في نصه السارد المثقل بالألم، يفرد الكاتب "البسطة" على مسرح الرؤية، يسلط الضوء على قدرتها الأدائيّة للبوح بدقائق حيوات اليومي العابرة، وفي عمق المشهديّة نعرف بحدوث القتل دون أن نراه. وعليه فإن رؤى الكتابة هنا تجعل "البسطة" شأناً أخلاقياً.

24 ساعة سورية

رائد وحش

بسطات على طول الطريق. الذين فقدوا أعمالهم تحولوا إلى باعة بسطات، والطرق كلها صارت أسواقاً. طبعاً أقصد بسطات البلدات والضواحي فالتي في المدينة هي بسطات ذات مهمات أمنية. في إحدى المقابلات التي بثها التلفزيون السوريّ في الصيف الماضي قال بائع بطيخ في حي الميدان: "نحن متمركزون هنا".

الحياة نفسها بسطة مطروحة أمام العابرين، حياة الفقراء طبعاً، في حين أن حيوات القلة القليلة تبقى سوبر ماركت، حتى لو في يوم القيامة..!

الحشاش فتح بسطة خضار. وقفتُ قرب بضاعته وأطنبتُ في مديح حبّات الفجل الفاخرة فاحتدّ وأوقفني ففي هذا المديح ظلم للبطاطا. زميله الحشاش الآخر دخل على الخط وسأله: "بكم غرام البندورة؟". ضحكنا، ضحكت امرأة عابرة، ضحكت صناديق الخضار، فوحدة "غرام" ذات دلالة في عالم الحشيش.

المجنون مسّوس أبو الشيخ تحول إلى بسطة. وقف في الشارع وراح ينظّم السير. وقوفه ذكرني بقصة رواها لي صالح علماني كان قد قرأها لدى كاتب أمريكي لاتيني تتحدث عن مجنون طموحه الأكبر أن يتحول الى شرطي مرور. صفارته ظلّت تلعلع في الشوارع الخلفية وراء الدراجات والشاحنات، وحين جاءت الاضطرابات الأمنية إلى بلاده حصل على قبعة شرطي فخرج بها إلى شارعٍ عامٍ ليحقق حلم حياته، دون أن يدري، كما هي عادة الأحلام الكبرى، أنه سيكون هدفاً لرصاصة معارِضة سترديه بوصفه أحد أعوان النظام.

مسّوس كان عاقلاً ذات يوم، وكان اسمه موسى. كان عاقلاً وتزوج وأنجب بنتاً، لكن الحياة اللئيمة أفقده عمله بالتوزاي مع جفاف ثديي زوجته، فسقى الرضيعة حليب بقر لتموت بين يديه وهو يركض بها بحثاً عن طبيب. مسوس ظل يركض بابنته المتخيّلة حتى قاده الجنون إلى تنظيم السير في بلاد لا يرعاها بالتنظيم إلا الموت.

مسّوس سيموت عما قليل، ربما دون أن يحصل على صفارة وقبعة شرطي. شخص مثله يجعلك ترى موته بالعين المجردة، حتى لو لم تسمع بقصة ذلك الكاتب التي سولفها المترجم.

اشتريت سندويشة شاورما من المحل الذي اعتقل عامله، وحلّ محله واحد آخر يصنع سندويشات لها طعم البلاستيك المحروق. أكلتُ سندويشتي كعلامة من القدر فيما أفكر بفتح بسطة، لكنْ بسطة ماذا؟ كل ما لدي هو كتبي. ضحكتُ في سري فقبل يومين نصحني يوسف بتفصيل مدفأة حطب وإشعال الكتب فيها ذلك أن الحطب عملة نادرة. قال واصفاً المكتبة: "تكفي لشتائين على الأقل". الناس يسطون على شجر البساتين بالمناشير والفؤوس. يوسف نفسه حطّب لأهله شجرة مشمش عملاقة، وحين اعترضتُ على سلوكه أمام نصيحته الخرقاء بحرق الكتب قال كحكيم: "نموت مع أشجارنا أفضل من أن نموت كلٌّ على حدة".

عدتُ متأخراً من سهرة أعادت رعشة الأيام الخوالي، كنا نتحدث فيها كما لو أننا نستعيد ذواتنا كبشر.

عدتُ متأخراً وهالني عدد الكلاب التي تملأ الطرقات. الكلاب ملوك الليل، لكنها الآن أكثر من ذلك. في السابق كان يكفي أن ترمي حجراً ليهرب القطيع كله، اليوم بدون ضربة حجر ركض ورائي اثنان بنباح لعين، وأقسم أنني أكتب هذه السطور باللهاث المتبقي من هربي.

الكلاب مسعورة من أكل الجثث المتراكمة على قارعات طرق الأمكنة الساخنة، وداء الكلب يستعيد وهجه.

الحياة بسطات. التلفزيونات بسطات. الإنترنت بسطات وهم. النساء (وهنا أتحدث عن دلال وأخواتها) بسطات غرائز تشعل دمنا في هذا الصقيع.

الكتابة بسطة أيضاً.. أتذكر صحفياً فلسطينياً أثار ضجة عبر زاوية سماها "بسطة كتابة.."

بســطة كــتابة.. هذا ما افعله الآن، فمن يشتري هذا الألم.