها وبين الحالمين – المارقين جبال من النار والحقد: «حلم؟ بلى!! في حلمٍ، تأمّلهُ المحقّق طويلاً قبلَ أن يطلقَ سراحه، لأنّ بوسع السلطات أنْ تصادر الأحلام، بلْ من حقّها أنْ تقطعَ دابر الأحلام، ولكنّها لا تستطيع أنْ تعاقبَ على نزول الأحلام» (ص142). وليسَ إلاّ الحلم!! هي نسمة منعشة تهبّ لتدفعَ بعطرها القاريء، والكاتب- الراوي للمشي معاً بقدمي نهر ٍ فتي، فالعطرُ الذي يفوحُ من جسدِ المرأة "سدرة" في لحظات الحرب والظلام والرعب، هو كيمياء حلمٍ عسير اليقظة، وبينَ رائحة عطرها المثير، ورائحة القهوة، والدم المسفوك خارج البناية، اضطراب معرفي وتقني في الرواية، يصدم القاريء بجنوح خياله، ولكن يمكن تجاوزه بمذاق عسل حلم موقظ باق ٍ وممتد: «حلمٌ ما مرسوم في لوح غيوب، وقدْ أضافت "سدرة" لهذهِ الرائحة في القهوة شذى العطر الذي أيقظ في الوجدان حنيناً غيبياً أيضاً، كأنه الوجد الذي يروي دراويش الزوايا الصوفية عن مفعوله الأساطير» (ص161).
«السيرة كيمياء الروح» (ليون أديل)
أراد الكاتب – الراوي في "فرسان الأحلام القتيلة" أنْ يماهي بينَ أسطر حياته المبعثرة في سطور الكتب، المكتوبة بفسفور الروح، وفتافيت الجسد، وبينَ أسطر مكتوبة بأحرف كبيرة بحيرة وأزمة وطن، ليعيش أحداث بلدهِ شخصياً بالقلم والدمع والدم، بالدعاء الذي تعترضهُ القذائف، والحسرة الممغنطة بخوف غير مسبوق، وقدْ وجدَ نفسَه ينقّب ويبحث، ويتجسس، ويتلصص في الحلم، فالرواية "فنّ النميمة" أيضاً، فأصبحت سيرته الشخصية.. سيرة حلمه.. سيرة وطنه التي تعجز بلاغة الآلام التعبير عنها: "سكتَ ( ميسور) حدجني بغموض، ثمّ سألَ: أليسَت السيرة أسطورة في الوفاء؟ أذكرُ يومها أنّي أجبتهُ إنَ السيرة أسطورة أكبر من الوفاء، بلْ السيرة هي ما يعجز التعبير عنهُ بالكلمات" (ص176).
«مَنْ أرادَ بلوغ وطن الوعد، فلابدّ أنْ ينحرَ لهُ قرباناً، ويميت في صدرهِ قريناً قديماً» (الكوني، خريف الدريش، ص157).
ومَنْ كانَ عدوّهُ الحقيقي الألمُ، فأنهُ ينحرُ قرباناً، وفكرة "القربان" التي رفضها شاعر المقاومة الكبير محمود درويش، يجدها الروائي إبراهيم الكوني قلادة ياقوت وزمرّد، توضع في عنق وطن، يستيقظ.. يُولدُ.. يتجدّد، وينال حريته بالقربان: "الحنين إلى الحرية.. الحنين إلى تلك الحرية التي تجعلُ من الموت ميلاداً" (ص180). وبينَ الحياة والموت، الحرية شجرة المستحيل، بثمار من ذهب وعصافير من كرستال و"مستحيلة الحياة بلا موت، ومستحيل الموت بلا حياة" (هنري ميللر).
«فالشجاعة هيَ الفضيلة الكبرى، لمَنْ يبحث عن لغة العالم» (باولو كويلهو، الخيميائي، ص134). و(زيّو) و(البوعزيزي) كلُّ منهما فارس، و(مسيح) هذا الزمان، في أجندة وطنٍ يُولدُ بصخب، بلْ يتفجّر، وبينَ الثلاثة جدلية الوجود – الحرية، الوطن- الحرية، والحرية – الوطن، ولهذا هم سيبقون منتصرين وخالدين أبداً، وإذا كانت القراءة بالنسبة للكاتب – الراوي "حفرٌ في الكتب"، فأنّ قراءة الواقع بعين الثائر البوعزيزي هي "الحفر في النار"، وهو وحده الذي "جاهرَ بخطابهِ السريّ بالنيابة عنا"، هو بداية اليقظة، وإن بدت عسيرة.. دامية، وحده الذي حمل حملَ فأسه لاختراق النفق، وبدلاً من أنْ نتوّجَ فعله الإلهي بالكلمات، نعمل على الحفر بالنار أيضاً، ونقلها بأصابع بروميثيوس إلى كلّ الحالمين في وطن عاشَ ظامئاً إلى الحلم: «فكلّنا في الواقع محمّد البوعزيزي في حملة البحث عن النار.. بلى! كلنا على دين البوعزيزي، كلّ ما هنالك أنّ البوعزيزي عرفَ كيف يحفر فاستظهر.. ونحنُ حفرنا، تعثرنا، فتأخرنا» (ص184).
