مقدمة:
إن طـرح مسألة اللغة والهوية في الثقافة الجزائرية الحديثة ليس بالأمر الجديد أو الطريف، فقد حظيت بدراسات ومقاربات لا حصر لها منذ تأسيس الدولة الوطنية بداية الستينيات، وقبل ذلك إبان الحركة الوطنية، ذلك أن مشكلة اللغة كانت ولا تزال مجال صراع وتنافس بين الفاعلين الاجتماعيين بوصفها رأسمالا رمزيا، يوظف في الصراعات الايديولوجية والمنافسة السياسية في سياق احتدام معركة مشاريع المجتمع المطروحة منذ عقود. وفي ظل غياب الرؤيا الحضارية الواضحة والمشروع الوطني الذي يمكن أن يشكل أرضية عقد اجتماعي، ظل سجال اللغة والهوية قائما بين تيارات النخبة الجزائرية الثقافية والسياسية على حد سواء، متخذا أشكالا متعددة من الصراع والحوار والإسفاف في بعض الأحيان.
ليس من أهداف هذه الدراسة أن تعيد طرح هذه الإشكالية، ولا أن تصف الواقع اللغوي في الجزائر، ولكنها تروم قراءة تحولات الخطــاب، الذي بــدا لنا ايديولوجيا – تعبويا في العقود الثلاثة الأولى للاستقلال، وميالا إلى الاختلاف وفكر ما بعد الحداثة منذ أواخر الثمانينيات تقريبا. وليس معنى ذلك أن هذا التحقيب قطعي ومطـلق، ذلك أن كل حقبة عرفت أشكالا متناقضة من الخطاب، حسب المنطلقات الفكرية والمرتكزات المعرفية والتحيزات السياسية والايديولوجية. وتنزع هذه القراءة أيضا إلى رصد المحاضن السوسيوثقافية التي أسهمت في إنضاج هذا التحول ـ وهيأت المناخ المعرفي الملائم لبروز خطاب ما بعد حداثي في مجال طرح مسألة اللغة والذات والآخر.
1-اللغة العربية والمعركة الايديولوجية
شهدت عقود الاستقلال الأولى تنامي خطاب عن اللغة والهوية، يعلو فيه الصوت الايديولوجي والصرخة الثورية، وإن تزيا ببهارج المعرفة العلمية، واتكأ على خلفيات نظرية حديثة. وقد تصدر لترويج هذا الخطاب مثقفون مرتبطون عضويا بجهاز الحزب الحاكم آنذاك، يمثلون صوته العقائدي الذي كان خليطا من الوطنية واليسارية والثورية الشعبوية، بوصفها مرتكزات تأسست عليها الدولة الوطنية الحديثة. وفي هذا السياق عرفت الساحة الثقافية الجزائرية ثلة من المنظرين والمثقفيــــن، استولوا على المنابر الإعلامية والمؤسسات الثقافية، وظيفتهم توجيه الرأي العام وإشاعة الخيارات الوطنية الكبرى. ولعل من أبرزهم في مجال طرح المسألة اللغوية أحمد بن نعمان وعثمان سعدي وعبد الله شريط ومولود قاسم نايت بلقاسم ومصطفى لشرف.
