يقدم الباحث صورة بانوراميّة لنقد نقد السيرة الذاتية في الأدب العربي، ويستبين أهم أوجه ممارسته في العقود الأخيرة، بوصفه معبراً لدراسة النصوص الأدبية، ومحوراً للبحث المتخصص. كما يرصد خصوصيات كل وجه منه وأهم محاوره ومضامينه الأساسية في سياقاته التاريخية.

نقــد نقــد السيـرة الــذاتية في الأدب العربي

رصد لأوجه الممارسة

عبد الله توفيقي

استهلال
سنحاول في هذا المقال المقتضب تقديم صورة بانورامية لحقل:"نقد نقد السيرة الذاتية في الأدب العربي"، تستجلي أهم أوجه ممارسته في العقود الأخيرة من القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة للميلاد، مع التوقف على رصد خصوصيات كل وجه منها في علاقته بسابقه، وإبراز أهم محاوره ومضامينه الأساسية. في تتبعنا لسيرورة تطور نقد نقد السيرة الذاتية العربية، يمكننا أن نتوقف عند وجهين إثنين بارزين لهذه الممارسة:

1- ممارسة نقد النقد بوسمه معبراً نحو الدراسة النقدية لنصوص أدبية
لم يتبلور التفكير الميتانقدي في السيرة الذاتية في الأدب العربي في وعي النقاد العرب المعاصرين كموضوع مستقل بذاته، بل ظل أسير رؤية براغماتية حصرت مجال اهتمامه في مجرد إشارات وملاحظات –لا تتعدى في حدها الأقصى بابا من أبواب الكتاب- يدلون بها في حق الأعمال النقدية التي سبقتهم، وتكون بمثابة تمهيد يؤهل الناقد ليقدم عمله الجديد، حيث يسعى إلى تدبيجه بعبارات الشكوى من غياب دراسات نقدية متخصصة من مستواه، وذلك بغاية إكساب عمله نوعا من مشروعية الوجود والتميز، وقد اتسمت هذه الأعمال في غالبيتها بالتلخيص والانتقاء إذ فضل معظمها اتخاذ مقالات نقدية محدودة الانتشار متنا له، في مقابل إهمال كتب نقدية وأطاريح جامعية، دون الإدلاء بمسوغات موضوعية لاعتمادها ولا للتفاوت في توزيع مجال اعتماد كل منها، كما لم تخضع –في بعضها- لأي تأطير منهجي منطقي محكم، وقد تحكم في غياب نقد النقد في مجال السيرة الذاتية العربية الحديثة والمعاصرة افتقار المشهد النقدي إلى حركة نقد سجالي علمي بين خيارات نقدية مختلفة، يمكن أن يؤهل لإثمار نقاش إشكالي علمي حول نقد السيرة الذاتية، يرتفع به عن المستوى المتدني الذي يتخبط فيه، والذي يعكسه بشكل واضح خضوع جل هذه الأعمال النقدية لتسلسل نقدي فريد من نوعه، يتخذ في حده الأدنى شكل تقليد وفي حده الأقصى شكل استنساخ حرفي لمقولات بل لفقرات كاملة، ويتوزع هذا النوع من الممارسة الميتانقدية بين مستويين اثنين:

·        مستوى أول ويتجسد في الكتابات النقدية التي لم تصرح باندراجها ضمن نقد النقد: ونمثل لها:

- بملاحظات شكري المبخوت في كتابه: "سيرة الغائب سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب الايام لطه حسين" (1992) الذي قام في الفصل الثالث من المحور الأول من كتابه والمعنون بـ: الأيام وقضية الجنس الأدبي، (ص32-37)، ببحث النقاط المشتركة بين مجموعة من القراءات النقدية العربية في موقفها من جنس كتاب الأيام وأجملها في ثلاث طرق أساسية ليقوم بعد ذلك بعملية تأطيرها وانتقادها، كما انتقد في الصفحة 24 قضية البحث عن أصول للترجمة الذاتية في أدبنا العربي القديم (نموذج عبد الدايم)، قبل أن يضطر في الصفحة الموالية لها ليعتمد معيار دوافع الكتابة مقياسا في تصنيف نصوص الكتابة عن الذات في الأدب العربي القديم نقلا عن عبد الدايم نفسه، رغم تحفظاته البسيطة عليه.

