يتناول الكاتب التاريخ والمجتمع والدين والاقتصاد في مؤثراتها على قضية المرأة. ويتطرق للنص الذكوري يحلل أبعاده المختلفة، ودوره في تكوين فضاء الاقصائي الجندري. كما يشير لاتفاق النسوية، على تعددها، على المساواة والمفهوم السياسي للحقوق والواجبات في المجتمع.

المرأة والسياسة

سومر الياس

فيما تقرر الطبيعة أو تقرر البيولوجيا أن يكون المرء ذكرا أم أنثى عندما يولد، تقرر السياسة ومن ورائها القوى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ماذا يعني أن يكون الإنسان ذكراً أو ماذا يعني بأن يكون أنثى في هذه الحياة، ففي ظل هذا الكم الهائل من الصور النمطية الموروثة والمهيمنة على عقول الناس يلعب جنس الإنسان دوراً أساسياً ومهما في صياغة طبيعة الصراع السياسي في المجتمعات وبالتالي في صياغة طبيعة القرار السياسي، وعلى الرغم من أن ما أنجزته المرأة والحركات النسوية في العقود الثمانية الماضية وعلى صعيد المشاركة والتأثير في العالم السياسي كان ملحمة تصلح لأن يتغنى بها هيومروس، إلا أنه ومع ذلك فلازال الجنس يشكل عائقاً أمام المرأة في العالم السياسي بشكل أو بآخر، وبالتالي أمام حياتها بشكل عام أو تلك الخيارات المطروحة أمامها لتحيا كما يجب أن تحيا، وسأحاول في هذا البحث القصير أن ألقي الضوء على بعض الحقائق المتعلقة بذلك.

لطالما قرأت هنا أو سمعت هناك مشادات حامية الوطيس بين رجال ونساء حول مواضيع من قبيل أن الرجال أفضل من النساء في السياسة، وإن السياسة، تلك المحتاجة الى عقول صارمة موضوعية، يجب أن تبقى منطقة ذكورية بعيدة عن تلك الميوعة الأنثوية وذلك الهوس الأنثوي بالنفس الفردية، والغريب أن مثل هكذا مقولات وإن كانت تبدو للوهلة الأولى نوعاً من الهذيان الذكوري المحموم فإنها لا تزال فاعلة وبشكل جوهري في العالم السياسي إلى حد كبير، ففي معظم البلدان العربية مثلاً لازالت المرأة محرومة من حق التمثيل السياسي، أو المشاركة في الانتخابات، أو حتى حق التصويت، إنها وفي كثير من البلدان العربية محرومة من أي منصب قيادي. إنها محرومة مثلاً حتى من قيادة مركبة كما هو الحال في السعودية، وحتى في الدول الغربية المتطورة فإن مثل هكذا رسائل ذكورية للمرأة لازال لها صوت يسمع ولازال لها يد تفعل، ففي كندا على سبيل المثال يبقى الوجود النسائي نادراً في المراكز القيادية للأحزاب السياسيّة، فقد كتب الصحفي دون مارتن وبعد خمسة وثمانين عاماً من نيل المرأة لكامل حقوقها السياسية، كتب يقول في عموده اليومي وعندما رشحت المرأة الأكثر قوة في كندا شيلا كوبس نفسها كرئيسة للحزب الليبرالي في عام 2003: إن المرء محتاج إلى بضعة أقداح من التكيلا لكي يستطيع أن يتخيل كوبس كرئيسة للوزراء. واقع الأمر أنة محتاج لأن يقلب زجاجة الكحول هذه كلها في حلقة قبل أن يستوعب مثل هكذا هلوسات. وبشكل مماثل وصف أحد الصحفيين في أحد مقالاته بليندا سترونتش وصفاً جنسياً (hot babe) عندما رشحت تلك الأخيرة نفسها لقيادة حزب المحافظين واصفاً ذلك وبسخرية ذكورية بأنه طموح شقراوات لا أكثر. والأمثلة كثيرة حول تلك العقلية الذكورية التي لاتزال تحكم العالم السياسي من حولنا حتى في تلك الدول التي ساوت بين الرجل والمرأة في القانون مساوة مطلقة، فمثلاً تم طرد عضوة البرلمان الإسترالي كريستي مارشال من البرلمان عندما كانت ترضع طفلتها الرضيعة في أحد جلسات البرلمان، وبالرغم أنه لا توجد قوانين تمنع النساء من ذلك إلا أنه تم طردها بحجة أنه لا مكان للغرباء في المجلس حيث تم اعتبار الطفلة الرضيعة بمثابة الغريبة وتم طرد عضوة المجلس على هذا الأساس.