وفي ظهيرةِ زمنٍ استعذبَ خمرَ الخيانة والمهادنة والمراوغة، تطاردُ الحقائقُ، وتُقتَلُ الأمنيات في رحمها، وتسجَنُ الأحلام في اللازمن، لكنّ مَنْ يقتلونها لايفقدوننا حبّ الوطن – الحلم، والانتماء لهُ، فقط يربكون صحو أيّامنا، دون أن يعوا أنّه مطرٌ، يشعلون في جوانحنا نيران الحيرة، والوهم بينَ الحياة والموت، بينَ النصر والهزيمة، وبين اليأس والأمل.. ولكنّها تداعيات، وتهويمات الحرب تنتهي، مادام في الروح نبض، وفي الجسد رجفة موقوتة على نداء وطن ٍ يُولد، وإنسان يحلمُ، وصباح يغزلُ خيوط ضوئه على إيقاع الدهشة: «تصفية الأحلام تجلبُ معها موت الحبّ الذي ماعادَ في بلادنا حُبّاً، ولكنّهُ صارَ صفقة ً منذ هيمنت الأشباح، لعنة ً رهينة لتصفية الأحلام أيضاً، وهي موت الانتماء إلى الوطن، موت هوية اسمها الوطن، بلْ مُخطط تصفية الحلم حوّلَ الوطن وصمة عارتتوّج الجبين» (ص185). مقتل قائد الأشباح الأفندي "بركة" في الرصاصة الأخيرة يعني للبطل – الرواي الكثير، هو زلزلة بلْ نهاية نظام، هو الأمل، وما بقي من نبيذ حلم معتّق، هو الحياة بثوب خجول، هو الثأرث للشرف أيضاً، فجّر هذا الحدث زلزال فرح وأمل في نفس الراوي وحساباته، وزلزالاً من نوع آخر في نفس المرأة المنكوبة وطفلها، مُفضياً إلى المزيد من السّخرية والرغبة في الانتقام: «فقدْ كانَ مسدسي المسلح بالطلقة الوحيدة مصوّباً نحو رأس ذلك الثور البدين، المصبوغ باللون الكئيب، مصوّب نحو رأس (بركة) الذي عرفتهُ بالصوت، وتصورتهُ بالحدس، قبل ان ألمحهُ فوق رأسي وهو يفترع العذراء.. وكنت على يقين أنها ستخترق جمجمته، أو ستفجّرها نصفين، ولكني أخطأت!! لا أدري كيفَ زلت يدي، أو ربّما ارتجت فهوت سنتميمترات لتُصيبَ الرجل في النحر..» (ص192). والذهول والصدمة التي قضّت مضجع الراوي، وردمت في أعماق روحه كلّ أنهار الفجر – الأمل، أنّ دفاعه عن الشرف المهين كان في نظر المرأة المغتصبة زخرفياً، فهي تريدُ ان تحتفظ بجنين المغتصب – القاتل الآثم في بطنها، وهذا يعني للكاتب – الراوي أنّ البلاد ستبتلي بقاتلٍ جديد، وتلك هي الطامة الكبرى، واحتفاظ الكاتب لها بهذهِ الأمنية، جزء من التكنيك الروائي، والذي يزيد عنصر الدهشة فيه من قوته: «فكيف جلاّدها أقنع بوجود ضحية يمكن أن تغفرَ إلى الحدّ الذي تنوي فيه الاحتفاظ بجنين هو جرثومة سفّاحهما، بلْ وتفرّ من حمى مَنْ ظنّ نفسه منقذها، لتستجير بحصون قاتلها.. تصور أنها تريدُ أن تحتفظ بجنين نالتهُ من صلب آمر القتلة» (ص197).
