تقدم (الكلمة) هنا هذه القراءة المستبصرة لرواية الكاتب العماني الكبير التي يفضح فيها كل المسكوت عنه سياسيا واجتماعيا وأخلاقيا، ويكتب عبرها التاريخ السري لسنوات النار التي اكتوى بها كل من حلم بوطن حر وشعب سعيد، في الزمن الردئ، زمن سيادة النفط والقهروالجهلوت.

«سنوات النار» تلتهم الذاكرة والايديولوجيا والأمكنة

محمد الشحري

لم يكن الانزواء الذي ركن إليه الروائي والكاتب أحمد الزبيدي، إلا مناخا لممارسة طقس الكتابة والبوح بالتجارب التي عاشها وعايشها الجيل الذي انتمى إليه الزبيدي سياسيا وايديولوجيا، ولم تكن الكتابة في حياته اختيارا، بل لجوءا اضطراريا واحتماء من القهر المفروض على من يخالف السلطات رأيها، فقد حافظت الكلمة المكتوبة على حياة الزبيدي من الانهيار البطيء والجنون بالتقسيط والموت غيضا وكمدا، والشعور بالهزيمة التي تلوكها ألسنة الشامتين وصغار المستفيدين من العطايا والهبات.
يواصل الروائي أحمد الزبيدي في روايته الثانية الصادرة حديثا عن دار الفارابي، النبش في الماضي وكشف أسراره وفضح تلك المرحلة بما حملته من شخوص وأحداث، فبين الواقعة والأخرى يكشف الزبيدي المسكوت عنه ويحطم جدران المحظورات ويقول ما لا يُسمح بتداوله في العلن، وكأنه يغوص في سرائر الناس الذين فضلوا السكوت والتغاضي عما حدث، يقول أحمد الزبيدي ما لا يمكن أن يقوله الآخرون، لا لأنه يتمنى ذلك، ولكن لأنه لم يجد أحدا من رفاقه يكتب عن تجربة النضال الشعبي الذي خاضه الشعب العُماني سواء في الداخل أو عبر الهجرة إلى دول النفط.

تنفرد كتابات أحمد الزبيدي بخصائص سردية رائعة ومميزات فنية، قلما نجد لها مثيلا في الرواية الخليجية، وفي 'سنوات النار' يقول الزبيدي كل شيء عن كل شيء عن المجتمع وعن الأنظمة وعن البشر وعن الشجر وحتى الحجر، عن المستعمر وعن مدن الخليج الزجاجية التي فرختها عائدات النفط على ساحل الخليج العربي، مدن لا وجه لها ولا رائحة سوى القطران وألوان السخام، مدنا تغيرت وغيرت معها ساكنيها بعدما تدخل الرجل الإنجليزي، الذي يتمظهر في أشكال التغيير في أكثر من مرة، إما بتغيير الحكام بواسطة الانقلابات البيضاء، أو بتغيير التركيبة السكانية في الخليج عن طريق استقدامه لسكان آخرين من آسيا ومن الجوار الفارسي، وهو ما يقوله الباحث عبد الملك خلف التميمي في كتابه (الاستيطان الأجنبي في الوطن العربي) 'كانت السياسة البريطانية تشجع الهجرة الأجنبية إلى الساحل العربي، خاصة الساحل العُمانـي'.
تتخذ الرواية مدينة الخرابات على شاطئ بحر العرب مسرحا لها، ثم تمر عبر الجبال المحيطة بالمدينة، وبعد ذلك تتسع الأحداث إلى مدن الخليج أو 'البالوعات' النفطية كما يصفها الراوي، وإلى دمشق وبيروت وعدن وإلى جبال عُمان الداخل وضلكوت.

يبدأ الروائي بإفناء أبطاله بطرق وحشية، بين اختفاء في البحر كما فعلت أم السعد، التي 'بدت في غاية الجمال وهي تلقي بجدائلها السوداء خلفها، وكان جسدها العاري يضيء كفانوس ألقى به من طرف المحيط بحار محب نحو اللُّجة الودود حيث تلاشت أم السّعد في اليَمِّ ولم يعد أحدٌ يعلم أين تلاشت' وبين قتل الأب لأبنه حامد ثم قتل الأب نفسه، ولم يكن فائل مبروك الزين أكثر حظا من سابقيه حيث وجد جثمانه يطفو على سطح بحيرة الخور، و'ثمة ابتسامة حزينة ارتسمت حول شفتيه، بيد أن الشرارة التي طالما برقت من عينيه لم ينطفئ وهجها في ذاكرة رفاقه' أما عريف الشرطة فقد قتله سامر انتقاما لرفيقه حامد، وخرّ يعقوب عريف الشرطة صريعاً يتخبط في بركة من دمائه، وقد أُعْدِمَ سامر لاحقا على عجل، ودون أن يراه أحد، أُعدم من دون محاكمة، بينما أُحرِقت سعدية العمياء في مشهد انتقامي بالغ القسوة قرب السوق، على يد لواء الشرطة، الذي قُتل لاحقا في عراك مع مراهقين بحيِّ (مانديلا)، أما المناضلة نصرة كتيبة فقد لفظت أنفاسها على أيدي المخابرات السورية، وهي تضع مولودتها سلامة .