باختصار، الشواهد كثيرة على أنه وعلى الرغم من عدم وجود قوانين رسمية تميز بين الرجل والمرأة، حتى في البلدان الغربية فإن العالم السياسي في عمومه يبقى منطقة ذكورية، ففي البلدان المتخلفة يهيمن الرجال على الحياة السياسية بقوة القانون، وبشكل مباشر وفي البلدان المتطورة يهيمن الرجال على الحياة السياسية من تحت الطاولة وبشكل غير مباشر.

ومن هنا تبرز أسئلة هامة تفرض نفسها علينا متى كنا باحثين عن حياة أكثر عدلاً وانصافاً بالنسبة للمرأة، فلماذا يهيمن الرجل على الحياة السياسية؟ لماذا يهيمن على الدساتير وعلى الأفكار وعلى المناصب السياسية؟ لماذا ينظر إلى صناعة القرار دائماً بأنها صناعة ذكورية بحتة وأن ذلك أمراً طبيعياً جدا؟ كيف هيمن الرجل على العالم السياسي؟

وللتنويه فإن مبعث تلك الأسئلة بالنسبة لي ليس كما تفهمه المرأة في مجتمع تقليدي، أي تحليل أسباب الاقصاء عن العالم السياسي كوسيلة لتحطيم الموانع وفتح المجال أمام المرأة للدخول إلى عالم السياسة لتعويض النقص الذي تعاني منه في مجتمع لازال ينظر لها بأنها ناقصة، ولكن مبعث تلك الأسئلة هو علمي بحت، أي أن مبعثه هو تحطيم الموانع وفتح المجال أمام المرأة للدخول إلى عالم السياسة لأن القرار السياسي هو ما يصنع في النهاية حياتها، ومن الطبيعي أنه ومتى كان القرار السياسي محتكراً من قبل الرجال كانت بالنتيجة حياة المرأة في المجتمع ناقصة ومطالبها مهملة وصوتها غير مسموع وإرادتها مسلوبة، أن مبعث تلك الأسئلة واقع الأمر هو محاولة لصياغة حياة أفضل وأرقى للمرأة في مجتمعها من خلال إزالة تلك الحواجز التي تمنعها من أن تكون صانعة قرار وصانعة مصير وبالتالي في أن تكون ما تريد أن تكون.

الخرافة البطريركية

تعرف البنية البطريركية (أو البنية الأبوية) في الاجتماع السياسي بأنها حكم الرجال، ففي مجتمع بطركي نموذجي للرجال سلطات وقوى أكثر بكثير مما تملكه النساء، إن جوهر البطريركية هو عدم المساوة بين الجنسين، من أتفه القضايا المنزلية إلى صناعة القرار السياسي مروراً بالاقتصاد والاجتماع وحتى الثقافة والفن والدين.

