ما هو وضع الدولة الصهيونية في الوضع العالمي الذي يتشكل؟ وفي التحولات التي تجري فيه؟ وأيضاً في ظل انفجار الثورات في الوطن العربي، وربما في العالم؟ الفارق بين الدولة الصهيونية والدول "الطبيعية" هي أنها تشكلت كقاعدة عسكرية إمبريالية في مواجهة المنطقة، ولكنها تشكلت على صيغة دولة ومجتمع. بمعنى أن المجتمع والدولة هما الغطاء على "الوجود الفعلي" لقاعدة عسكرية. لكن هذين الأمرين، القاعدة العسكرية وتشكيل المجتمع، جعلاها في وضع "غير طبيعي"، حيث إنها تحتاج إلى ضخ مليارات الدولارات من أجل تنفيذ كل منهما.
الدول الطبيعية لا تحتاج إلى بناء مجتمع لسكان يجلبون من العالم. ولا تحتاج إلى ضخامة في الإنفاق العسكري، إنفاق يتجاوز قدرات دول صغيرة حتى في الوضع الطبيعي.
هذا الأمر كان يفرض الحاجة إلى "المساعدات"، لكن المساعدات الضخمة. المساعدات من أجل "البناء" والإسكان وعيش المهاجرين. والمساعدات العسكرية التي هي أضخم من مقدرة دولة صغيرة وناشئة، بالضبط لأنها "قاعدة عسكرية" لمواجهة المنطقة، وضمان منع تطورها عبر التهديد والحرب عند الضرورة كما حدث في فترات سابقة.
وبالتالي يظهر الارتباط الوثيق بين وجود هذه الدولة وحاجات الدول الإمبريالية التي عملت للسيطرة على الوطن العربي، ورسمت واقعه المجزأ والمتخلف والهش. ودور الدولة الصهيونية هو حماية كل ذلك أولاً، الأمر الذي لا يتحقق سوى عبر الهيمنة المباشرة على المنطقة، وهو ما كان يجري العمل من أجله خلال العقود الستة من عمر هذه الدولة. ووصل الأمر إلى السعي لتفكيك المنطقة طائفياً وإثنياً وقبائلياً من أجل تحقيقه.
وإذا كانت الدولة الصهيونية قد بنت علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع أوروبا، فقد كانت في "علاقة عضوية" مع الإمبريالية الأميركية. فقد كانت تحصل على المساعدات العسكرية السخية منها. لكنها كانت تحصل على ما هو أهم، أي على الدعم المالي بشكل مباشر عبر مساعدة معروفة، وغير المباشر عبر تسهيل تطورها الاقتصادي وفتح الأسواق لسلعها ضمن "الحصة الأميركية"، وتسهيل دخول هذه السلع إلى أميركا دون قيود، ودون اعتبار أنها سلع منافسة. كما كانت تشكل جدار الحماية لها في المحافل الدولية، والمروج للتعامل معها مع كثير من بلدان العالم. بمعنى أنها كانت تتقاضى أجرة كونها "قاعدة عسكرية"، وكانت الإمبريالية تلتزم كل مستتبعات ذلك.
الآن نحن في وضع متغيّر. أميركا تنسحب من "الشرق الأوسط" بعد أن أنهكتها الأزمة "المالية". وتشكل العالم أحادي القطب ينهار. وهناك عديد من الدول التي تسعى للتحول إلى "قوة عالمية"، وتحالفات تصاغ على أمل فرض سيطرة محور على حساب آخر. لكن كل ذلك يجري في ظل أزمة عميقة تعيشها كل هذه الدول والنمط الرأسمالي ككل.
وبالتالي من غير الواضح من سيكون القوة المسيطرة أو هل ستكون هناك قوة مسيطرة. ما يبدو أنه في طور التشكل، أو ما يظهر إلى الوجود، هو أن هناك محوراً يتراجع وينهار هو الرأسمالية القديمة (أميركا وأوروبا واليابان)، ومحوراً يتشكل بهدوء هو محور روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا. وأن دولاً مثل تركيا تحاول أن تكون ضمن "الأقطاب".
