عندئذ تأفلُ كل الشُّموس..
تَرْنيمات الجَداوِل وضَجّة النّسْيان
عُبور الضَّيْق وهذا الفَضاء الرَّحيب
نِداءات تَنْبَعِث من بين الأسطُر
التِقاطَ العُمْق ثم الانْقِضاض.
الكل يَبْحَثُ عن الـمَلاذ،
فات أن أُعْلِن الرحيل
وذاك ضَوءٌ خافِتٌ لِما وَقَعَ هنا.
في الظّلام لن أراكِ
تَتَماوَجين وتَجولين
وأحياناً تُهاجمني صورتك على ذِراعٍ أُخْرى،
تُحاوِلين إشعالَ الفَتيل
أو إخْماد نار الاحتِراق،
هكذا أتَذَكّرُكِ بِحَسْرة.
كلما تَأفُل شمسٌ في حياتي-
أُعِدُّ نَفْسي لِلتَّحْديق الطَّويل
حيث الأُفُق مُعْتِمٌ أرى كُل شَيء،
حَتى اللاشَيء يَتَجَلَّى بِوُضوح.
أرْمي بِجَليدي على نار الاسْتِعارة
يَمتَلِكُني السَّديمُ وأعانِقُه بنَوع من الافتِتان الوَهْمي
لحظات صاحَبْتُها منذ التَّداعي:
أزَلْتُ الغُبار على مَنْزِل دوستويفسكي لِلْأمْوات
وقصائد ’بوشكين‘ فقَدْتُها تحت السَّرير
لما تَغَلْغل الصّقيع في عُروقي،
آوَتْني صَحراء ’ستيفان كراين‘.
صِرْتُ تائِهاً أُناقِشُ الحُب مع حَفَّار القُبور
على مَقْعَدي الشَّائِك صاحبت ’صامويل بيكيت‘
نصبت خَيْمَةً تَأوي مِن كُل شَيء، إلا الحَرارة والإخفاق
أُكَشِّرُ سِلاحي لِلْمَوْتى
وأجْهِز على بَقايا الحياة؛
من أجْل الحَياة.
أنتِ الرّمق وأنا كنت أنتِ!
سُقوط هناك من أجْل الضَّخ
ونُهوضٌ هُنا مِن أجْل الاسْتِنْشاق
لن أنْسى: أنكِ كنتِ صَفْحَةً بَيْضاء؟
في حَياتي الـمُزَرْكَشة
شاطِريني الرأي؛
أنا هَكَذا تَمكَّنْتُ من صُنْعك عن بُعد.
أحَقاً غادرتِ الجِوار؟!
ابتَعَدْتِ وتَرَكْت غُرابَ ألان بو ينهش قَلْبي.
كلما عَبَرْتُ بالبَيْت العِمْلاق،
يُفْزِعُني الباب الرَّمادي.
أَهْرُب من الأنْقاض أسْرعَ ما يُمكن لِمُرتَبِكٍ
وعَيْني مَشْدودة إلى النّافدة
التي كان وَجْهكِ يَلْمَعُ عبر إطارها
الصُّورة لم تَتَغَيَّر والخَوْف شيَّدَ مَلْجَأً في روحي،
روحي التي اعْتادَت نَسيمَك
ولو مِن الجانِب الآخَر لِلطّريق
أنتِ وَحْدَك، أنْتِ الـمِحْنة الأولى
أنت التي عَلَّمْتِني العَزْفَ على كَمان الجمال
الآن، كبرتِ وصِرْت المَرأة ’هاء‘
وأنا صرت العَنْدَليب الأخْرَس.
هذهِ البُؤْرَةُ أمْضَت وَكْراً لِذِكْرى الغَدر
غَدْر الحُبّ الذي أَهْمَلَني يافِعاً،
أنا الضَّئيلُ ذو القَلْبِ الهائِلِ.