والمجتمعات المعاصرة إما أنها لازالت بطركية بالفعل كما هو الحال في مجتمعات تقليدية كمجتمعاتنا العربية، أو أنها تنحدر من مجتمعات بطركية سالفة كما هو الحال في مجتمعات حداثية كالمجتمعات الغربية، فقد منح العقل البطركي، والذي يشكل الأساس المعرفي التاريخي الذي يقوم عليه أي مجتمع في عصرنا، منح السلطة والقوامة للرجل تاركاً السمع والطاعة للمرأة، منحه تلك السلطة كأب في الأسرة (المجتمع الخاص) وكمواطن في الدولة (المجتمع العام)، حقيقة الأمر أن الرجل في ظل ذلك العقل البطركي قد أقصى المرأة عن العام تماماً نحو مكان عينه لها في الخاص كزوجة صالحة أو إبنة عفيفة، فيما تسيد هو على ذلك العام بجميع مؤسساته السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، تاركاً الحبل على الغارب لطغيانه الذكوري ليسن القوانين ويصنع المجتمعات منذ أن تكونت تلك الدول التي عفا عنها الزمن وحتى يومنا هذا.

ففي سورية الطبيعية مثلاً، أو ما يسمى بمجتمعات الهلال الخصيب، كانت القوانين تسمح للرجل بأن يعامل المرأة كمقتنى من مقتنياته، وكملكية خاصة به، كما هو الحال بالنسبة للعبد والطفل غير الراشد، وكما سمحت تلك المجتمعات البشرية الأولى للأب بوأد إبنته سمحت للزوج بأن ببيع زوجتة أيضاً.

وكما كانت الأرض مع المرأة كذلك كانت السماء، فلم تكن تلك الأخرى صاحبة قوانين أكثر رحمة أو شفقة بذلك المخلوق السيء الطالع، فلقد باركت التوراة على سبيل المثال كل فاتح رحم ذكر، واحتكر رجالاتها النبوءة وسماع الصوت الإلهي، وقد حكمت هذه التوراة وباستبداد ذكوري يندى له الجبين على المرأة الحائض بالنجاسة، لتقضي هذه المسكينة وفقا هذا التشريع ربع عمرها وهي تعاني من النجاسة.

المسيحية أيضاً لم تكن أفضل بكثير، فقد اعتبرت هي الأخرى وعلى لسان رسولها بولس، وفي تراتبية بطركية محكمة، أنه وكما أن الله هو مجد الرجل فإن الرجل كذلك هو مجد المرأة، ولم يكتفي هذا الأخير بذلك فقد سلبها هذا البولس حتى صوتها في الكنائس معتبراً إياها في أحد رسائله جسداً بلا رأس وإن الرجل وحده هو رأسها ورئيسها.

والمرأة في الإسلام لم تكن أوفر حظاً من ذلك أيضاً، فكما ساواها تشريعه بنصف الرجل في حقها في الإرث وشؤونها الاقتصادية فكذلك ساواها بنصف الرجل في أهليتها للشهادة أمام المحاكم وشؤونها القضائية، فيما ساواها ذلك التشريع عينه بربع الرجل في أمور النكاح وشؤونها العاطفية وسيكولوجيتها الجنسية.

والقارئ للتاريخ الأوروبي وقوانين الإقطاعيات الأوروبية سيقرأ حتماً عن ما يسمى في التاريخ بـ"قانون الإبهام" والذي كان يسمح للزوج بأن يضرب زوجته بشرط أن لا تتجاوز سماكة العصا التي يؤدبها بها ثخن إبهام يده، والأمثلة والشواهد كثيرة كثيرة.

حقيقة أن إستعباد المرأة هو الجوهر الذي يحكم علاقات القوة أو علاقات التنظيم الاجتماعي في أي بنية بطركيّة، لقد وجد العالم نفسه، ومن واقع تلك العقلية وتلك الافتراضات الذكورية المسبقة، وجد نفسه في ظل قوانين تظلم المرأة وتستعبدها وتغتال كل حرياتها خصوصاً حريتها الجنسيّة، قوانين قراقوشيّة حكمت عبر التاريخ على الثائرات والمتمردات والخائنات من هذا الجنس البائس بالموت دون شفقة أو رحمة. فمن أين أتت تلك الافتراضات المسبقة عن المرأة؟ من أين أتت هكذا خرافة بطركيّة؟

