كان للغة العربية تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، حيث استقرّت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على امتداد العصور. وهي الآن تعيش جنباً إلى جنب مع هذه اللغة، وتستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعدّدة، ممّا يقدّم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء وقوّة وعظمة وجزالة وفحولة وجمال وجلال لغتنا الجميلة التى ما فتئت تتألق وتتأنق وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مطواعة مرنة سلسة عذبة متفتّحة متسامحة، ينبوع حنان وجنان كأمّ رؤوم تأخذ وتعطى بسخاء وكرم لا ينضب معينهما. وتعيش اللغة الإسبانية بدورها في الوقت الحاضر تألقاً وازدهاراً وقبولاً وانتشاراً كبيرين في مختلف ربوع المعمورة، ووعياً من الإسبان بما أدركته لغتهم من "أوج" وسموّ فهم يبذلون جهوداً مضنية للتعريف بها وإظهار كل ما من شأنه أن يبثّ الإعتزاز في ذويها وأصحابها وأبنائها وأحفادها، ومن ثمّ تأتي تلك الندوات والمناظرات التي تعقد في هذا السبيل في مختلف المناسبات في إسبانيا تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني خوان كارلوس الأوّل نفسه، كما أنه يحرص كذلك على حضور العديد من جلسات أكاديمية مجمع الخالدين للّغة الإسبانية، أو الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية، خاصة في حالة انضمام عضو جديد إليها أوعند تكريم أحد الراحلين عنها، وتصرف الدولة الاسبانية أموالاً طائلة في سبيل نشر لغتها وثقافتها والتعريف بتاريخها وبآدابها وفنونها وتراثها وموسيقاها.
اللّغة تأكيد للهويّة والجذور
ويهدف التنسيق بين البلدان الناطقة باللغة الاسبانية في مجال المصطلحات اللغوية والكلمات والتعابير المتداولة والمستعملة في هذه البلدان الى توحيدها ومحاربة الدخيل لجعل حدّ "للغزو اللغوي" الأجنبي، وقد أعدّ لهذه الغاية معجم اسباني فريد في بابه وهو: "معجم الشكوك الموحّد في اللغة الاسبانية" بمعنى أن أيّ متحدث أو مستعمل أو مشتغل أو دارس للغة الاسبانية الذي قد يخامره شكّ أو ريبة حول أي استشارة صغيرة كانت أم كبيرة لها صلة بهذه اللغة سوف يجد ضالته في هذا المعجم الذي تم إعداده بين الأكاديمية اللغة الاسبانية وجميع أكاديميات اللغة الاسبانية الموجودة في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية التي يبلغ عددها 21 أكاديمية.
والاسبان واعون بأهمية لغتهم في عالم اليوم، وبالمكانة المرموقة التي أصبحت تتبوأها في مختلف البلدان وهم يعلمون كذلك أن لغتهم من المنتظر أن تصبح من أكبر وأكثر اللغات الحيّة تأثيراً وإنتشاراً في العالم أجمع في هذا القرن. ففي الولايات المتحدة الامريكية وحدها من المنتظر أن يصبح عدد الناطقين بها -حسب التوقعات المستقبلية- ما ينيف على 100 مليون عام 2050. وتعرف اللغة الاسبانية تقدماً مهما في البلدان العربية وأصبحت تحظى بإقبال كبير من طرف الطلاب والباحثين، وهي تدرّس اليوم في مختلف الجامعات العربية، وفي المغرب وحده على سبيل المثال يوجد ما يقارب ستة ملايين من الناطقين بهذه اللغة، كما أصبحت العناية بها تحظى باهتمام متزايد في مختلف البلدان المقابلة للجزيرة الإيبيرية والمحاذية لحوض البحر الأبيض المتوسّط جنوباً وفي مقدّمتها المغرب نظراً لعوامل تاريخية وحضارية وثقافية بين إسبانيا وهذه البلدان بحكم الجيرة.