يؤسس أحمد بن نعمان* أطروحاته الفكرية على أرضية يغلب عليها النزوع القومي العروبي المشـوب بالروح الثورية الصاعدة. فعندما يصرح بأنه «كان مـن المفروض، بل من الواجب، أن تظل الجزائر الخليقة بالأحرار، رائدة في التعريب الحقيقي والثورة الثقافيـة، لكل الثوار العرب، في المشرق والمغــرب، مثلما كانت – بحق – رائدة لكل الأحـرار العرب في ثورتها الخالدة»(1)، يتماهى المعرفي بالأيديولوجي، ويرتهن العلمي لإكراهات المرحلة وسطوة الخيارات السياسية. وفي هذا الإطار يطلق بن نعمان قلمه للرد على المتخوفين من التعريب والمترددين، مستلهما حجج الفكر القومي العربي والنظريات القومية الغربية خاصة نظرية فيخته التي تعتبر اللغة جوهر القومية. وإذ يطرح الاتجاهات الفكرية الكبرى عن القومية ووحدة العنصر العـرقي، ينتهي إلى «أن للمجتمع القومي مقومات تختلف من كيان إلى آخر باختلاف الظروف، فهي متطورة، تتحكم فيها البيئة الزمانية والمكانية إلى حد كبير (...) والمجتمع القومي في ظل مقوماته الخاصة يتسع لأكثر من خليط عنصري»(2). وهي رؤيا متفتحة ووسطية، تنأى عن غلو النظريات العرقية، وتسعى إلى فهم الظاهرة القومية فهما تاريخيا بعيدا عن الأسطرة والنزعة الشوفينية.
وضمن نسق السجالات الايديولوجية والتخندق السياسي، يرى مثقف عروبي آخر أنه من «العار الكبير، والخور الذي لا يليق بثورتنا، أن نظل نتردد في اتخاذ القرارات الجذرية فيما يخص مشكلة التعريب. لقد أظهرت ثورتنا في الميادين الأخرى شجاعة مثالية أصبحت مضرب الأمثال، فكيف تعجز في قضية تمس كيانها»(3). طرحت مشكلة اللغة لدى بعض مثقفي التيار العروبي الجزائري مرتهنة لفورة الحس الوطني الثوري الذي كان في أوجه عقب الاستقلال، حيث غدت سلاحا رمزيا في معركة التحرر واالبناء الوطني. وإذا سلمنا بأن هذا الحس الثوري كان ضروريا - إلى حد ما – في تلك المرحلة الفوارة، فإنه من جانب آخر أعاق مسيرة التأسيس العلمي الرصين الذي يضمن نضج التحليل وصلابة البناء المعرفي. وهكذا «اتخذ التعريب منعطفا ايديولوجيا وسياسيا طغى عليه الطابع الحماسي والعاطفي»(4)، وانتهى في نظر كثير من الباحثين إلى كوارث مست أجيالا متعاقبة في تكوينها الثقافي ورصيدها من المعرفة الإنسانية والكفاءة العلمية. وعلى الرغم من أن هذا التصور له ما يبرره – في بعض الأحيان – إلا أن طرحه لا يخلو من اعتبارات ايديولوجية ذات علاقة بطبيعة الصراعات الفكرية والسياسية في الجزائر. ومهما يكن من أمر فإن ثمة عوائق موضوعية، حالت دون انطلاق مسيرة التعريـب في طريق الرسوخ والنضج، منها غياب الحواضن الثقافية المتجذرة في الماضي، وانحسار الدراسات العلمية المستقلة، وعدم اتكاء التعريب على إنجازات مراكز البحث البعيدة عن ضغوطات القرار السياسي والتي لا ترتهن إلا لسلطة المعرفة.
وقد كان مصطفى لشرف** سباقا إلى التنبيه إلى خطورة الانسياق وراء النزعات الذاتية والتصورات العاطفية والروح الحماسية التي لا تنتهي سوى إلى الانسداد أو الحصيلة الكارثية. يدعو لشرف إلى ضرورة تبني الرؤية التاريخية للغة والهوية. إن اللغة وثيقة الصلة بتناقضات الواقع الاجتماعي والتحولات التاريخية، ومن ثم فهي لا تنطوي على قوة أسطورية في ذاتها من جهة، ولا يمكن أن تنهض من خلال رغبة أو نزوع عاطفي لأهلها من جهة أخرى، ذلك أنه «من الخطأ أن يصدر المرء في حكمه عن العاطفة القومية الساذجة، فيدعي بأن اللغة أقوى من الإنسان، وأنها معصومة من التخلف الذي يقع فيه الإنسان، وأنها منفصلة عن مصيره، وقادرة على أن تحصل من تلقاء ذاتها على جميع أسباب التطور العلمي الحديث، رغم أن البلد الذي يحتضنها متخلف»(5). يسعى مصطفى لشرف إلى نزع طابع القداسة عن هذه اللغة، أو بالأحرى عن تصورات بعض أهلها. إن الاعتقاد بأن اقتران اللغـــة العربية بالبعد اللاهوتي، وكونها لغة القرآن، وأنها تمتلك سرا مقدسا، يجعلها في منأى عن تناقضات التاريخ ووقع التحول الاجتماعي، من شأنه أن يقعد بهذا اللغة، ويجعلها «تقبع خارج الزمن، وغير قابلة للتفسير البشري»(6) كما يقول جاك بيرك J. Berque، وكما أكد على ذلك زكي نجيب محمود، ثم من بعده ثلة من المفكرين التنويريين أمثال نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون.