يرجع علماء الاجتماع كل جذور الفكر البطرياركي إلى نظرية يصطلح على تسميتها في السوسيوبوليتيك بـ"نظرية الحتميّة البيولوجية"، حيث تنطلق تلك النظرية من افتراض مفاده أن المرأة وبكل ما تملكه من إمكانات ليست سوى كائناً يحكم من هرمونات أو من قدرها البيولوجي هذا، إنها وفقاً لذلك المنظور وتلك النظرية ليست أكثر من جسد تحكمه هرمونات، إنها ليست سوى قدر من تلك الأقدار العديدة التي ابتلي بها الجنس البشري، قدر مختص بطبيعة هذه الحياة ومتعلق بالتناسل.

إن تلك الهرمونات التي تحكم مصيرها تجعلها عاطفية، وبالتالي فهي ليست عقلانيّة بما يكفي لتفكر في نفسها بشكل جيد، أو حتى في غيرها، ومن هنا فمن المحال لها أن تمتلك إرادة حرة أو أن تكون إلا تابعة، بعكس الرجل والذي يبدو أنه عقلاني ومستقل وبالتالي فهو مؤهل للعمل الاجتماعي أكثر، وكونها بالطبيعة وبقدرها البيولوجي هذا هي أدنى مرتبة من الرجل فهي بالتالي غير صالحة إلا لأن تحكم من الرجل سواء كزوجة صالحة أو إبنة مطيعة، وهذا الافتراض هو ما أسس حقيقة إقصاء المرأة عن العام، بكل ما فيه من علم وفن وفلسفة وكل ما فيه من مؤسسات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية، وحصر كينونتها الوجودية في الخاص فقط أو في الأسرة والمنزل.

واقع الأمر أن هذه الافتراضات البطريركية المسبقة، أو فلنسمها هذه الخرافات البطريركية قد أسست لكل تلك القوانين التي تظلم المرأة، تلك التي تقصي المرأة عن الشأن العام، وتسخرها فقط من أجل خدمة الرجل وتجعلها تابعاً له باستمرار. هذا ما جعل المرأه حتى عشرينات القرن الماضي وحتى في أكثر الدول تطوراً محرومة من كافة حقوقها السياسية، وممنوعة من الانتخاب وتصنف مع العبيد والمعاقين عقلياً والفقراء والمهمشين، كما أن ذلك هو ما حرمها أيضاً من كافة حقوقها الاقتصادية بما في ذلك بيع الممتلكات والعقارات، وحقوقها الاجتماعية بما في ذلك الوصاية على أطفالها، حتى تلك الوظائف الحساسة كالطب والقانون والتي كانت حكراً على الرجال.

وبالطبع تلك المغبونة كل هذا الغبن من التاريخ البشري لم تكن تلك الضحية السلبية مطلقاً لهذه الخرافات البطريركية التي حكمت هذا التاريخ، ولكنها حقيقة كانت جد خلاقة وجد مبدعة في تحديها له، سواء في تلك المجتمعات الغربية بداية والتي نالت نصيبها من التنوير أو في تلك المجتمعات التقليدية كمجتمعاتنا في مرحلة لاحقة ، ومن هذا الظلم من التاريخ ومن ذلك التحدي والعزم والتصميم على المواجهة من المرأة ظهر في التاريخ السياسي المعاصر ما يعرف بالحركات النسوية (Feminism)

الحركات النسوية

إن لجميع الحركات النسوية السياسية في العصر الحديث ومهما إختلفت مشاربها غاية واحدة، ألا وهي تحرير للمرأة ومساواتها بالرجل وبالتالي القضاء على الظلم الذي لحق بها عبر العصور، ولكن ولظروف تتعلق بالثقافة السائدة أخذت تلك الغاية الحركات النسوية الى أماكن متعددة وتصورات مختلفة للحل وللسبيل الى ذلك، ومن هنا انقسمت النسويات في العصر الحديث وتنوعت أدبياتها وتعقدت، وظهرت بالتالي تأويلات واتجاهات متعددة لتفسير الظلم الذي لحق بالمرأة وطرائق القضاء عليه.