ويرى الملاحظون أن تقدم اللغة الاسبانية وتألقها وانتشارها في عالم اليوم ليس وليد الصدفة، بل يرجع لعدة عوامل تاريخية وثقافية وحضارية، ذلك أن نصف قارة بأكملها تتحدث هذه اللغة (أمريكا الجنوبية). كما أن "الأوج" الذي تعرفه اللغة الاسبانية في العالم حقق للثقافة الاسبانية انتشاراً في مختلف أنحاء المعمورة وحضوراً مهمّا في العديد من المحافل العالمية في مجال النشر والتأليف والمسرح والفنون التشكيلية، والموسيقى، والشعر، والادب وأخيراً في السينما.
وتتعاون اسبانيا مع شقيقاتها ببلدان امريكا اللاتينية الناطقة بهذه اللغة في هذا الاتجاه لتقوية وتعزيز الهويّة الثقافية فيما بين هذه البلدان باعتبارها من الأواصر القوية التي سوف تعمل على تحقيق تقارب أكبر وتعاون أوثق فيما بينها، في مختلف المجالات، وقد قامت هذه البلدان بالاضافة إلى معجم الشكوك اللغوية الموحّد بإصدار أوّل معجم لتوحيد النحو والحرف الإسبانيين كذلك. والاسبان وإلى جانبهم سكان البلدان الناطقة باللغة الاسبانية على وعي تام بأنّ هذه الجهود لابد أن تؤتي أكلها إذ لابد أن يعقبها ذيوع وانتشار أوسع للغتهم. وثقافتهم وبالتالي تقدّم اقتصادي وازدهار سياحي خاصة وأن اسبانيا تعتبر من أكبر البلدان السياحيّة في العالم إذ تعرف هذه الصناعة عندهم تقدماً هائلاً وتطوراً مذهلاً، وتلعب المآثر والمعالم الحضارية العربية في الأندلس دوراً حاسماً ومحورياً في جذب السياح من مختلف أنحاء العالم مثل قصر الحمراء بغرناطة (وهو المعلمة العربية الأولى في اسبانيا الأكثر مشاهدة من طرف السياح الأجانب) بالاضافة إلى العديد من القصور والمعالم التاريخية الأخرى في مختلف المدن الاسبانية كصومعة لاخيرالدا، وبرج الذهب في اشبيلية، والجامع الأعظم في قرطبة، وقصر الجعفرية بسراقسطة وسواها من المآثر الإسلامية في اسبانيا.
قال نيبريخا وهو أحد واضعي أوّل أشهر معجم في اللغة الإسبانية (بمثابة الفراهيدي ومعجمه العين عندنا) في مقدمة معجمه مخاطباً الملكة الكاثوليكية إزابيلا (المعروفة بعدم تسامحها مع المسلمين) قال: "اللغة القشتالية (الإسبانية نسبة إلى قشتالة) كانت باستمرار رفيقة الإمبراطورية الإسبانية"، يريد نيبريخا أن يقول بهذا المعنى "أن اللغة سلاح أو وسيلة أوّليّة وأساسيّة لا يمكن أن يحلّ محلها شيء آخر لتأكيد الهويّة والجذور والحضور ورفع صروح الحضارة لأيّ أمّة، وهي تعني كذلك مغزى الوجود الاسباني في أبعد الآفاق(. يقصد أمريكا اللاتينية والبلدان التي كانت خاضعة للتاج الاسباني في ذلك الوقت.
لغة الضاد وتأثيرها في الإسبانية
ولا ينبغي الحديث عن "أوج" اللغة الاسبانية وتراثها وغناها وانتشارها من دون التطرّق إلى الأصول التي تستمدّ أو تنبني عليها هذه اللغة، فعلى الرغم من جذرها وأصلها اللاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين وغير الباحثين مدى التأثير الذي أحدثته لغة الضاد في هذه اللغة على امتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711م إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الأندلس وهي غرناطة 1492م، بل لقد استمرّ الوجود العربي بالأندلس حتى القرن السادس عشر عندما تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا متستّرين في المدن والقرى والمداشر والمدائن الأندلسية، وقد بلغ عددهم سبعة آلاف عام 1588، وعشرات الآلاف عام 1609وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار، بل يجب إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقاً للتاريخ وحفاظاً للأمانة العلمية.
