السياسيون غالبًا لا يفصحون عن أهدافهم النهائية من أعمالهم، فقلما تجد سياسيًّا -فردًا أو حزبًا أو جماعة أو مؤسسة- يقول إنه يريد الاستيلاء على السلطة، أو إقصاء معارضيه بالسجن أو بالتصفية، أو أنه يهدف إلى إخراس هؤلاء المعارضين وتكميم أفواههم، رغم أن هذه الأشياء كلها تحدث على أرض الواقع الآن من جماعة الإخوان المسلمين ضد منتقديهم، بشكل يومي، بل إن قادة هذه الجماعة يسارعون إلى إصباغ أوصاف ومصطلحات رومانسية على أفعال إقصائيّة وديكتاتوريّة ودمويّة، كالحفاظ على الأمن أو على وحدة الأوطان أو بتر الأيادي الخارجية التي تتخذ من المعارضين أدوات لها، أو إن فلولاً يندسون بين المعارضين "الشرفاء" ويقتلونهم.. وكأننا نستمع إلى قادة مبارك بنفس المنطق واللغة.
الصراع الدائر في مصر الآن-الذي أصبح دمويًا للأسف- يمكن تصنيفه على تلك الخلفية، فالخطاب السياسي المعلن من جماعة الإخوان المسلمين يقول كلامًا كثيرًا في كل وسائل الإعلام عن أسباب الصراع، دون أن يقترب من جوهره، فتجد مثلاً أنهم يتهمون القوى الليبرالية بأنها تتشدق بكلام منمق عن الديمقراطية ولا ترضى بنتيجتها التي حملت محمد مرسي إلى مقعد الرئاسة عبر انتخابات حرة، وأنهم يتحدون مع الفلول أعداء الثورة لإفشال التجربة الإسلامية، كما أنهم يتحدثون عن شكل الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور دون اللالتفات إلى المنتج الذي أفرزته، والذي يعد أهم الدساتير في العالم من حيث الحفاظ على حقوق المواطنين وحفظ حرياتهم، ويقدمون أمثلة كثيرة أهمها إصدار الصحف بالإخطار، ولا ينسون أن يتكلموا عن معاناتهم طوال 80 عامًا، وعن عدد السنوات التي قضاها أعضاء الجماعة في السجون. وهو كله كلام فيه بعض من الحقيقة، لكنه يغفل الأسباب الحقيقية للصراع عن عمد.
الوجه الآخر للحقيقة أن القوى المدنيّة التي تعارضهم الآن ليست مسئولة عن تشريدهم وسجنهم، بل لقد عانوا أيضًا من اضطهاد مماثل إن لم يزد، فضلاً عن حملات الإرهاب وتشويه السمعه والتجريس. كما أن إصدار الصحف بالإخطار ليس-وحده- الغاية التي يسعون إليها، وهم ليسوا على استعداد للتنازل عن أهدافهم الكبرى في الحرية والعدالة الاجتماعية وإرساء قواعد دولة مدنية يحكمها القانون الذي يتساوى أمامه الحاكم والمحكوم، فضلاً عن المساواة حسب المواطنة والشراكة في الوطن بصرف النظر عن الدين الذي ينتمي إليه المرء، من أجل إصدار صحف بالإخطار، خصوصًا أن لديهم مخاوف قديمة ترتكز على أدبيات الجماعة وتصريحات وكتابات قادتها التي تعلن أن الديمقراطية حرام، وأنهم إن حكموا إنما يحكمون باسم الله، وبالتالي لا يكون هناك كلام عن التداول، وهو ما بدأنا نراه الآن بالفعل على أرض الواقع بعد أن وصلوا إلى الحكم، كما أن البرامج المعلنة للإخوان المسلمين ترى أن الوسيلة المثلى لتحقيق العدالة الاجتماعية لا تقوم على إجراءات حاسمة تنفذها الدولة لسد الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء كتطبيق الحدين الأدنى والأعلى للأجور والضرائب التصاعدية، بل على توزيع الزكاة في أواخر شهر رمضان من كل عام، وحث رجال الأعمال على تقديم الصدقات! بخلاف أن برامجهم الاقتصادية تقوم بالأساس على النظام الرأسمالي الذي لا يهتم بالطبقات الدنيا في المجتمع، بالضبط مثل النظام الذي ثار المصريون ضده.