لقد تأسست الفكرة الصهيونية بالترابط مع الرأسمالية الإنجليزية، وحين نهضت ألمانيا حاولت التحالف رغم التطرف في النظر إلى اليهود من قبل النازية، والذي استغل لتحويل "المحرقة" إلى حالة رعب تفرض هجرة اليهود إلى فلسطين وإلى "ذنب" يحكم الشعوب الأوروبية خصوصاً. لكن الدولة الصهيونية نشأت بالتبعية للإمبريالية الأميركية (رغم استفادتها من علاقة سريعة مع فرنسا)، وظلت طيلة العقود الماضية تعمل وفق الإستراتيجية الإمبريالية الأميركية. وأصبحت أخيراً جزءاً من الإستراتيجية العسكرية الأميركية في المنطقة.
لهذا سيبدو تراجع أميركا أنه ذو أثر مباشر عليها. لكن سيبدو أنها لن تجد بديلاً قادراً على هذا الحمل "الثقيل". ما يظهر هو أن الدولة الصهيونية تعزز علاقاتها مع الهند والصين، وأخيراً مع روسيا، وتقيم علاقات اقتصادية مع هذه البلدان كما مع البرازيل. وبالتالي يظهر وكأنها تترابط مع المحور الذي يتشكل حديثاً، رغم أن علاقاتها الاقتصادية لازالت مع المحور القديم (أميركا وأوروبا). ويبدو أن هذا المحور يعزز العلاقة معها، من الهند والبرازيل إلى الصين وروسيا (وفي هذا السياق تأتي زيارة بوتين الأخيرة).
لكن هل تتحقق "العلاقة العضوية" مع هذه البلدان التي هي ضرورية لكي تستمر؟
هذا ما لا يبدو واضحاً، ربما لها. لأنها تتلمس الأزمة العميقة للرأسمالية التي يمكن أن تطال هذا المحور نتيجة الترابط العميق في الرأسمال، والذي هو السمة الأساس في التكوين الإمبريالي الراهن.
بمعنى أن الرأسمالية متداخلة وأصبح الترابط وثيقاً إلى حدّ خطر انتقال الأزمات من بلد إلى آخر كما لمسنا في أزمة النمور الآسيوية سنة 1997، التي انتقلت إلى أميركا اللاتينية وروسيا. وربما الآن إلى انعكاس أي انهيار في الاقتصاد الأوروبي على روسيا والصين والهند والبرازيل.
لهذا، ورغم محاولات الدولة الصهيونية تعزيز علاقاتها مع "المحور الجديد" فهي ربما لا تثق بأنه حل ممكن، وأنه يمكن أن يؤسس لعلاقة تنقذها من وضعها الذي يغرق مع غرق الاقتصاد الأميركي خصوصاً والرأسمالي عموماً.
إذن، ورغم أن عمر الدولة الصهيونية قد زاد على ستين عاماً فإنها لازالت بحاجة إلى الدعم الاقتصادي الخارجي، بالضبط نتيجة كونها تشكلت كـ"قاعدة عسكرية" قبل أن تكون دولة مهمتها حل مشكلة "مشردين". ولا يبدو أن حجم فلسطين، وكل التطور الاقتصادي فيها يمكن أن يعوّض عن الحاجة التي يفرضها وضع قاعدة عسكرية مهمتها مواجهة منطقة بأكملها. هذه الأزمة هي التي كانت تفرض التوسع الصهيوني، وضمان سيطرة الدولة الصهيونية على المنطقة لكي يتحوّل إلى "إمبريالية إقليمية" قادرة على العيش.
هذا الأمر لا يبدو أن الوضع بات يسمح به، لا السيطرة الإقليمية ولا الدعم الخارجي. ولهذا نلمس بأن الدولة الصهيونية تواجه إشكالين حاسمين، الأول يتعلق بانعكاس أزمة الإمبريالية على اقتصادها، والثاني هو الثورات العربية التي أشّرت إلى نهوض جديد يمكن أن يقلب كلية الوضع القائم.
اقتصادياً، يمكن تلمس أن الاقتصاد الصهيوني في ترابط وثيق بالاقتصاد الإمبريالي، والأميركي خصوصاً. ترابط الرأسمال، والحاجة إلى الأسواق التي توفرها ليس المنافسة بل الاحتكار الأميركي الذي كان يعطي حيزاً للسلع الصهيونية، والمساعدة في تحقيق التطور التكنولوجي. ليظهر الاقتصاد الصهيوني كـ"فرع" في الاقتصاد الأميركي. الأمر الذي يجعل أزمة المركز تصيب هذا الفرع الطرفي.