فجميع الباحثين والمؤرخين والمثقفين إسباناً كانوا أم غير إسبان يؤكّدون هذا التأثير البليغ والعميق الذي أحدثته الحضارة العربية الإسلاميّة في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف بما لا يترك مجالاً للشكّ، وقد سلّم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة، بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك حيث أكّد الروائي العالمي خوان غويتيسولو، والكاتب الإسباني أنطونيو غالا وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليو غارسيا غوميس، وكذا الباحث الاسباني بيدرو مارتنيس مونطافيس وسواهم أنه يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهماً واستيعاباً حقيقيين دون معرفة اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
فكيف إذن لا توجد هناك أي دراسة معمّقة أوتحليل ضاف لهذه البدهية في مختلف المؤتمرات والندوات والتظاهرات الكبرى التي تنظّم بين الوقت والآخر حول الأخطار التي قد تداهم اللغة العربية، أو حول التأثير المتبادل بين هذه اللغة أو تلك..؟
بل إنّ هذا يحدث حتى عند بعض الإسبان الذين يحظون بشهرة عالمية واسعة مثلما حدث مع الكاتب الاسباني الراحل كاميلو خوسي سيلا الحائز على جائزة نوبل في الآداب، فقد فاته وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الروافد التي أثّرت في اللغة الاسبانية الإشارة صراحة وبكل وفاء إلى هذه الحقيقة، وإبراز فضل اللغة العربية على الاسبانية، وهو الذي يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته ورواياته عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع رواية تحمل عنواناً عربياً واضحاً وهي روايته المعروفة "رحلة الى القارية"، والقارية من السنام أعلاه وأسفله، هذا على الرغم من أنّ هذا الكاتب نفسه كان قد أكّد خلال ندوة دولية أخرى أن لغتنا العربية ستصبح في قريب الأعوام من أولى لغات العالم أهمية وانتشاراً حيث قال بالحرف الواحد: "نحن الاسبان وسكان أمريكا اللاتينية الناطقين بالاسبانية نعرف جيّداً أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الباقية وهي الانجليزية والعربية والصينية".
كلمات عربية في اللغة الاسبانية
يقول الأستاذ عدلي طاهر نور في مقدمة كتابه "كلمات عربية في اللغة الاسبانية": "إنه لا جدال في أن اللغة العربية ظلت لعدة قرون في النصف الثاني من العصر الوسيط لغة الحضارة السائدة في العالم"، ولا عجب أن نسمع ألبارو القرطبي وهو من أقطاب الثائرين على المسلمين في القرن التاسع الميلادي يستنكر انصراف المسيحيين في اسبانيا عن دينهم ولغتهم، ويندّد بشغفهم باللغة العربية وآدابها وإنفاقهم الكثير في سبيل اقتناء كتبه، وهو لا يجد بين ألف منهم شخصاً واحداً يستطيع أن يكتب باللاتينية خطاباً صحيحاً إلى صديق له. ويؤكد الباحث المكسيكي أنطونيو ألاتورّي صاحب كتاب "ألف سنة وسنة من تاريخ اللغة الاسبانية": "إنه عندما عمد إلى كتابة الفصل المتعلق بتأثير الحضارة واللغة العربيتين في اللغة الاسبانية، وصار ينقّب في الوثائق والمراجع، تيقّن له أنّ شيئاً غير عادي كان يحدث له، حيث وجد نفسه يربط التاريخ باللغة". ويضيف: "لقد بهرني العهد المتعلق بوجود العرب والمسلمين في اسبانيا، بل إنني شعرت بانجذاب كبير نحو هذا العهد، وانّ أبرز ما استرعى انتباهي، وسيطر على مجامعي في هذا العهد العربي الزاهر هو التسامح، فالعرب بعد أن استقرّوا في اسبانيا لم يكونوا ذوي عصبية، بل إنهم جعلوا مبدأ التسامح ديدنهم، فساد هذا المبدأ في اسبانيا إبّان وجودهم بها، كان الناس يعيشون في رغد ورفاهية من العيش، لدرجة أن كثيراً من سكان اسبانيا القدامى أصبحوا عرباً بطريقة عفوية طبيعية، لقد وجدوا طريقة الحياة العربية مريحة وجميلة، وكان دينهم أقل تعقيداً من المسيحية، واتّسمت مظاهر العيش بالرقيّ والازدهار في مختلف مناحي الحياة". ويضيف ألاتورّي: "إن هناك شهادة الفيض الهائل من الكلمات العربية التي دخلت واستقرّت في اللغة الاسبانية ليس قهراً ولا قسراً، بل لقد تقبّلها الناس طواعية واختياراً.