كانت مقاربة مصطفى لشرف إذن متقدمة في سياق السجال المحتدم بين النخب الجزائرية، أهله إلى ذلك انفتاحه على تجارب المعرفة الغربية، واطلاعه على الإنجازات النظرية الحديثة، ونأيه عن التخندق الايديولوجي الواضح، وتبصره بعواقب الفكر التقليدي المتحجر وأثره في مسار البناء الثقافي الجديد. ومن هنا كان كثيرا ما يلفت الانتباه إلى ظاهرة احتقار الثقافة الشعبية ولغاتها الغنية خاصة من قبل المثقفين المعربين ذوي النزعة الخطابية، أسرى الفصاحة والبيان والشفوية، حيث «لا يكاد الواحد منهم يتعلم الفصحى وماضيها (الذي يتصورونه تصورا صبيانيا) حتى تجده بسبب بعده عن الواقع وقلة ذوقه يحتقر العربية الدارجة لدى الشعب».(7) هذا التعالي الأجوف، وليد عصور العقم والانحطاط، حول الفصحى إلى رهينة لدى بعض المعربين المتزمتيـن، غدت فيها لغة الموت والجنائز والآخرة، بدل أن تكون لغة الحياة والواقع والتاريخ. نقول بعض المعربين، لأن كثيرا منهم، ومن ذوي الفكر القومي أنفسهم كانوا أكثر جرأة في نقد ثقافة التقليد والانغلاق ونزعة الاجترار.
فعلى الرغم من نزوعه القومي وإيمانه بالبعد الثوري والوطني للتعريب، فإن المفكر المعروف عبد الله شريط*** – مثلا – كان دائم النقد وإثارة الأسئلة المقموعة بفعل علو الصوت الايديولوجي الصارخ. وكان في مواجهة مستمرة مع كهنة معبد اللغة ومروجي ثقافة الثبات، مؤمنا بأن «كل ما نتخبط فيه اليوم من أوحال القواعد اللغوية هي من صنع قرون الانحطاط، من ضع عقلية التعقيد المنطقي التجريدي في اللغة كما في الدين سواء بسواء»(8). وإذا كان التعريب معركة وطنية وحضارية، فإن معركة تحرير اللغة من رواسب التصورات العتيقة اللاتاريخية كما طرحها مصطفــــى لشرف، هذه المعركة هي رهان النجاح. نحن إذن أمام خطاب يقدم المسألة اللغوية في سياق الصراع السياسي والاصطفاف الايديولوجي، وضمن مشروع وطني كبير. وقد بدا هذا الخطاب متجليا في أشكال مختلفة منها القومي العروبي الخالص، ومنها الحداثي التنويري الذي يعيد طرح الأسئلة المكبوتة، ومنها أيضا العروبي النقدي الذي يحاول أن يتحرر من الشرنقة العقائدية ليصوغ أسئلة جديدة، يربك بها المثقف التقليدي ويغازل بها أيضا المثقف الحداثي.