"النظام أوْ الفوضى!!" تلك هي كيمياء السلطة. فاشتعلت الحرب بين الأخوين، أحدهما ظلُ جلادٍ – قابيل، خطواته مبرمجة وفق إيعاز سلطوي قاسٍ، والآخر ضحيةٌ – هابيل مدجّج بالحلم وأطياف الحرية، والكاتب إبراهيم الكوني يستحضر سحر هذهِ الأسطورة لتلائم أبجديتها واقع الأخوة – الأعداء الذين فوضوا أمرهم للرصاص، الحكم الفيصل بينهم، وشتّان مابينَ طالب الحرية والحق، وطالب السلطة والطغيان والظلام: «فضيلة الذاكرة أنّها خذلتني يومها لتجيرني من حمل صليب الجلاد بديلاً لنيل هوية الضحية، الجلاد قابيل، في مقابل الضحية هابيل» (ص223).
«أشعرُ بالرغبة في إدخال الحلم، والخيال الخاص بالحلم في الرواية» (ميلان كونديرا، فنّ الرواية، ص84).
بدأت رواية (فرسان الأحلام القتيلة) فصولها بالحلم - الواقع: «يدعوني الحلمُ للتحليق في الآفاق بألف جناح» (ص224). الواقعُ حلماً، والحلمُ واقعاً، ودخلت جلّ مفردات وجمل الرواية ضمن قاموس الحلم: الثورة، الحرب، الحرية، الخلاص، الولادة، الموت، وحتى الحياة، والإنسان هو خلاصة فكر فلاسفة العصور "أنه مقياس كل شيء"، وأنه "مادة حالمة"، وحيثما يحلمُ فهو موجود، ويتحقق المراد على تربة الحلم وهي من فسفور وذهب وريحان، وبمرآة الواقع يصبح الأملُ في قبضة الكف، حيث يعيش الإنسان المقهور كرنفال ولادتهِ الحقيقية: «فضيلة الحلم، سيما إذا كانَ حلماً مستعاداً بعدَ طول اغتراب، هي تحويل الحياة كلّها إلى رحلة حلم. حلم يصيّرُ حتّى الحرب نفسها حلما ً، يُصيّرُ الحرب في سبيل استعادة الحلم القتيل حلماً لذيذاً» (ص225). ومثلما كانت الكتب – الكنز الروحي الذي لاينفد، والمعين والدواء الشافي لحظات الغربة والعزلة واليأس، فهي مطرُ الحلم، وحرية الإنسان الذي في حالة ظمأ مزمن إليها طوال هذه السنين. والآتي من السنين أيضاً: «استعنت بالكتب لتغذية حلمي، كما استعنت بها يوماً على خيبتي وعزلتي وخوائي» (ص226).
«الوطنُ قيمة وليسَ غنيمة» (الرواية، ص227). تلك هي حكمة الرواية، إذا كانَ لكلّ رواية حكمة، باعتقاد كونديرا، وتلك هي رؤيا الكاتب، والذين يرونَ الوطن قيمة فقط، أبناء عصرهم وزمنهم البهيج الآتي. أمّا الذين يرون في الوطن غنيمة لهم، وهو من ممتلكاتهم قبل أن تلدهم أمهاتهم، هم عبدة العروش، وكراسي الحكم الصدئة، لهم صلاتهم التي وضؤوها الظلمة والآثام، تبعدهم عن شاطيء المغفرة، وتوصلهم إلى موت دراماتيكي فاضح، وجهنم أرضي لتاريخهم المقيت: "وها هي فئة أخرى تنضمّ إلى فرقة مريدي الغنيمة متمثلة في عشاق جنيّة حقيقيّة اسمها العروش، ولا يدري هؤلاء البلهاء أنّها المعشوقة الوحيدة التي لا تتركُ عشاقها إلاّ أمواتاً" (ص227). وبالحلم نشقى ونسُسعّد، نموت ونُولدُ، نُسجنُ ونتحرر، نيأسُ ونأملُ، نصبح أعداء وأشقاء، وجمال هذا الحُلم، وكيمياؤه أننا نتدفأ بفسفور سطور الكتب، والأجمل أن نجدَ أنفسنا في أحضان وطن مخملي ّ، قدْ عقد حلفاً دهرياً مع الربيع والصباحات والشمس والمطر، حيث لامكان لقاتلي الأحلام، وتصبح أول مادة في دستور الوطن الجديد هو إعادة سُلالة الحالمين: "فالأحلام دلّلت على هويتها كعنقاء قادرة دوماً على بعث نفسها من رماد الوعد بفردوس البهتان" (ص234). ورواية "فرسان الأحلام القتيلة" دللت أنّ الحلم زاد الإنسان الذي لاينفد، وهو مانح العمر والنصر والبهجة في اللازمان..!!
* "فرسان الأحلام القتيلة"، رواية، إبراهيم الكوني، كتاب دبي الثقافية الشهري، العدد63 ، يونيو 2012م.
ناقد وشاعر عراقي