المدن الهجينة والولادة غير الشرعية:
قليلة هي الكتابات التي رصدت التحول الذي طرأ على الحياة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الخليج، بعد اكتشاف النفط، وهي ظواهر كان من الممكن رصدها في ميدان علم الاجتماع، لكن بما أن الرواية قد سمحت لنفسها أن تسع كل مجالات الحياة، فإن رواية سنوات النار تكشف أوجه الحياة المعاشة في مدن الخليج قبل وبعد اكتشاف النفط، وبين القبل والبعد تبرز ظواهر الحداثة التي تبرأت من قيم العروبة ومن روح البداوة، ووهبت نفسها لمن يدفع بالدولار ولأناس يستمتعون بها لحظات ثم يدعونها للحرارة الساخنة والرياح الشمالية، وحين حملت القرى الساحلية في الخليج بعد أن واقعها النفط، أنجبت مدنا يشعر ساكنيها بالاغتراب في بيوتها، ولم يكن التطور فألا حسنا على السكان الأصليين الذي شيدوا القرى على ساحل الخليج، وهنا يقول الراوي في سنوات النار ' في سنين قليلة اختفت دبي القرية، وبرزت المدينة، ورحل الماضي بأفراحه وأتراحه، بمظالمه وحكاياته الشيقة، وحكايات البحر والغوص واللؤلؤ، وجاء الحاضر 'المدينة' سيلاً جارفاً، مُدمِّراً ومتعالياً وبلا قلب، وتبدَّى الضابط السياسي الإنجليزي هذه المرة بالنصل والسكين: في الرأسمالية المتوحشة، في السفلس والكاكاو ، والعربات الفاخرة'، ودبي المدينة والإمارة لم تفلت من أيدي الراوي دون أن يوسمها بخاتم الحقيقة، 'ففي طريق البوم إلى دبي قرأ سليمان هموم الدنيا في عيني مبروك فحادثه:

دبي هذه إمارة عُمانية مفتوحة'.
صور المدن المتحولة بفعل الذهب الأسود تتكرر مرة أخرى في الكويت 'ماضي الكويت لم يكن معيباً؛ هذه القرية الصغيرة النائمة على سرير الشمس وعباءة الرمال أمُّها 'البصرة' وحبيبها البحر؛ تأتي إليه لتغتسل من وعثاء الرِّمال. وتستريح من سرير الشمس في إجازة على سرير البحر يداعبها كلما حنَّ إلى أغاني بحارتها وأهازيجهم الحزينة، ولم تعد الكويت تلك 'القرية' الأنيقة، ها هي الآن 'دولة' شأنها شأن 'كيانات' أخرى في قطر والبحرين وساحل عُمان، سال النفط، فتدفق معه البترودولار والذهب الأحمر، وجاءت الجموع من محيط الفقر في آسيا والعراق وإيران، جاءت ومعها صعوباتها وأديانها ومذاهبها وقومياتها تُلهِبُها أحلام الذهب والثراء السهل والغنى الفاحش، ماتت الكويت 'القرية' الغافية في حضن أمها البصرة، ماتت الكويت دون أن يضع عشاقها ريحانة على قبرها، ماتت دون أن يوسدها في لحدها أبناؤها المُحبّون، فالجميع كان في عجلة من أمره، لكأنهم شربوا جميعاً من نهر الجنون، وها هي كويت أُخرى تولد على عجالة أيضاً، كويت لا ماضيَ لها ولا حاضر، كويت محتالة، ومرابية، متكبرة، ومغرورة، ينخر جسدَها المُبتذَلَ الفسادُ، ويسكن حمرةَ خدِّها المصطنعةَ البدوُ، البدوُ الجدد؛ليسوا بدواً؛ إنهم حثالة، أُناس يسكنهم الجشع، وتسيطر عليهم الشهوات وخيلاء الثروة، بدو لم يبق لهم من مروءات البدو وتقاليدهم سوى العباءة والعقال الذي أراده الرجل الإنجليزي رمزاً لسلطة ما، سلطة تذكرهم بالقيود والحدود، وأن مصيرهم وأمرهم ومنتهاهم بيد الرجل الإنجليزي الماسك برسن فرسهم الجامح النَّزق.
الرجل الإنجليزي في الكويت قال لصاحبه في الخرابات:
هنا في الكويت يتعلم البدو يوماً بعد يوم أن كل شيء قابل للشراء والبيع، العلم الوطن، النشيد، التاريخ، الجيوش، الملوك، الرؤساء، النساء، كل شيء، كل شيء.
يجد القارئ في رواية (سنوات النار) عوالم وبيئات متداخلة وشعارات مرفوعة براقة ثم اختفت وأحرقتها الحقيقة، ولم تكن تلك الشعارات إلا سلالم للصعود إلى كراسي السلطة التي تقاتل حولها الكثيرين وماتوا من أجلها، فيقول سليمان المعمري لصديقه فائل مبروك 'كنت في الناصرية فخرجت منها للبعث... والآن أود لو ألقيت بالاثنين معاً خلفي' وهي الشعارات التي رفعت أيضا في دمشق وعُلّقت في كل زاوية واحتلت الساحات والمباني:
'
إلى الأبد... إلى الأبد...
يا حارس البلد...'.
و:
'
الأسد رئيسنا
إلى الأبد...'.