اللغة والهوية في محاضن الاختلاف
كان الصوت الإيديولوجي واضحا ومجلجلا ووثوقيا، سواء في دفاعه المطلق عن اللغة العربية أو في مواجهته لها، أو في محاولة تلمس أسباب نقد التعاطي معها. كان إذن يلفه اليقين والارتواء والرغبة في التغيير وفرض مشروع مجتمع معين. وكان انخراطه في المعركة السياسية والرمزية والصراع بين الفاعلين الاجتماعيين من أسباب هذه الوثوقية. بيد أننا كلما تقدمنا في قراءة خطاب النخب الجديدة في هذه المسألة، يروعنا هذا التحول الخطير في المضمون الفكري والأداة المنهجية ونبرة الطرح معا حيث يخفت صوت القناعة واليقين، ليعلو صوت الحيرة والنسبية، ويرتمي الخطاب حينها في براثن فلسفة التعدد والاختلاف التي تجد في النزعة التفكيكية الجديدة سندا واضحا لها. نلمح ذلك بوضوح لدى الجيل الجديد من الداريسين والمفكرين الجزائريين الذي اتكئوا معرفيا على مرتكزات أخرى، وشربوا من منابع معرفية جديدة.
يجد هذا الجيل الجديد من المثقفين سندا له في معاناة كثير من الكتاب الجزائريين مع مشكلة الهوية واللغة - المنفي، نقول ذلك لأن ظاهرة التمزق والحنين الذي راودهم كان شكلا جديدا من التفاعل مع اللغة، شكلا مؤسسا على السؤال والنسبية ورفض المطلق، فعندما يواجه رشيد بوجدرة**** بعض الكتاب الفرانكفونيين، ويصفهم بأنهـــــم «يعانون عقدة تزعم أن اللغة العربية غير قادرة على الأداء الأدبي وهي قادرة أكثر من غيرها أو بنفس إمكانية وقوة اللغات الأخرى وغزارتها، هذا من الحمق والجهل لأنهم يجهلون اللغة العربية»(9)، يتراءى لنا عمق التحول في الموقف، فلم يعد الكاتب الفرانكفوني ضحية تخندقه المطلق في موقع العداء الأزلي للغة العربية شأن كثير منهم، وإنما غدا يتساءل عن هذا التموقع نفسه ومدى صحته وتماسك معطياته. ثمة إذن إزاحة مهمة، حطمت صخور الايديولوجيا الصماء، وأتاحت بعض أنوار المعرفة القلقة. وقد عايش بعض كتاب الجزائر بالفرنسية جراح اللغة ومنافيها وتمزقات الهوية المجروحة، بدا ذلك واضحا لدى مولود معمري***** في بحثه الطويل عن معالم الهوية الأمازيغية المفقودة، وكما صرح متألما: «في الثانوية، كانوا يعلمونني المشرق واليونان وبريطانيا، إلا نحن لأننا لا نوجد في أي مكان، وإذا وجدنا فتحت سطوة الآخرين»(10)، أو كما وصفت مارغريت الطاوس عمروش أخاها جان عمروش****** «أنـه كان ممزقا دائما، ويحمل في نفسه صراعا بين حضارتين»(11)، أو ما أعلنته آسيا جبار******* في خطابها أمام الأكاديمية الفرنسية بأن «أشواك اللغات التي طمست منذ زمن خلفت جراحا عميقة في الذاكرة»(12)، وهي لاشك تعني تلك اللغات واللهجات الجزائرية الغنية التي حيل بينها وبين معاشرتها لأسباب تاريخية وثقافية معروفة.