- وإشارات عبد القادر الشاوي في كتابه: "الكتابة والوجود: السيرة الذاتية في المغرب" (2000) الذي عنون مبحثا استهل به كتابه بـ: "السيرة الذاتية في الأدب العربي" {صص19-26}، عمل من خلاله على تسجيل ملاحظاته حول مجموعة من الدراسات النقدية التي سبقته في مجال السيرة الذاتية.

·        مستوى ثان ويتمثل في الكتابات النقدية التي أطرت مداخلها ضمن نقد النقد انطلاقا من وعي نقدي صريح: ونمثل لها:

- بملاحظات عمر حلي في كتابه "البوح والكتابة: دراسة في السيرة الذاتية في الادب العربي الحديث" (1998) في نقده لمبدأ الضمير في تقسيم السيرة الذاتية: (عند شكري المبخوت – عبد الدايم – محمد علوط – أحمد اليبوري) {صص112-122}، ونقده حالة اسم الغائب في فهم شكري المبخوت (ص80-81)، ونقده قراءة عبد القادر الشاوي للعلاقة بين "الخبز الحافي" و"الشطار" من خلال مقال له (ص258-260)، حيث عمل على الكشف عن العديد من الأوهام التي كانت تعيق قراءة النصوص المنتمية لهذا النوع، كما قام بإظهار مواطن الخلل في الخطاب النقدي العربي حول السيرة الذاتية، ومن ثم تبين الخلل الماثل في خلفيات تفكيرها (ص275 س14)، ويرسم لنا الأفق الذي يضع فيه هذه المناولة قائلا: "وحينما أقدمنا على بسط أهم هفوات النقد السيرذاتي السابق كنا نؤسس في الوقت نفسه لمسار جديد نلج من خلاله إلى قراءة جديدة للنوع السيرذاتي في الأدب العربي الحديث" (ص276 س7).

- وبالمجهود المتميز للناقدة جليلة الطريطر في كتابها: "مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث (بحث في المرجعيات)" (2004) والمنحصر بالأساس في الباب الرابع المعنون بـ: "مقومات خطاب السيرة الذاتية العربية النقدي: السمات والإشكاليات" والممتد على حيز 82 صفحة (ص251-333) موزع على أربعة فصول، عملت في الاثنين الأولين منه على محاولة تصنيف للمتن النقدي العربي الحديث في السيرة الذاتية إلى دراسات عرضية (في إطار الرواية أو في التراجم والسير) ودراسات مختصة بالسيرة الذاتية (مطولة ومقالات)، وقدمت في الفصل الثالث نظرة عن النقد المؤطر للسيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث والمعاصر، في حين اجتهدت في الفصل الرابع في إقامة دراسة لثلاث قضايا أساسية مؤطرة للعملية النقدية المعاصرة في السيرة الذاتية هي: قضية الأصول الأجناسية، وقضية التعريف، وإشكالية تصنيف نصوص السيرة الذاتية العربية الحديثة، وتستهله بتمهيد مطول (صص253-256) تشرح من خلاله أهمية نقد نقد السيرة الذاتية العربية وضرورته ووظائفه، وإن كانت محاولتها هذه تفتقر -من منظورنا- إلى جملة مواصفات ترقى بها إلى مستوى ممارسة ابستمولوجية، من ذلك غياب تصريحها بأهداف واضحة لممارستها النقد نقدية إضافة إلى التفاوت البين في حيز اعتمادها للمتن النقدي المدروس كتبا ومقالات، وعدم خضوع دراستها لإطار منهجي عقلاني ومنطقي.