وإذا كانت قد سعت إلى توفير أسواق بديلة في الهند والصين والبرازيل وروسيا، وتعاونت تكنولوجياً مع الهند والصين، فإنها تظل في حاجة إلى الدعم المباشر (المساعدات) وغير المباشر، ولم تصل بعد (وربما لن تصل) إلى أن تحقق هذه النقلة الضرورية لوجودها كدولة "مستقلة".
هنا نلمس أهمية بحثها عن بدائل، عبر فتح خطوط مع "المحور الجديد". لكن ليس من مؤشر على إمكانية ذلك الآن على الأقل، ولهذا سوف نلمس تفجّر الأزمة الاقتصادية فيها خلال الفترة القادمة كانعكاس للأزمة العامة للإمبريالية. فربما يؤدي انهيار مالي جديد في أميركا إلى انهيار مشابه فيها. وهذا أمر متوقع في الفترة القادمة. كما يمكن أن يؤدي انهيار مالي أوروبي إلى أزمة مشابهة.
كل هذه العناصر تؤسس لارتباك الوضع، والخوف من المستقبل، رغم كل المحاولات التي تجري لترتيب "علاقة عضوية" مع إمبريالية جديدة. لكن الوضع الدولي لم يعد يحتمل الصيغة التي كانت في الماضي، ويدفع إلى تشكيل فوضوي ومرتبك وغير مستقرّ. لهذا يمكن أن نشهد تصاعداً كالحراك الاجتماعي" في الدولة الصهيونية، كما يحدث في بعض بلدان أوروبا، أو حتى كما يجري في الوطن العربي.
الاقتصاد الصهيوني سيدخل مرحلة الأزمة، فهو في تشابك عميق مع الاقتصاد الإمبريالي "القديم"، لم يقطع معه، ولا يبدو أنه قادر على ذلك رغم محاولاته، وكما أشرنا فإن "الجديد" يعيش أزمة "القديم" بالضبط نتيجة تشابك الاقتصاد العالمي.
من الممكن تلمس "خشية" الدولة الصهيونية من الثورات العربية، فقد فتحت الأفق لتجاوز كل التكوين الاقتصادي الذي عملت الإمبريالية الأميركية على فرضه طيلة عقود خمسة, من هذا المنظور يمكن تلمس "خشية" الدولة الصهيونية من الثورات العربية، فقد فتحت الأفق لتجاوز كل التكوين الاقتصادي الذي عملت الإمبريالية الأميركية على فرضه طيلة عقود خمسة.
التكوين الذي كان يلحظ ضمان السيطرة الصهيونية وتوسعها في الوطن العربي. وهو التكوين الريعي المافياوي الذي يفترض التبعية ويؤكدها، ويسمح بالنهب دون رادع، وبالتالي يبقي البنى الاقتصادية المجتمعية متخلفة وملحقة، وسلبية قابلة بالسيطرة.
لكن هذا التكوين، بالترافق مع الأزمة الإمبريالية، هو الذي فرض انفجار الثورات، التي باتت تهدف إلى تجاوز الوضع القائم، ومن ثم تجاوز التكوين الإمبريالي ومستتبعاته. وهو الأمر الذي يعني بالضرورة الصدام مع السيطرة الإمبريالية، والصهيونية بالتالي. لهذا ينفتح وضع سوف يطيح بموازين القوى القائمة، ويفرض متحولات يمكن أن تهدد وجود الدولة الصهيونية. إنها تخشى وضعاً عاصفاً يتهددها في وضع عالمي مربك، واقتصادي خطر.
إذا كان العالم يهتزّ ويسير نحو التغيير العميق نتيجة الأزمة الإمبريالية فإن الدولة الصهيونية تعيش هذا الوضع دون أن تتلمس إلى الآن من "يتعهدها" لكي تستطيع العيش، ربما رغم طموح بعض الدول التي باتت إمبريالية وتسعى للسيطرة على العالم، وهنا روسيا خصوصاً، التي تتطور علاقاتها مع الدولة الصهيونية بتسارع أكبر مما تتطور مع البلدان العربية. لهذا لا بد من ترقب الوضع وملاحظة تحولاته.
(الجزيرة)