كان هذا القلق مغذيا للجيل الجديد في مطارحته مشكلة اللغة وأزمة الهوية. ولربما وجد هذا الجيل ملاذا في اغتراب مفكر جزائري مثير للجدل هو جاك ديريدا J. Derrida الذي كان يقول بأنه لا يمتلك سوى لغة واحدة ولكنها ليست لغته oui , je n’ ai qu’une langue. or ce n’est pas la mienne وعن هذه اللغة الفرنسية يقول: «لم يكن في مقدوري بتاتا أن أسمــي هذه اللغة التي أحدثك بهــا الآن "لغتـــي الأم" (الأصلية)، فكلماتها لا تحضرني، بل إنني أجد صعوبة كبيرة في نطقها، في الوقت الذي يعتقد فيه البعض بأنها لغتي الأم (الأصلية)»(13)، أي جرح هذا الذي يمكن تحمل آلامه؟ أن يغترب الإنسان في اللغة، ألا يمتلك إلا لغة واحدة ولكنها ليست له. مثل ديريدا رحلة التمزق والشتات، وهو على غرار كثير من يهود الجزائر خصوصا، كان أكثرهم إحساسا بعمق الجراح التي عبر عنها في كتابه الهام le monolinguisme de l’autre متوجها إلى المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي شريكه في هذا المنفى.
أعتقد أن صرخات ديريدا لاقت آذانا مصغية لدى بعض مثقفي الجزائر الجدد، خاصة المعربين منهم، نقول ذلك ونحن نلحظ بوضوح الخلفية التفكيكية لدى هؤلاء. لقد تأسس عملهم النقدي على «منطق الإزاحة كعملية تقليب وتحويل، بمعنى تحويل الثوابت الراسخة والماهيات المتجذرة والتي تتحول تحت وطأة التصنيم والتقديس إلى أنسجة لغوية مخرومة وأنساق فكروية بالية»(14). هذا هو منطق الخطاب الجديد، إنه إزاحة أوزحزحة للمسلمات والماهيات، وإعادة طرح الأسئلة المحرمة، والخروج من شرنقة المقدس وسياج المطلق. في هذا المنطلق تتراجع القبليات الايديولوجية، وتصل الوثوقية إلى الانسداد، ويصطدم اليقين بجدار القلق. وإذا كان المثقف الايديولوجي الأول يقوم بعمل نضالي، منخرطا في هموم المرحلة وإكراهاتها، حالما بالتغيير الثوري، فإن مثقف الاختلاف قد تموقع في خط العقل النقدي، رافضا الوصاية على المجتمع وممارسة الأبوية في أشكالها الرمزية، لقد غدا ذلك «الذي يأخذ مسافة ابستيمولوجية مع ذاته من أجل نقد أدواته المعرفية وتجديـدها»(15)، في ضوء متغيرات العصر وإنجازات الفكر الحديث وفتوحات الحداثة وما بعدها.
ضمن هذا السياق الثقافي الجديد لم تعد إشكاليات المرحلة السابقة مطروحة، لم يعد المثقف ما بعد الحداثي ينتج خطابا عن التعريب أو سيادة اللغة العربية أو هوية الأمة وغيرها من مسلمات الفكر الايديولوجي القومي أو التنويري معا. لقد غدت هذه الأفكار من مخلفات الفكر الميتافيزيقي بالمفهوم التفكيكي، إنها إشكاليات ضبابية ومعتمة، تسبح في الفضاء ولا ترتطم بتفاصيل اليومي والمعيشي، وهو ما تأسست عليه ما بعد الحداثة التي قطعت تماما مع الايديولوجيات والنظريات الكبرى، وراحت تبحث في الهامشي والمقصي والمغيب، مرتادة مناطق قصية ومجهولة.
كان بختي بن عودة******** بوصفه أحد أقطاب هذا الجيل يبحـث عن لغة بركانية متفجرة، متحررة من رواسب التقليد والتقييد، كان يرى أنه «مهـم جدا أن تتعدد النظرة، أن تحايث جغرافيات متعذر التفكير فيها»(16)، أو ما يسميه أركون باللامفكر فيه، أو مستحيل التفكير فيه، هكذا فتحت النخبة الجديدة أراضي فكرية أخرى، مهوسة بأسئلة المهمش واللامعقول، سعيا إلى «تأسيس الاختلاف وخلخلة المتفق عليه واستحداث مناطق غير آمنة لاستنطاق اللغة واستحضار الهوية و(الاسم الجريح) على حد تعبير المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي»(17). كما وصف عمر مهيبل تجربة بختي الفكرية.