2- ممارسة نقد النقد بوسمه محور دراسة نقدية أكاديمية متخصصة ومستقلة
وعيا منا بما سبق، وأمام خلو المشهد النقدي العربي من أية مبادرة جادة تستحق الإهتمام في مجال نقدنقد السيرة الذاتية، تأتي مبادرتنا الأكاديمية الموسومة بـ"السيرة الذاتية في النقد العربي الحديث والمعاصر: مقاربة في نقد النقد"(*). فبرغم التراكم الكمي والنوعي الهام الذي تحقق على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين في مجال الدراسات التي تعنى بالسيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث والمعاصر, سواء على مستوى النقد الأكاديمي (رسائل وأطاريح) أن على مستوى النقد الصحفي (مقالات نظرية، دراسات تطبيقية...)، فإن هذا الرصيد الهام من الكتابات النقدية لم يحظ لحد الآن بالتفاتة أكاديمية معمقة تؤرخ لتمفصلاته الكبرى, وترصد أسئلته وإشكالاته النظرية المهمة (المفهوم/ التجنيس/ النمذجة/...) وتسائل اختياراته المنهجية المعتمدة، مما قد يضمن لعملنا هذا سمة التميز والأسبقية، ويجعل منه مبادرة تأسيسية في هذا المجال.

ويتوخى عملنا هذا تحقيق الأهداف التالية:

- تتبع صيغ اشتغال نقد السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث والمعاصر عبر مقاربة أهم اشكالاته وأغلب العناصر المكونة لنسيج تبنينه.

مساءلة نقد السيرة الذاتية في الأدب العربي القديم والحديث والمعاصر، والوقوف على أهم مواصفات الوضع الإشكالي الذي يمر به.

ربط التفكير النقدي في السيرة الذاتية بعوامل إنتاجه وتلقيه مما يضفي عليه سمة الفاعلية، ويجعله مشروطاً بمحيط تداوله وإواليات إنتاجه.

كشف الخلل في الممارسة النقدية، والسعي إلى تصحيحه وتقويمه.

المساهمة في التأريخ للتلقي النقدي للسيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث والمعاصر عبر الوقوف على أهم تمفصلاته الكبرى.

ويتأطر البحث في مجال نقد النقد (Métacritiques) باعتباره اشتغالاً ضمن مجال فلسفة العلوم أو نظرية المعرفة أو ما اصبح يعرف اختصارا بـ"الإبستمولوجيا".

وسنتخذ من المبادئ الإجرائية التي بسطتها الناقدة "جوهانا ناتالي" في مدخل دراستها للكتابات النقدية التي تناولت "قطط" بودلير بالتحليل والنقد إطارا منهجيا لمقارباتنا النقد نقدية هذه، والمتمثلة بالأساس في الكشف عن الأهداف الرئيسية والثانوية للدراسة، وتحديد الرؤية المنهجية المعتمدة فيها، وتحديد المتن المدروس، والتحقق من ضوابط الممارسة النقدية عبر خطوات إجرائية ثلاث لا تخلو من شيء من التداخل هي على التوالي: الوصف، التنظيم، التأويل، اختبار الصحة(1).

مستثمرين في ذلك الإضافة المنهجية التي طعم بها الناقد حميد لحمداني هذه الوصفة والمتمثلة في مبدأ التقويم الجمالي، ومن الصيغ المتعددة والثرية لتطبيقه لهذا الإطار المنهجي في أعماله النقدية التالية: سحر الموضوع(1990). والنقد النفسي المعاصر(1991). وبنية النص السردي من منظور النقد الأدبي(1991). والنقد الروائي والإيديولوجيا(1991). والنقد التاريخي في الأدب: رؤية جديدة (1999).

وتوخيا منا للتركيز والدقة والإحاطة العلمية الشاملة التي يقتضيها موضوع نقدي بهذا الحجم. فقد آثرنا أن نمفصل هذا العمل إلى بابين اثنين: أفردنا الأول منهما لتسليط الضوء على بعض قضايا وإشكالات السيرة الذاتية في النقد العربي الحديث والمعاصر، وخصصنا الثاني منهما لـتتبع مسار تطور نقد السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث والمعاصر وتحولاته الكبرى.