كولومبوس والعربية
ومن أطرف ما يمكن أن يحكى في هذا القبيل،أي في مجال التأثير العربي (اللغوي) في المجتمع الإسباني، على سبيل المثال لا الحصر هو كريستوفر كولومبوس نفسه استعمل كلمات عربية أو من أصل عربي في يومياته الشهيرة ليس فقط تلك التي لها علاقة بميدانه أيّ علوم البحر ومعارف الإبحار التي برع فيها العرب وألفوا وصنّفوا، بل في المسمّيات اليومية العادية ويكفي أن نستدلّ في هذا الشأن بالفقرة الأخيرة من يوميات كولومبوس بعد وصوله إلى اليابسة، وهي الفقرة التي تحمل تاريخ السبت 13 أكتوبر(تشرين الاول) 1492، من هذه اليوميات حيث يقول: وعند الصباح حضر إلى الشاطئ عدد غفير من هؤلاء القوم، ثم قدموا في اتجاه المركب بواسطة (المعدّيات) في الأصل الإسباني كما نطقها كولومبوس "ألميدياس"، (مفردها المعديّة وهي كلمة أوردها معجم الدكتور عدلي طاهر نور في كتابه الآنف الذكر، وهي مركب أو زورق صغير يعبر عليه من شاطئ إلى آخر، ومنها عدوة الأندلس، أو عدوة سلا والرباط على نهر أبي رقراق)، إلى أن أن يقول: واستقدموا معهم لفائف من(القطن)( وهي كلمة عربية كذلك ونطقها كولومبوس "ألغودون" كما تنطق اليوم في الإسبانية، وكانوا يحملون (الزغّايات)، وجاءت في يوميات كولومبوس "أزاغاياس" (من الزغّاية وهي الرّمح او الرماح وحسب معجم دووزي هي كلمة من أصل بربري تعني الآن الحربة القاطعة التي تثبت في طرف البندقية). ويضيف كولومبوس: كما استقدموا معهم طيور"الباباغايوس" (جمع الببّغاء وهو طائر يطلق على الذكر والأنثى، من خصائصه أنّه يحاكي كلام الناس)، وهكذا نجد في فقرة قصيرة جدّا من هذه اليوميات الكلمات العربية التالي: المعديّة، القطن، الزغّاية، الببّغاء بالإضافة إلى كلمات أخرى وفيرة من أصل عربي مبثوثة هنا وهناك من هذه اليوميات، بل إنّ كولومبوس نفسه كان يحمل لقباً عربياً وهو (أمير البحر)، وينطق في الإسبانية محرّفاً بعض الشيء "ألميرانتي"، وما زال هذا اللقب يستعمل في الإسبانية إلى اليوم. ويحلو للاسبان عند الحديث عن انتشار لغتهم والإشعاع الذي تعرفه ثقافتهم استعمال هذه الكلمة العربية، وهي تنطق عندهم "أوخ" حيث تقلب الجيم خاء، كما هو الشأن في: جبل طارق، جبلي، الجامع، وادي الحجارة... الخ.
(عن القدس العربي)