شرع المثقف ما بعد الحداثي أبوابه لتلقي الرياح، مؤمنا أن الهوية تتخصب في فضاء التعدد والاختلاف، وأن ليس هناك هوية كاملة وموجودة سلفا وغير قابــلة للتطور، الهوية تتشكل من خلال التفاعل مع الزمن والواقع ومتغيرات التاريخ، تلك التي تغتني بالافتراض من الآخر، وتهب نفسها للجديد دون عقدة أو انحياز مسبق، «لا أقبل هوية تحتجزني وتغلق علي نوافذ الحياة باسم أن هناك من يتآمر علي في الخارج، ويدبر لي مكائد لكي أفقد أصالتي وذاتي، فالهوية التي لا تتحرر من أسر الخوف، الهوية التي لا تقبل أن تكون مهددة هي هوية ناقصة»(18)، يصرح الروائي بشير مفتي. الهوية هنا أساسها الحرية والتعاطي الخصب والعميق مع متغيرات الواقع والتاريخ، أن أكون ذاتي يعني أن أتحرر من رواسب الخوف والقهر والأحادية، إذ كثيرا ما يوظف مفهوم الهوية المغلقة من قبل القوى الشمولية والتسلطية إرضاء لنزعة القمع وشهوة الاستحواذ.
تغدو اللغة في هذا السياق مكونا خطيرا من مكونات الهوية، فإذا كان الخطاب الايديولوجي نزاعا إلى لغة الصفاء والوضوح والإقتناع، من منطلق شعور مسبق بالوصاية عليها وعلى المجتمع، فإن خطاب ما بعد الحداثة يبحث عن لغة بركانية متحررة، لغة قد غادرتها رواسب القيد واليقين، لغة مهتزة ومتخلخلــــــة، ذلك أن «الإيمان العميق بسلامة وطمأنينة اللغة هو لب العنف ومصدره، لهذا يجب أن ندعو إلى مساءلات جديدة لملفوظاتنا ومفهوماتنا ومقولاتنا»(19). ناصب هذا الفكر مفهوم الطمأنينة العداء، المعرفة قلق مستمر، واللغة التي هي بيت الوجود هي ترجمان قلقنا الوجودي. وبقدر ما تحوز اللغة قدرا من الراحة والثبات والصفاء، بقدر ما تسهم في تشكل مفاهيم القمع والكليانية. إذن فقد تراجع وقع السجال العقائدي، فلم نعد نشهد تلك الصرخات المنادية بهوية الامة والخيار الثوري والروح الوطنية، بل انتهينا إلى مفاهيم انسيابية مثل التعدد والاختلاف والتحرر والإزاحة والتفكيك والخلخلة والكسر... خلاصتها أنه«يجب كسر المركز ومنطق الهوية المستبدلة بعشق لغة الآخر كلغة ذوق وخيال وحرية دون السقوط في هذا الايديولوجيا»(20) كما دعا مثقف جزائري شاب.
وبعد، فإن هذا التحول في الخطاب المتعلق باللغة والهوية في الثقافة الجزائرية من السطوة العقائدية المناضلة إلى ثقافة الاختلاف له أسباب موضوعية التي يمكن حصر بعضها فيما يلي:
1- الحصيلة الكارثية التي انتهى إليها مشروع الدولة الوطنية الحديثة على المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية، مما كرس الشك في هذه الخيارات المفروضة لدى النخب عامة.
2- بؤس الايديولوجيا الثورية التي استحوذت على المجال الرمزي في بدايات الاستقلال، ولكنها لم تؤسس مشروعا حديثا يكون ضمانة للإقلاع الحضاري، بل ظلت هذه الايديولوجيا سلاحا في يد القوى المتصارعة من أجل الهيمنة، بل غدت أكثر من ذلك أداة من أدوات العنف الرمزي.
3- انفتاح النخب الجديدة على إنجازات الفكر الغربي الحديث، لاسيما فكر ما بعد الحداثة المعادي للكليات والثبات والأطر المغلقة.