أضَعْتُك في مكانٍ ما هُنا بِداخِلي
الآنَ وجَدْتُه، لَكِنْ شاغراً
آهٍ، ألازلت تَكْبُرينَني بِسَنَة كامِلَة؟
لا أُصْغِي لِأُغْنِية ’راحلَة‘
وكلما نَطَقَ أَحَدٌ بِكَلِمَةِ الرَّحِيل
يَنْكَمِشُ قَلْبي وأُحِسُّ بِاللَّسْعَةِ الأولى
تجري في عروقي
أَخافُ من الغَديرِ أمامي كُلَّما أَمْطَرَت
ولا أَتَوَقَّفُ عن التِّجْوالِ في الأَزِقَّةِ البالِية.
هذا أنا: مَجْنونٌ بلِباسٍ مُهَنْدَمٍ
في الأَمْكِنَة التي كُنَّا نَرْتاد،
من وإلى مَدْرَسَة الحُبّ المدْسوس.
اليَوْمَ أَلْقيْتُ التَّحِيَّة على بَقايا خَطَواتِك
مُرْتاداً طَريقَكِ، مُخَبّئاً الزهرة التي أهْديتني
مع أزهاري التي فَقَدَتْ رائِحَتَها، لَوْنَها ورقْصها
رَغْمَ الرّيَاح، رَغم الشَّمْس ورغم الـمَطَر.
بَلْدَتُنا بلا حَديقَة،
وأَنْتِ كنتِ كل الأَزْهار.
أتذْكُرين:
ذَلِكَ الشّتاء ساعَدْتُكِ على القَفْز
والرّكض تحت المطر.
كُنَّا سِنْجابَيْن بدون أَغْصان،
إلا أن عالَمنا ذاك كان مُغَطَّى بظلال العِشْقِ
عِشْقٌ لم يُطْلَق سراحَهُ يَوْماً،
عشق بلا أمل-
ظَلَّتِ الأيْدي مُتَشَبّثة بتراجُعها،
حتى تَداعَت من هَوْلِ التَّجَمُّدِ.
أينك الآن لكي أُطْلِقَ العِنانَ لِعَوَاطِفي،
سَأُحَدّثْكِ عَنِ الحُبّ القادِمِ مِنْ أقْصى الشَّمال
وعنِ المِظَلَّة التي أَحْرَقَتْها شَمْسُكِ السَّاطِعَة
عن مِيَاهِ ’الفولجا‘ التي جَدفْنا فيها بِزَوْرَقِنا الأحْمَر
في لَيالي الذَّوَبان والانتِظار.
سَأُريكِ زَهرة البارباريس التي لم نَقْطِف من مُنْحَدَرَاتِ ’الإلبروز‘
هل فاتَ لك أن سَمِعْتِ بِأُغْنِيَّة: ’غريب في موسكو‘؟
أنا غَرِيبٌ هنا من دونك.
أعرف أن الاستيقاظ على إيقاعِ قُبْلةٍ من شفتيك،
مُجرّد حُلم في ليْلة مَيّتة.
اقْتَرِبي وحَدِّثِيني عن الحِضْنِ الذي يحْضُنُكِ آنِياً
لا ولن أَصْرُخَ: ”ذلِك ليس عَدْلاً سيدتي!“
اقْتَرِبي أَكْثَر لِأُخْبِرَكِ بكل الحَقائق؛
سَأُحْصي لك عَدَدَ الأَطْيافَ التي طَافَت بهذا القلب
عن النَّدى الذي لم يَتَأَتَّ في صَباحٍ رَبيعي
عن الرّياح التي تَوَقَّفَتْ وأَشْرِعَتي تَنْشُدُها
عن صورَتِك الْمُتَلَأْلِئَة في خَيالي-
ذَلِكَ وَجْهَكِ الذي يُراوِدُني وأنا أَنْثُر أَشْعاري هاته.
صورتك دوْماً تُحدّثني-
عن لَحَظاتِ اشْتِيَاقِ لك
عن لَيْلَةٍ ولَيَالٍ بِقُرْبِكِ
عن أَحْلَامي الهندية
عن رُوحي التي لا تَكَل
وجَسَدي الذي أَصابَهُ رُعاشُ مَغِيبَك.
شاعر ومترجم من المغرب