نفط الخليج وآثاره على فقراء عُمان واليمن وفلسطين:
نجد في سنوات النار حديثا عن ذكريات الهجرة إلى الكويت، وإذا كان الروائي الفلسطيني غسان كنفاني قد ذكر في روايته (رجال في الشمس)، بعضا من فصول المعاناة ودروب الخطر التي يتعرض لها بعض الحالمين بالثروة والمال في الكويت، حيث توفي ثلاثة من المهاجرين الفلسطينيين في خزان صهريج الذي يقوده (أبو الخيزران) على الحدود العراقية الكويتية، فإن مبروك الزين يهاجر متخفيا في مركب البوم في طريقه إلى الكويت، ويشبه مبروك الزين، محمد علي أكبر بطل قصة (موت السرير رقم 12) للروائي غسان كنفاني أيضا، وبالمناسبة يعد محمد علي أكبر القادم من مدينة دباء العمانية، الشخصية الوحيدة غير الفلسطينية في كتابات غسان كنفاني، الذي يقول في إهدائه للقصة (موت السرير 12)' ولا بد أيضا، ولو بدا ذلك غريبا بعض الشيء، أرسل عزائي إلى العائلة المجهولة التي فجعت بموت ابنها 'محمد علي أكبر' الذي مات بعيدا وحيدا، غريبا على السرير رقم 12، وهو ينزف عرقا نبيلا في سبيل لقمة شريفة'.
في سنوات النار نجد بعضا من تلك المعاناة التي عاشها العمانيون واليمنيون والفلسطينيون 'أشرفت الرحلة على الانتهاء، ولاح ميناء الكويت العتيد، رست السفينة، وجاء رجال الشرطة الكويتيون، داسوا على المرضى، شتموا العُمانيين واليمنيين والفلسطينيين، ... دخل بعض الركاب العمانيين واليمنيين الفردوس النفطي، وأُعيد أغلبهم جثثاً يلقى بها على قارعة بحر الخليج الكبير'.
زج بمبروك الزين في 'الكرنتينا'، وهناك شاهد كم هو الإنسان رخيص وأمام عينيه مرت جثامين الموتى خيطاً من الدم ينسل من شعارات القوى الإمبريالية العظمى، حيث تُلقى هذه الجثامين في أخدود، وتأتي الجرَّافات في الظلام لتسوِّي معالم الجريمة، حتى إذا ما أشرقت الشمس اصطفَّت الناقلات الضخمة تَعُبُّ النفط، وجاء الشعراء والصحافيون والرؤساء والوزراء العرب والنصابون والمغامرون والقوَّادون يقبضون 'عطاياهم'، ثم ينطلقون كلٌّ وفق مهنته وقدرته يعربون عن ولائهم، ويكيلون المديح العاطر لـ'دار العزِّ والشَّهامة'، دار سيِّدنا 'الأمير'.
تأتي رواية سنوات النار التي انتهى مؤلفها من كتابتها في مايو 2009، حاملة معها بشرى بمستقبل أفضل ، مستقبل تقوم الشعوب بمسك زمام المبادرة لتحرر من القمع والاستبداد والقهر والظلم، ولكن دروب التحرير ليست مفروشة بالورد وبالياسمين، بل بالدماء والنار والموت.

أحمد الزبيدي من مواليد مدينة صلالة (ظفار) جنوب عُمان 1945.
قاص وروائي وناشط نقابي وسياسي، درس الحقوق بجامعة دمشق.
صدر له: انتحار عبيد العماني 1985، وإعدام الفراشة ، وأحوال القبائل.

كاتب من عُمان