4- إذا كان أعلام التيار الثوري –الايديولوجي قد نهلوا من منابع الفكر القومي العربــي، ووجدوا ضالتهم في كتابات ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وقسطنطين زريق، بالنسبة للاتجاه العروبي، أو أطروحات فكر الأنوار الغربي لدى المثقفين المفرنسين، فإن مثقفي ما بعد الحداثة الشباب وجدوا ضالتهم في دريدا وجيل دولوز وهايدغر وأركون وعلي حرب وعبد الكبير الخطيبي ... وغيرهم من مروجي ثقافة الاختلاف.
5- علاقة ديريدا الملتبسة بالهوية الجزائرية ومكوناتها. فقد وجد هؤلاء المثقفون في تمزق ديريدا وأزمة الانتماء لدية، وانشطار ذاته بين هويات متعددة : الجزائر – الثقافة الفرنسية – اليهودية – العربية – العبرية .. وجدوا في ذلك نبرة أخرى طريفة، يستبطنها الألم والمعاناة، تعوضهم عن عنف الايديولوجيا السياسية وسلطتها الشمولية، وتفتح أمامهم آفاقا للانطلاق المعرفي والفسحة التأويلية.
6- سلسلة الانهيارات التي عرفها المجتمع الجزائري في العقود الثلاثة الأخيرة، وبؤس الواقع وانسداد الآفاق المختلفة، مما ولد حالة من اليأس والتخبط لدى الانتلجانسيا الجزائرية الجديدة.
اجتمعت هذه الأسباب لتؤسس خطابا عن الهوية قطع مع تراث الحقبة الثورية، ولكنه لم يقطع مع هذه الإشكالية المزمنة في مجتمع «أربكته قضية "اللغة " ففي كل حالات ومراحل الجدل حول الهوية والانتماء بالجزائر كانت تظهر اللغة كعنوان بارز لمختلف مظاهر الصراع»(21)، وربما هذا هو سر إعادة إنتاج هذه المشكلة، إنها مجرد سلاح في يد الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، وليست مكونا حضاريا، يتشكل من خلاله مشروع الدولة الوطنية الحديثة. إن تحرير اللغة العربية من سطوة الصراع السوسيولوجي هو في تقديرنا باب النهوض والإقلاع أو أحد الأبواب على الأقل.
قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة محمد الشريف مساعدية - سوق أهراس، الجزائر
الهوامش :
1-أحمد بن نعمان، التعريب بين المبدأ والتطبيق، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ص 36.
2-المرجع السابق، ص 303/304.
3-محمد مصايف، في الثورة والتعريب، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ص 71/72.
4-مصطفى ماضي، حول الفضاء الثقافي في الجزائر : من القطيعة اللغوية إلى القطيعة الفكرية، مجلة الثقافة، وزارة الثقافة، الجزائر، ع1، مارس 1993، ص 52.
5-مصطفى لشرف، الجزائر : الأمة والمجتمع، ت : حنفي بن عيسى، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1983، ص 417.
6-Jaques Berque , les Arabes , Sind bad , paris , 1979 , P47.
7-مصطفى لشرف، الجزائر : الأمة والمجتمع، ص 431.
8-عبد الله شريط، من واقع الثقافة الجزائرية، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981، ص 15.
9-شاكر نوري، منفى اللغة، منشورات كتاب دبي الثقافية، إبريل 2011، ص 84.
10-Djohar Amhis-Ouksel, Mouloud Mameri, le Sens d’une quête et d’un combat , livresque n 11,2011, p42.
11- Marguerite Taos Amoche, le bien et le mal sont frères , livresque n 17 , 2012, p51.
12- livresque n15, 2012 , p43.
13-جاك دريدا، أحادية الآخر اللغوية، ت : عمر مهيبل، منشورات الاختلاف – الجزائر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008، ص 68/69.
14-محمد شوقي الزين، إزاحات فكرية : مقاربات في الحداثة والمثقف، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2005، ص 9.