ففي مجتمعات لازالت تحت تأثير ثقافة دينية طاغية على المعادلات الحياتية لأفرادها كالمجتمعات العربية مثلاً، انقسمت النسويات إلى نسويات علمانية ونسويات إسلامية، أما في المجتمعات الغربية حيث سادت مفاهيم المواطنة والحرية والمساوة كبديل لتلك الأفكار والمفاهيم الآتية من عالم ما وراء النجوم فقد كان الحال مختلفاً تماماً، حيث انقسمت الحركات النسوية في الغرب، وهي حقيقة الحركات الفاعلة في التاريخ، إلى ثلاثة أشكال رئيسية، نسويات ليبرالية ونسويات راديكالية ونسويات يسارية.

الاتجاه النسوي الليبرالي، وهو الاتجاه التقليدي السائد في واقع الأمر، يرى أن الحل أولاً وأخيراً يكمن في القانون، فالظلم الذي لحق بالمرأة ينظر اليه هنا بأنه كان نتيجة حتمية لتلك القوانين الذكورية التي حكمت المجتمعات، ومنه فإذا استطعنا أن نضمن وجود قوانين تساوي بالمطلق بين الرجل والمرأة في الدولة وإذا صاحب ذلك برامج للتوعية الاجتماعية في المجتمع فإن ذلك سيكون كفيلاً بتغيير الثقافة السائدة في المجتمع و بالتالي القضاء على الظلم تدريجيا لنصل في نهاية المطاف الى تلك الحالة المثالية في الدولة والمجتمع.

ولكن وبالنسبة للراديكاليات من النساء فإن ذلك لا يكفي، حيث يعتبر ذلك الاتجاه أن وجود قوانين تساوي بين الرجل والمرأة في الدولة لن يحل المشكلة وإن الظلم سيستمر في المجتمع، ومن هنا فالراديكاليات يسعين لضرب البنية البطريركية في جذورها البيولوجية، إن القضاء على الظلم يجب أن يتم حسب ما يعتقد ذلك الاتجاه النسوي الراديكالي حتى لو اقتضى الأمر تغير الطبيعة البشرية نفسها، ومن هنا يولي هذا الاتجاه مزيداً من الاهتمام لإعطاء المرأة الحق المطلق بالتحكم في جسدها والاستقلال به عن الرجل، الى الحد الذي يتحدى به مؤسسة الزواج، وذهب بعيداً في عدم الممانعة بأن تكون هناك علاقة جنسية للمرأة بإمرأة أخرى، لقد شطحت الراديكاليات بعيداً في اعتبار أن هيمنة الرجل الجنسية على المرأة من الناحية البيولوجية هو السبب الأساسي لوقوعها تحت سطوته، وإن ذلك سيكون حتى في ظل قوانين تكفل المساواة بين الجنسين.

أما بالنسبة للتيار النسوي اليساري فإنه يربط بين رأسمالية الدولة من جهة وبين التبعية الاقتصادية والتهميش والظلم الذي يلحق بالمرأة من جهة أخرى، أن النساء من منظور نسوي يساري تشكل جيشاً من الأيدي العاملة الرخيصة والمستغلة أسوأ استغلال من قبل القوى الاقتصادية والاجتماعية في أي نظام رأسمالي، وبالتالي فإن الدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة ستبقى تتآمر على المرأة في الباطن مهما سنت من قوانين تساوي بين الجنسين في الظاهر، من حيث كون تلك الأخيرة مصدراً مهما من مصادر العمالة المتدنية الأجر ومحركاً لا غنى عنه لدوران عجلة الرأسمالية.