أصل الصراع الحالي أن الطرفين المتصارعين شاركا في صناعة الثورة المصرية ونجاحها، كل بقدر مشاركته، وليس موضوعنا هنا من بدأ ومن التحق، لمن كانت الأكثرية ولمن الأقلية، من فاوض النظام الساقط ومن رفض التفاوض إلا بعد الرحيل، من نزل من قطار الثورة عند حد معين ومن أصر على استكمالها حتى تحقيق كامل أهدافها، من قدم الشهداء والمصابين والمفقودين ومن لا، من تحالف مع العسكر ومن دفع ثمن هذا التحالف.. الخ، ليس مهما كل هذا، المهم أننا أمام طرفين لكل منهما مشاركته غير المنكورة في صنع الثورة، وأرضيته في الشارع المصري، سواء أكانت منظمة تخرج بأوامر ولمدد وأهداف معينة، أم كانت عشوائية تخرج من تلقاء نفسها عندما تستشعر خطرًا يهدد الثورة وأهدافها المعلنة.
المشكلة أن جماعة الإخوان المسلمين بعد أن وصلت للسلطة بدأت تدير ظهرها لشركائها الثوريين، وتتنكر لحقوقهم وأهدافهم التي خرجوا من أجل تحقيقها، وتريد فرض فهمها هي وأهدافها هي فقط، فهي جماعة براجماتية تعاملت وتتعامل مع الثورة -والمجتمع ككل- بمنطق الفرصة، وتريد أن تحصل على أكبر قدر ممكن من المكاسب، دون اعتبار لشكل الوسائل التي تستخدمها -والتي وصلت إلى حد ارتكاب جرائم القتل- ولتأثير ذلك على شركائها في المشهد الثوري.
المشكلة إذًا ليست في الإعلان الديكتاتوري الذي أعلنه محمد مرسي يوم 22 نوفمبر من طرف واحد -مع اعترافي أنه مشكلة كبيرة في ذاته- فالمصريون لا يحترمون القرارات السيادية في العامين الأخيرين وأهمها قرارات حظر التجول مثلاً. وليست المشكلة في مواد الدستور الذي يمكن أن يكون جيدًا أو متوسط الجودة، فالتاريخ يعلمنا أن أنظمة الحكم الاستبدادية لا تحترم الدساتير، كما أن حشد السلطة الحاكمة للناس في الشوارع والميادين ليست دليلاً على شعبيتها، أو أنها على حق والآخرين على باطل، فجمال عبد الناصر أخرج المصريين للشوارع عام 1954 يهتفون ضد الديمقراطية، وهو ما نعاني منه حتى الآن.
جماعة الإخوان المسلمين لا تريد أن تشارك في صياغة مستقبل مصر على قدر مشاركتها في الثورة أو حجمها الحقيقي في الشارع السياسي المصري، هذا الحجم الذي يتراوح حول الربع حسب تقديرات من صنعوا الحدث في الميادين من ناحية، والخبراء الاستراتيجيين من جهة أخرى، بل إنهم يستندون إلى حصولهم على نسبة مرتفعة في الانتخابات البرلمانية التي تمت في نوفمبر 2011 ويريدون نصيبًا يوازي نتيجتها، ولا يلتفتون عمدًا إلى الأحداث التي صاحبتها في شارع محمد محمود حيث كانت القوى المدنية مشغولة عن الانتخابات بمقاومة طمع المجلس العسكري في الحكم ومد الفترة الانتقالية دون إعلان عن موعد محدد لنهايتها، أو إلى أن هذه النسبة لم تكن هي نفسها في الانتخابات الرئاسية.
أصل الصراع إذن أننا أمام طرف يمارس بلطجة سياسية ليجني مكاسب أكثر كثيرًا من قدراته الحقيقية، مستعينًا بأدوات الدولة التي وضع يده عليها: مؤسسة الرئاسة والسلطة التشريعية والجيش والشرطة والحكومة بجهازها التنفيذي.. الخ، حتى أن الإعلان الدستوري هدف أصلاً إلى السيطرة على السلطة التي لم تستسلم تمامًا حتى الآن، سلطة القضاء، بعد أن جرب معها أساليب متعددة: الرشوة والتخويف والتشويه، ولم يفلح تمامًا. كما أننا أمام طرف آخر -أنصار الدولة المدنية- لا يستطيع استثمار قوته بالشكل المطلوب، رغم أنه يملك الكوادر والقواعد والمثقفين والمفكرين.. الخ، ربما لأن قادته يفكرون في مكاسب فردية تعود عليهم هم، لا في مصلحة الوطن عامة، وربما لم يظهر من يبلور أفكار الشارع إلى برامج تستوعب طاقات الشباب وتوجهها توجيهًا سليمًا.
الإخوان المسلمون أكثر من يعرف أن وحدة التيار المدني سيقصيهم ويضعهم في حجمهم الحقيقي، لهذا يقاومون حدوثه بكل السبل، التي أولها الكذب والمراوغة والإرهاب بحشد الناس في الشارع، وليس آخرها الاعتداء على المتظاهرين السلميين وترويعهم وقتلهم.