15- Mohamed Chaouiki zinne , identités et altérites ; réflexions sur l’ identité au pluriel , ed el Ekhtilef , Alger ,2002, p23
16-بختي بن عودة، جان الحداثة، مجلة التبيين، الجاحظية، ع 5، 1992، ص 157.
17-عمر مهيبل، من النسق إلى الذات ص 79
18-بشير مفتي، الهوية المجروحة : أسئلة الذات المتناحرة، مجلة الاختلاف، ع 2، 2002، الجزائر، ص 53.
19-وحيد بن بوعزيز، الهوية والعنف : الشعرية كمطية للاختلاف، مجلة الاختلاف، ع 2، الجزائر، 2002، ص 61.
20-عبد الوهاب معوشي، كيف تعشق اللغة الفرنسية دون أن تفترسك، الجزائر نيوز، 12 فيفري 2008.
21-أم الخير تومي، الخطاب الإعلامي والمسألة اللغوية بالجزائر، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ع 394، ديسمبر 2011، ص 104.
ملاحظات تعريفية
* مفكر وباحث جزائري، من أبرز المدافعين عن اللغة العربية، ترك كتابات هامة في مجال اللغة والهوية والتعريب.
** من أهم المثقفين الجزائريين الذين كان لهم تأثير كبير في اتخاذ الخيارات الثقافية والتربوية في الجزائر الحديثة، عرف بانفتاحه على الفكر الغربي الحديث والتراث العربي، يؤسس مقاربته الفكرية على النزعة التاريخية والفكر النقدي، خاض سجالات كثيرة في مجال التعريب والهوية الوطنية، شكل كتابه (الجزائر: الأمة والمجتمع) مؤلفا مرجعيا في الثقافة الجزائرية الحديثة.
*** يعد عبد الله شريط من أبرز المفكرين الجزائريين في السبعينيات وبداية الثمانينيات، قدم إسهامات كثيرة في الصحافة الجزائرية، وخاض معارك فكرية مع مختلف التيارات الايديولوجية، اشتهر بحسه النقدي ومواجهته الفكر التقليدي، عرف أكثر بكتابه الجدلي (معركة المفاهيم).
**** من الروائيين الجزائريين الأكثر شهرة، يكتب باللغتين العربية والفرنسية، يعرف بجرأته الفكرية والسياسية وتفكيكه المستمر للسياجات المغلقة ومحرمات الثقافة التقليدية، من أهم أعماله الروائية بالفرنسية : (التطليقّ، والحلزون العنيد، وألف وعام من الحنين، وبالعربية: التفكـيـك ومعركة الزقاقّ.
***** روائي جزائري باللغة الفرنسية، اشتهر بنضاله من أجل الثقافة الأمازيغية التي قدم فيها دراسات أنتروبولوجية. من أعماله الروائية: الربوة المنسية، والأفيون والعصا ّ.
****** مارغريت عمروش وشقيقها جان عمروش من كتاب الجيل الأول في الجزائر، من منطقة القبائل، يعتنقان المسيحية، كتبت مارغريت الرواية، ومن أعمالها: البذرة السحرية، والعاشق المتخيل، في حين عرف جان شاعرا، من مجموعاته: رماد ونجمة خفية، وأغاني بربرية من القبائل.
*******روائية جزائرية تكتب باللغة الفرنسية عضو الأكاديمية الفرنسية، من أعمالها: العطش، والحب والفانتازيا، ونساء الجزائر في منازلهن.
******** أحد أهم المثقفين الجزائريين الشباب، اغتيل في بداية التسعينيات في موجة الأزمة السياسية. قاد بختي حركة تحرير الإنتاج المعرفي الجزائري من هيمنة الايديولوجيا وسلطة السياسي، حيث بشر بالتفكيك وثقافة الاختلاف، مولعا ولعا كبيرا بديريدا، ومعجبا بالخطيبي، له كتابات فكرية كثيرة ومغرقة في الحداثة، جمع بعضها قي كتاب (رنين الحداثة).