وتجدر الإشارة إلى أن الفكر النسوي بجميع مشاربه قد وقع، وكما وقع كل فكر آخر في العصر الحديث، تحت سطوة ما يسمى بفكر مابعد الحداثة، ذلك الفكر الذي ساد على كل شيء والذي يشكك في قيمة كل شيء، فالمعرفة بحد ذاتها بحاجة الى الفحص وكذلك طرائق التفكير (الأبستمولوجي)، تلك الطرائق التي استقبلنا بها هذه المفاهيم التي هيمنت على تفكيرنا والتي أصبحت بالنسبة لنا بديهيات، وكما كانت كل المفاهيم الحداثية كالحرية والعدالة والمساواة والمواطنة والديمقراطية بحاجة إلى فحص ومحاكمة مابعد حداثية، كذلك فإن صاحبات الفكر النسوي بدأن في فحص مفهوم المرأة بحد ذاته أيضاً وكغيره من المفاهيم، إن مفهوم المرأة في النهاية ما هو إلا جملة المعارف والثقافات التي تفرض علينا، ومن هنا ميزت تلك النسويات بين امرأة وامرأة بعكس تلك التي ظهرت بداية وفي أول عهد ذلك الفكر، حيث ظهر مفهوم الهوية واضحاً في الثقافة النسوية المعاصرة، أن ما تعنيه المرأة في أي مجتمع ما هو إلا انعكاس لطبيعة المعرفة أو الثقافة في هذا المجتمع، ومنه فالمرأة ليست مفهوماً عاماً أبداً.

وثمة اتجاه ما بعد حداثي مهم أيضاً لدى الحركات النسوية المعاصرة، يولي اهتماماً بالغاً للغة والأدب السائدين، حيث أن ظلم المرأة الحقيقي ليس كامناً في القوانين كما نعتقد وللوهلة الأولى، ولكنه في الجوهر واقع في أدبياتنا التي ورثناها ولغتنا التي نستخدمها، ذلك الأدب وتلك اللغة التي تكرس الذكورة والهيمنة وتبعية المرأة وثانويتها، من استخدامنا للضمائر المذكرة لكل مبني للمجهول وإلى ذلك الأدب السائد وتلك العقلية في الإعلام والفن والثقافة الشعبية والتي تكرس مفاهيم كتلك التي تروج في الأغاني والإعلانات مثلاً أن المرأة الحقيقية هي فقط تلك المرأة الجميلة صاحبة الجسد النحيل والمغرية جنسياً.

وأيا كان اتجاه الفكر النسوي، أو طبيعة منطلقاته النظرية وأرضيتة المعرفية، فما هو مهم في أمره أنه ضمن للمرأة المشاركة الكاملة في الحياة السياسية في جميع الدول الحديثة في الغرب، وبعد أن حرمت منها عبر التاريخ لا لشيء ولكن لكونها امرأة، وما هو مهم أيضاً أنه في طريقة لأن يكرر الشيء ذاته والمسيرة نفسها في مجتمعاتنا العربية، وأن كانت مسيرته هنا تبدو طويلة ومعقدة بسبب ما أظهرته القيم التقليدية الموروثة من جبروت في مقاومتها لقيم الحداثة وتحديها لها حتى يومنا هذا، وهذا التجذر المخيف لها في الشخصية الشرق أوسطية.

إن المشاركة السياسية الكاملة للمرأة (وليست الشكليّة) ستصبح حقيقة وواقعاً، إن عاجلاً أم آجلاً، في جميع المجتمعات حتى تلك التقليدية منها، ومنه فالمرأة كصانعة للقرار السياسي وكصانعة بالتالي لحياة ذات طابع جديد ومفاهيم جديدة، حياة في واقع الأمر أكثر إنصافاً وعدلاً بالنسبة لها ولجنسها، تكاد تطل برأسها حتى على مجتمعات لا زال يفتك بها العقل البطريركي، إن المرأة المظلومة ستصبح أمراً من شؤون الماضي وموضوعاً للتفكه والتندر في سالف العقل البشري في عهد غير ببعيد شاء من شاء.. وأبى من أبى!!