ومراعاة منا للانسجام والتوازن اللذين يتطلبهما مثل هذا العمل فقد فضلنا تقسيم كل باب إلى فصلين اثنين، فتناولنا في الفصل الأول من الباب الأول:السؤال التاريخي في السيرة الذاتية العربية بطرح إشكالية الكتابة عن الذات في الأدب العربي القديم من منظور النقاد العرب المحدثين، عبر مقاربة نقدية لعينة مقالات نقدية عربيالأول بعنوان "الحديث عن الذات في كتاب التعريف لابن خلدون" لعبد الفتاح كيليطو (1987).

والثاني بعنوان "في استنطاق النص: حي بن يقظان سيرة ذاتية لابن طفيل" لعبد الله إبراهيم (1990).

لنعرض بعد ذلك في الفصل الثاني من نفس الباب للسؤال التجنيسي في السيرة الذاتية العربية بملامسة إشكالية تجنيس السيرة الذاتية في النقد العربي المعاصر ما بين أطروحتي الجنس الخالص والتداخل الأجناسي عبر مقاربة نقدية لمقالين اثنين:

الأول لعبد المحسن طه بدر بعنوان "رواية الترجمة الذاتية" الفصل الثالث من الباب الثاني من كتابه تطور الرواية العربية الحديثة في مصر(1963).

والثاني لحميد لحمداني بعنوان "طبيعة السيرة الذاتية وعلاقتها بالرواية" (1984).

في حين عرضنا في الفصل الأول من الباب الثاني لتلمس الإرهاصات الأولية لتشكل وعي نقدي طليعي بالسيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث عبر مقاربة نقدية لثلاثة كتب مشرقية ذات مرجعية انجلوساكسونية هي:

"فن السيرة" لإحسان عباس (1956).

"الترجمة الشخصية" لشوقي ضيف (1956).

"الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث" ليحيى إبراهيم عبد الدايم (1975).

وفي الفصل الموالي من الباب عينه قمنا برصد الجهود الكبرى لتأسيس نقد أكاديمي في جنس السيرة الذاتية في الأدب العربي المعاصر عبر مقاربة نقدية لأربعة كتب نقدية مغاربية ذات مرجعية فوفرنكنية هي:

-       "الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث: سبعون لميخائيل نعيمة" لفوزية الصفار الزواق (1999).

-       "سيرة الغائب.. سيرة الآتي: السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين" لشكري المبخوت (1989).

-       "البوح والكتابة: دراسة في السيرة الذاتية في الأدب العربي" لعمر حلي (1998).

-       "الكتابة والوجود: السيرة الذاتية في المغرب " لعبد القادر الشاوي (2000).

واستهللنا هذا كله بتقديمٍ بسطنا فيه دوافع اختيارنا لهذا الموضوع وبيان أهميته وتحديدا لأهدافه وإطاره المنهجي والمتن الذي نقترح دراسته وبيان تصميمه والعوائق والصعوبات التي اعترضتنا إبان إنجازه. وأتبعناه بمدخل نظري قمنا فيه بمقاربة نقدية لحدي مصطلح ومفهوم السيرة الذاتية في الوعيين اللغوي والمصطلحي العربيين، وذيلنا المجموع بخاتمة أوجزنا فيها حصيلة الاستنتاجات التي خلصنا إليها في دراستنا هذه.

 

الهوامش
(*) عنوان كتاب صدر عن دار عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع بإربد بالأردن مطلع 2012، في 254 صقحة من الحجم الكبير.وهو في أصله جزء من الأطروحة التي تقدمنا بها لنيل شهادة الدكتوراة من شعبة اللغة العربية وآدابها والتي تمت مناقشتها يوم الإثنين 19 يونيو 2006 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز-فاس، بإشراف الدكتور حميد لحمداني واستحقت ميزة مشرف جداً.

(1)- Johanna Natali Smit: «Les chats et l'analyse poétique: des critiques des "chats" du Boudellaire», in: La logique du plausible: Essais d'épistémologie pratique en sciences humaines, Ed. La maison des sciences de l'homme, Paris, 1987, pp. 103-139.